أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - عقيل الناصري - الجذور التاريخية للفتاوى الدينية في ملاحقة اليسار بالعراق المعاصر***(10-1)















المزيد.....


الجذور التاريخية للفتاوى الدينية في ملاحقة اليسار بالعراق المعاصر***(10-1)


عقيل الناصري

الحوار المتمدن-العدد: 6177 - 2019 / 3 / 19 - 19:22
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


الجذور التاريخية للفتاوى الدينية في ملاحقة اليسار بالعراق المعاصر***(10-1)

{ الدين عبارة عن الشعور الداخلي بذلك المقدس مع الإيمان بتلك القداسة }
فالح مهدي
{ كل سعادة تفرض بالقوة تساوي اضطهاداً }
جلبير الأشقر
المدخل لمفهوم الدين:
بصورة عامة وبالعلاقات الجدلية المتبادلة "... تميّزت بعض المصطلحات والمفاهيم في حياة الإنسان دوناً عن المصطلحات الأخرى، فمثل هذه المفاهيم لها تأثير كبير على الكيان الإنساني، وعلى الحياة بشكل عام؛ حيث تُسهم بشكل رئيسي في تحويل مجرى حياته، وإحداث تغييرات عميقة في شخصيته، وحاضره، ومستقبله، من خلال كونها تُقدّم وجهات نظر جديدة للإنسان عن العديد من القضايا الحساسة التي تؤرق تفكيره، وربما تحول بينه وبين المضي قدماً نحو الأمام في حياته. من أبرز المفاهيم التي شكّلت جدلاً كبيراً بين الفلاسفة، والعلماء، والمؤرخين، وعلماء الاجتماع، والتربويين، وكافة أصحاب العقول المبدعة مفهوم الدين؛ حيث يتواجد هذا المفهوم في العقول بشكل مستمر سواءً كانت متحيّزة له أو ضده ... تطوّر الدين يوماً عن يوم على مر العصور والأزمان، فظهرت على الأرض آلاف الديانات؛ حيث انتشرت بعضها انتشار النار في الهشيم، في حين طمست الديانات الأخرى. وقد تنوّعت مضامين هذه الديانات؛ حيث ركزت بعضها على المفاهيم الأخلاقية، في حين كانت الأخرى تركز على الجانب الواقعي من حياة الإنسان، وهناك ديانات اهتمت بتجربة الإنسان الروحية الفردية، وسعت لتطويرها، وفي المقابل هناك ديانات اهتمت بالتجربة الدينية الجماعية، وقد سعت ديانات معينة إلى المزج بين مختلف الجوانب السابقة... تُعتبر الدّيانات السماوية الثلاثة: اليهودية، والمسيحية، والإسلامية أوسع الديانات انتشاراً حول العالم، خاصّةً الديانتين: الإسلامية، والمسيحية، حيث يزيد عدد معتنقيهما على نصف سكان العالم تقريباً.
تنقسم هاتان الديانتان العظيمتان إلى العديد من الفرق والطوائف، فمن أبرز طوائف الديانة المسيحية: البروتستانت، والأرثوذكس، والكاثوليك، في حين يعتبر المذهبان: السني، والشيعي أبرز مذاهب الديانة الإسلامية... ومن الديانات الأخرى التي تُلاقي انتشاراً عريضاً في بعض مناطق العالم: الهندوسية، والبوذية، والسيخية، والطاوية، والأرواحية، والدينية المُحدثة، والكونفوشيوسية، والمجوسية، والعديد من الديانات الأخرى. وفي الوقت الذي يُشكّل فيه أتباع الديانات النسبة العظمى من سكان العالم، فإن هناك نسبة لا بأس بها من الملحدين، واللادينيين، حيث ينتشر هؤلاء في مختلف بقاع العالم... ".
والدين كأي مفهوم من مفاهيم العلوم الاجتماعية، فقد تباينت تعريفاته حسب الناظر إليه من النواحي: الفلسفية ( مثالي أم مادي) ؛ أو/و النظرية المجردة الانثروبولوجية والاجتماعية ؛ ومن ثنائية الإيمان والإلحاد ؛ أو مدى التطابق بين العلم واللاهوت ؛ ومن النظرة المقدسة من غيرها ؛ وايضا من حيث حداثة النظر. ولهذا المسببات فقد تعددت تعريفات الدين.
