أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - عبدالرزاق دحنون - الهوية والعنف ... ماذا حدث, وما أسباب حدوثه, و إلى أين نحن ماضون؟















المزيد.....

الهوية والعنف ... ماذا حدث, وما أسباب حدوثه, و إلى أين نحن ماضون؟


عبدالرزاق دحنون
كاتب وباحث سوري


الحوار المتمدن-العدد: 6184 - 2019 / 3 / 26 - 16:14
المحور: قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
    


1
أتساءل هل يمكن أن أكون -دون أي تناقض- عربياً, ومسلماً, وشيوعياً, ونباتياً, وصائماً, وباحثاً, ومؤخراً, ومُحباً للروايات, ومن مريدي فيلسوف المعرة, ومناضلاً من أجل جياع الأرض, ومؤيداً لقول فولتير: "قد أختلف معك في الرأي, ولكني على استعداد لأدافع حتى الموت عن حقك في التعبير عن رأيك" ومناصراً لحق المرأة في العدالة الاجتماعية , و من أتباع ليف تولستوي, وأن أكون من أولئك الناس الشاسعين الذين يمدون ظلالهم على آفاق شاسعة, وأن أكون إنساناً على وجه الدقة, وأكون مسؤولاً, وأن أعرف الخجل أمام بؤس لا يبدو أنه يتعلق بي, وأن أزهو بنصر كلّل هامات الرفاق, وأن أُحس وأنا أضع حجري أنني أًعمّر العالم.
لا أخضع للسائد كما كان الباحث هادي العلوي -رحمه الله- إذا لا يخطر على بالي, ولا يمكن أن أتصور أن هناك من يظن أنني أُعاني من نقص في عقلي أو ثقافتي لمجرد أنني مسلم وشيوعي. فأنا أعرف غنى ثقافتي وتاريخي وتراثي. وهذا الاحساس بالامتلاء, والوقوف على أرض ثقافية صلبة أنا مدين به لتراث فكري حضاري إنساني عميق و عريق. و لا أعتبر أن هناك عالماً إسلامياً وعالماً مسيحياً, أنتمي إلى مجتمع إسلامي ضمن العالم الأوسع, وهذه الكرة الأرضية ليست ملكاً لنمطٍ فكري أمريكي-أوروبي سائد اليوم, إذ أن لي الحق في العيش ضمن ثقافة الشرق وقيمه, ولي الحق في ثقافة هذا العصر , لأنني أمتلك بُعداً حضارياً أصيلاً ويمكنني أن أساهم به على الصعيد العالمي.
2
استعرتُ في هذه المحاججة أسلوب الكاتب الهندي "أمارتيا سن" الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد عام 1998 لمساهمته في اقتصاديات الرفاهية وعمله على صعيد نظرية التنمية البشرية ووسائل محاربة الفقر والحرية السياسية.حيث يؤكد في كتابه "الهوية والعنف...وهم المصير الحتمي" أن هذه النشاطات الجمعية التي ينتمي إليها أحدنا تكوّن شخصيته وترسم هويته, وفي الوقت نفسه ليس فيها ما يمكن أن يُعتبر الهوية الوحيدة.حيث علينا أن نقنع أنفسنا أولاً, ومن ثم الآخر الذي نتقاسم معه أسباب العيش, أن لنا انتماءات متعددة , و هذه الانتماءات تتفاعل فيما بينها بطرق مختلفة.
وقد جاء في الأثر أن رجلاً سلَّم على أبي العيناء, من أهل القرن الرابع الهجري, وكان أعمى, فسأله: من الرجل؟ قال: من بني آدم. فقال أبو العيناء: مرحباً بك, والله ما كنتُ أظن هذا النسل إلا قد انقطع. هل الانتماء إلى أبينا آدم في عصرنا الحديث طريق نجاة مأمون؟ وبالتالي فإن هذا الانتماء يواجه تحديات وحشية عندما نوحّدالتنوع في نظام تصنيف مهيمن مزعوم يعتمد على الدين, أو الطائفة, أو الثقافة, أو الحزب, أو الأمة, أو الحضارة. ففي حياتنا اليومية العادية نرى أنفسنا كأعضاء لمجموعات متنوعة ننتمي إليها جميعاً. وحقيقة أن يكون المرء علمانياً أو ليبرالياً أو شيوعياً لا يتعارض مع كونه مؤمناً يُصلي في الكنيسة كل أحد, وذلك لا يتعارض مع كونه ينشط في حزب شيوعي ولا يمنعه من أن يكون صديقاً لعدد كبير من