أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - همام طه - كيف نواجه الكراهية .. سؤال جوابه في المواطنة الكونية وعولمة التسامح والهويات الثقافية التفاعلية















المزيد.....

كيف نواجه الكراهية .. سؤال جوابه في المواطنة الكونية وعولمة التسامح والهويات الثقافية التفاعلية


همام طه

الحوار المتمدن-العدد: 6185 - 2019 / 3 / 27 - 21:20
المحور: العولمة وتطورات العالم المعاصر
    


لا يمكن أن نرفض الكراهية حين تكون موجّهة ضدنا بينما نقبلها أو نتغاضى عنها إذا كانت موجّهة ضد الآخرين، والأخطر أن نعتقد أحياناً أن الكراهية تجاه الهويات المغايرة هي ضربٌ من الاعتزاز بالهوية الدينية أو القومية، فلا توجد كراهية خبيثة وأخرى حميدة، ولا كراهية مشروعة وأخرى منبوذة. الكراهية هي الكراهية ولا يمكن أن نتعامل معها بانتقائية وتمييز أو أن نحاول تكييفها لتكون أداة لحماية الذات أو إثبات الوجود، ولا أن نطالب الآخرين بتحمّل مسؤولياتهم في مواجهة الكراهية بينما نأخذ دور المتفرج السلبي. كما أن وقوعنا ضحايا للكراهية لا يعفينا من مسؤولية المشاركة في مكافحتها بل يجعل من هذه المشاركة مسألة وجودية بالنسبة لنا.
وبالتالي فإن التصدي للكراهية التي يدعو إليها اليمين المتطرف ضد المسلمين ينبغي أن يتم في إطار رفض الكراهية بكل أشكالها بغض النظر عن مصدرها أو المستهدف بها. ولذلك لا تبدو منطقية أو مفهومة تلك الدعوة التي أطلقها كتّاب عرب عقب جريمة استهداف المصلين في نيوزيلندا عندما طالبوا الدول الغربية بإصدار قوانين تجرّم "الكراهية ضد الإسلام والمسلمين".
إنها دعوة للتصدي للعنصرية بمنطق عنصري ولمكافحة الكراهية بإذكاء الكراهية ولمحاربة التمييز بإرساء التمييز. لماذا يتم تخصيص التجريم بكراهية المسلمين حصراً؟ وماذا عن كراهية غير المسلمين؟ إن مثل القوانين إذا صدرت فإنها ستؤدي إلى تكريس أزمة التعايش بين الإسلام والغرب وخلق مناخ من غياب الثقة والتربّص والارتياب الاجتماعي وانعدام الاستقرار في المجتمعات الغربية، ما يجعل الأقليات المسلمة في مواجهة مع مجتمعاتها الحاضنة، وتصبح تهمة "كراهية الإسلام" مثل "معاداة السامية" أداةً للاستثمار السياسي والمزايدة من أطراف محلية ودولية تتقدم للحديث باسم الإسلام والمسلمين، وستزيد هذه القوانين المقترحة النقمة على الإسلام في الغرب لأن اليمين المتطرف سيستغلها لإثبات سردياته العنصرية التي ترى أن الإسلام يغيّر وجه العالم الغربي ويفرض سيطرته على النظم السياسية والاجتماعية ويصادر حرية التعبير وحق الاختلاف.
إن مثل هذه التشريعات إذا أقرّت فإنها تقول ضمنياً إن وجود الإسلام يشكّل "أزمة" في الغرب وأن اندماج المسلمين مستعصٍ وأنهم سيبقون إلى الأبد طائفة معزولة تبحث عن الحماية والعطف والمعاملة الخاصة لأنها تفتقد للمرونة الثقافية وعاجزة عن التكيّف مع الثقافة الغربية بمعنى تحميل المسلمين المسؤولية عن ما يطالهم من كراهية، وهذا ما يريده اليمين المتطرف بالضبط؛ وصم المسلمين بعدم القدرة على الاندماج.
كما أن هكذا قوانين ستؤدي إلى "تطبيع" الخطاب اليميني المتطرف ضد المسلمين حتى وإن جرّمته وذلك لأنها تكرّس ثقافة الصراع وانعدام التوافق بين الإسلام والغرب وستجعل الأجيال الجديدة تنشأ على فكرة أن الصراع بين الإسلام والغرب هو أمر واقع وحتمي وجزء من طبيعة الأشياء وأن اللقاء بينهما مستحيل.
