أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود الصباغ - عطر: قصة قاتل ينتمي الى عالم لم يعرفه أحد غيره















المزيد.....


عطر: قصة قاتل ينتمي الى عالم لم يعرفه أحد غيره


محمود الصباغ
كاتب ومترجم

(Mahmoud Al Sabbagh)


الحوار المتمدن-العدد: 6136 - 2019 / 2 / 5 - 08:20
المحور: الادب والفن
    


إذا كانت القراءة الأولى لأي عمل إبداعي هي انطباعية بطريقة ما، فالثانية هي تحليلية بطريقة ما أيضا، أما ما يلي ذلك من قراءات -إن حصلت- فسوف تكون حتماً من أجل المتعة.
يزعم ميلان كونديرا -وأنا لا أميل لزعمه هذا-بأن شرط الرواية الجيدة يكمن في صعوبة تحويلها لفيلم ناجح أو استعصاءها على السينما, فإذا كان مثل هذا الادعاء صحيحا بصورة ما فإن رواية "عطر: قصة قاتل" بلا شك قد تملصت ببراعة من هذه الصعوبة لتكون استثناءً يؤكد صحة القاعدة .وإذا كانت الرواية الجيدة تحتمل أكثر من قراءة "جيدة" فإن فيلم عطر باعتباره قراءة للرواية، يقف ، ربما، على قمة هذه القراءات, فقد استطاع النفاذ ببراعة من خيوط السرد المذهل للراوية وهو ما يجعله من الأفلام القليلة , إن لم يكن وحده, الذي يتوجب علينا مشاهدته بحاسة شمنا أكثر من بصرنا !!فهو أشبه ما يكون بالعطر نفسه نشمه و ننتشي به ,ألا نقف ,في بعض الأحيان, حيارى لنصف رائحة ما نشمه؟ , ألا تعجز اللغة أحيانا في التعبير عن الروائح ؟ هل مرت على أحدنا لحظة لم يقف فيها مشدوها، مبهورا وهو يشم رائحة، يعتبرها مميزة ولكن لا يجد لها مكافئ لغوي لوصفها؟
ميز البشر أنفسهم بأنهم مخلوقات ذكية، مبتكرة و كائنات استراتيجية و بالتالي فإن استجابتهم لمحفزات الصراع قد تتباين ضمن مجموعة الخيارات المتعددة و القابلة للاستبدال ,وتحلق بنا الرواية و الفيلم نحو فضاءات مثل هذا التمايز بطريقة لم نعتد عليها من قبل، وقد يكون هذا أحد الأسباب التي جعلت من الرواية صعبة التحول إلى السينما التي يرى فيها البعض رداً أوروبياً على زخم الواقعية السحرية القادم من أمريكا اللاتينية. وهنا تظهر الصعوبات التي واجهت المخرج الألماني توم توكفير في تحويلها إلى سردية سينمائية ، فالجرأة وحدها لا تكفي لتكون أداة قياس لمدى نجاح أي عمل سينمائي يحاول أن يقول شيئا ما مختلف عن ما قبله ,والسبب في ذلك واضح لمن قرأ الرواية، وتنطوي الصعوبة ليس فقط في القدرة على تحريك مستويات الرواية العديدة أو خلفيتها الفلسفية فحسب وإنما فى صعوبة إيجاد معادل بصري موضوعي لهذا الزخم الشديد من الروائح والعطور وتلك الموهبة الشمية غير المسبوقة وإيجاد مخرجات دلالية لها. ورغم أن السيناريو لم يكن بمستوى النص الروائي، حيث أظهر العديد من مواطن الضعف والتصدع دون إهمال الإجادة الملفتة في استخدام الإثارة البصرية لجذب المشاهد وموسيقا تصويرية مبدعة ،فإن الفيلم بحد ذاته يأخذنا إلى اتجاهات تبدو غامضة وغريبة وبشعة في ذات الوقت، ويحاول #توم_توكفير التخفيف من وطأة هذه الغرابة بتشديده على السردية البصرية للمكان والشخوص ليقول لنا أن غايته هي السعي نحو استكناه الكمال الذي تطلبه النفس البشرية، ولكن يا للمفارقة، أثناء ذلك سيكون القتل هو الأداة