أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رباب سرحان - -عليّ: قصّة رجل مستقيم-: روايةُ استنهاضِ الهمم















المزيد.....


-عليّ: قصّة رجل مستقيم-: روايةُ استنهاضِ الهمم


رباب سرحان
باحثة وناقدة


الحوار المتمدن-العدد: 6177 - 2019 / 3 / 19 - 21:15
المحور: الادب والفن
    



"عليّ: قصّة رجل مستقيم"، هو عنوان الرواية الجديدة للكاتب حسين ياسين. هذا العنوان الذي يبدو لنا أنّه لا يحمل مفارقة ولا تضليلاً، بل يصبّ في خانة الوصف المباشر لما قد يكشف عنه المتن. الأمر الذي يُعيدنا إلى عناوين روايات العقود الأولى من عمر الفنّ الرّوائيّ العربيّ، والتي نجدها بسيطة في بنائها ومباشرة في دلالاتها، ويغلب عليها أسماء الشّخصيّات والأماكن. فقد شهدنا طغيان ظاهرة الأسماء العلميّة –أنثويّة كانت أو ذكوريّة- على المنتوج الروائيّ الذي ظهر ما بين عام 1914 و 1960 وشكّل ما يُسمّى بالرواية الفنيّة الحديثة مثل رواية "زينب" لمحمد حسين هيكل، و"رجب أفندي" لمحمود تيمور، "أديب" لطه حسين و"سارة" للعقّاد. وهو أمر راجع إلى سيادة البطولة المطلقة وروح الفرديّة في العمل الرّوائيّ ولغاية إعادة الاعتبار للفرد.
إلاّ أنّ أنماط هذه العناوين قد تغيّرت في النّصف الثّاني من القرن العشرين، لتغيّر بنية الرواية بصفة عامّة من حيث جنوحها إلى التّجريب والمغامرة في الشّكل. فأصبحنا نشهد عناوين أكثر غموضًا من ناحية الدّلالة وأشدّ تعقيدًا من ناحية البناء. إذ أصبح العنوان غامضًا، مضلّلاً، إشكاليًّا ومثيرًا للجدل ويحمل كثيرًا من الإشارات والأبعاد الثّقافية المتعدّدة، وينفتح على احتمالات كثيرة من التّفسير والتّأويل ويقوم بدور الرّمز الاستعاريّ المكثّف لدلالات النّصّ.
لم يفعل حسين ياسين ذلك في اختياره لعنوان روايته، ولم يتماش مع موكب الحداثة وما بعد الحداثة وجنوح العناوين إلى المجازيّة والرّمزيّة والمراوغة. عنوان رواية حسين ياسين يُدلي بكلّ أسراره من أوّل وهلة. هو عبارة عن إشارة مرور تُشير إلى شيء محدّد بعيدًا عن الرّمز، فيغدو العنوان مقيّدًا، تُهيمن عليه أُحاديّة المدلول.
والسّؤال المطروح هنا، هل نأخذ على حسين ياسين هذه المباشرة والتّقريريّة في العنوان؟ في ظلّ الحداثة وما يُرافقها من تطوّر مطّرد في تقنيّات السّرد وفي الأبعاد الإيحائيّة التي يختزنها الفنّ الرّوائيّ ومنذ العنوان- أولى عتبات النّصّ؟
الإجابة هي: كلاّ.. وأنا، وكأنّني أسمع الكاتب يقول: لا وقت لديّ للمراوغات والمماطلات والممانعات والغوايات، أريد أن أقصّ عليكم قصّة عليّ. ويكاد القارئ يلمس حماسة الكاتب واستعجاله لإخبارنا بقصّة عليّ، ويندفع القارئ في شعوره هذا في الوقت نفسه الذي يكشف فيه الكاتب عن مطاردته لعليّ على مدار خمس سنوات، في كتب الأدب والتّاريخ العربيّ، تقصّيه لأخباره عند كبار السّن والمثقّفين وقدامى الحزب، وعلى لسانه سؤال واحد: "هل سمعتم عن عرب فلسطينيين تطوّعوا لمحاربة الفاشيّة في الحرب الإسبانيّة بين السنوات 1936-1939؟"
في العنوان مفارقة مدهشة في المستوى النصيّ له والمستوى التّأثيريّ. عنوان وعلى الرّغم من تقليديّته، نجح في أن يسحب القارئ سحبًا إلى خضمّ الرّواية التي جاءت، كما صرّح الكاتب، لتردّ الاعتبار لرجال غيّبهم التّاريخ.