ليس من مصلحة المسلمين في الغرب استصدار أي قانون حمائي خاص بهم، فمن شأن هكذا قوانين تكريس تعريفهم السياسي والقانوني بهويتهم الدينية الفئوية وتأطير حضورهم الاجتماعي دينياً بما يرسّخ الحواجز الثقافية والنفسية التي تفصلهم عن المجتمع العام ويؤدي إلى انعزالهم واغترابهم وتوفير مناخ يغذي "الإسلاموفوبيا" أو "الخوف من الإسلام"، بل المطلوب تعزيز اندماجهم في تلك المجتمعات وترسيخ تعريفهم كمواطنين ومواطنات على أساس الهوية المشتركة التي تجمعهم بالهويات المتنوعة، وتفعيل دورهم في مواجهة الكراهية والعنصرية عبر مزيد من المشاركة في نشر التسامح وحماية وتطوير التعايش جنباً إلى جنب مع السكان الأصليين والمكونات الأخرى، ومغادرة عقلية الانعزال والانكفاء والتخندق الثقافي التي تلتقي مع أفكار اليمين المتطرف في النظر إلى وجود المسلمين في الغرب باعتباره "وضعاً استثنائياً" وليس جزءاً من التنوع الثقافي والتطور الطبيعي للمجتمعات، ما يجعل الجاليات المسلمة تعيش في حالة قلق وجودي وأزمة هوية حادة. إن انضواء المسلمين تحت لواء الهوية الدينية في دول تقوم على المواطنة هو بمثابة نزول إلى خندق أو أخدود والسماح لليمين المتطرف بإضرام النار فيه.
لا يمكن لنا كمسلمين أن نحمي أنفسنا من الكراهية إلا بالانخراط في مشروع عالمي لمجابهة الكراهية وأن نتبنى مفهوماً كونياً للتسامح، وليس المطالبة بتفصيل قوانين مكافحة الكراهية على مقاسات فئوية وإثنية محددة.
وعلينا أن نتأمل تجربة الشعب النيوزيلندي الذي يدافع عن نفسه ضد العنف بالانفتاح والتسامح واحتضان الأقلية المسلمة. وهو بذلك يشنّ هجوماً مقابلاً ضد اليمين المتطرف من جهة ويحصّن نفسه ضد التطرف الديني الإسلامي من جهة ثانية.
وكما تتضافر جملة من الأيديولوجيات والسياسات الدينية والقومية المتطرفة من مختلف المشارب الثقافية على "عولمة الكراهية" في هذا العصر؛ فإن لا خلاص للمسلمين اليوم، ومعهم كل الهويات الإثنية المتضررة بصورة مباشرة أو غير مباشرة من التطرف بأشكاله، إلا بالمشاركة الفاعلة دولاً ومجتمعات في "عولمة التسامح"، والتي تعني تحويله إلى قيمة حقوقية وثقافية كونية عامة وشاملة، وغير مشروطة بأية اعتبارات عنصرية أو فئوية أو طائفية أو جهوية، ومبذولة من الجميع تجاه الجميع.
وذلك لأن التسامح هو بطبيعته مفهوم لا يمكن تقييده بحدود جغرافية أو محددات سياسية أو ثقافية لأن هذا التقييد يتناقض مع جوهر المفهوم نفسه، بمعنى أنه لا يمكن تطبيقه بكفاءة ونجاح إلا على مستوى عالمي.
وتتحقق عولمة التسامح عبر بثّ واعتناق ثقافة "المواطنة الكونية" أو "المواطنة المعولمة" التي يتمتع في إطارها المواطنون والمواطنات بالمرونة الإدراكية والمعرفية والثقافية والسلوكية للتفاعل مع الهويات والثقافات المختلفة داخل مجتمعاتهم (التفاعل السوسيوثقافي) وعبر الحدود (التفاعل الجيوثقافي)، ويمتلكون مهارات التكيّف والاستجابة للأزمات والتغيّرات والتحولات والصراعات بعقلية واقعية وبراغماتية متحرّرة من القيود الثقافية الذاتية ومنفتحة على القيم الكونية ومتحرّية للمصالح الإنسانية المشتركة في إطار من العالمية أو "الكوسموبوليتية"؛ بمعنى أن تكون مكافحة الكراهية قضية كونية عابرة للهويات الثقافية وللحدود الجغرافية والسياسية، بحيث يتم علاج أفكار الكراهية والانغلاق والتعصب بتكريس القيم المناقضة لها وهي التسامح والقبول بالتنوع والتعددية والاختلاف.