الفعالة. لقد أثبت توكفير قدرته على إبراز الصور الفكرية البشعة ،وقدم لنا فهماً عميقاً وتبصراً لانزلاق العقل نحو الجنون ضمن سلسلة متصلة لمستويات واقعية حقيقية و صدى مميز للحواس الوظيفية كلها و ليس للشم وحده ,وذلك عندما يتحول شخص ما إلى قاتل محترف استجابة لهستيريا غريزية تجتاحه وهو لا يعلم سببها , فتتخذ طرق ملتوية من الصراع مع الذات و المحيط. ولابأس من الإقرار بأننا لن نرى الجانب الإيجابي للنفس البشرية, بل الكآبة و الغموض و الرعب , والهوس الذي يصبح هاجساً يستبد بصاحبه و يعوقه عن مواصلة حياته الطبيعية ,وأي محاولة لرؤية الفيلم بصورة مختلفة ستذهب سدى بمجرد أن يقع بصرنا على وجه غرينوي القاس القصديري عديم الملامح ،ربما هذا ما يخرج به من شاهد الفيلم مرة أو أكثر و من قرأ الرواية مرة أو اكثر ولو اضطر إلى استخدام طرق ملتوية للتفكير .لكن الفيلم مفعم بالحواس كلها وليس الشم فقط، فيلم يمكنك أن تشمه بعينيك بمعنى آخر إنه فيلم عن الشم لكن ستراه بكل حواسك، لاسيما العين حين تحافظ أو تحتمي بدهشتها عندما تنقل لنا الصورة البصرية رائحتها.
لقد قالت الرواية كلمتها في قصة قاتل هامشي، هادئ في سلوكه، يتغذى من أنفه ومن القتل، قدرته الحسية تهيمن على كل أخلاق أو أي حكم قيمة، إنه باختصار شخص بلا رائحة وهو يعبر عن الإنسان ككائن وحشي في سعيه الحثيث للسيطرة على كل البشر، حتى لو تستر بالحضارة. وكأن هذا الإنسان يحاول أن يستولي على سلطة الرب أو يصنعها أو بأضعف الأحوال الجلوس مكانه، إنه الشيطان إذ يتقمص غرينوي ليغوي البشر، دون محاكمة، وسيبقى الشيطان محفورا عميقا في روح غرينوي ما يدعونا للتأمل في مفردات الحياة وقيمها، وماهية الإنسان الذي برغم ضعفه يتحول في لحظة ما إلى قاتل بشع لا تضاهيه أعتى الوحوش.
كيف يمكن للرائحة أن تشكل هوية شخص؟ كيف يمكن للولادة بدون رائحة أن تحول فرد إلى شخص عديم المشاعر، قاس الملامح، يقتل الفتيات ليحصل على رائحتهن، ثم كيف يتعاظم الغرور الداخلي حتى لم يعد مقتنعا بكل الروائح التي جمعها، بل أصبح يتوق لرائحة ترقى به لمصاف الآلهة، محبوباً و /أو معبوداً كلي القدرة والتأثير على البشر. لم يقتل غرينوي من أجل الجنس “الجنس بوصفه جوهرا مقدسا “ كل ضحاياه وجدن عراة لكنهن كنّ لا يزلن عذارى (ماعدا المومس التي التقاها في احدى نوادي الدعارة).الاستعانة بالجنس في الفيلم كان هدفه الاشارة إلى سرقة جوهر الانسان المقدس بالنسبة للمرأة. هو قاتل ومغتصب: مغتصب ليس من خلال الفعل الجنسي، بل من خلال تقطير جوهر الإنسان المقدس. إنها حكاية شاب هادئ وحيد كتوم انعزالي يدعى #جان_بابتيست_غرينوي ،مأساته أنه يعد او يستطع أو ليس بمقدوره أن يشم نفسه, وهو ربما الشخص الوحيد في هذا العالم الذي لم تستطع قواه وموهبته أن تجعله قادرا على القيام بذلك ،لانه بالأساس لا رائحة له بالأحرى لا رائحة تنبعث منه, يقول عنه باتريك زوسكند مؤلف الرواية "إذا كان اسمه اليوم قد طواه النسيان، على نقيض أسماء نوابغ أوغاد آخرين، مثل دوساد، سان جوست، فوشيه أو بونابرت وغيرهم، فذلك بالتأكيد ليس نتيجة ان غرينوي بمقارنته مع هؤلاء الرجال المريبين الأكثر