المسلمين يدخل بيوتهم ويأكل من خبزهم. ولعلها نادرة تستحق الذكر أن "مصطفى جقمور" من أهل مدينة إدلب في الشمال السوري هو أحد رفاقنا في الحزب الشيوعي ظلَّ لأكثر من ستين عاماً شيوعياً مؤذناً, يؤذن في الناس, ويُصلي في المسجد. حالة نادرة لا شك في ذلك, ولكن أي شخص هو عضو في جماعات مختلفة متعددة – ومن دون أن يكون ذلك تناقضاً بأي شكل من الأشكال- وكل من هذه الهويات الجمعية التي ينتمي إليها هذا الفرد تعطيه هوية اجتماعية تجعله شخصاً مهماً بالفعل, فالبلاد تتسع دائماً لمن يُصلي كم تتسع لمن يُغني.
3
لنأخذ على سبيل المثال أهل الصين تجدهم يعتنقون إلى جانب الأديان الرئيسية في تاريخ الصين -إلى جانب التاوية المحلية- هناك البوذية والإسلام والمسيحية التي دخلت الصين من خارجها. مع أن الكونفوشيوسية احتلت مكانة حاكمة وسميت بالدين الكونفوشيوسي, فإنها ليست ديناً حقيقياً. الصين تختلف عن معظم دول العالم في موقفها تجاه الأديان ففي الغرب المسيحي والعالم الإسلامي كان وما زال تقسيم المذاهب الدينية صارماً حيث لا يمكن للشخص الواحد أن يؤمن بدينين معاً بل لا يمكنه أن يشترك في طائفتين لدين واحد-في الأمس القريب كان الأب شيعياً والأم سنية- في الصين يمكن أن تتعايش الأديان ويستفيد بعضها من بعض. فقد شهدت البوذية و التاوية تطوراً كبيراً في الصين وسميتا مع الكونفوشيوسية الأديان الثلاثة الكبرى. وأخذ كل منها بعض أفكار الدينين الآخرين فأصبح الجمع بين الأديان الثلاثة اتجاهاً تاريخياً ضرورياً, هذا من ناحية, ومن ناحية أخرى يمكن أن تتعايش هذه الأديان في قلب الشخص الواحد, فيمكن أن يكون المرء بوذياً و تاوياً معاً ويكون تابعاً للكونفوشيوسية أيضاً. و نادراً ما نجد في مكان آخر في العالم مثل هذه الروح المتسامحة في استيعاب الأديان.
4
إن العالم المقسم حسب الهوية أكثر إثارة للشقاق والنزاع بكثير من التصنيفات الجمعية والمتنوعة التي تشكل العالم الذي نعيش فيه. إن الأمل في أن يسود الانسجام عالمنا المعاصر يكمن إلى حد كبير في فهم أوضح لتعددية الهوية الإنسانية وفي تقدير الحقيقة أن البشر يستطيعوا أن يصلوا إلى بعضهم وأن يعملوا ضد فصل حاد بينهم على أساس خط واحد متصلب من التقسيم الذي لا يمكن عبوره. لنأخذ على سبيل المثال فيلسوف المعرة -أحمد بن عبد الله بن سليمان التنوخي- المُكنى بأبي العلاء المعري, فأنت تجد الناس لا يعرفونه إلا رجلاً ملحداً، فإذا سألتهم عن علة إلحاده، رووا لك أبياتاً في اللزوميات، تنطق بإنكار الشرائع، وازدراء الأنبياء، وهذا القدر هو فقط ما عرفه الناس عن فيلسوف المعرة. مع أنه لا ضرورة لأن تكون ديانة المرء هي كل هويته على وجه الحصر. والإسلام بشكل خاص, كديانة, لا يلغي الاختيار المسؤول للمسلمين في كثير من مجالات الحياة. والحق أنه من الممكن أن يأخذ مسلم وجه نظر صدامية متوحشة وأن يكون آخر متسامحاً للغاية من دون أن يتوقف أي منهما على أن يكون مسلماً.
وحقيقية الأمر أن فيلسوف المعرة رقيق القلب, شديد الرحمة, كثير العطف على الضعيف, وحسبك أنه أمّن الحيوان من تعديه على نفسه, أو ولده أو ثمراته. فقد مرض فوصفوا له الدجاج فامتنع وألحوا عليه حتى أظهر الرّضا فلما قدم إليه لمسه بيده فجزع, وقال: استضعفوك فوصفوك, ثم أبى أن يأكل. اجتمعت في فيلسوف المعرة المقومات النموذجية لمفكر حر، ألمَّ بفكر العرب وثقافتهم، واستمدَّ من تلك الثقافة رموزها الفلسفية، فأنضجها في أتون العقل، وصنع منها مشروعاً حضارياً عملاقاً نستطيع القول إنه ما زال حياً إلى يومنا هذا. وهو بهذا القيد يكون المعبّر الأمثل عن منحى التنوير في الإسلام.
