أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رزاق عبود - تومان البصري















المزيد.....

تومان البصري


رزاق عبود

الحوار المتمدن-العدد: 6169 - 2019 / 3 / 11 - 19:24
المحور: الادب والفن
    


تومان البصري*
تومان العبد، تومان الاسود، تومان الحمراء، تومان ابو الفيفرة، تومان سينما، تومان البهلوان...الخ من الاسماء والالقاب والنعوت حملها ذلك الفنان الفطري الاسمر، وهو ينشر الفرح، والبهجة، والضحكة في شوارع العشار، واسواقها، وساحاتها، وحدائقها!
لا احد ياخذ ثمن سلعة، او خدمة من تومان، وهو لايحمل نقود أصلاً، كان صوفياً بطريقته الخاصة. يعتقد، بل يؤمن، ان الناس تفهمه، وتعرفه، وتدفع له خدماته المجانية للمدينة. يعزف على انفه بالفيفره(ناي القصب) حتى ينزف احيانا. يغني، ويرقص، ويقوم باعمال بهلوانيه، و تهريجية تُفرح وتُسعد الكبار والصغار. إذا دخل مطعم فتسمع اكثر من واحد يتطوع، ويصيح: "حساب تومان علي"! أو "حساب تومان مدفوع"! وليس نادرا ان تسمع صاحب المطعم يرد بفرح: "يمعودين تومان خطارنه"!
باعة الشربت، والعصير، او الماء المثلج، او اللبن، او باعة الشاي، اوالمقاهي، او المخابز، او الفشافيش، لا يتوقعون ان تومان سيدفع ثمن ما شربه، او أكله. في الغالب هم من يهرعون لتكريمه، او تضييفه، وأن طلب سيجارة من احد فغالبا ما يقوم المدخن بتقديم كل الباكيت(العلبة) له، لكنه ياخذ سيجارة واحدة فقط، ويعيد الباكيت، وهو ينفخ الدخان راداً:
ـ شكراً آنه ما ادخن!
فيضحك صاحب الباكيت ومن حوله من المتفرجين الذين يتجمعون بشكل عفوي او مقصود ما ان يتوقف تومان. فأي حركة من تومان يتوقع الناس منها مقلب، او نكته بسرعة بديهيته، وتصبح حديث السوق، والبيوت، والمقاهي. الكل يريد ان يحظى بمشاهدتها، او سماعها، ليتباهي بنشرها!
تومان، وهو يعزف "المزمار" بأنفه حالماً ببطولة فيلم مصري يتحدى فيه اسماعيل ياسين. وبعضهم يدعي العكس بأن فريق عمل فني مصري كان في زيارة إلى ألبصرة وحين شاهدوا تومان، وألاعيبه، ومهاراته، الفنية عرضوا عليه مصاحبتهم الى مصر للعمل في السينما، فاعتذر! كان فنانا فطريا يحب ان يكون بين الناس، جمهوره المارة، والمتسوقين، ومسرحة شوارع البصرة. كان يجلس عند "المسناية" مقابل عمارة النقيب، او مقابل بناية حافظ القاضي، او قرب سينما الحمراء الشتوي، او مقابل الشركة العامة للسيارات، او في شارع الكورنيش ويعزف بنايه الذي صنعه بنفسه من قصب البردي، ويسميه "الفيفرة" يعزف اغاني فريد الاطرش المعروفة انذاك مثل يا عواذل فلفلوا، او اغاني رضا علي، او نجاح سلام، وغيرها. يتجمع الناس حوله: اطفال، وشيوخ، شباب، ونساء، ورجال، اغنياء، وفقراء، افندية، وبدشاديش، حتى السيارات المارة تتوقف، او تبطأ سيرها للاستمتاع برؤية تومان، او الاستماع اليه، او انتظار مقلب من مقالبه الذي يفاجأ به أحد ضحاياه، ليصبح في اليوم الثاني حديث المدينة كلها. حتى أصحاب المحلات يقفون عند ابواب محلاتهم مفضلين مشاهدة تومان على خدمة زبائنهم.
كان ممثلا رائعا، وعازف ناي، ومهرجا، وبهلواني، وعازف ايقاع، وممثل صامت"بانتوميم". كان يستخدم كل عضو في جسمه بشكل عجيب، ويقلد أي شخصية، وأي حركة، وأي صوت. وقبل كل شئ كان انسانا بسيطا جدا وموهوبا في كل شئ، لو كان في امريكا، او اوربا، لاصبح نجما. من حق البصرة ان تفتخر انه كان عندها شارلي شابلن من نوع خاص. او في الاقل اسماعيل ياسين البصري.
عمله الاساسي مروج أفلام السينمات. كل دور السينما في المدينة كانت تسعى لتوظيفه بسبب شعبيته الواسعة، وطريقته البارعة في اثارة الاهتمام، وحب الناس له، ومتابعة اخباره ومقالبه، وتقبل الناس لها بأريحية عجيبة، خاصة مع المتسوقين في سوق المغايز، او طلاب، وطالبات الجامعة الجدد من المدن الاخرى، الذين يفزعون من مقالبه، او حركاته المباغتة، ثم يتعودوها ويتقبلوها مع الزمن. يلاحقه الاطفال، والشباب، وهو يتخايل امام لوحة الاعلان الخشبية الكبيرة التي الصق عليها بوستر كبير لفيلم جديد يعرض وقتها، يحملها إثنان من الصبية اللذان لا يسلمان هما الاخران من الاعيبه، ومقالبه، وحركاته البهلوانية.
تومان كان يُحيي الاعراس، وحفلات الختان، والتخرج، او الخطوبة مع فرقتة البسيطة "شدة خشابة" والقليلة العدد دون مقابل. لا يطلب سوى عشائهم اوغدائهم، وشربهم(بطل، او بطلين عرگ) او صندوق بيرة فريدة. وسيارة تنقلهم الى بيوتهم. غالباً ما يتطوع احد الحضور لايصالهم ليعود بحزمة من النكات، والمقالب سمعها، او شاهدها من تومان.