هذه الرّواية أعادتني بدايتُها إلى رواية "السفينة" لجبرا إبراهيم جبرا وهي تستنطق القدس من خلال وديع عساف- أحد أبطالها وهو يتذكّر مدينته على ظهر السفينة المبحرة من بيروت إلى مرافئ المتوسّط. أمّا نهاية الرواية فأعادتني إلى رواية أرنست همنغواي "لمن تُقرع الأجراس". وديع عساف في رواية جبرا، ومن على سطح السّفينة، يتذكّر مقاومة أهل القدس لأطماع الصّهيونيين وتصدّيهم قبل النّكبة للانتداب البريطاني، ويسرد ذكرياته عن القدس وفلاّحيها وأرضها ومعالمها وحلمه الكبير أن يعود إلى القدس ليعيش فيها. وعلى اختلاف الرّوايتين، فإنّ عليًّا بطل روايتنا هو كذلك مسافر على متن السّفينة، ولكن وجهته مختلفة، إلى إسبانيا للتطوّع في الحرب الأمميّة ضدّ الفاشية والنّازيّة والرّأسماليّة. ومن على سطح السفينة تنثال ذكرياته لتأخذه إلى حيفا، إلى يافا، إلى القدس القديمة وأبواب المدينة، ولسان حاله يتساءل: "هل أعود للوطن؟ كيف أعود ومتى أعود؟". هذا المونولوج الذي يكشف لنا عن صراع يعيشه عليّ حول ثنائيّة الرّحيل والبقاء، هذا الصّراع الذّاتيّ الذي انفتح على صراع شعبيّ، عامّ، إنسانيّ مع نشر السّلام والعدالة الاجتماعيّة ودحر الحرب والرّأسماليّة والاستعمار.
يقول عليّ: "إسبانيا، ساحة النّضال. كلّ ساحة للنّضال- ساحة شرف. لم ينتفض جسدي يومًا إلاّ من أجل النّضال ضدّ الظّلم ولنصرة المظلوم". ويُنبّه ويُحذّر قائلاً: "فلا يظنّن أحد أنّي أفعل ذلك هربًا من النّضال القاسي الذي يخوضه شعبي الآن". فعليّ يؤكّد أنّه يترك بلاده لأجل المشاركة في معركة عالميّة وإنسانيّة، بين قوى الظّلام وأنصار الحريّة.
وفي عودتنا إلى رواية همنغواي، التي تستدعيها رواية حسين ياسين، استطعنا أن نقف عند بعض النّقاط الجديرة بالذّكر وليس من باب المقارنة، إنّما لهدف التّوضيح: رواية همنغواي تروي قصّة متطوّع أمريكيّ في الحرب الإسبانيّة التي تحتلّ أحداثها جميع صفحات الرّواية، بينما خصّص حسين ياسين الفصل الأخير في روايته لحيثيّات هذه الحرب، في الوقت الذي يظلّ فيه البعد الفلسطينيّ قائمًا في صلب الرواية التي حملت رسالة واضحة عن المعاناة الفلسطينيّة النّاجمة عن الاستعمار الانجليزيّ والاستيطان اليهوديّ. وكلّ ذلك عبر توظيف الضّمير الأوّل في السّرد، ممّا جعل قارئ رواية حسين ياسين يقع في ثناياها على ظلال المؤلّف/الكاتب ويلاحظ تورّطه في أكثر من موضع في الرواية ووقوعه في الفخّ السّرديّ، وعدم تحرّره من تأثيرات الذّات الكاتبة التي تداخلت مع الذّات السّاردة. على خلاف رواية همنغواي التي تميّزت بالموضوعيّة عبر استخدام الكاتب لضمير الغائب في السّرد، واعتماده على أسلوب التّرميز لا التّصريح، بينما يغلب الإيضاح على الرّمز، والإفصاح على الإلماح في رواية حسين ياسين.