5
نحن في اختياراتنا الحياتية- شئنا ذلك أم أبينا- ننتمي إلى العديد من الجماعات المختلفة بطريقة أو بأخرى وكل من هذه الجماعات يمكن أن تمنح الشخص هوية يحتمل أنها مهمة بالفعل. ويؤكد المفكر الهندي "أمارتيا سن" أن البحث عن أسلوب فريد لتصنيف الناس من أجل عمل تحليل اجتماعي مسألة ليست بجديدة, حتى التجميع السياسي للناس الذين يقسمهم إلى عمال وغير عمال والمستخدم كثيراً في المؤلفات الاشتراكية الكلاسيكية به هذا الملمح البسيط. وربما يستحق التذكير في هذا السياق أن كارل ماركس نفسه أخضع هذا التعريف الفريد لنقد صارم في كتابه (نقد برنامج غوتا) الذي كتبه بعد ربع قرن على صدور بيان الحزب الشيوعي وتضمن نقداً لبرنامج حزب العمال الألماني المقترح, احتج فيه, ضمن احتجاجات أخرى, ضد رؤية العمال فقط كعمال وتجاهل ما يتميزون به من تنوع ككائنات بشرية فقد أكد أن (الأفراد غير المتعادلين – ولن يكونوا أفراداً مختلفين ما لم يكونوا غير متعادلين- لا يمكن أن تقاس كفاءتهم بمعيار عادل إلا بقدر ما يتم النظر إليهم بشكل عادل, ومع ذلك يُنظر إليهم فقط من جانب واحد محدد. وفي قضيتنا الحاضرة مثلاً يُنظر إليهم كعمال ولا يُرى فيهم أي شيء أكثر من ذلك فكل شيء أخر يتم إغفاله) يعتمد كارل ماركس في فكرته هنا على وهم التفرد ولا يؤكده, أو على افتراض مسبق بأن أي شخص لا يُرى كفرد له انتماءات عديدة أو كشخص ينتمي إلى جماعات متعددة مختلفة ولكن باعتباره فقط عضواً في جماعة واحدة معينة هي التي تعطيه هوية مهمة فريدة. والاعتقاد الضمني في القوة المسيطرة لتصنيف مفرد ليس فقط أمراً فجاً كنوع من الوصف والتكهن لكنه أيضاً مواجهة وتحد هائلان في الشكل والمضمون. فالنظرة التقسيمية المتفردة لسكان العالم لا تتعارض فقط مع الاعتقاد قديم العهد بأن "الناس متماثلون في كل مكان في العالم" لكنه أيضاً يتعارض مع الفهم المهم والواعي بأننا مختلفون بطرق كثيرة متنوعة واختلافاتنا لا تتمثل في بُعد واحد فقط. إن الحاجة الماسة إلى ملاحظة الهويات الجمعية للناس وطريقة اختيارهم لأولوياتهم تبقى أهم من إزاحة التصنيفات الحضارية لإحلال تصنيف ديني مباشر محلها.
6
يمكن ان تكون هناك أيضاً تباينات واسعة في السلوك الاجتماعي للأشخاص المختلفين الذين ينتمون للديانة نفسها, حتى في حقول غالباً ما اعتقد الناس أنها ترتبط بالدين ارتباطاً كبيراً. وهذا من السهل تصوره في العالم المعاصر, وعلى سبيل المثال في المقابلة بين الممارسة النموذجية للنساء في الريف السوري حيث المرأة تقوم بالدور الأكبر في الانتاج الزراعي, وهذا الأمر يعطيها بُعداً تحررياً ظاهراً, تراه العين بوضوح في قدرة المرأة الريفية على تحمل المسؤولية والتعبير عن الرأي والكفاح اليومي, وبين نساء المدن الأقل تحرراً والأقل انطلاقاً في الحياة اليومية-وهذه الوقائع تُخالف الفكر السائد عن المرأة الريفية والذي يقول بأنها أقل تحرراً, مع أنها أكثر تحرراً من نساء المدينة- والمثال الحاضر الآن قصة كتبها الأديب السوري حسيب كيالي في بدايات السبعينيات من القرن العشرين وسجل فيها نمطاً من أنماط تأثير الدين في العامة عن أهل المُدن.