- "... ومن التعريفات الكلاسيكية للدين المبنية على فكرة الألوهية غير المشخصة، تعريف الإنثروبولوجي البريطاني أدور تايلر( 1832-1917) الذي ورد في كتابه الثقافة البدائية عام 1871 والذي ينص على: الإعتقاد في الكائنات الروحية.
- وجاء الانثروبولوجي البريطاني جيمس فريز (1854-1941) ليكمل ما قدمه تايلر لتعريفه للدين حيث عرف فريز في كتابه الغصن الذهبي بهذا النص: الدين كما أفهمه عبارة عن إسترضاء أو إستمالة قوى تفوق قوة الإنسان يعتقد أنها توجه وتتحكم بسير أمور الطبيعة والحياة البشرية، وبناءً على هذا التعريف يتشكل الدين من عنصرين هما: العنصر النظري وهو الإيمان بالقوى العليا والعنصر العملي وهو محاولة إرضاء تلك القوى... ".( التوكيد منا- الناصري)
- في حين قدم عالم الاجتماع دوركهايم (1858- 1917) الدين من منظور اجتماعي- انثروبولوجي "... وذلك لما يتسم به من الشمولية للديانات جميعها السماوية والوضعية ، فقام بإيجاد ما هو مشترك بين جميع الديانات دون أن يكون هناك ما يخص ديناً أخر فيما قدمه في تعريفه للدين حيث بين ما هو مشترك بينها من خصيصة أساسية في الفكر الديني وهو التميز بين ما هو مقدس ودنيوي، وقدم الدين على أنه ظاهرة اجتماعية ، ومن خلال دراسته لقبائل السكان الأصليين لأستراليا ل ( نظرية الطوطم)، قدم تعريفاً ينص على أن الدين نظام موحد من المعتقدات والممارسات المتعلقة بالمقدسات ، أي بجملة من الأمور التي تعزل على حدة ويضرب عليها الحرام. وهي معتقدات وممارسات توحد الجميع الذين يتبعونها في جماعة معنوية واحدة تسمى بيعة أو كنيسة... ".
- وعلى هذا المنوال ينظر الباحث د. فالح مهدي، بأن الدين وماهياته: "... مجموعة مبادئ وإرشادات أخلاقية تتحكم فيه الطقوس والشعائر يتم تدوينها وتوجيهها حول نقطتين جوهريتين: الأولى والأهم ترتبط بمفهوم الخالق الواجد، الكائن العلوي، أو تأخذ طابع جماعة من الجماعات فيرمز لها على ضوء ذلك. فليس من شك من أن ياهوا يرمز إلى اليهود، والله إلى المسلمين وبراهما إلى الهندوس. هذا المفهوم جوهري ونجده في كل اليانات، بل حتى الأديان المتعددة الآلهة نجد فيها فكرة الخالق والموجد... فليس هناك من مخلوق دون خالق ومن موجود دون واجد. وجود خالق لهذا الكون هو جوهر الفكر الديني. أما النقطة الثانية فتتمثل بربط الكائن البشري حياته بهذا المفهوم حتى أن مصطلح دين في اللغة اللاتينية ( ) يعني في جوهره، إقامة صلة مع ذلك الكائن العلوي واالذي بدونها تفقد الحياة كل معنى وتصبح حياة الإنسان دون أمل وسعادة. لكي يستقيم الأمر لابد من توفر شرطين هما : الطاعة والإيمان... ".
- بمعنى آخر فقد "... ذهب فلاسفة القرنين التاسع عشر والعشرين، أي ما بعد هيغل، إلى إعتبار الدين حالة إغتراب الإنسان عن ذاته بنظر فيورباخ، أو انجاز متخيل للكائن البشري كما يذهب إلى ذلك ماركس. ومفهوم الإغتراب كان إيجابياً في الفلسفة الهيغلية، في حين أصبح سلبياً عند فيورباخ وماركس.