كان "ماطور" تومان يخطف الانظار والاهتمام، وهو يسلي الناس مجانا يوم الكسلة مع شدة الخشابة ورقصهم وغنائهم وعزفهم يتناغم مع بهلوانيات و"صعاديات" البحارة الهنود من على اسطح سفنهم العتيقة. فجاة يقذف تومان نفسه في مياه شط العرب الباردة في ذلك الفصل، ويظل الناس المتجمهرين على ساحل الكورنيش قلقين مترقبين مشدودين لمصير تومان حتى يطل عليهم بعد حين فيرتفع التصفيق، والصفير، وعبارات الاعجاب، وعتاب النساء المسنات: "خوفتنا تومان، حسبالنه غرگت"! ویعود تومان الى سطح قاربه راقصا منشدا وهو يقوم بحركاته البهلوانية. في احدى المرات حبس انفاسنا جميعا ونحن نراه يلقي بنفسه في شط العشار من جسر "باورهوز" في عز الصيف وظل الجميع ينتظر ظهور تومان من جديد لكنه لم يظهر. تابع الصغار والكبار مجرى غوصه باتجاه مستشفى السعدي للاطمئنان عليه فوجدناه يجلس مع رجال الاطفائية الذين فاجئهم بخروجه من تحت الجسر المقابل لمديرية الاطفاء. وقتها عرفنا ان ذاك الرجل الذي يعزف الناي بانفه له "نفس" طويل ايضا وهو يغوص تحت الماء، مهارة رياضية وبدنية لم تُستغل.
فهل تعتقد ان هؤلاء الناس الذين احبوه سيردونه اذا طلب سيجارة، او "شُربة ماي"؟! بل ان بعض المقاهي تتوسل به مثل مقهى ابو حقي قرب سينما الحمراء الجديدة(سينما تومان) ليجلس هناك، وسرعان ما تبدأ الاصوات ترتفع: "فد چاي لتومان"، "روح جيب لفة لتومان"، "جيب ماعون فشافيش لتومان". "تومان تريد بيبسي لو كولا"؟ يسأل احدهم، فتاتي مزحته المتوقعة او غير المتوقعة:
ـ حليب اسباع لو سمحت! فيضج رواد المقهى بالضحك!
في اسواق الخضارة، والقصابين، ومحلات الحلويات، والمخابز، وأفران الصمون، وبسطيات الچرزات، وباعة اللبلبي، والباقلاء، او الشلغم، ما ان يمر تومان حتى يسرع الباعة الى التبرع له، وكأنهم يردون له جميل الفرح الذي ينشره اينما حل. وقف مرة امام قصاب فبادر ذلك الرجل الى قص (لحمة هبر) لفها بجريده، وقدمها لتومان. سحب تومان رقبته الى الوراء، وغير وضعه، ومد عجيزته الى الخلف دون أن ينطق بكلمة، ومضى في طريقه دون أن ياخذ اللحم. فنادى عليه القصاب: "تومان لحمتك"! فرد تومان دون ان يلتفت: "بعدهه عندي"! ضحك صاخب من الجميع. "لا ولك هاي الهبرة اللي گصيتهه الك"! فيجيب تومان وهو يواصل مسيره: "انا ما اعرف اطبخ"! "خلي مرتك تطبخها"! "ماعندي مرة"! يأتي الرد سريعا. "طيب انطيها لجيرانكم". "شنو قابل جيرانه چلاب"؟! "ولك انت ما تجوز من سوالفك؟! يطبخوها الك". "ماعدهم بريمز". "طيب انطيها لچلبكم". "ما عندي چلب". "ليش ماعندك چلب"؟!. "شنو شايفني من اهل الكهف"؟!
حوار مسلي وممتع يجري في كل مرة "يتحارش" احدهم مع تومان(يتورط)! ثقوا، ان القصابين كلهم، ومن حولهم تركوا اعمالهم، وهم يشاهدون، ويسمعون حوار ذلك المشهد المسرحي الهزلي العفويي الارتجالي. وينتهي الكلام دائما بضحكة من القلب وتعليق يائس: "تومان، تومان محد يخلص من سوالفك..."!
كنت صغيرا وقتها، لكن الحادثة مسجلة في ذاكرتي. تكرر نفس الموقف ولكن بشكل مأساوي. عندما استقليت سيارة اجرة متوجها الى عملي، في صيف 1978 وصادف ان "صعد" تومان. دفع الجميع أجرتهم(كروتهم) إلا تومان، فسأل السائق باستغراب: "وكروة الاخ شنو تصعد ببلاش"؟! من لهجة السائق، وطريقة سؤاله فهم الجميع انه ليس من البصرة، فامتدت اربعة أيدي لتدفع: "تفضل هاي كروة تومان"! "تومان شنو قابل احنه بايران"؟! رد السائق وهو في حيرة وحرج من امره. وقتها قال تومان ما لن انساه ابدا وهو يفسر، ويحلل، ويوصف الحال، ويلخص الوضع بحسرة:
"هاذه شلون زمن ياخذون بيه كروه من تومان"؟؟!!
نزلت في منتصف الطريق، وانا اضع دينار في حضن تومان. واغلقت الباب. نظر الي وصاح من شباك السيارة: شسوي بيه؟
أجبته مسرعا: الدنية تغيرت تومان!
كانت تلك اخر مرة أُشاهد فيها تومان، واول مرة أرى دمعة على خده!
بعدها بايام اختفيت من البصرة ثم من العراق.
رزاق عبود
25/7/2018
• الموضوع مقطع من كتاب سيصدر للكاتب قريبا بعنوان "البصرة وصورة الامس"! نأمل ان لا يختطفه قراصنة الانترنيت مثلما فعلوا مع الكثير من كتاباته عن البصرة دون الاشارة الامينة لمصدر كتاباتهم او مقتطفاتهم!