افتتح حسيب كيالي قصته بشخصية أم الناجي التي نعرفها من خلال قصص كثيرة فهي من الشخصيات النسائية الأثيرة لديه. هذه المرأة الصغيرة المجففة ذات العينين الصغيرتين والتي شلوطت رموشها النار والسنون بحكم عملها خبازة بأجر, هي كادحة عاملة عل طريقة الشيخ كارل ماركس, حيث تقف أمام التنور طويلاً ولو كانت الدنيا تموز أو آب. يقول حسيب كيالي: كانت معارفنا في تلك الأيام من النساء تقتصر على الأمهات والمحرمات وحدهن. وقد تنكشف علينا عجوز مثل أم الناجي, صحيح أنها كانت لا تمانع في إبداء وجهها, ولكنها ما أن ترانا, ونحن في تلك السن المبكرة ما نزال, حتى تسرع في وضع شيء على رأسها لأن الله أمر بالسترة –وهذا لا نُلاحظه في ريف المدينة- ولأن شعر المرأة عورة ولو كانت مثل أم الناجي.
ثم يكتب حسيب كيالي هذه الملاحظة الدقيقة في قصته: ما أصفه الآن لا يشمل النسوة اللواتي يأكل عائلوهن خبزهم بعرق الجبين, أعني أولئك المطحونين من عتالين وسقائين وأجراء وبائعين متجولين في القرى من جهة وفلاحين من جهة أخرى. نسوة هؤلاء الكادحين لسن فاضيات لمثل هذا الترف, ترف أن يتخبأن, حجابهم ذاته نوع من فض العتب لآن نساء الكادحين يكدحن أيضاً.
7
لكن هذه الفروق ينبغي عدم رؤيتها ببساطة كوجود لظواهر جديدة جاءت بها الحداثة إلى الشعوب المسلمة. إن نفوذ اهتمامات أخرى, وهويات أخرى, يمكن رؤيتها في تاريخ الشعوب الإسلامية .ويضرب المفكر الهندي "أمارتيا سن" مثلاً جيداً من خلال مناظرة بين اثنين من المسلمين في القرن الرابع عشر . ابن بطوطة, الذي ولد في طنجة عام 1304 ميلادية وقضى ثلاثين سنة في رحلات متعددة في أفريقيا وآسيا, أصيب بصدمة بسبب بعض الأشياء التي رآها في جزء من العالم يقع الآن بين مالي وغانا. ففي أيوالاتن, التي لا تبعد كثيراً عن تمبكتو الحالية, عقد ابن بطوطة صداقة مع القاضي المسلم, الذي كان يشغل منصباً مهماً هناك. يسجل ابن بطوطة ضيقه من السلوك الاجتماعي في عائلة القاضي فيقول: دخلتُ يوماً على القاضي بأيوالاتن بعد إذنه بالدخول, فوجت عنده امرأة صغيرة السن بديعة الحسن, فلما رأيتها وأردت الرجوع, ضحكت مني, ولم يدركها الخجل. وقال لي القاضي: لم ترجع؟ إنها صاحبتي. فعجبتُ من شأنهما. ولكن القاضي لم يكن الوحيد الذي سبب صدمة لابن بطوطة . وقد كال نقداً قاسياً بشكل خاص لأبي محمد يندكان المسوفي, الذي كان مسلماً صالحاً , وسبقت له زيارة المغرب. وعندما زاره ابن بطوطة في بيته, وجد امرأة ورجلاً جالسين على أريكة يتبادلان الحديث. يقول ابن بطوطة: دخلتُ يوماً على أبي محمد يندكان المسوفي الذي قدمنا في صحبته فوجدته قاعداً على بساط وفي وسط داره سرير مظلل عليه امرأة معها رجل قاعد وهما يتحادثان. فقلت له: من هذه المرأة؟ فقال: هي زوجتي. فقالت: من الرجل الذي معها؟ فقال: هو صاحبها. فقلتُ له: أترضى بهذا؟ وأنت قد سكنت بلادنا, وعرفت أمور الشرع. فقال لي: مصاحبة النساء للرجال عندنا على خير وأحسن طريقة لا تهمة فيها ولسن كنساء بلادكم. فعجبت من رعونته وانصرفت عنه ولم أعد إليه بعدها. و استدعاني في مرات فلم أجبه.
لاحظ أن اختلاف أبي محمد عن ابن بطوطة لا يرجع إلى الدين – فكلاهما مسلم- وإنما في اسلوب الحياة التي يرى كل منهما أنه صواب. كانت المواقف المتغيرة من التسامح الديني ذات أهمية اجتماعية غالباً في تاريخ العالم, وكثيراً من التنويعات يمكن أن نجدها بهذا الشأن بين أشخاص مختلفين كلهم يدينون بالإسلام. لا بد أن يكون من القضايا الأساسية كيف يُنظر إلى الكائنات البشرية. هل ينبغي تصنيفهم وفق التقاليد الموروثة, خصوصاً الدين الموروث, للمجتمع الذي يولدون فيه, والنظر إلى تلك الهوية غير المختارة باعتبار أن لها أولوية آلية على جميع الانتماءات الأخرى الخاصة بالسياسة والمهنة والنوع واللغة والأدب والمجتمع, وعلاقات أخرى كثيرة؟