شهرة، يقل عنهم تعالياً او احتقاراً للبشر ولا أخلاقية، باختصار، كفراً، وإنما لأن عبقريته وطموحه قد انحصرا في ميدان لا يخلف وراءه أثراً في التاريخ أي في ملكوت الروائح الزائل". تلك الرؤية التي تحيل الرائحة المغتصبة إلى كل ما هو إنساني مغتصب، فمن يسرق رائحتك أو يغتصبها كمن يغتصب أرضك ويغتصبك، ولن يكون هناك أي عذر لغرينوي سوى نهايته المحتمة، أي أن يتم اغتصاب رائحته، اغتصابه هو نفسه وتلاشيه، بين أفواه الجائعين الهامشيين، ليس العطر الحقيقي سوى جوهر الذات الإنسانية العميقة في معانيها والتي تشكل في نهاية المطاف لذة سماوية، هبة، منحة، من غير المقدر لها أن تغتصب، أما إن حدث واغتصبت فهي ستتماهى مع العدم.
نحن أمام قاتل قادته رائحة الحياة الجميلة إلى القتل .نبي منبوذ بلا مريدين , أنف حساس يقوده دافع يعتقد أن رائحة وعبق أجساد النساء ستمكنه من السيطرة على العالم ,نعم نبي يجلب السعادة لمن حوله عن طريق موته , يذوب , يتلاشى , ينتهي ومن حوله أتباعه يرشفوه حتى آخر قطرة ,ويعود هذا الفضل لامتلاكه القدرة على اكتشاف العالم ,قطرة واحدة من العطر انهال عليها جموع المنبوذين , ارتشفوها وأكلوا غرينوي بكل معنى الكلمة , التهموه وهم يشعرون-ربما للمرة الأولى في حياتهم- بالغواية و الحب. افترسوه بكل حب وكما تقول الرواية "وبالرغم من أن عطره قد يسمح له بالظهور أمام العالم عظيما كأسطورة إلا أنه إن لم تَكن له رائحة فأولئك القوم لن يعرفوا أبدا من هو."
تلك هي الرواية , فما هو الفيلم؟
سأسمح لنفسي بتخيل المخرج وكاتب السيناريو حين قررا العمل على الرواية ... لربما طرحا سؤالا غير مألوف ليكون بمثابة بوابة لفهم الرواية وطريقا ميسرا للبدء بالعمل: هل رأيت الرائحة؟ هل سمعتها؟ أليس هذا السؤال هو إشكالي ربما أكثر مما طرحته الرواية ككل؟ كيف يمكن إيجاد معادلا بصريا لعطر ما؟ .
لعل المساومة الكبرى التي قام بها المخرج باحتياله على النص حين يعرض لنا في بداية الفيلم مشهد أنف كبير يخرج من الظلام فيملأ الشاشة كلقطة افتتاحية يوحى بها للمشاهد ان ما سيقدمه له هو عالم مفعم بالروائح وليس بالصورة .إنه تحد مذهل يتطلب براعة و إمكانيات مادية كبيرة (بلغت تكاليف إنتاج الفيلم 63 مليون دولار)وقد ساعد على ذلك خبرة كاتب الرواية زوسكند نفسه بتأليف السيناريو , فقام المخرج بحذف أحداث كاملة عل مستوى الرواية التي كانت ستشكل عبئا على الفيلم مثل التجارب العلمية التي قام بها العالم "إسبيناز" لإثبات نظرياته على جان بابتيست غرينوي بعد قضائه سبع سنوات في الجبال , كما تم عن قصد أو غير قصد التخفيف من الخلفيات الدينية ومن بحث جان بابتست غرينوي عن معنى الإله وإعادة إنتاج مخلص للعالم عند معالجة الفيلم وهذا الأمر يمكنه تفهمه حين يحتاج المخرج و كاتب السيناريو لإيجاد إطار أو شكل واحد للفيلم يحتم أحيانا المرور سريعا على بعض الجوانب بغير التعمق فيها. غير أن هناك مقاطع في الرواية تم نقلها كما هي لجاهزيتها من حيث النص و لاكتمال العناصر السينمائية فيه مثل اللقاء الأول بين غرينوي و العطار بالديني ولذلك ليس من الصعوبة الحديث عن الرواية و الفيلم معا كأنهما شيء واحد .