#رزاق_عبود (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كيف تذبل يا ابو سلام وانت بكل هذه النضارة؟!
- ياحسرة على البصرة!
- مناجاة ام
- عقوبات ترامب على ايران خطر على العراق والمنطقة!
- ظاهرة التحرش الجنسي ضد النساء. مساهمة متواضعة!
- -سائرون-، حائرون، متربصون!
- -سائرون- وتعدد الاراء!
- عذاب القبر
- الغربة اللعينة والذكرى الأليمة!*
- اسلحة الدمار الشامل في البيت العراقي!
- العباس ورئيس(أمير) جامعة البصرة!
- بدعة استفتاء برزانستان!
- اثر النزاعات المسلحة على المرأة! هل تكفي مقالات التضامن لانص ...
- من صولة -الفرسان- الى صولة الخصيان، الحشاشون الملثمون يحمون ...
- حوار حول شخصية -النبي- محمد وصحة نبوته وقرآنه!
- اختطاف افراح شوقي حرب مفتوحة ضد حرية الكلمة!
- فيديل كاسترو بين التمجيد والانتقاد!
- اردوغان(هتلرخان) على طريق صدام المحتوم!
- اياد علاوي يعود لمزاولة مهام قندرته!
- اطفال المزابل في بلاد الاسلاميين الثرية!


المزيد.....




- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...
- -الضربة المصرية لداعش في ليبيا-.. الإعلان عن موعد عرض فيلم - ...
- أردوغان يشكك بالروايات الإسرائيلية والإيرانية والأمريكية لهج ...
- الموت يغيب الفنان المصري صلاح السعدني
- وفاة الفنان صلاح السعدني عن عمر يناهز الـ 81 عام ….تعرف على ...
- البروفيسور منير السعيداني: واجبنا بناء علوم اجتماعية جديدة ل ...
- الإعلان عن وفاة الفنان المصري صلاح السعدني بعد غياب طويل بسب ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رزاق عبود - تومان البصري