أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - منير المجيد - شام-الفصل الرابع














المزيد.....

شام-الفصل الرابع


منير المجيد
(Monir Almajid)


الحوار المتمدن-العدد: 6178 - 2019 / 3 / 20 - 13:46
المحور: الادب والفن
    


لمحت دمشق من أعالي الهضبة وهي تعوم على غيوم حليبية، ثم بدا الباص وكأنه يتفكك حينما نزلنا باتجاه ضواحي العاصمة.

كم تأوي من الناس؟ فدمشق لم يكن لها أبداً إحصاء دقيق، لكنني، أنا الآتي من القامشلي، أراها كبيرة وواسعة.
أثارني منظر البيوت التي تسلّقت وتعلّقت بجبل قاسيون كخفافيش بلون الخبز من ساحة الحجاز، الموقف الأخير لرحلة الباص من حلب، والتي توّقف فيها عدّة مرّات، تعرّفت حينها، قليلاً، على المعرّة وحماة وحمص.

محطة الحجاز ذات البناء البهي والتاريخ البائد، التي كان قطارها الضيّق يربط الشام بالحجاز، تسهيلاً للحجيج الذين كانوا يقضون بالمئات جرّاء رحلة مرعبة كانت تستمر أكثر من شهر، وسرعان ما دُمّر وصار خراباً إبّان الثورة العربية على الخلافة العثمانية، قُبيل الحرب العالمية الأولى، فغطّت السكك اللامعة، تحت أشعة الشمس الحارقة، رمال البوادي والصحارى وعشّشت فيها العقارب بعد تسع سنوات فقط من تشغيلها.

بعدئذ اقتصر دور قطارات المحطة على نقل المسافرين والمتنزهين إلى ضواحي دمشق ومصايفها، مُصدرة الصفير الذي يجب على القطارات إطلاقه، وذاك الدخان القاتم تاركاً خلفه كومة من التلوّث.

وضع حَمّالٌ فرشيتنا، صبحي وأنا، وحاجياتنا على عربته التي كان يدفعها بقوة ساعديه، وأوصانا بفندق قريب في المرجة.

كانت غرف الفندق البسيطة تطلّ على فناء توسطته بركة دمشقية لها أضلاع، وفي كل أرجاء الفناء تنكات صفيح غطاها الصدأ وجرار مليئة بالريحان الأخضر والنبيذي، وعدد كبير من الزهور والورود، رغم أن برد تشرين كان يتسرب بهدوء إلى كل مكان.

لم نستطع البقاء في الفندق طويلاً. أردنا أن نتعرّف إلى دمشق الشام،
فخرجنا في جولة حرصنا أن لا نبتعد عن الفندق كثيراً كي لا نتوه في هذا الحجم اللانهائي.

كان الضجيج جحيمياً، وروائح عادمات الديزل تخنق الناس. أصوات الموسيقى والمذيعين وأبواق السيارات تملأ الفراغ. لماذا كل هذا الولع بالضجيج؟ سألت نفسي.
مررنا قرب مطعم شممنا منه رائحة الفول المدمس المغناجة فلم نستطع المقاومة. فاجأتني الطريقة الدمشقية بهرس الفول، وأنا الذي عشقت دوماً الفول على الطريقة الحلبية: وضوح الحبة التي تسبح يداً بيد مع البقدونس المفروم في صلصة جعلتها الطحينة والثوم والليمون بيضاء تاركة بحيرات صغيرة من زيت الزيتون العفريني الذهبي تظهر هنا وهناك.

وقفنا على طرف ساحة فيكتوريا مستغربين شكل ذاك الجدول الناحل الملئ بنفايات من كل نوع يمّر بكسل في أخاديد طينية ومتشققة. سأل صبحي أحد المارة، وكنّا نتمنّى أن يجيب بالنفي: «هل هذا بردى؟». قال وهو يرمقنا بطرف عينه وبلهجة ساخرة: «نعم».

إذاً، بردى ليس كل تلك القصائد والأغاني التي قيلت عنه، بردى هو مجرد قليل من الماء يمّر في قاذورات.
هل أنهكنا منظر بردى أم الضجيج؟ لا أدري، لكننا عدنا إلى الفندق ونمنا حتى شروق شمس اليوم التالي.

