أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - منير المجيد - مرّة اخرى، القامشلي















المزيد.....

مرّة اخرى، القامشلي


منير المجيد
(Monir Almajid)


الحوار المتمدن-العدد: 6150 - 2019 / 2 / 19 - 18:03
المحور: سيرة ذاتية
    


غريب جداً أن أعود إلى التحدّث عن مدينة مُغبرّة موحلة منسيّة في أقصى الشمال الشرقي من سوريا، دون كلل أو ملل.
هل هي السنوات السحرية للطفولة؟ الحنين الفائض؟ التركيبة العجيبة؟ أم عوامل اخرى لم أستطع فكّ شيفرتها بعد كل هذه السنوات؟
عالمي، حينذاك كان مؤطّراً في أحيائها الشمالية البليدة المليئة بالقاذورات والروث وبراز الأطفال، وتوسّع على وقع مُضجر خارج حي قدور بك إلى حي الوسطى بفعل موقع مدرستي الإعدادية، وإلى الهلالية غرباً بحكم علاقات أسرية، وإلى المطار نحو الجنوب محشوراً في سيارة اجرة من طراز ديزوتو مع عشرات الأطفال في أيام الأعياد الدينية، والمحمقية شمالاً لأنّنا كنّا نذهب للدراسة في الهواء الطلق.
الوصول إلى طلعة الهلالية بدا وكأنه نهاية العالم، والطلعة الاخرى التي كانت المدخل إلى المطار عالمٌ من الخيال السينمائي، حيث تطير من هناك وتراقب الأرض تتضائل إلى أن تختفي لتُحيط بك السحب القطنية. أما مشاوير المحمقية فقد كانت البوادر الأولى للبحلقات الخجلة في وجوه الفتيات اللواتي كنّ يتضرّجن إحمراراً.
صحيح أننا استبدلنا، فيما بعد، مشاوير المحمقية بشارع القوّتلي، إلّا أن مجرد التفكير بتلك اللحظات الماجنة الأولى كان كافياً ليسيّر دغدغة خاصّة في محيط معدتي.

إنتقالي للدراسة الجامعية في دمشق، والنبض الجديد الذي وفّرته لي المدينة الرحبة جعلني أنظر إلى القامشلي بشفقة وفوقيّة، خاصة حينما عدتُ للتدريس في الثانوية التي كنت أرتادها كطالب.
ثمّ انطلاقي إلى العالم الواسع الكبير، أوروبا أولاً، ثم شرقاً إلى اليابان لاحقاً، لتتحوّل القامشلي إلى نقطة صغيرة لا تكبر عن شامة على الجلد. كلما ابتعدت عن شيء يصغر. هذه بديهية علمية. لكن هذه «الشامة» لها تأثير السحر عليّ، صحيح أنّها تؤرّقني أحياناً، إلّا أنها مازالت مصدر سعادتي أيضاً.

في كتابي المنشور «قامشلو»، ذكرت بعضاً من الحقائق التاريخية لم ترق للبعض. بدايةً بالإسم الكردي الذي اخترته، فأثار الأمر حفيظة شريحة من السريان، ليس هؤلاء الذين يعرفونني بطبيعة الحال، وحصل أنّ بعضهم رفض حتى قراءة أي سطر منه. «المكتوب مبيّن من عنوانه»، قالته سيدة قامشلاوية مهاجرة في السويد.
عالمي وأنا طفل، وأيضاً بحكم كرديتي، جعلني أختار قامشلو، وليس زالين كما أرادت، على الأغلب، تلك السيدّة.
مبدئياً، لا فرق لأنني أؤمن بتعددية المدينة، وأنها يجب ألاّ تكون حصراً لمكوّن على حساب آخر.
الأمر الثاني كان عن اللغو الذي قلته عن اليهود. نعم، اعتبر البعض أن ما ذكرته عن أن عدة عوائل يهودية انتقلت من نصيبين إلى جنوب تخمها، هي أوّل من سكن في المحيط الذي صار فيما بعد القامشلي ضرباً من تزييف التاريخ، فقط بسبب الموقف من نشوء إسرائيل في خارطة سوريا الكبرى.
شخصياً، لا عداء لي مع اليهود. أقصد هؤلاء الذين كانوا جزءاً من المكوّنات الدينية والإثنية العديدة في المدينة. لم أشعر يوماً أنني أعاديهم بسبب قصص دومة الجندل واليمامة ونجران ودوس ويثرب وخيبر وتيماء التي تعود إلى أربعة عشر قرناً. تلك كانت عن مكاسب إقتصادية، وليس البتّة خلافات آيديولوجية أو ثيولوجية كما يُذكر.