-ووجد فرويد بإعتباره أحد أهم النقاد للموضوع الديني، الدين عبارة عن تعبير عصابي (مرضي)، ويتساءل على النحو التالي: هل الدين عبارة عن شمس وهمية. مصطلح دين في اللغة اللاتينية ( ) من الفعل ( ) والذي يعني تجميع، إستقبال، توحيد. وفي ضوء ذلك يمكننا تعريف الدين أولاً : كمؤسسة هدفها توجيه الشرف إلى الرب والاحتفاء به. وثانياً الدين هو مجموعة الطقوس والشعائر، هدفها تقديم الثناء والتبريك إلى سلطة علياً مقدسة. ومن جهة النظر الشخصانية أو الذاتية (قياساً بالمفهوم الموضوعي) الدين عبارة عن الشعور الداخلي بذلك المقدس مع الاٌيمان بتلك القداسة.. ".
- في حين أن "...علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا ينظرون إلى الدين على أنه مجموعة من الأفكار المجردة، والقيم أو التجارب القادمة من رحم الثقافة. على سبيل المثال، وبطبيعة المبدأ، جوهر الدين لا يشير إلى الاعتقاد في "الله" أو متعال مطلق: جوهره يعرف بأنه "بنية أو ثقافة مباشرة و/ أو بنية لغوية للحياة بشكل كامل، والاعتقاد بأنه، مثل لغة، يسمح بوصف الواقع، وصياغة واختبار المعتقدات والمشاعر والأحاسيس الحميمة ".وبموجب هذا التعريف، الدين هو رؤية لا غنى عنها في العالم تحكم الأفكار الشخصية والأعمال... ". بمعنى آخر وبوضوح أكثر، والمنطلق من ماهيات الوظائف والأهداف للدين، الذي يمكن تعريفه بإعتباره: "... نظام يستند في قيامه على المخيلة والتمثيل، إذ يقوم منذ لحظة ولادته بتقديم تفسير للعالم، بل الكون ودور الإنسان فيه، بإعتباره إن الله أو الألهة خلق أو خلقت كل شيء من أجله (المخيلة)، ويرسم عبر مجموعة من المعادلات الاقتصادية، الاجتماعية، السياسية والطقسية، الطريق الذي يجب عليه أن يسلكه ( التمثيل)، مستنداً في ذلك إلى مؤسسات أيديولوجية يقوم بخلقها وتطويرها... ".
وبالتالي فإن "... الدين نشاط ذهني لا ريب في ذلك، إنما لم يتدين الإنسان بسبب الحاجة فحسب بل شّكل له الكون المحيط به لغزاً ما أنفك ومنذ ملايين السنين يبحث عن أجوبة نهائية لأسئلته الوجودية. فولادته لغز، طفولته، صباه، نضجه، شيخوخته لغز آخر. موته لغز، الفصول الأربعة لغز، الليل والنهار لغز، المطر لغز، الشمس نهاراً والقمر ليلاً لغز، مياه الأنهار لغز، مياه المحيطات التي أطلق عليها السومرين لقب المياه المرة، لغز ... ألخ ".
- "... في حين عرّف الكاتب الروسي تولستوي الدين بالشكل التالي: الدين الحقيقي، هو الذي يقيم علاقة ما بين العقل والمعرفة الإنسانية ... ".
- ومفهوم الــ "... دين تستعمل أحيانا بشكل متبادل مع كلمة إيمان أو نظام اعتقاد، ولكن الدين يختلف عن الاعتقاد الشخصي من ناحية أنه يتميز بالعمومية. معظم الأديان تنظم السلوكيات، بما في ذلك التسلسل الهرمي الديني، فهي تعريف ما يشكل الالتزام أو العضوية في هذا الدين، كمثل عقد اجتماعات منتظمة أو خدمات لأغراض تبجيل الإله أو للصلاة، بالإضافة إلى تواجد الأماكن المقدسة (الطبيعية أو المعمارية)، والكتب المقدسة.
والطقوس التي يمارسها معتنقوا الأديان ممكن أن تشمل أيضا بعض الخطب، والأنشطة والاحتفال بإله أو مجموعة آلهة، بما في ذلك التضحيات والمهرجانات والأعياد، والخدمات الجنائزية وخدمات الزواج، والتأمل والموسيقى والفن، والرقص، والخدمة العامة، بالإضافة إلى الجوانب الأخرى من الثقافة الإنسانية. لقد تم تطوير مفهوم الدين عبر أشكال مختلفة في شتى الثقافات. فبعض الديانات تركز على الأعتقاد بإله معين، في حين تؤكد أديان أخرى على الجانب الواقعي للحياة... ".