يبدأ الفيلم، بإيقاع بوليس بامتياز، من خلال مشهد شاب مسجون فى زنزانة يتقدم الى المحاكمة ويصدر ضده حكم قاسى بتكسير عظامه كلها ثم شنقه حتى الموت ويقرأ الحكم وسط الجموع الغفيرة المؤيدة لإعدامه والشاب الضئيل لاحول له منكمش على ذاته، وسوف يتساءل المشاهد، ماذا فعل هذا الشاب حتى يفرح الجمهور لإعدامه؟ وهنا ينتقل بنا المشهد على طريقة الفلاش باك كي نتعرف على الأسباب التي قادته إلى حبل المشنقة. استخدم توم توكفير تقنية الراوي ليقرب المشاهد من روح الرواية وإيجاد معادلا لبعض الافكار التى تعجز الكاميرا وحدها عن ترجمتها. كما يمنح الراوي فرصة السرد دون معيقات زمنية أو مكانية، وبذلك تحصل الغاية بجذب المشاهد الذي يريد أن يعرف سبب هذا الحكم ضد شاب يبدو من بعيد كأنه بريء، بمثل هذا التشويق ندخل في عوالم الفيلم دفعة واحدة ويمضي الراوي في رحلة شاقة تتيح لنا مساحة لتأويل ما نرى. فضلا عن التأويلات التي قام بها المخرج التي تعتمد على تقنية الفلاش باك عن طريق الراوي (تستمر حتى نهاية الفيلم) لسرد حكاية جان بابتيست غرينوي منذ ولادته كابن غير شرعي في أكثر الأماكن انبعاثا للروائح , في سوق السمك في منتصف القرن الثامن عشر في باريس في شارع "أوفيير", في صيف باريس الحار حيث زخم الروائح الكريهة المشبعة برائحة العرق و البول و الخشب المتفسخ وروث الجرذان و السمك ,كل هذه الروائح تنبعث بذات الوقت لتشكل مزيجا لا يمكن أن تتحمله أنوف البشر ,"إنه عالم حي بالروائح" كما يقول الراوي في مقدمة الفيلم , كانت الأم تجاهد بسبب الحر الشديد وآلام المخاض ما أدى إلى فقدانها لوعيها , فسقط وليدها ,هكذا دون تحضير مسبق , حاولت التخلص منه بأن ألقته بين بقايا السمك الذي تقوم بتنظيفه بعد أن قطعت الحبل السري بالسكين الذي تقطع فيه السمك فلم تمنحها الحياة متسع من الوقت لتربية الأطفال ,فهي التي اعتادت على التخلص من أطفالها الأربعة قبله امام عربة السمك .إذن في هذا "المكان" حيث تمارس الأم "سلطتها" لو شئنا القبول بقول ريجيس باشلار عن المكان الذي يمكن للمرء أن يمارس فيه سلطته بإطلاق صفة الحميمية عليه و الألفة , وهو لايعني بالضرورة عند الغير ذات المعاني , ورغم أنه مكان عام , أي الفرد فيه-و دائما حسب باشلار- ليس حرا بل ثمة من يتحكم به , لكنه يستطيع بطريقة ما أن يجعله لامتناه و بالتالي يحد من عدوانيته و "سلطته" بأن يرسمه خاليا من أي منافسين محتملين وهذا لا يخلو من المغامرة و الحرية و الانطلاق و الاكتشاف.