وليس هذا يُشير إلى عيب في رواية ياسين، بل يؤكّد على توقّعات القارئ التي تشكّلت ومنذ العنوان الذي جعله يرتدّ ثانية إلى المؤلّفالكاتب وإلى الإحاطة بانتماءاته الأدبيّة والثقافيّة والتّعريج كذلك على قناعاته الاجتماعيّة والسّياسيّة وانتمائه الأيديولوجيّ. كما أنّه يتوافق وغاية الكاتب في كتابة رواية يريد من خلالها توصيل رسالة لمعنى التّحدي وقوّة الإرادة والصّبر والصّمود في وجه مغتصب الوطن وسالب الإنسانيّة، قبل أن تكون غايته، في ظنّنا، تجربة في الكتابة الإبداعيّة الرّوائيّة.
ومن الجدير ذكره أنّ حسين ياسين كتب روايته بعد حوالي ثمانين سنة على انقضاء الحرب الإسبانيّة، بينما كتب همنغواي روايته بالتّزامن مع الحرب وخلال تواجده في إسبانيا في قلب الأحداث، الأمر الذي يُفسّر الاسهاب في الوصف في رواية همنغواي وذكر تفاصيل أكثر كأماكن إخفاء الذّخيرة، تهريب السّلاح، تحضير العبوات النّاسفة وتفعيلها، عمليّات الهروب والتّسلّل والأعمال القتاليّة المختلفة.
شخصيّة عليّ التي رسمها الكاتب بدقّة وحساسيّة وبنى عليها نصّه المُتخيّل، هي شخصيّة حقيقيّة كما كشف لنا في بداية الكتاب، بينما لم أعثر على مصدر يُفيد بأنّ بطل رواية "لمن تُقرع الأجراس" هو شخصيّة حقيقيّة.
رواية "عليّ: قصّة رجل مستقيم" منحاها واضح في اتّجاه الواقعيّة الجديدة الذي كان قد ظهر بشكل مكثّف منذ ستّينيّات القرن العشرين، ولم يزل تأثيره قويًّا في الأوساط الأدبيّة الفلسطينيّة وذلك بسبب الواقع المعيش نفسه على السّاحة الفلسطينيّة، وتتابع الثّورات النّضاليّة للشّعب الفلسطينيّ، وتصاعد الأزمة الواقعيّة واشتداد مأساة الإنسان الفلسطينيّ حدّة وتشرّدًا وضياعًا وعذابًا يوميًّا متواصلاً وتعمّق الجانب النّضاليّ في ثيمة الأرض بوصفها قيمة الوجود وعنوان الهويّة والكيان، ممّا خلق روحًا ثوريّة لدى الإنسان الفلسطينيّ، فوجد المثقّف والأديب ضالّته للتّعبير عنها وتبنّيها من خلال أدب هذا الاتّجاه.
ولعلّ رواية حسين ياسين اتّخذت الواقعيّة في التّركيز على النّزعة الإنسانيّة من خلال فكرة البحث عن تغيير الواقع الأليم إلى ما هو أفضل، وأجمل وأكثر احترامًا لإنسانيّة الإنسان. ولم يكن موت عليّ في نهاية الرواية، كما موت أبطال غسّان كنفاني في روايته "رجال في الشّمس"، إلاّ أساسًا للتّفاؤل الإنسانيّ عند أدباء هذه الواقعيّة بوصفها الموت، بمفهومه العام وما يمثّله من ضياع وتمزّق، إنّما هو جسر لعبور الإنسان المعاني من خلاله إلى حياة أكثر أمنًا وإشراقًا.