أي أن "... التعريف الإجرائي للدين: هو الإيمان الكامن بقلب الإنسان الذي يكون المصدر الأساسي لأفعاله الظاهرة فيكون بأشكال متعددة تبعاً لمعتنقيها فقد يتجلى بالسجود والإنحناء والتسبيح وبحركات الجسد المتعددة وبتلاوات وترانيم أو تمنمة وغيرها التي يقدمها العابد للمعبود... ". رغم إننا "... ليس بمقدورنا أن نضع تاريخاً إفتراضياَ لبدايات الدين، ودون شك أنه بدأ مع عصر الصيد وجمع القوت ... أن مفهوم المقدس بدأ مع أول قطع وتهذيب للحجر. فبإمكاننا أن نفرق بين الأحجار التي جمعها الإنسان الأول بسبب أشكالها المتميزة أو لجماإلها وبين تلك التي جمعت من أجل إقامة رمز له مواصفات فيها قدر كبير من الغموض... وفي تقدير العالم الفرنسي كوبان، يمكننا أن نستدل على المقدس عند ذلك الإنسان الأول عبر البحث عن إبتكارته المتمثلة بصقل الحجر بحثاً عن جمال تضيفه مخليته عبر تلك العملية، والتي لا يجني منها شيئا ماديا ينفعه في يومه وفي قوته... ".
بمعنى آخر فإن هنالك صلة قوية بين الدين والفلسفة حيث يجتمع الدين والفلسفة في الكثير من المناطق، وبخاصة في دراسة ما وراء الطبيعة ( الميتافيزيقيا) وعلم الكون (الكوزمولوجيا) حيث يقدم كل دين إجابته المميزة للأسئلة الميتافيزيقة والكونية عن طبيعة كل من : الوجود ؛ والكون ؛ والإنسانية ؛ والمقدسات، حسب وحهة نظره ورؤيته الفلسفية إلى الوجود ذاته. والأهم في هذه العلاقة يتمحور في التساؤل حول لمن الأولوية المادة على الفكر، أم أن الفكر له أولوية على المادة. إن الفلسفة المادية "... تعتبر ان الفكر هو نتاج المادة والمادة ليست نتاج الفكر، ففكر الانسان نتاج مادي من عقله وليس الانسان من نتاج الفكر، وهو ما ينفيه الفلاسفة المثاليون .
ومن المسلم به عند الفلاسفة المثاليين والفلاسفة الماديين أن هناك قانون السببية الذي ينتهي بخالق بدون مخلوق، لكن الماديون يعتقدون بأولوية المادة، أما المثاليين فيعتقدون بأولوية الفكر أو الروح، الماديون يعتمدون على الأبحاث العلمية التي تنفي زوال المادة، أما المثاليون فمنهم من يقول أن المادة ليست موجودة بل هي إنعكاس لوعي الإنسان وهي غير موجودة، أما الماديون فيقولون إن المادة موجودة بشكل مستقل عن وعي الإنسان ويعرفون المادة بكل ما تتحسسه حواس الإنسان الخمسة، بينما يقول المثاليون ان حواس الإنسان تعكس تصورات في وعي الإنسان وهي غير موجودة في الواقع بشكل مستقل عن الوعي. هذا هو ما يسمى الصراع بين الفلسفة المادية وباقي الفلسفات المثالية.
لكن ماركس قام بمزاوجة مادية فيورباخ الساكنة مع مثالية هيجل الجدلية وخرج طفل جديد يسمى المادية الجدلية هي مادية بحتة بكل ما تعني الكلمة من معنى لكنها تؤمن بالتطور وفق قوانين الدياليكتيك... وتأسيساً على قوانين المادية الجدلية يقيم منظرو التحليل الماركسي نظريتهم في المعرفة الإنسانية، التي تعتمد بصفة أساسية أولوية المادة على الفكر، فالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي يعيشها الناس هي التي تحدد أنماط وعيهم وتفكيرهم، وليس العكس، والمعرفة بصورة عامة لا يمكن أن تكون حقيقة موضوعية إلا إذا عكست ما هو موجود باستقلال عن الوعي العاكس، ذلك أن الوعي قد يكون مزيفاً كما كانت الحال في مراحل تاريخية سابقة حين سادت أنواع من المعرفة تعكس مقدار وعي الناس للأشياء ولكنها لم تكن معارف حقيقية، ولم ترق إلى مستوى المعرفة المطلقة... ".