كان من الممكن أن لانسمع بهذا المولود الجديد لو أنه لم يصرخ , رفض غرينوي أن يموت ,لقد تحدى الحياة وصرخ لكي نسمع قصته تاليا ,الذي لم يكن مثل إخوته الذين سبقوه للموت، لقد قاوم الموت بشراسة بصراخه صراخا مدويا كشف الام وبعثها للمشنقة بسبب محاولتها لقتله كما فعلت مع إخوته(ويستمر يحمل النحس لكل من يرعاه فهم يموتون او يقتلون بعد تركه لهم او تركهم له) .عثر الناس عليه هناك على بسطة السمك فأخذوه إلى الميتم، منذ أيامه الأولى كان جان بابتيست مرفوضا، لدرجة أن أحد المرضعات قالت إنها لا تحب هذا الرضيع لأنه "جشع يرضع عن اثنين" وقد رفضت المرضعة الرابعة إرضاعه مبررة ذلك بأن " ابن الحرام هذا ليست له رائحة على الإطلاق " كيف يمكن لإنسان أن يكون بلا رائحة، إن سلب شخص من رائحته يعتبر قاسيا بشكل كبير، لكن الطريق الذي رسمه هذا الشخص "لاستعاد" رائحته هو اشد قسوة. هل هو رضيع بصورة شيطان؟ ولكن "يستحيل مطلقاً أن يكون رضيع مسكوناً بالشيطان، فالرضيع ليس إنساناً، وإنما هو في مرحلة ما قبل الإنسان" قامت المرضعة بإرساله إلى الأب "تيريير", الذي أرسله بدوره إلى مدام "غايار" ولكي تكتمل الصدف مع غرينوي فإن مدام غايار كانت قد تلقت ضربة من والدها على أنفها فلم تعد تشم شيئا .وسط هذه الأجواء يكبر غرينوي عند مدام غايار بلا رائحة , ست سنوات كاملة كانت فيها موهبته الخارقة تتعاظم في تحديد روائح كل ما حوله تراب وماء وحيوان وخشب وحديد واشخاص واماكن وليبدوا عاجزا عن التواصل مع البشر حيث أن لغة التخاطب الوحيدة التي يجيدها مع محيطه هي لغة الروائح ., ثم تقوم بإرساله للدباغ "غريمال" , وتقتل بعد بيعه للرجل مباشرة ,كان غرينوي في تلك الفترة يحتفظ باي شيء وكل شيء , يشمه بعمق دون ان يدرك ماهيته , يتعذب من أجل معرفة ما يشم , كان أنفه يكتشف العالم بطريقة مذهلة وغريبة ,كان دماغه الصغير يحتفظ بكل تلك الروائح مئات من الروائح بل آلاف تختزنها ذاكرته الشمية دون إدراك منه لجوهرها, لقد كان ببساطة يمتلك أنفا حساسا فريدا يستطيع به أن يستدل على الأماكن و ليس بعينيه , تملكته سعادة بوجوده عند الدباغ حيث كان لديه فرصة للتعرف على روائح أخرى , فيعيش ويعمل عند الدباغ ويتعلم دبغ الجلود ويزداد وعيه بما حوله و بموهبته الشمية , وطيلة تلك الفترة -وفي كل لحظات الفيلم تقريبا-يظهر لنا غرينوي كشخص بلا روح تماما فنظراته لا تحوي أي انفعال ,نظرة زجاجية قاسية عديمة الملامح، بالكاد يبدو رجل، او ربما ظل رجل ,شخص تتلبسه الغرابة حيث يصطدم سعيه المحموم لتقطير رائحة الإنسان بواقع أن تلك الرغبة لا يمكن تحقيقها ,لقد أعجب برائحة البحر ذات مرة لدرجة أنه اشتهى الحصول عليها “ولو مرة .. نقية دون شوائب وبكميات وافره تسكره”.