تقول الفيلسوفة التركية سيلا بن حبيب في تعريفها للكوسموبوليتية، في محاضرة لها، إن "البشر شخصيات أخلاقية لها الحق في الحماية من طرف القانون، وليس ذلك انطلاقاً من الحقوق التي يتمتعون بها كمواطنين أو أعضاء في مجموعة إثنية ولكن ببساطة كبشر"، وتضيف أن "حدود البلدان في القرن الحادي والعشرين ستزداد شفافية وأن العدالة داخل الحدود والعدالة خارج الحدود ستصبحان أكثر التحاماً"(1). وتوافقها رئيسة الوزراء النيوزيلندية، جاسيندا أردرن، الرأي عندما تقول في سياق دعوتها إلى "حملة عالمية ضد العنصرية": "إذا أردنا أن نعيش في عالم آمن ومتسامح للجميع، لا ينبغي أن ننظر إلى الأمر من منطلق الحدود"(2).
وحين نطالب كمسلمين قادة الغرب بالاقتداء برئيسة الوزراء النيوزيلندية في محاربتها للكراهية التي يروّج لها اليمين المتطرف ضد المسلمين، فإن علينا أيضاً كمجتمعات مسلمة مسؤولية التعلّم من الدرس النيوزيلندي في تجفيف منابع الكراهية ومحاصرة نيرانها والاتعاظ من تجربة نيوزيلندا في الدفاع عن التعايش والتي تجسّدت في قدرة الأغلبية البيضاء فيها على نكران ذاتها الإثنية والتحرّر من النرجسية الثقافية في سبيل طمأنة الأقلية المسلمة وإبداء التضامن معها والحفاظ على السلم الأهلي.
فهل يعلّمنا هذا الدرس كيف نتعامل مع الأقليات الدينية كالمسيحيين والبهائيين والإيزيديين والصابئة واللادينيين في مجتمعاتنا ذات الغالبية المسلمة، لا بل هل يعلّمنا كيف نتعامل مع أولئك المسلمين الذي يرغبون في العيش بأنماط حياة مغايرة للطريقة التي اختارتها الأغلبية؟! هل نتعلّم أن الأغلبية السكانية العددية التي يتمتع بها مكون اجتماعي معين هي ليست مبرراً لظواهر التغلّب والهيمنة السياسية والاستقواء الاجتماعي والتنمّر الثقافي على الأقليات والمكونات الأخرى في المجتمع.
إن كثيراً من الصراعات الدينية والإثنية والثقافية يمكن تخفيف حدّتها والتقليل من تداعياتها على السلم الاجتماعي لو تحلّى أحد طرفي النزاع بشيء من نكران الذات على الصعيد الثقافي والقدرة على تقبّل ثقافة الطرف الآخر والتعايش معها، وربما تقمّص بعض عناصرها حتى وهي تتعارض مع خصوصيته الثقافية.
ولا يعني نكران الذات الثقافي هنا التخلّي عن الهوية أو التضحية بالخصوصية ولكنه يعني العيش بمرونة وتناغم مع الآخرين والقبول بالشراكة معهم في الفضاء العام والنظر إلى خصوصياتهم الثقافية باعتبارها أساليب حياة وخيارات اجتماعية وسلوكية تحتمل نسبة من الصواب ما لم تتعارض مع القانون وحقوق الإنسان؛ وليس النظر إليها بعقلية عدوانية أو تكفيرية، أو إصدار أحكام أخلاقية إقصائية ومتطرفة عليها، أو اعتبارها رجساً ينبغي التطهّر منه والتنزّه عنه، بمعنى عدم السماح بتحويل الاختلافات الثقافية الطبيعية إلى خلافات وكراهية متبادلة بين المكونات الاجتماعية.
لم يُنكر المجتمع النيوزيلندي الجريمة التي طالت المسلمين في حادثة مسجديّ كرايتستشيرش، ولم يأخذ موقف الدفاع عن الذات ومحاولة تبرئتها أو تبرير الجريمة ولم ينزلق إلى إنكار فظاعتها بل سارع إلى إنكار ذاته عابراً كل الفوارق الدينية والإثنية والثقافية التي تفصله عن المسلمين وبادرت النسوة إلى ارتداء الحجاب تعاطفاً وتضامناً في تخلٍّ رمزي عن هويتهن الثقافية في سبيل التعبير عن التمازج مع الآخر الذي يحمل هوية مغايرة والالتحام به.
يقول لنا الدرس النيوزيلندي إن ما يسمى "الاعتزاز بالهوية" قد يشكّل أحياناً حاجزاً يحول بيننا وبين الهويات الأخرى وقد يحول دون إقدامنا على مبادرات تعزّز التواصل مع الآخر وتبني معه جسور الثقة والاندماج، وربما يكون الاعتزاز المبالغ فيه بالهوية مدخلاً لزعزعة الأمن الاجتماعي وإثارة النعرات العنصرية.