ومن الناحية الجدلية "... يمتلك كل من العلم والدين وجهين أثنين: الثقافي والاجتماعي، وفي كلا الوجهين يوجد الكثير مما يؤمل من المؤثرات الاجتماعية فيه: ربما يكون العلم قد خفف التبعات المأساوية للأمراض ومشقات العمل القاتلة، وقدم في الوقت ذاته جعبة كاملة من أدوات الترفيه ووسائل الراحة ؛ لكنه إنما أوجد أيضاً أسلحة الدمار الشامل المرعبة وأخل بنوعية الحياة البشرية على نحو خطير للغاية ؛ وعلى هذا الأساس كان تأثير العلم على المجتمع نعمة مشوبة بالأذى.
وفي الوجه الآخر من الصورة اقترف الدين المنظّم ما هو أكثر سوءاً من العلم، ولا أحد ينكر بالطبع الحالات العديدة من التكريس المفعم بنكران الذات التي أبدها بعض العاملين في مجموعات دينية حول العالم ؛ لكن الدين إستحال منذ أزمان بعيدة هيكلاً مؤسساتياً يعني غالباً بالسلطة والسياسة أكثر من عنايته بموضوعات الخير والشر. وقد تسببت الحماسة الدينية المفرطة في غالب الآحايين في نزعات عنفية شوهت نزعة الميل للتسامح لدى الإنسان العادي وأطلقت شهوة القسوة الوحشية من مكامنها. التطهير العرقي المسيحي للسكان الأصليين في أمريكا الجنوبية خلال العصور الوسطى هو أكثر الأمثلة رعباً ؛ لكن تاريخ أوربا متخمّ في عمومه بالجثث التي قطعت رؤوس أصحابها بسبب الخلافات مذهبية صغيرة، وحتى في العصر الذي عُرف بعصر التنوير، شاعت الكراهية الدينية وتأججت النزاعات في جميع أنحاد العالم. وإنه لأمر يدعو إلى السخرية أن معظم الأديان تنادي بإعلاء شأن فضائل الحب والسلام والتواضع ؛ لكن الكراهية والغطرسة هما ما يسمُ المؤسسات الدينية العالمية الكبيرة في معظم الآحيان ... ".
ومن جانب آخر فهنالك من يدعي إن السلطة المتغولة التي لعبتها الكنيسة والجامع في التاريخ الإسلامي والكنيس اليهودي ومؤسسات دينية أخرى في كل العصور على العموم، جعلت من هذه المؤسسات النافي الجدلي من دورها الإخلاقي.. بحيث بأن مشاعر الحب ومراعاة منتسبي الديانات الأخرى مفتقدة لدى غير المنتمين إلى هذه الديانة السائدة.، لأنه لدى أغلب الديانات يشعرون جميعا بالنفور من الصراع الديني، لأن إندلاع جائحات العنف المرعب والوحشية القاتلة بإسم الإله صارت بمثابة طاعون قاتل أصاب مجتمعاتنا. إنه لأمر محزن يدعو التفكير عندما نشهد أن تأريخ المذابح إبتدأ- كما يبدو- بعد أن نشأت الهياكل الدينية ذات الطابع المؤسساتي وبعد أن اتخذت كذلك شكلا دستورياً .
ولكن "... يوجد الكثير مما يمكن قوله بشأن الوجه الاجتماعي للدين. لكن ماذا عن المحتوى الفكر الديني؟ إنعطف الرجال والنساء إلى الدين على مدى الجزء الأعظم من التأريخ الإنساني لا طلباً للإرشاد الأخلاقي فحسب وإنما – ايضاَ- سعياً للحصول على إجابات للأسئلة الأساسية الخاصة بالوجود: كيف خلق الكون ؟ وكيف سينتهي؟ وما أصل الحياة والجنس البشري؟.. بدأ العلم خلال القرون القليلة الماضية فحسب في المساهمة بتناول هذه الأسئلة الوجودية. وثمة سجل حافل بالتوثيقات المعتمدة يضم تأريخ كل المواجهات الصراعية بين العلم والدين... ".