ينتقل غرينوي للعمل عند العطار بالديني في مساومه بشعة بين العطار و الدباغ ,وهنا تأتي الصدفة مرة أخرى لصالح غرينوي و فقد كان بالديني على وشك الإفلاس , أدرك جان باتست أن دكان العطارة هو المكان الامثل له فسعى لكسب ود صاحبها, فيقوم غرينوي بإنقاذ بالديني بفضل موهبته الفذة في التمييز بين ادق الروائح وأن يفصل بينها بسهولة مدهشة , مقابل أن يعلمه بالديني تقطير الروائح ,تنتهي حيرة بالديني هنا ,فكل ما يهمه هو الحفاظ على سمعته كأشهر عطار فضلا عن تحقيق ثروة طائلة بفضل إمكانيات غرينوي , المفارقة أن غرينوي يستطيع أن يدرك ما تريده النساء من الروائح لكن كان غرينوي لا يشم نفسه , الأمر الذي أرقه كثيرا , فهو بلا رائحة , و لا يستطيع الاحتفاظ بالروائح التي يريدها وهنا قرر أن يصنع رائحة لنفسه ولكن كيف سيبدأ ومن أين و ما هو مرجعه لصنع رائحته؟ الطبيعة أم البشر؟ الرجال أم النساء؟ يقرر غرينوي السفر إلى مدينة "غراس" ليبدأ رحلة البحث عن رائحته , تلك التي سيجمع عناصرها من رائحة أجمل فتيات فرنسا ,فيبدأ بسلسلة من القتل مبتدأ ببائعة البرقوق, يقوم بتقطير تلك الأجساد الغضة و استخلاص من كل جسد عطرها الخاص بغية الوصول إلى الرائحة الوحيدة التي يريدها , رائحته هو التي لا يعرفها, وعبر عن عدم وجودها بمشهد الحلم الذي رآه لأول فتاة قتلها عندما أراد أن يظهر لها فتلفتت فلم تجد شيئاً علي الرغم من وجوده بقربها لكنها لم تحس بوجوده فهو غير مرئي بالنسبة لها .لقد قام بقتل اثنى عشر امرأة وحفظ رائحه اجسادهن دون ان يعثر على رائحه فتاته وحتى يصل اليها كان لابد ان يقتل ضحيه ثالثه عشر. ضحيته الأخيرة ستكون أجمل فتيات غراس وابنة أكثر رجلا ثراء فيها كانت تشبه في ملامحها فتاه السوق التي لم يستطع ان ينساها تلك التي شم رائحها اثناء سيره في المدينة فتاة ذات ملامح جميله فيتبعاها الى ميدان صغير مهجور سائرا ورائها في الحواري ليقترب منها ويحاول ان يستنشق عطره واثناء محاولاته هذه يسمع خطوات المارة فيضع يده على فمها حتى يمنعها من الصراخ وليكتشف انها ماتت وفارقت الحياة !!وهي تحمل رائحه بقيت في ذاكرته ولا يريد ان ينساها.
لن يحتاج المشاهد إلى زمن طويل كي يستنتج أن غرينوي شخص ينبغي ألا يتكرر، وأن الموهبة ليس مقدرا لها أن تتحول على غريزة تسيطر علينا بكل تقلباتنا الروحية ليصبح القتل في سبيل الحصول على عطر سحري من أرواح البشر مبررا لاغتيال تلك الأرواح. وإذا كانت الرواية قد نجحت بتوريط القارئ للتعاطف مع غرينوي في سعيه للحصول على العطر السحري، فهل حصل ذات الشيء في الفيلم؟ هل سأل المشاهد نفسه (كما فعل القارئ) ما إذا كان القتل مبررا هنا؟ هل سنلتمس عذر لغرينوي حين نقول: وهل ثمة من أحب ضحايا غرينوي أكثر من غرينوي نفسه؟ في حقيقة الأمر لا يمكننا الجزم بأن هناك موقف أخلاقي واضح للمخرج من غرينوي، غير أنه تحلى بمنظومة أخلاقية سمحت له أن يبني موقفه من إرادة البشر كمجموع وليس كأفراد، هذا المجموع السلبي بوصفه حشد وقطيع يسير بلا هداية محددة. ففي أكثر اللقطات إثارة يقف المشاهد مذهولا حين تصفح الجموع عن غرينوي تحت تأثير القوة الطاغية لعطره (الذي حصل عليه أخيرا والذي صنعه بلا شك من روائح ضحاياه, هذا العطر الذي كان سبب كل جرائمه) , لم يستطيعوا أن يروا فيه سوى إله مبدع حد المعجزة , وهنا , هنا بالذات تضمحل بصورة نهائية الذاكرة الأخلاقية لهذه الجموع التي تندفع بطيش ولكن بألفة نحو الغرائز ويظهر المشهد أمامنا , أجساد متهالكة عارية مذهولة , كتل متراصفة من الأجساد البشرية العارية مدفوعة بحمى عمياء , كأنهم في طور ما قبل تفاحة الشيطان , لن ينتبهوا لعريهم و "خزيهم" إلا صبيحة اليوم التالي وهم غارقون في فضحيتهم تلك .وهنا نرى بصمة السينما , ففي الوقت الذي أخذت فيه نهاية غرينوي في الرواية مساحة زمنية سردية لا توازي باي حال أي مساحة سردية في تفاصيل حياة غرينوي ,كان لتلك اللحظة الأخيرة أهمية قصوى للمخرج والتي عبر عنها بأهم وأعمق مشهد في الفيلم وقد يكون مرد ذلك ربما لأن نهاية غرينوي قد أغوت توكفير بدرجة أكبر من زوسكند نفسه مؤلف الرواية , أو ربما كانت هي البوابة التي استطاع من خلالها اسقاط رؤيته الشخصية للنهاية التي افترضتها الرواية ,لقد كانت نهاية لا تحتاج إلى كثير من الإضافات.