ولذلك قد تكون أفضل طريقة للحفاظ على الهوية هي التحلّل أو التحرّر قليلاً من قيودها وأعبائها وإدراك أن الهوية تكتسب حضورها وحيويتها من خلال التفاعل الإيجابي مع الهويات الآخرى وليس عبر التخندق والعزلة والانطواء على الذات، ولذلك لم تجد المواطنة النيوزيلندية غضاضة في ارتداء الحجاب الذي ينتمي إلى ثقافة أخرى، ولم يجد أحد القساوسة حرجاً في ارتداء جلباب إسلامي، ولم يعتبر أي منهما ذلك تنازلاً عن الهوية أو خيانة للفئة الاجتماعية التي ينتمي إليها. مثل هذه المبادرات تعكس المرونة الثقافية والقدرة على تقديم "تنازلات ثقافية" من أجل حماية الأمن الاجتماعي والتعددية وإنقاذ الذات والآخر في آن معاً.
ومما يلفت النظر أن كثيراً من العادات والتقاليد والأزياء بات يُطلق عليها وصف "إسلامية" وأصبحت جزءاً من مفهوم "الثقافة الإسلامية" على الرغم من أنه لا يوجد في الإسلام ما يثبت بشكل قطعي أنها فروض دينية، ومنها ما هو محل خلاف ويدور حوله جدل في كتب الفقه، وهناك مسلمون لا يلتزمون بهذه التقاليد والرموز ولا يُعدّون كفرة أو خارجين من الملّة، ما يعني أن الثقافة الإسلامية شيء والإسلام شيء آخر، ونسبة كبيرة مما نسميه "خصوصية ثقافية" للمسلمين هو خيارات فقهية واجتماعية وثقافية وبيئية وشخصية قابلة للتكييف وإعادة الإنتاج كي تكون أكثر اندماجاً في الإطار الكوني.
وبالتالي فإن ما نسميه هنا "تنازلات ثقافية" نحتاج كمسلمين اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى تقديمها كي نكون أكثر كفاءة في التفاعل مع الثقافات الأخرى على المستوى الكوني إنما هو تحوّلات ثقافية وسلوكية مرغوبة تجعلنا أكثر اندماجاً في العصر والعالم وليست تجرؤاً على الإسلام أو محاولة لتغيير تعاليمه لأن هذه التعاليم نفسها لا يستطيع أحد أن يزعم أنه يمتلك زمام تفسيرها الدقيق والحاسم والقطعي والثابت، فالخصوصية الثقافية التي نعيش بها كمسلمين اليوم هي نتاج تأويلاتنا للنصوص الدينية عبر التاريخ، وكما أنتج التأويل أنماط الثقافة الإسلامية الراهنة التي يعيق العديد منها اندماجنا ويجعلنا هدفاً لكراهية اليمين المتطرف ويجعل أبناءنا عرضة لإغواء الفكر الإسلامي المتطرف فإن التأويل أيضاً قادر على إنتاج ثقافة إسلامية جديدة تدعم اندماجنا في العالم وتحمي مجتمعاتنا من التطرف المعاصر بنسختيه الداعشي واليميني المتطرف.
إن القدرة على امتلاك إرادة تقديم التنازلات الثقافية تحمل دلالة الثقة والانفتاح والتسامح وهي ليست مؤشراً على التخاذل والانكسار أو الهزيمة الحضارية والثقافية. لكن الذي يجعلنا ننظر إلى التنازل الثقافي باعتباره "انهزامية" أمام الآخر يرجع إلى أننا ننظر أصلاً إلى العلاقة بالآخر بوصفها صراعاً حضارياً لا هوادة فيه.
وإلى فكرة "المرونة الثقافية" يشير الأكاديمي الفلسطيني خالد الحروب فيقول إن "الخصوصيات الثقافية المرنة هي التي أنتجت حضارات وثقافات قادرة على الاستيعاب والاستفادة من تجارب الآخرين"، مشيراً إلى أن التجربة التاريخية للحضارة العربية والإسلامية قدمت فهماً للخصوصية الثقافية الإسلامية يتّصف بالانفتاح والمرونة والثقة بالنفس بخلاف ما يسود في الخطاب الإسلامي المعاصر من تصوّر للخصوصية يتّسم بالانغلاق والجمود(3).