ومن جانب آخر ومن الناحية البرغماتية وإذا أخذنا حالات الدراسات الغربية والسياسية العملية لدولها فيمكننا أن نرى إن "... تاريخ العلاقة النظرية بين الدين والسياسة على الصعيد الغربي، يمكن التمييز بين أربعة اتجاهات كبرى، أعلن أولها السمو المطلق للدين على السياسة، وبالتالي خضوع السياسة الكامل للدين، وتشكل مجموعة الأفكار التي تسير في هذا الاتجاه نظريات دينية، لأنها نتاج رؤية دينية وذات حساسية تجاه المفارق وتجاه سمو الروحي على الزمني، ولأنها انطلقت غالبا من مصلحين دينيين كلوثر وكالفن، أو من رجال قانون كبودان، أو رجال الكنيسة مثل بوسيي، أو فلاسفة كدومستر... لكن هذا الاتجاه النقدي اتخذ طابعا راديكاليا مع ماركس وانجلز، حيث اعتبر الدين عامل عجز وضعف لما يضفيه من شرعية على الوضع القائم، ولأنه يقدم تسويغا للتمايز الطبقي ويلعب بالتالي دورا مهما في عملية التمويه الإيديولوجي الذي يؤدي إلى حالة الوعي الزائف، بكل ما ينتج عن ذلك هروب ديني يصرف الأفراد عن واقعهم الاجتماعي، ويمنعهم من الفعل في مواجهة ظروفهم الموضوعية. كانت عبارات ماركس-1818) الشهيرة قوله: " إن الدين هو أنين القلب المضطهَد، وقلب العالم عديم الرحمة، وحسب الظروف القاسية، أنه أفيون الشعوب... فهذا الأثر التقديري على الأفراد هو الذي باعتقاد ماركس، يَحول دون مواجهة الأفراد للواقع الموضوعي والوجود الاجتماعي والعمل على تغييره...
وقد تتبع فريدريك إنجلز (1895-1820) علاقة المسيحية بالظروف السوسيو/اقتصادية، فاستنتج أنها لعبت وظيفة إيديولوجية في كل مرحلة من مراحلها التاريخية، فداخل الإمبراطورية الرومانية فقد غطت كل الثورات التي قامت بها الطبقات المضطهَدة، وفي العصور الوسطى قد كانت مصدرا للوثوقيات التي روجتها الكنيسة في سيطرتها الاجتماعية، كما كانت البروتستانية الإصلاحية إيديولوجيا روجتها البورجوازية في عصر الأنوار لتمرر مشاريعها المجتمعية وللسيطرة على الطبقات الدنيا، لكنه لم يتوقع نهايتها الحتمية كما فعل ماركس، ولكن تنبأ بأن تأخذ أشكالا أخرى بعد انتصار البروليتاريا. هكذا يبدو أن تاريخ العلاقات النظرية بين الدين والسياسة في الغرب عبارة عن محطات اقتطعت عبرها السياسة لنفسها حيزا خاصا تمكنت على إثره من تعيين مجال مستقل عن الدين، فقد استطاعت أن تبني لنفسها شرعية خاصة لا تمر عبر ممر الكنيسة، وبالتالي نجحت في تكوين سلطة قانونية مستقلة، وأن تنزع القداسة عن ممارسة الحكام والدولة بإخضاعها للمناقشة والمحاسبة والمسؤولية ... ". ( التوكيد منا- الناصري) .
وفي الوقت نفسه فأن "...هناك تعريف لماركس متميز يتم التغاضي عنه عمداً: (الدين هو النظرية العامة لهذا العالم، قيمته الموسوعية، منطقه بشكله الشعبي، نقطة شرفه الروحانية، ولعه وحماسه البالغ، عقوبته الأخلاقية... طمأنيته وتبريراته الكونية. والتي تمثل الانجاز المتخيل للكائن الإنساني والسبب في ذلك يكمن في إن الإنسان لا يمتلك الواقع الحقيقي... ". يتكلم ماركس هنا عن نتائج الفعل وليس الفعل بذاته.