على الجهة الشرقية من هضبة البدن، وعلى مسافة تزيد قليلاً عن الكيلومتر جنوب المدينة الآراميّة نصيبين، المركز التجاري التاريخي الأهم في شمال شرق سوريا، قام اليهود بدفن بعض موتاهم. وهناك شواهد مؤرّخة تعود إلى العام ١٩١٩. من المُرجّح أن هؤلاء اليهود الذين استوطنوا نصيبين، هم أحفاد الذين ُشرّدوا في البحر الأبيض المتوسط، إثر ملاحقتهم، سويّة مع المسلمين، من قبل الإسبان الذين إستعادوا بلادهم من الغُزاة المسلمين. بعض هؤلاء استقرّ به المقام في شمال أفريقيا، بينما حملت السفن آخرين إلى الضفاف الشرقية للبحر، مدينة إزمير على وجه الدقّة، ومن هناك انتشروا شرقاً وشمالاً بحثاً عن البؤر التجارية، ذاك الإختصاص الموسوي الأبدي.
وفي وقت مبكّر نشأت غابة «عبو» في الجهة الاخرى من المقبرة، يفصلهما نهر جغجغ، وبين الغابة وهضبة البدن اعتمد عبو على الجدول الصغير الذي كان يزخر بأسماك صغيرة عصبية المزاج لسقاية أشجار الحور الباسقة ذات الأوراق الفضيّة، وهناك أيضاً بنى بيتاً لعائلته، وحول البيت كان يزرع البندورة والخيار وبقية الخضار التي كانت تُسّوق مليئة بالعبق الطازج.
على بعد أمتار من دارة عبو شجّع الفرنسيون بناء دار البغاء الشهيرة (الكرخانة)، ليتلذذ جنود الحامية العُزّاب بفتيات بضّات من حلب ودمشق وحمص.
ماذا كان عبو يقول لولده وبناته عن ذلك البناء الذي كان بوسعهم بسهولة تشمم صابون الغار الممزوج بالماء الساخن أيام الخميس؟ الخميس حيث كنّ يستحمن.

القامشلي هي وليدة اتفاقية سايكس وبيكو، وتفسير الأمر غاية في البساطة.
حينما اقتسمت بريطانيا وفرنسا سوريا الكبرى فيما بينهما، إثر هزيمة العثماني المريض، ووضع فلسطين تحت إدارة دولية ليُمهّد الطريق أمام هجرة يهودية إستعمارية غير شرعية تكللّت بعدئذ بنشوء هذا الجسم الذي مازال غريباً «إسرائيل»، مرّت الحدود تماماً جنوب مدينة نصيبين، فصارت تركيّة الهويّة، أما الحدود الجنوبية فعادت إلى سوريا، بحدودها الحالية، وشاد الفرنسيون بناء ثكنة عسكرية تطلّ على مدينة نصيبين من هضبة هي امتداد جغرافي لهضبة البدن.
بهذا فَقَدَ التجار اليهود أهم زبائنهم من القبائل العربية والكردية في منطقة الجزيرة السورية، فلجأوا إلى الحامية الفرنسية وتفاوضوا معهم لبناء سوق في الموقع الذي صار القامشلي، وبناء سوق يعني أيضاً بناء دور سكن.

أثناء الحرب العالمية الأولى وفي السنوات التي تلتها، قام الأتراك بحملات تنظيف إثنية بحق الأرمن وارتكبوا مجازر مهولة، شارك قسم من الأكراد فيها أيضاً، مما يُعدّ وصمة عار كبرى في تاريخ الكرد. ولا يغفر لهولاء أبداً حجة أن الأتراك عزفوا على وتر الدين.
التاريخ لا يذكر الكثير عن محاولة إبادة وترحيل السريان أيضاً، وليس كثيراً عن إلتفاف الأتراك على الأكراد ونكث الوعود ومحاولة دحرهم كما فعلوا قبلها مع الأرمن والسريان.
نتج عن حملات التطهير تلك موجات نزوح كبيرة جداً.
سوق «العَرَصَة» اليهودية التجارية شهدت أزدهاراً جذب إليه بعض العائلات الأرمنية والسريانية، فبنوا بيوتاً اخرى ومدارس وكنائس، ثم جاءت عائلات كردية وعربية تمركزت في جنوب وشمال السوق. العرب في الجنوب لأنها كانت أقرب النقاط إلى القبائل الممتدّة في سهل الجزيرة وبادية العراق، والأكراد شمالاً لقربها من قراهم التي انشطرت على جانبي الحدود السورية التركية. قام المهندسون في الحامية الفرنسية بتخطيط الشوارع، وبنوا جسرين على نهر جغجغ الذي تفرّع عن قسمين على مسافة أمتار قليلة من مركز وشريان مدينة على وشك أن ترى النور.