من حق كل إنسان أن تكون له خصوصيته الثقافية ولكن تقع عليه أيضاً مسؤولية إدارة هذه الخصوصية بشكل حضاري وتفاعلي في مجتمع متعدد، فالتواصل التفاعلي بين الأفراد والجماعات وعبر الثقافات هو سمة هذا العصر ولم يعد بالإمكان المحافظة على الخصوصية الثقافية إلا من خلال تفاعلها مع الخصوصيات الثقافية الأخرى في المجتمع والعالم.
ومن حق المسلمة مثلاً أن تعتقد بوجود علاقة ما بين الحجاب والفضيلة الأخلاقية، ولكن عليها أن تدرك أيضاً أن مفهوم الفضيلة نفسه ليس كونياً وأنه نسبي ومتغيّر من مجتمع لآخر ومن ثقافة لأخرى وأنه يتباين حتى على مستوى المجتمع الواحد والثقافة الواحدة، وهذا ينطبق على العديد من المفاهيم القيمية.
لقد كان ارتداء النساء النيوزيلنديات غير المسلمات الحجاب خطوة اندماجية من الأغلبية تجاه الأقلية جاءت في شكل من التماهي الثقافي مع المسلمين تعبيراً عن التعاطف معهم في المحنة، وعكست مرونة ثقافية لدى الأغلبية. والرد الأمثل من الأقلية المسلمة في نيوزيلندا وكل المجموعات المسلمة في العالم الغربي على هذه التحية الحضارية هو أن تتحمّل هذه الأقليات مسؤولياتها في التكامل الحضاري والتماهي الإنساني مع المكونات الأخرى التي تتعايش معها، والتماهي الكوني والإنساني هنا لا يعني الذوبان أو تبديد الهوية الذاتية أو الخضوع للاستلاب الثقافي، ولكنه تبنّي ثقافة "المواطنة المعولمة" ومغادرة الإطار الفئوي الذي يعزلنا عن الآخرين في المجتمع إلى الإطار الكوني الذي يجمعنا بهم وبغيرهم في مجتمعات أخرى، وعدم الارتهان لعقلية "الغيتو" وثقافة "الجالية" أو "الأمة الأحادية"، وتشمل مهارات المواطنة المعولمة، بحسب الدراسة الموسومة "المواطنون المعولمون لا يُولدون بل يُصنعون"(4)، الانفتاح والمشاركة المجتمعية والتعاطف الثقافي مع المكونات الدينية والإثنية المختلفة، بما ييسّر الاندراج البنّاء في التنوّع في إطار الهوية الوطنية التعددية الجامعة المنفتحة على رحابة الهوية الكونية، ذلك أن العيش المشترك مسؤولية وليس مكسباً فقط، وهو ليس مجرد التواجد في مكان واحد ولكنه التفاعل وتقديم التنازلات المتبادلة والحرص على مصالح الآخر وتمكينه اجتماعياً وثقافياً بقدر الحرص على مصالح الذات ومكانتها.
إن صيانة العيش المشترك تحتاج إلى ترويض مشاعر التفوّق الديني والإثني والتحلّي بقدر من التواضع والموضوعية في إدراك الاختلافات بين الثقافات وتقبّلها. كما تحتاج إلى التحرّر من خطابات الاعتزاز بالهوية والتمسّك بالعقيدة والحفاظ على الثوابت الدينية والثقافية؛ فهوية الإنسان الثقافية تتغيّر وتتحوّل بصورة دائمة وهي في حالة تشكُّل مستمر عبر الاحتكاك بالهويات الأخرى تناغماً أو تصادماً، وحتى ما يسمى "الاعتزاز بالهوية" هو في حقيقته عملية تغيير في الهوية باتجاه الانغلاق والجمود والركود والعزلة، ما يؤدي لتشويهها وتحويلها إلى عبء على المنضوين تحتها، بمعنى أن الهوية لا تبقى على حالها أبداً والحديث عن المحافظة عليها هو محض وهم لا سيّما في هذا العصر التفاعلي الذي نعيش فيه والذي حوّل العالم إلى قرية صغيرة.
إن من شأن مفاهيم وسياسات عولمة التسامح والوطنية العالمية والمواطنة الكونية والمرونة الحضارية والخصوصيات الثقافية التفاعلية أن تحوّل العالم إلى مجتمع كوني تعددي ومنفتح كبير ومتشابك ومتداخل العلاقات والروابط ويحمل هوية إنسانية مشتركة، لينطبق عليه تعريف الفيلسوف البريطاني كوامي أنتوني أبيا للمجتمع الكوسموبوليتي بأنه "المجتمع الذي ينتمي أفراده لأماكن مختلفة ويرتبطون بعلاقات احترام متبادل بغض النظر عن معتقداتهم الدينية أو آرائهم السياسية"(5).


