أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - راتب شعبو - عزلة المنكوبين














المزيد.....

عزلة المنكوبين


راتب شعبو

الحوار المتمدن-العدد: 6191 - 2019 / 4 / 4 - 14:48
المحور: الادب والفن
    


يتكرر الحال دائماً. في طوابير الجوعى وقوافل المهاجرين واللاجئين وأهل الخيام ومعاقي الحرب وأيتامها ومفجوعيها .. تلبس الوجوه مصائرها، أو يستخرج المصير من الوجوه الملامح التي تناسبه وتشبهه. تتمكن النكبة من ضحاياها حين يُعزلون في دائرة النكبة ويُشار إليهم كضحايا. حينها لا يجد المنكوبون المعزولون سوى الاستسلام، من يجوع سيقف متهالكاً في الطابور، ومن يهدم بيته سيتشرد ويحمل ملامح التشرد في عينيه ووجهه. هذا الاستسلام الذي لا محيد عنه، يشبه السقوط في حفرة، فهو يجعل الآخرين ينظرون إليك من الأعلى حتى وهم يتعاطفون ويتضامنون. هذا الاستسلام القهري يمرر إلى النفس الخارجية الرائية رسالة مسمومة تطابق بين المصير وصاحبه، وكأن هذا المصير ينتمي لصاحبه كما تنتمي له جيناته وملامح وجهه.
للاعتياد دور في هذا بلا شك. العاهة تصبح من ملامح صاحبها مع الوقت حتى يصعب تخيله دونها. وفي غرفة المرضى المزمنين قد تبدو الوجوه وكأنها مخلوقة لتناسب هذه الأسرة الكئيبة، وإذا ما تنافر وجه من الوجوه مع هذا الاعتبار، فإن القليل من الزمن سوف يكفي لتطويع هذا التنافر وردّ الوجه إلى تلائمه مع مصيره، كوجه لمريض، هنا مكانه ولا عجب.
لكن في الخدعة النفسية التي تخلق الملاءمة بين المنكوبين ومصائرهم ما هو أبعد من موضوع الاعتياد. إنه بالأحرى آلية نفسية للابتعاد، لرسم خط فاصل بين أهل المصير وبينك، مهما تكن الروابط التي تجمعك بهم. من الأفضل أن يكون هذا الخط الفاصل "طبيعياً"، أن لا يكون لك يد فيه، فيبقى ضميرك حراً، ويمكنك أيضاً أن تعزز من "إنسانيتك" بالتعاطف، وأن تتهم ضمائر الآخرين غير المتعاطفين. وينبغي لهذا الفاصل أيضاً أن يكون متيناً بما يسمح لك بالتعاطف والتضامن دون أن يتحطم فتصبح في مصير من تتعاطف معهم. أي ينبغي لهذا الفاصل أن يسمح لك بالتضامن من الخارج، وبالحفاظ على خارجيتك مصانة ثم مشبعة بالرضى الذي يجلبه التضامن مع بؤساء.
بعد قليل، تنزلق العلاقة بين المنكوبين ومصائرهم في نفوس الخارجيين، إلى مستوى أدنى، فتعزو النفس، بطريقة ما، مسؤولية غامضة للبؤساء عن مصيرهم. تميل النفس، دون حاجة إلى أي تماسك منطقي، إلى ابتكار علاقة موضوعية بين البائسين ومصيرهم. شيء ما يشبه الكارما. كالاعتقاد بأن البؤس لا يختار ضحاياه اعتباطاً. لسبب ما، لا يمكننا إدراكه، استحق هؤلاء مصيرهم. لكننا نتعاطف معهم ونقدم ما نستطيع، فضمائرنا وإنسانيتنا ومبادئنا تقود سلوكنا.
بعض المعتقدات تعتبر الإعاقة الخلقية عقاباً سماوياً، وتعفي معتنقيها حتى من التضامن مع المعاق باعتبار أنهم ليسوا أرحم من الله الذي خلقه على هذه الصورة، أو الذي قدّر أن يفقد بصره أو يُشل أو تبتر يده. محاكمة من هذا المستوى تتسلل إلى النفس فيما يخص المنكوبين. هناك علاقة خفية يصعب أو يستحيل إدراكها جعلت هؤلاء ضحايا على يد قوة محددة (سلطات مستبدة مثلاً أو قوى عظمى أو تنظيمات عسكرية) سخّرتها تلك العلاقة الخفية لإنفاذ إرادتها، وبقينا نحن للتعاطف والتضامن، أو للتشفي وإدارة الظهر. ألا توحي ملامحهم بأنهم أهل لهذا المصير؟!
يتدحرج هذا التسلسل النفسي الذي ينبغي وصفه بغير الإنساني، رغم أنه غير واع، إلى مستوى تبرئة النفس من الكوارث السياسية التي هي من صنع أنفسنا، وكأنها كوارث طبيعية. هكذا تبعد النفس عن نفسها المسؤولية عن اختلال التوازن، وهكذا نرضي أنفسنا بالتعاطف والتضامن مع ضحايا، معتبرين أن لا يد لنا في مصائبهم.
يمكن لهذا التسلسل أن يتحطم دفعة واحدة فيما لو انكسر ذلك الفاصل الوهمي بين أهل المصير ومراقبيهم الخارجيين. مثلاً، ماذا لو تكرّس في الثقافة العامة أن من شردوا من بيوتهم لهم حق متساوٍ في البيوت الباقية، وأن على غير المنكوبين تقاسم المساحة معهم؟ وماذا لو اعتبر من حرموا من موارد عيشهم أن لهم الحق في موارد العيش المتاحة لمن لم تدمر موارد عيشهم وأن على هؤلاء تقاسم العيش معهم، وأن مساحة الحياة المتبقية في بلد منكوب، هي حق للجميع؟ ماذا لو نظرنا إلى نكبة جزء من البلاد أو من العالم على أنها نكبة لكل البلاد ولكل العالم؟
عندئذ لا يصبح التعاطف أو التضامن فضلاً أو إراحة للضمير بل واجباً مفروضاً لا مهرب منه. عندئذ، وهذا هو الأهم، تغدو مواجهة مصدر الشر والنكبات مسؤولية الجميع، لأنه عندئذ سوف يغدو الشر نَفوذاً إلى حياة الجميع، وبذلك سوف تستبدل علاقة التعاطف والتضامن بعلاقة المساواة والمشاركة والوحدة. عندها تصبح النكبة شأناً عاماً وليست شأن المنكوبين، وينمحي الخط الذي يعزل المنكوبين في دائرة النكبة، لأن هذه الدائرة سوف تتسع لتشمل الجميع، وعندئذ فقط يكف المنكوبين عن التماهي بمصائرهم البائسة.