ولا شكّ أنّ آلام الإنسان الفلسطيني المفجوع وهو يشهد تمزّق الوطن وتشظّيه واستلابه على يد المستعمر الإنجليزي والاستيطان اليهودي دافعًا لتقديم الكاتب أفكارًا إنسانيّة هي في غاية العمق والدّقة والتّفصيل لجوانب مختلفة من حياة الشعب الفلسطيني ونضاله المستمرّ في البحث عن الحدّ الأدنى من متطلّبات الحياة الإنسانيّة، ولعلّ أعمق مثال على ذلك هو قول "وفيقة"- إحدى الشّخصيات النسائيّة في القصّة-: "ومين بحبش الحرية! يا ما أحلاها عيشة الحريّة. أنا مع الحريّة. إلي ولأولادي ولجوزي وكل أصحابي. الحرية لكلّ الناس" (ص 74). هذا القول الذي يُجسّد أحلام الطبقة البسيطة التي تحلم أن تعيش على أرضها بأمن وسلام.
بين صفحات الرواية تعبير عن معاناة الشّعب الفلسطينيّ، وعن ضغوط الحياة التي لا ترحم، وأوّلها الاستعمار البريطاني الجاثم على صدور الناس وسلطة الاستبداد والقهر التي تضغط رؤوسهم كلّ يوم وتحني هاماتهم وتمارس القمع والقهر والضّغط وتكبح جماح الحرية وتحدّ من حركة الوجدان وتُكبّل الأيدي وتغلّ الفكر وتمارس سياسة التّضييق والتّكبيل والامتهان والقتل والتّشريد وتدمير البيوت والبلاد. وكلّ هذا يتآزر مع قسوة الحياة وضيقها وشظف العيش الذي يعانيه الشّعب الفلسطينيّ. فأصبح شعبًا تغلغل فيه القهر والفقر وطغى عليه الظّلم والعدوان.
مركزيّة المرأة في الرّواية:
تستحوذ المرأة على قسم كبير من الرّواية. ويظهر تأثير الهمّ الوطنيّ على اختيار الكاتب شخصيّات نسائيّة يُقدّمها كنماذج تتّسم بالقوّة وتنبذ الضّعف. مؤكّدًا أنّ الكفاح الوطنيّ الفلسطينيّ الذي استمرّ على مدى قرن من دون توقّف، انهمك فيه الجميع-رجالاً ونساءً- مُؤثّرين ومتأثّرين من دون استثناء.
يسعى الكاتب للتّأكيد على مركزيّة حضور المرأة الفلسطينيّة في الرواية والممثّلة بشكل أساسيّ بوردة ووفيقة ونبيلة. فإذا كانت الثّقافة الرجوليّة تنظر إلى المرأة باعتبارها "ضلعًا قاصرًا" وساد الاعتقاد بأنّ الاختلافات والتّمايزات الاجتماعيّة والأدوار المختلفة بين الرجل والمرأة هي اختلافات طبيعيّة غيرُ قابلة للتّغيير، استنادًا لوجود الاختلافات البيولوجيّة بين الجنسين، ونتيجة لذلك تكوّنت أفكار وقيم ومعتقدات خاصّة تجاه كلّ من المرأة والرجل، عملت على تحديد الأدوار والسّلوكيّات لكلّ منهما، فإنّ المرأة في هذه الرواية تأبى أن تقترن بالضّعف والعجز وهي بعيدة من أن تكون خاضعة. بل نراها مثابرة، مكافحة، مناضلة، شريكة للرجل في معتركات الحياة، تسانده وتقف إلى جانبه، والأهمّ من ذلك ايمانها بخدمة وطنها وقضيّتها العادلة. ف "نبيلة" يُقدّم الكاتب من خلالها صورة المرأة الفلسطينيّة المناضلة والسّجينة. هذه الصّورة التي كشفت أجواء السّجون من الدّاخل، وتحديدًا ما تتعرّض له المرأة الفلسطينيّة من سبل التّعذيب والاضطهاد حتى الموت. ومن تلك الصّورة ظهرت المرأة التي تقاوم جلاّديها بالصّبر والممانعة والمقاومة.