وتأسيسا على ذلك فقد أُختزلت فكرة ماركس عن الدين بإعتباره (افيون الشعوب)، في حين "... لم يعرف ماركس الدين بهذه الجملة، بل أنتبه كعالم اجتماع وفيلسوف من أن الإيمان الأعمى الذي ينتفي فيه التفكير والقدرة على التمحيص والنقد يؤدي بالمؤمن أن يغفو ويرقد رقدة الموتى، عما يحيط به من أهوال ومصائب، ليس هذا فحسب بل تقوم الأيديولوجية الدينية بترويضه وجعله طيناً وعجيناً يتم التلاعب بوعيه وتوجيهه كيفما إرتأت تلك الأيديولوجية. والمذهل أنه قال ذلك في كتيب صغير كتبه في شبابه، راجع كتابه نحو نقد فلسفة الحق الهيجيلية 1844، إن عبارة شعب وردت بالمفرد بيد إنها حّولت وتم التلاعب بها فأصبحت شعوب... "، وذلك لماهيات تبريرية فكرية أو/و ايديولوجية نفعية أثناء الصراع بين المدرستان الفلسفيتان المادية والمثالية. بالتالي فإن "... المعاناة الدينية هي التعبير المعاناة الحقيقية، وهي الاحتجاج على المعاناة الحقيقية في الوقت نفسه. إن الدين هو زفرة المقهور، روح عالم بلا قلب، كما أنه روح أوضاع بلا روح. إنه أفيون الشعب. إن تخطّي الدين في وصفه سعادة وهمية للناس هو بسعادتهم الحقيقية. وإن المطالبة بتخليهم عن آوهامهم إزاء وضعهم هي المطالبة بتخليهم عن وضع يقتضي الأوهام, إن نقد الدين، هو إذا في حالة جنينية، نقدَّ لذلك الوادي من الدموع الذي يشكل الدين هالةَ قداسته... ".
يقول ماركس، في مقدمة كتابه في نقد فلسفة الحق عند هيغل: "... إنّ مرتكز النقد اللاديني هو أنّ الإنسان يَصْنع الدينَ ؛ الدين لا يصنع الإنسانَ. وبالفعل فإن الدين هو الوعي الذاتي والأحترام الذاتي لإنسان لم يحقق نفسه بعدُ، أو خسر نفسه من جديد. لكن الإنسان ليس كائناً تجريدياً رابظاً خارج العالم. الإنسان هو عالمُ الإنسان: الدولة، المجتمع. فهذه الدولة وهذا المجتمع يٌنتجان الدين، الذي هو وعيٌ مقلوب بالعالم، لأنهما عالمٌ مقلوب. الدين هو الـنظريةً العامة لهذا العالم، خلاصته الموسوعية، منطقُه في صيغة ٍشعبية، نقطةُ شرفِه الروحية، حماسه، رادعه الأخلاقي، متممه الوقور، ركيزته العمومية للعزاء والتبرير. إنه التحقيق الخيالي للجوهر الانساني، لأن الجوهر الإنساني لم يكتسب أية حقيقةٍ صحيحة. إن الصراع ضد الدين هو ، إذن، وبشكل غير مباشر، صراع ضد ذلك العالم الذي يشكل الدين نكهته الروحية... ".
الهوامش:
*** من كتاب جديد للمؤلف والموسم: فصول من ملاحقة اليسار في العراق المعاصر 1921-1964 .
1- فالح مهدي، البحث عن جذور الإله الواحد، في نقد الأيديولوجية الدينية، ص.18 ، دار العودة، بيروت 2017.
2 - مستل من موقع: https://mawdoo3.com/
3 - مستل من: دينا أحمد ضياء الدين الدوغرمجي، السبتيّون، دراسة في أنثروبولوجيا الدِّين بمدينة بغداد، ص، 29، دار دجلة، عمان 2019.
4- المصدر السابق، ص, 31.
5 - د. فالح مهدي، البحث عن جذور، ص. 21، مصدر سابق.
6 - المصدر السابق، .ص. 18.