ينتمي غرينوي إلى عالم -أوروبا- وجد فيه الإنسان نفسه منذ قرن أو يزيد وحيدا دون رب (كما عبر عن ذلك نيتشة و كامو و غيرهما ضمن شروط خاصة) ,دون منظومة عقلانية تقوده. و باختصار بدون نظام معين و ترتيب معين قابلين للتعريف ،ومثل هذه التضمينات تمت مناقشتها من قبل العديد من روائيين قبل زوسكيند مثل كامو و مالرو و كافكا لعل أهم هذه التضمينات , تلك التي تتعلق بمغنى و موضوع العزلة مبتدئين بمفهوم العبث ليعرفوا الانسان و علاقته بالعالم بشكل واسع .وحيث أن الإنسان الغربي قد عاش عدة مئات من السنين تحت هيمنة الثقافة المسيحية فيمكن القول بأن المفهوم الفلسفي للعبث هو ميزة الاصطدام بهذه المنظومة الثقافية و هو يشكل القالب العام المميز لمرجعتيها العقلية و المعرفية .وتميل عادة إن الأعمال المكتوبة ضمن صياغة مسيحية إلى التركيز على انفصال الإنسان عن الرب أو عن حالته الطبيعية أي "الموقف الطبيعي" بعد هبوط آدم من الجنة مع (الأب) .إن بحث غرينوي عن الرائحة ربما يتمثل -عموما -في الاتحاد الوثيق بين الإنسان(كجنس بشري) و الرغبة في معرفة اللغز المتسامي . تظهر السرديات التي توظف ،أنماطا و صورا دينية ,بأن ثمة هناك واقع مفترض قابل للتعريف كخلفية مسيحية إزاء ما يوصف بالبحث عن معنى الحياة , و قد تم استيعاب مفهوم العبث من ملاحظة هذا الواقع و رغم مراعاة العلاقة بين الإنسان و عمل أدبي معين فقد يبرز هنا خطر من ذاتية معينة. و مع ذلك و منذ أن وجدت وظيفة الفنان فإنه يمكن القول بأن الرواية ليست سوى تأمل المضي نحو اللانهاية و على أن يفترض -ربما بأن الرواية المستحضرة في ذهنه هي-بدرجة ما- رؤية ذات دلالة لتصور الفنان و قصده . و بناء على ذلك فله مطلق الحرية بأن يسلم برؤيته من خلال خبرته الجمالية . و لحسن الحظ تتيح لنا حبكة الرواية و الفيلم استغلال تلك الحدود التي تسمح بوجود معيار مقبول للموضوعية , و يصاغ العامل الحصري عن طريق كلمات تستخدم – على سبيل المثال- الحالة التي تحاول من خلالها الشخصية أن تعبر عن ذاتها و لذلك فالقارئ -المشاهد يأمل بهذا الاتجاه أن يصبح واحدا ضمن هذا العالم "الافتراضي" للشخصيات طالما هو يحترم المكانية-الزمانية للواقع الثابت أو المتحرك للكاتب التي ستسمح لنا في التفاعل مع قصده الروائي و الممكن ساعتئذ المطابقة مع رسم الشخصية في سياق ما , فعالم غرينوي ليس عالما آخر ليس عالما آخر مرئي عبر ذاكرة قديمة تمتد خلف أفق مفقود للأرض العذراء أو خلف أقدام وأضواء مسرحية يؤديها آخرون [ ويشبه على كل حال العوالم التي يصفها كامو و مالرو, و كافكا و دوستوفسكي و ملفيل في إعمالهم]. إنه عالم الـ" أنا" و بأمل كبير ،هو عالم الـ "نحن" الذي يستنهض وضوح الرؤية للفنان التي تشمل اللحظة الراهنة بالنسبة للشخصيات الرئيسية الروائية