نبيلة المثقّفة المناضلة، المشاركة في الاجتماعات والمظاهرات، كتبت كثيرًا عن المرأة الفلسطينيّة المستغلّة "ضعفين" مرّة بسبب جنسها وأخرى بسبب عرقها.
كانت نموذجًا يُحتذى به من قبل بقيّة النساء الفلسطينيّات ومصدر إلهام لهنّ في الخروج والمشاركة في النّضال الوطنيّ بقولها: "إحنا النسوان لازم نساهم مع الرجال، مهو الغلب اللي عليهم علينا، المرأة قبل الزلمة، والبنت قبل الصبي" (ص 76). "زلمة وامرأة، يد وحدة. إلنا حصّة بهذا الوطن" (ص 91).
ونجد "وفيقة" تصل إلى قمّة التّفاعل الوطنيّ الجماعيّ حين تخاطب النّساء وتؤكّد على أهميّة مساندة الزّوجة لزوجها في النّضال والصّبر على غيابه: "آه لازم النسوان تصبر على غياب الحبايب. شو إحنا ملناش حصة بها الوطن! لازم إحنا كمان نساهم ونصبر" (ص 74-75).
هذه الرّوح النّضاليّة الوطنيّة التي تتمتّع بها وفيقة قادتها لأن تصبح فيما بعد ناشطة سياسيّة، تقود المظاهرات، تهتف بشعارات نسويّة ووطنيّة، ترتاد نواد نسويّة. سُجنت شهرًا كاملاً بسبب هتافها ضدّ وعد بلفور في المظاهرة. وكانت شاهدة على وحشيّة التّعذيب الذي تعرّضت له نبيلة.
"وفيقة" هي مثال على تفاعل المرأة الفلسطينيّة بقضايا الوطن، وعلى تأثّرها بالتطوّرات السّياسيّة الحاصلة.
أمّا "وردة" فمناضلة في حبّها وإخلاصها وصبرها على بعد عليّ، وهي تدرك أنّ عليًّا أصبح صاحب قضيّة ولم يعد ملكها وحدها وإنّما يشاركها به أناس كثيرون.
وردة هي حب الطفولة النّقيّ، ابنة الشّهيد يوسف الذي قتله الإنجليز. هي وردة الطّهارة والبراءة والحب الجميل. هي أطول زنبقة في باب الثنايا. هي القلب الدافئ والوجه البشوش والصّدر الرّحب الذي يلتجئ إليه عليّ بعد كلّ هزيمة وانكسار. فبعد كلّ مظاهرة دامية وبعد كلّ جنازة جارحة تأخذه قدماه إلى بيت وردة. فحزنه لا يفرجه إلاّ وردة وجراحه لا يداويها إلاّ كلام وردة. هي نموذج الحبيبة المساندة لحبيبها في النّضال، التي تُخفّف عليه الحياة تحت الاستعمار. ولم يكن ابتعاد عليّ فيما بعد عن وردة، إلاّ ابتعادًا عن الوطن، عن فلسطين وفي قلبه ألم وحرقة.
وكانت "سمحا" الفتاة اليهوديّة اليمنيّة، الشّخصيّة النسائيّة التي لعبت الدّور الأكبر في حياة عليّ على المستوى الكمّيّ والتّأثيريّ.
هي ناشطة سياسيّة من القدس. كانت بوّابة عليّ إلى حزب الطّبقة العاملة الثّوريّ الذي يهدف محلّيًّا ووطنيًّا إلى طرد المستعمر الإنجليزي من البلاد وتحرير الوطن وبناء المجتمع الاشتراكيّ.