(1) راجع: سيلا بن حبيب أكاديمية تركية أستاذة العلوم السياسية في جامعة يال الأمريكية، "مواطنة كونية...هل يمكن الجمع بين الكوسموبوليتية والديمقراطية"، ترجمة: رشيد بوطيب، موقع قنطرة. حقوق النشر: معهد جوته، فكر وفن.
(2) راجع: "هجوم نيوزيلندا: رئيسة الوزراء جاسيندا أردرن تدعو إلى حملة عالمية ضد العنصرية بعدما حدث في كرايست تشيرتش"، موقع بي بي سي عربي.
(3) راجع: خالد الحروب، "العالم العربي: العولمة وجدل الهوية .. من الخصوصية إلى الإعاقة التاريخية؟"، موقع قنطرة.
(4) راجع: المواطنة المعولمة، الموسوعة الحرة (ويكيبيديا).
(5) راجع: الكوسموبوليتية، الموسوعة الحرة (ويكيبيديا).



#همام_طه (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الدراسات الدينية وسؤال التجديد .. هل من سبيل إلى فقه جديد يو ...
- ما الذي يحتاجه العراق من رئيس مجلس النواب المنتخب؟ العمل الد ...


المزيد.....




- رئيسة جامعة كولومبيا توجه -رسالة- إلى الطلاب المعتصمين
- أردوغان يشعل جدلا بتدوينة عن بغداد وما وصفها به خلال زيارته ...
- البرازيل تعلن مقتل أو فقدان 4 من مواطنيها المرتزقة في أوكران ...
- مباشر: 200 يوم على حرب بلا هوادة بين إسرائيل وحماس في غزة
- مجلس الشيوخ الأمريكي يقر بأغلبية ساحقة مشروع قانون مساعدات ل ...
- محكمة بريطانية تنظر في طعن يتعلق بتصدير الأسلحة لإسرائيل
- بعد 200 يوم.. تساؤلات حول قدرة إسرائيل على إخراج حماس من غزة ...
- -الشيوخ- الأمريكي يوافق على حزمة مساعدات لأوكرانيا وإسرائيل ...
- مصرية الأصل وأصغر نائبة لرئيس البنك الدولي.. من هي نعمت شفيق ...
- الأسد لا يفقد الأمل في التقارب مع الغرب


المزيد.....

- النتائج الايتيقية والجمالية لما بعد الحداثة أو نزيف الخطاب ف ... / زهير الخويلدي
- قضايا جيوستراتيجية / مرزوق الحلالي
- ثلاثة صيغ للنظرية الجديدة ( مخطوطات ) ....تنتظر دار النشر ال ... / حسين عجيب
- الكتاب السادس _ المخطوط الكامل ( جاهز للنشر ) / حسين عجيب
- التآكل الخفي لهيمنة الدولار: عوامل التنويع النشطة وصعود احتي ... / محمود الصباغ
- هل الانسان الحالي ذكي أم غبي ؟ _ النص الكامل / حسين عجيب
- الهجرة والثقافة والهوية: حالة مصر / أيمن زهري
- المثقف السياسي بين تصفية السلطة و حاجة الواقع / عادل عبدالله
- الخطوط العريضة لعلم المستقبل للبشرية / زهير الخويلدي
- ما المقصود بفلسفة الذهن؟ / زهير الخويلدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - همام طه - كيف نواجه الكراهية .. سؤال جوابه في المواطنة الكونية وعولمة التسامح والهويات الثقافية التفاعلية