7 - مستل من موقع: https://ar.wikipedia.org/wiki
8 - د. فالح مهدي، البحث عن جذور، ص. 19، مصدر سابق.
9 - المصدر السابق، ص. 134.
10 - د. فالح مهدي، البحث عن جذور، ص. 20، مصدر سابق.
11- مستل من موقع: https://ar.wikipedia.org/wiki
12 - دينا أحمد الدوغرمجي، السبتيون، ص. 35، مصدر سابق
13 - د. فالح مهدي، البحث عن جذور، ص. 133، 134.
14- مستل من موقع: https://www.marefa.org
15- لطفية الدليمي، العلم والدين في عالم متغيّر، جريدة المدى، بغداد في 23/ 1/ 2019،
16- المصدر السابق.
17- المصدر السابق.
18 - عبد الحكيم أبو اللوز، العلاقة بين الدين والسياسة، التراث النظري http://elaph.com، نشر في 7/9/2010
19- فالح مهدي، البحث عن جذور، ص. 18، مصدر سابق ؛ ماجد الشمري، تطور مفهوم الطبقة العاملة لدى ماركس من طبقة في ذاتها إلى طبقة لذاتها، الحوار المتمدن في 16/8/2017، .ahewar.org
20 - فالح مهدي، البحث عن جذور، ص.20 ، مصدر سابق
21 - جلبير الأشقر، الماركسية والدين والأستشراق، ترجمة سماح إدريس، ص. 16، دار الآداب بيروت 2015.
22 -المصدر السابق ص. 14.



#عقيل_الناصري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مناسبة الذكرى الستين لثورة 14 تموز : من جدليات الثورة الثرية ...
- بمناسبة الذكرى الستين لثورة 14 تموز : من جدليات الثورة الثري ...
- بمناسبة الذكرى الستون لثورة 14 تموز-- من جدليات الثورة الثري ...
- قراءة في مذكرات من زمن الاستبداد
- من أرأسيات نقد المرحلة الملكية وأزمتها البنيوية: (2-2)
- من أرأسيات نقد المرحلة الملكية وأزمتها البنيوية: (1-2)
- عامر عبد الله ... مثقف عضوي (3-3)
- عامر عبد الله .. مثقف عضوي (2-3)
- عامر عبد الله .. مثقف عضوي (1-3)
- المكثف في العنف (4-4)
- المكثف في العنف (3-4)
- المكثف حول العنف (2-4)
- المكثف حول العنف (1-4)
- جدلية وماهية تكوين الدولة العراقية (7-7)
- جدلية وماهية تكوين الدولة العراقية (6-7)
- جدلية وماهية تكوين الدولة العراقية (5-7)
- جدلية وماهية تكوين الدولة العراقية (4-7)
- جدلية وماهية تكوين الدولة العراقية (3-7)
- جدلية وماهية تكوين الدولة العراقية (2-7)
- جدلية وماهية تكوين الدولة العراقية (1-7)


المزيد.....




- مصدر عراقي لـCNN: -انفجار ضخم- في قاعدة لـ-الحشد الشعبي-
- الدفاعات الجوية الروسية تسقط 5 مسيّرات أوكرانية في مقاطعة كو ...
- مسؤول أمريكي منتقدا إسرائيل: واشنطن مستاءة وبايدن لا يزال مخ ...
- انفجار ضخم يهز قاعدة عسكرية تستخدمها قوات الحشد الشعبي جنوبي ...
- هنية في تركيا لبحث تطورات الأوضاع في قطاع غزة مع أردوغان
- وسائل إعلام: الولايات المتحدة تنشر سرا صواريخ قادرة على تدمي ...
- عقوبات أمريكية على شركات صينية ومصنع بيلاروسي لدعم برنامج با ...
- وزير خارجية الأردن لـCNN: نتنياهو -أكثر المستفيدين- من التصع ...
- تقدم روسي بمحور دونيتسك.. وإقرار أمريكي بانهيار قوات كييف
- السلطات الأوكرانية: إصابة مواقع في ميناء -الجنوبي- قرب أوديس ...


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - عقيل الناصري - الجذور التاريخية للفتاوى الدينية في ملاحقة اليسار بالعراق المعاصر***(10-1)