#راتب_شعبو (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الاغتصاب
- العلويون والثورة السورية
- سلعة العداء للامبريالية في سوق العالم الثالث
- صادق جلال العظم، تراجيديا مفكر
- حسين العودات، النهضة العربية المفترضة والهمّ المزدوج
- الصراع القطبي
- النظام السوري: افتراق السياسة عن القيم
- في علمانية اللاعلمانية
- عقدة نقص الدولة الفلسطينية
- العلمانية والديمقراطية وفك الاحتكارات
- عن العلمانية والديموقراطية
- لماذا الصحوة الإسلامية؟
- تعليق على مشروع البرنامج السياسي للتجمع الوطني الديموقراطي ف ...
- في شأن إعدام صدام حسين
- حول اعتقال علي الشهابي
- حرب لبنان ومأزق -العقلانية- السياسية
- سوريا السوريالية
- عن الداخل والخارج مساهمة في الحوار الجاري
- الخارج وفق محددات الداخل - المثال السوري
- الوحدة الوطنية بين السلطة والمعارضة في سورية


المزيد.....




- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- مصر.. الفنان بيومي فؤاد يدخل في نوبة بكاء ويوجه رسالة للفنان ...
- الذكاء الاصطناعي يعيد إحياء صورة فنان راحل شهير في أحد الأفل ...
- فعالية بمشاركة أوباما وكلينتون تجمع 25 مليون دولار لصالح حمل ...
- -سينما من أجل غزة- تنظم مزادا لجمع المساعدات الطبية للشعب ال ...
- مشهور سعودي يوضح سبب رفضه التصوير مع الفنانة ياسمين صبري.. م ...
- NOW.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 154 مترجمة عبر فيديو لاروزا
- لماذا تجعلنا بعض أنواع الموسيقى نرغب في الرقص؟
- فنان سعودي شهير يعلق على مشهد قديم له في مسلسل باللهجة المصر ...
- هاجس البقاء.. المؤسسة العلمية الإسرائيلية تئن من المقاطعة وا ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - راتب شعبو - عزلة المنكوبين