أعود، بعجالة، إلى موضوع دفن بعض اليهود في ذلك المكان، لأنه صار المقبرة المسيحية الأولى في المدينة، رغم أنها كانت في قلب الحي الذي تشكّل فيما بعد باسم العائلة الماردليّة (من مدينة ماردين) قدور بك، وبأغلبية كردية-مسلمة. الأمر لم يكن سوى محض صدفة، فأول المتوفين السريان دُفن إلى جانب القبرين القائمين، ربما لسهولة الأمر، أو ربّما لبعد الموقع عن بيوتهم. هكذا نحن، نُفضّل دفن موتانا على مبعدة.

عمر مدينتي أقلّ من مائة سنة، ولا أحد يعرف على وجه الدقّة سبب التسمية وجنسية الكلمة.
كيف لمدينة لها هذا العمر القصير وتفتقد، بهذا المقدار، إلى تاريخ مدوّن؟
وقليل ما قيل وكُتب عنها لا يتعدّى سوى ما نتذكّره ونحاول ربط الأحداث مع صورة نمو المكان، من سوق تجارية إلى بلدة ومن ثمّة مدينة بلغ تعداد سكانها نصف مليون، حتى قبل تسعة أعوام، لتخوض في السنوات الأخيرة غماراً مُرعباً يُهدّد ديموغرافيتها وتاريخها الذي بُني على التعايش والإنسجام، الخالي تماماً من الذي تعاني منه سوريا الآن بمجملها: الكراهية ومسّ الجنون وخطر الوجود.



#منير_المجيد (هاشتاغ)       Monir_Almajid#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هنريك، ملك الدانمارك
- اوصماني برو
- معمارية متحف لوڤر أبو ظبي
- فصل من رواية «كوبنهاون»
- البازلّاء
- البعوض وحشرات اخرى
- العناكب
- مجرّد خطوة اخرى نحو وضع حد للحياة
- في ثقافة التفويل
- أكثر من نصف جسمك ليس بشراً
- الألزاس، ذهاباً وإياباً بالسيّارة (الجزء ٢ من ٢)
- الألزاس، ذهاباً وإياباً بالسيّارة (الجزء ١ من ٢)
- رسالة إلى جورجيت
- السفر بنظام الإنتر ريل في أوروبا (الجزء الأخير)
- السفر بنظام الإنتر ريل في أوروبا (الجزء الثاني)
- السفر بنظام الإنتر ريل في أوروبا
- السُكياكي
- كاروشي وكاروجيساتسُ
- واشوكُ ويوشوكُ
- في زيارة مسقط رأس كينزابورو


المزيد.....




- وزير خارجية الأردن لـCNN: نتنياهو -أكثر المستفيدين- من التصع ...
- تقدم روسي بمحور دونيتسك.. وإقرار أمريكي بانهيار قوات كييف
- السلطات الأوكرانية: إصابة مواقع في ميناء -الجنوبي- قرب أوديس ...
- زاخاروفا: إستونيا تتجه إلى-نظام شمولي-
- الإعلام الحربي في حزب الله اللبناني ينشر ملخص عملياته خلال ا ...
- الدرك المغربي يطلق النار على كلب لإنقاذ فتاة قاصر مختطفة
- تنديد فلسطيني بالفيتو الأمريكي
- أردوغان ينتقد الفيتو الأمريكي
- كوريا الشمالية تختبر صاروخا جديدا للدفاع الجوي
- تظاهرات بمحيط سفارة إسرائيل في عمان


المزيد.....

- سيرة القيد والقلم / نبهان خريشة
- سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن / خطاب عمران الضامن
- على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم / سعيد العليمى
- الجاسوسية بنكهة مغربية / جدو جبريل
- رواية سيدي قنصل بابل / نبيل نوري لگزار موحان
- الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة / أيمن زهري
- يوميات الحرب والحب والخوف / حسين علي الحمداني
- ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية / جورج كتن
- بصراحة.. لا غير.. / وديع العبيدي
- تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون / سعيد العليمى


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - منير المجيد - مرّة اخرى، القامشلي