كان لسمحا تأثير قويّ على عليّ على المستوى الاجتماعيّ والفكريّ والسّياسيّ. فقد كشفته على عالم لم يألفه من قبل. عالم فيه خليط من الرّجال والنّساء. جعلته ينكشف على مفردات جديدة على قاموسه اللّغويّ: الاستعمار، طبقي، بلاشفة، إقطاعيّ، برجوازيّ، رأسماليّ، ماركس، لينين وغيرها من الكلمات التي بنت فيما بعد عقيدته السّياسيّة.
سمحا هي الفتاة القويّة، الجسورة، جرأتها استثنائيّة، صاحبة القرار وصاحبة الحيلة والملتزمة بتنفيذ المهمّات الموكلة إليها من قبل الحزب حتى النّهاية. سُجنت لمشاركتها في مظاهرة تضامنًا مع سكّان العفولة الأصليّين وضدّ طردهم من أراضيهم. الأمر الذي أثار نقمة رجال اليشوف وغضبهم.
سمحا كانت شريكة عليّ في مهمّته الحزبيّة الأولى ثمّ عاشا تجربة المنفى سويّة. اكتشف من خلالها صورة أخرى للمرأة تناقض صورة المرأة التي تربّى عليها في مجتمع تقليديّ محافظ أبويّ. سمحا خلخلت مسلّمات كثيرة لدى عليّ. فكْرُها دفعه لأن يُعيد النّظر في المقدّسات وأن يخرج من بوتقتها إلى دائرة المساءلة. في نظر سمحا لا شيء مقدّس في هذا الوجود غير الإنسان. لا الجسد ولا العرض ولا العجين ولا القمح ولا الخبز. تقول سمحا: "أنا لا أفهم في الشّرع. الإنسان مقدّس. حريّته وسعادته مقدّستان. مهمّتنا استقلال الوطن وطرد المستعمر وإطلاق سراح رفاقنا، هذا عمل مقدّس. لا شيء، في هذا الوجود، غير الإنسان، مقدّس" (ص70). سمحا استطاعت أن تُحرّر عليًّا من جذوره التي تحدّدت بمراجعه الدينيّة والعادات والأعراف وقوانين حياته اليوميّة. جعلته يدرك أنّ الوضع الحاليّ يحتاج منهم إلى التّفكير بعمليّة وبعقلانيّة وبمنطقيّة بعيدًا عن العواطف والمسلّمات.
أمّا على المستوى الجسديّ الجنسيّ، فمع سمحا حدثت الارتعاشة الأولى للشّباب واكتشف عليّ جسد المرأة للمرّة الأولى. عليّ الذي يُمثّل في هذه الحالة الشاب الشّرقيّ الذي يعاني من الكبت الجنسيّ كالمرأة تمامًا، في مجتمع أبويّ وضع الجنس في خانة الثّالوث المحرّم بالإضافة إلى الدّين والسّياسة. هذا الحرمان الجنسيّ يتمثّل في قوله: "طالما حلمت بطراوة هذا الجسد. طالما كان جسد الأنثى محرّمًا مشتهى! يعيش، فقط، في الخيال المتمنّى" (ص 71). مع سمحا يقول عليّ: "تحرّرت روحي وأطرافي وارتعاشاتي" (ص 71). وعلى المستوى السّياسي، فقد كان لسمحا الدّور الأساسيّ والرئيسيّ في صقل وعي عليّ السّياسيّ وتنمية شعوره بالالتزام الطبقي، العدالة الاجتماعيّة ومساواة المرأة بالرّجل.