8
يروى المفكر الهندي "أمارتيا صن" في فاتحة كتابه (الهوية والعنف وهم المصير الحتمي)حادثة طريفة ذات دلالة مهمة. فعندما كان رئيساً لكلية (ترينيتي– كمبريدج) في لندن في الفترة من 1998 إلى 2004 كان عائداً إلى إنكلترا من رحلة قصيرة في الخارج, وفي مطار "هيثرو" في لندن, فحص ضابط الهجرة جواز سفره الهندي بعناية, ثم سأله سؤالاً فلسفياً يتسم ببعض التعقيد. فبينما كان ضابط الهجرة ينظر إلى عنوان بيت المفكر الهندي "أمارتيا سن" المدون في جواز سفره على الشكل التالي : منزل رئيس الجامعة- كلية ترينيتي- كامبريدج. سأله عما إذا كان رئيس الجامعة صديقاً مقرباً ليتمتع بكرم ضيافته. تردد المفكر الهندي في الإجابة, لأنه لم يكن واضحاً له أن يدعي أنه صديق مقرب لنفسه , وبعد بعض التأمل, توصل إلى نتيجة فحواها أن الإجابة لا بد أن تكون بنعم, وأراد ضابط الهجرة في المطار أن يعرف لماذا تردد بالضبط, وهل وجوده في بريطانيا غير شرعي؟ لم يخطر في بال ضابط الهجرة الألمعي أن هذا الشخص الهندي الواقف أمامه هو رئيس كلية في أحدى الجامعات اللندنية. حسناً, تلك القضية العلمية والعملية قد حُلت في نهاية الأمر. وهذا دليل أخر على أن هوية المرء يمكن أن تكون أمراً معقداً. والحق أن كثيراً من القضايا الاجتماعية والسياسية المعاصرة حول ادعاءات متضاربة لهويات مختلفة تؤثر كثيراً في أفكارنا وأفعالنا.
9
لنأخذ قضية الفقر المدقع والتي يمكن بالطبع أن تنتج التحريض على تحدي القواعد والقوانين الراسخة في المجتمع. ولكن ليس بالضرورة أن يعطي الناس الدافع والشجاعة والقدرة الفعلية على فعل أي شيء شديد العنف. فالفقر المدقع يمكن أن يصحبه ليس فقط الضعف الاقتصادي بل أيضاً العجز السياسي. ويمكن أن يكون أي تعيس جائع شديد الضعف وموهن العزيمة إلى درجة تفقده القدرة على النزاع والحرب, بل حتى الاحتجاج والشكوى. ومن ثم ليس من المدهش أن أغلب حالات الإجهاد الشديد وانتشار المعاناة والبؤس كانت مصحوبة بالسلام والصمت بدرجة غير عادية. والحق أن كثيراً من المجاعات حدثت من دون ان يكون هناك كثير من التمرد السياسي او النزاع الاجتماعي أو الحروب بين جماعات المجتمع. مع أنه يُنسب قول صريح بالتمرد المسلح إلى أبي ذر الغفاري إذا لم يجد المرء خبزاً في داره.فالإهمال والتجاهل يمكن أن يكونا سبباً للسخط, لكن شعوراً بالتعدي على الحقوق, والحط من القدر, والمهانة, يمكن أن يكون أسهل في تعبئة التمرد أو الثورة . إن قدرة أي نظام مستبد على إزاحة الجماهير من طريقه وعزلهم وقهرهم والسيطرة عليهم بالقوة العسكرية له عواقب مكثفة وبعيدة المدى بما يتجاوز كثيراً المكاسب السياسية التي تجلبها على النظام.فالشعور بالظلم في الانتهاك الاستبدادي لحقوق العامة يظل مهيأ لتجنيد ما ينظر إليه من الجانب المضاد على أنه انتقام عنيف وقد يأتي الأخذ بالثأر ليس فقط من العامة ولكن أيضاً من جماعات أوسع كثيراً من الناس الذين ترتبط هويتهم بالهوية الدينية.وعلى الرغم من أن الفقر والشعور بالظلم قد لا يؤديان مباشرة إلى انفجار العنف, ولكنهما يمهدان الأرضية التي ينطلق منها, فهناك علاقة أكيدة, تعمل على مدى فترة زمنية أطول, يمكن أن يكون لها الدور الكبيرفي احتمالات العنف.