قامت السردية البرية في الفيلم بتشكيل موقفنا بمثال سلبي ( أي غرينوي) . كما فعل كامو في رواية السقطة و دوستويفسكي في رواية الأبله و ملفيل في رواية موبي ديك حين استعرض كل منهم ( و زوسكيند مع غرينوي) الأفعال المضادة للخلاص الإنساني ليطوروا فنيا أقصى حالات التشاؤم المتطرفة باعتبارها مرايا الأنانية الملتزمة و الاحتياج للانشباك.
لقد تعرفنا في غرينوي على الانسان بوصفه مخلوقا معزولا بدون أي توجيه في "متاهته".



#محمود_الصباغ (هاشتاغ)       Mahmoud_Al_Sabbagh#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- -تحيا الفوضى- من متاريس الكومونة إلى المولان روج
- إسماعيل فهد إسماعيل *: على سبيل الرثاء
- لماذا يقتل -المؤمن-؟
- علم الآثار التوراتي في إسرائيل : حين يغمّس إسرائيل فنكلشتين ...
- الصهيونية العمالية في فلسطين: منهج الاستيطان المحض
- فراس السواح: الموقف الفضيحة
- -أيام العجوز- و الشتاء و-المستقرضات- و-سالف العنزة-
- -متلازمة-شارلي إيبدو: نقد أم شخصنة؟
- في حضرة الانتفاضة الفسطينية الأولى
- علم الآثار الإسلامي وأصل الأمة الإسبانية.
- The Green Mile: المعجزة في غير مكانها وزمانها
- العميل السري /جوزيف كونراد : الفوضى و بروباغاندا الفعل
- هل مازال الدانوب أزرقاً في ليالي فيينّا
- -وحيد القرن- لحظةيوجين يونيسكو القلقة
- The Bridges of Madison County:ضد -الحب الرجعي-؟
- آرامياً تائهاً كان أبي: اللاتاريخ في التاريخ
- الصنايعي The Machinist : تحية إلى ديستويفسكي
- شوكولاة : نكهة اللذة و فائض الألم
- Shutter Island: الجنون كوسيلة لقهر  فوضى هذا العالم
- الأب ثاوذورس داود: الهروب أماماً نحو الماضي


المزيد.....




- الأسبوع المقبل.. الجامعة العربية تستضيف الجلسة الافتتاحية لم ...
- أرقامًا قياسية.. فيلم شباب البومب يحقق أقوى إفتتاحية لـ فيلم ...
- -جوابي متوقع-.. -المنتدى- يسأل جمال سليمان رأيه في اللهجة ال ...
- عبر -المنتدى-.. جمال سليمان مشتاق للدراما السورية ويكشف عمّا ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...
- يتصدر السينما السعودية.. موعد عرض فيلم شباب البومب 2024 وتصر ...
- -مفاعل ديمونا تعرض لإصابة-..-معاريف- تقدم رواية جديدة للهجوم ...
- منها متحف اللوفر..نظرة على المشهد الفني والثقافي المزدهر في ...
- مصر.. الفنانة غادة عبد الرازق تصدم مذيعة على الهواء: أنا مري ...
- شاهد: فيل هارب من السيرك يعرقل حركة المرور في ولاية مونتانا ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود الصباغ - عطر: قصة قاتل ينتمي الى عالم لم يعرفه أحد غيره