وفي تعريج سريع على الجماليّات الفنيّة في الرواية، فليس هناك شكّ في أنّ حسين ياسين كتب نصًّا روائيًّا متماسكًا ومبدعًا في توظيف أدوات الرواية واستراتيجيّاتها الفنيّة المتعدّدة. الرواية تتّكئ على تقنيّة الاسترجاع الذي ينبثق بشكل أساسيّ من الذّكريات والمونولوجات الدّاخليّة وتداعي الأفكار للشّخصيّة. وقد جاءت المونولوجات الدّاخلية في الرواية لتصوّر في مُجملها صراع الشخصيّة مع نفسها ومع محيطها. كذلك جاء المونولوج متداخلاً مع السّرد خاصّة أنّ الصّوت القائم بالسّرد هو صوت الشّخصيّة ذاتها. لذلك لا نجد أي قفزات ما بين السّرد والحوار الدّاخلي على الرّغم من تداخلهما. فالوعي يفيض بتلقائيّة كاملة وانسيابيّة تامّة.
كما أنّ الرواية تتفرّد بلغة مميّزة، سلسة وجميلة، مطعّمة أحيانًا بالتّعابير الشّعبيّة واللّغة العاميّة الممثّلة باللّهجة الفلسطينية وخاصّة في الحوار. ونجد الكاتب أحيانًا يأخذنا إلى عوالم أخرى جميلة حالمة عبر توظيفه للغة شعريّة تجعل القارئ يعيش لحظة سكر وذهول تترك في النّفس والقلب ما تتركه: "يافا تزداد مني بعدًا وأنا أزداد إليها حرقة. يافا تتلاشى في غيمة المساء ويرتحل الوطن في تباعد المسافات. أفق تلتهمه عتمة والكلّ في عماء. فتنسكب في النّفس كآبة الفراق" (ص 126). وفي لقائه الأوّل بأمّه يقول: "أقف أمام أمي، وقد استضاءت عتمة عمري، أتنشّق للمرّة الأولى عبيرًا صامتًا من أنوثة قديمة خصبة حنونة لكنّها مقهورة. يتّقد وينصهر بها حبّي وتوحّشي وتوهّجي، وأحترق من غير حدود ولا انتهاء". (ص 191)
وفي الختام نقول: "عليّ- قصّة رجل مستقيم" هي رواية تدور في فلك الدّعوة إلى الحريّة والعدالة والكرامة الإنسانيّة في ظلّ استشراء القمع وقهر السّلطة والتّطلّع الرّأسماليّ. هي روايةٌ مستنهضةٌ الهمم، ومشعلةٌ للطّاقة الكامنة داخل كلّ شاب وشابّة عربيّة يتوقّد ثورة وعطاء وتضحية، ويملك ثقة المقاتل بعدالة قضيّته التي يُجملها عليّ بقوله: "النّور يحارب الظّلام، وأنا أتحزّب للإنسان. إنسان أنا".



#رباب_سرحان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- -اليد الدّافئة- ليحيى يخلف بين الطّرح المهمّ والتّكرار البار ...


المزيد.....




- شاهد: فيل هارب من السيرك يعرقل حركة المرور في ولاية مونتانا ...
- تردد القنوات الناقلة لمسلسل قيامة عثمان الحلقة 156 Kurulus O ...
- مايكل دوغلاس يطلب قتله في فيلم -الرجل النملة والدبور: كوانتم ...
- تسارع وتيرة محاكمة ترمب في قضية -الممثلة الإباحية-
- فيديو يحبس الأنفاس لفيل ضخم هارب من السيرك يتجول بشوارع إحدى ...
- بعد تكذيب الرواية الإسرائيلية.. ماذا نعرف عن الطفلة الفلسطين ...
- ترامب يثير جدلا بطلب غير عادى في قضية الممثلة الإباحية
- فنان مصري مشهور ينفعل على شخص في عزاء شيرين سيف النصر
- أفلام فلسطينية ومصرية ولبنانية تنافس في -نصف شهر المخرجين- ب ...
- -يونيسكو-ضيفة شرف المعرض  الدولي للنشر والكتاب بالرباط


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رباب سرحان - -عليّ: قصّة رجل مستقيم-: روايةُ استنهاضِ الهمم