#عبدالرزاق_دحنون (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الحُكَّام في أغاني الشيخ إمام
- ماركس بالصيني
- الدولة أفهم من بني آدم
- نساء حسيب كيالي الجميلات
- ابنة البقَّال
- غرفة سبينوزا على السطح
- يوميات آدم وحواء
- الشيوعية أنجيلا ديفيس...الطريق طويل من أجل الحرية
- خطبة امرأة فدائية
- المُسْتَطْرَفُ في حِكْاياتِ النّساءِ
- العدلُ أساسُ المُلكْ2/2
- العدلُ أساسُ المُلكْ 1/2
- في ذكرى رحيل القاص السوري تاج الدين الموسى
- أوائل الأمثال المُدوَّنة
- الحاج مراد ...رواية تولستوي المنسيَّة
- ثعالب مصر ونواطيرها
- الزمكان... في نص الروائي السوداني الطيب صالح
- هل ذيل السعادة أملس؟
- هل يسكر الحيوان؟
- أيها المُعرضون عن الكلام


المزيد.....




- مصدر عراقي لـCNN: -انفجار ضخم- في قاعدة لـ-الحشد الشعبي-
- الدفاعات الجوية الروسية تسقط 5 مسيّرات أوكرانية في مقاطعة كو ...
- مسؤول أمريكي منتقدا إسرائيل: واشنطن مستاءة وبايدن لا يزال مخ ...
- انفجار ضخم يهز قاعدة عسكرية تستخدمها قوات الحشد الشعبي جنوبي ...
- هنية في تركيا لبحث تطورات الأوضاع في قطاع غزة مع أردوغان
- وسائل إعلام: الولايات المتحدة تنشر سرا صواريخ قادرة على تدمي ...
- عقوبات أمريكية على شركات صينية ومصنع بيلاروسي لدعم برنامج با ...
- وزير خارجية الأردن لـCNN: نتنياهو -أكثر المستفيدين- من التصع ...
- تقدم روسي بمحور دونيتسك.. وإقرار أمريكي بانهيار قوات كييف
- السلطات الأوكرانية: إصابة مواقع في ميناء -الجنوبي- قرب أوديس ...


المزيد.....

- الكونية والعدالة وسياسة الهوية / زهير الخويلدي
- فصل من كتاب حرية التعبير... / عبدالرزاق دحنون
- الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية ... / محمود الصباغ
- تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد / غازي الصوراني
- قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل / كاظم حبيب
- قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن / محمد الأزرقي
- آليات توجيه الرأي العام / زهير الخويلدي
- قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج ... / محمد الأزرقي
- فريديريك لوردون مع ثوماس بيكيتي وكتابه -رأس المال والآيديولو ... / طلال الربيعي
- دستور العراق / محمد سلمان حسن


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - عبدالرزاق دحنون - الهوية والعنف ... ماذا حدث, وما أسباب حدوثه, و إلى أين نحن ماضون؟