خصّصنا اليوم كله نبحث عن غرفة للإيجار. مررنا على عشرات المكاتب العقارية، إلى أن قال صاحب المكتب العجوز ببرود: «عندي غرفة تناسبكما!».

كان للرجل صلعة كبيرة الحجم بيضاء محمّرة مبقّعة بنقاط بنيّة، وفم مزموم خالٍ من الأسنان ومُجعّد يشبه فتحة شرج.

قادنا إلى شارع الصالحية، وأشار إلى بناء البرلمان حينما مررنا قربه. اجتزنا شارع العابد وأدخلنا زقاقاً ضيقاً وأشار إلى بناء من أربع طوابق مازالت جدرانه عارية.
صعدنا الدرج الذي لم يكن منتهياً أيضاً، وفوق السطح، كان هناك غرفتان يفصلهما مرحاض.

«البناية كلها يسكنها طلاب الجامعة»، قال العجوز.
عند حلول المساء كانت فرشتينا تحتلّان أرضية الغرفة بالكامل.
انتفضت مذعوراً على صوت أذان المغرب الآتي من مئذنة جامع على بعد أمتار قليلة، فسخر مني صبحي.

جاء يوسف، جارنا القاطن في الغرفة المجاورة ورحبّ بنا. بعدها تناولنا معه عشاءً من خبز وزيتون وشاي وشنكليش. «من صنع الوالدة»، قال يوسف بلهجة أهل الساحل التي تشبه الأغاني.

في تلك الليلة بدأتُ فترة جديدة من حياتي، وحينما وضعت رأسي على المخدة المُطرزّة أطرافها، لم يكن الشنكليش الحرّيف هو الشيء الوحيد الجديد عليّ، بل هوجمتُ من كل جهة، حالما أطفأنا اللمبة الصفراء الخافتة، من بقّ الفراش.

لم أنم إلا لحظات قليلة طيلة الليل، بينما كان صبحي يغطّ في نوم مريح غير عابئ بللسعات. وحينما وصل ضوء الشمس بمشقة مجتازاً كل هذه العوائق التي بناها الناس، اختفت الحشرات، إما لأنها شبعت من دمائي أو لأنها تكره الضوء كأي مصّاص دماء.

قُرع باب الغرفة، وحينما فتحته وقفت إمرأة ملفّعة بالأسود تحمل طفلاً على كتفها، وقالت «جديد؟». وقبل أن أجيب، ظهر يوسف، وطلب منها أن تنصرف.
«عاهرة». أخبرني يوسف حين انصرفت. «إنهّن في كل مكان، فقيرات نازحي الجولان البؤساء. خاصة البناء هذا له شعبية كبيرة، لأنه يشبه مدينة جامعية لا رقابة عليها».

استيقظ صبحي وقال لي أنه سيزور أخاه الذي يؤدي خدمته العسكرية في مؤسسة الإسكان، ويسكن، مع زملاء له، في المهاجرين.



#منير_المجيد (هاشتاغ)       Monir_Almajid#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- شام-الفصل الثالث
- شام-الفصل الثاني
- شام-الفصل الأول
- سأطهّر المنطقة أولاً
- فصل جديد من رواية «كوبنهاون»
- الطيران مع «آنا»
- مرّة اخرى، القامشلي
- هنريك، ملك الدانمارك
- اوصماني برو
- معمارية متحف لوڤر أبو ظبي
- فصل من رواية «كوبنهاون»
- البازلّاء
- البعوض وحشرات اخرى
- العناكب
- مجرّد خطوة اخرى نحو وضع حد للحياة
- في ثقافة التفويل
- أكثر من نصف جسمك ليس بشراً
- الألزاس، ذهاباً وإياباً بالسيّارة (الجزء ٢ من ٢)
- الألزاس، ذهاباً وإياباً بالسيّارة (الجزء ١ من ٢)
- رسالة إلى جورجيت


المزيد.....




- وفاة الفنان المصري المعروف صلاح السعدني عن عمر ناهز 81 عاما ...
- تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
- انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - منير المجيد - شام-الفصل الرابع