أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - ناصر بن رجب - قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (8)















المزيد.....


قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (8)


ناصر بن رجب

الحوار المتمدن-العدد: 6134 - 2019 / 2 / 3 - 23:18
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


1- إشكاليات عامّة في البحث في السّيرة النبويّة
إنّ الإشكال الحقيقي الذي يعترض الباحثين العرب والمسلمين في سيرة محمّد يكمن أساسا، حسب رأينا، في عدم قُدْرتهم على تناولها ضمن منظور تاريخي صارِم. فهم لم يتمكّنوا إلى غاية اليوم من التفريق بصورة واضحة وقاطعة بين وجهة النّظر التّاريخيّة السّائدة عادة في أوساط الدّراسات العلميّة، وبين وجهة النّظر التّاريخيّة التي تتبنّاها وتدافع عنها بكلّ شراسة الأوساط الدينيّة اللاّهوتيّة. وهاتان المقاربتان لهما في واقع الأمر مشروعيّتهما، ولكن شريطة أن تتنزَّلا في خانتَيْن مختلِفَتيْن وحتّى متناقضتيْن وذلك لأنّ مداخِلهما ومخارجهما، ورهانات كلّ واحدة منهما، ليست نفسها تماما. وفرزهما الواحدة عن الأخرى يجعل كلاّ منهما تكتسب وضوحا أكثر وتتمتّع باستقلالية ذاتية أوسع. فالخلط بين الأشياء لا يُفيد أبدا بخصوص المسائل الفكريّة، بل بالعكس فهو من شأنه أن يُحدِث تشويشا خطيرا في الأذهان والممارسات ويقود إلى سوء فهم وتفاهم لا تُحمَد عقباه. ويُلخِّص لنا Nicholas de Langeهذه الوضعيّة بصورة معبّرة جدّا حيث يؤكِّد أنّ: "أيّ عمل يتأرجَح بين التّقليد والعِلم يصبِح في نهاية المطاف عَمَلا لا هو بالتقليديّ ولا هو بالعِلْميّ". وهذا ينطبق على باحثينا المعاصرين بشكل خاصّ، على الأقل المحسوبين منهم على التيّار العلماني، فأنت تراهم يتأرجحون بين وِجْهَتَي النّظر هاتَين؛ بين التّعاطي مع التّاريخ بغضّ النّظر على التوجّه الديني أو الفلسفي للمؤرِّخ وبين التّعاطي مع التّاريخ بِقَلْب "مُؤمِن" مُفْعَم بالإيمان، هذا بالرّغم من أنّنا لا نجحد للمؤرِّخ أن تكون له قناعاته الخاصّة، دينيّة كانت أم فلسفيّة، أم اجتماعيّة وسياسيّة. بالتّأكيد، المؤرِّخون ليسوا خارج سياق مجتمعاتهم، إذ من الواضح جدّا أنّهم هم أيضا لهم في الغالب الأعم قضيّة يدافعون عنها ورسالة ينشدون إبلاغها للنّاس.
وهذا الواقع الذي تعيشه مجتمعاتنا بما فيها أوساط البحث العلمي يقود، كما نرى الأشياء تحدث أمام أعيننا، إلى نوع من السكيزوفرينيا الفكريّة التي لم تعد مقبولة في زمننا الرّاهن، وإلى رؤية العالم رؤية قروسطيّة تفصل، كما كان يفعل مفكّرو الإسلام في ذلك الوقت، بين "دار" الإسلام ودار "الحرب"، وبين "نحن" و"هم"، بين دار "الإيمان" ودار "الكفر"... إلخ. فعندما ينقد الباحث اليهودي اليهوديّة، والمسيحي المسيحيّة، أو الإثنتيْن معا، فلا مانع من ذلك عندهم، وإذا انتقد مُسْلم، وخاصّة شيوخ "العِلْم"، اليهوديّة والمسيحيّة فبها ونعمة؛ أمّا إذا انتقد المسيحي أو اليهودي الإسلامَ فنراهم كلّهم تقريبا يتجنّدون ضدّه من علماء مسلمين تقليديّين، سلفيّين، صوفيّين، سنّة، شيعة... أو حتّى من باحثين محسوبين على التيّار العلماني، فهؤلاء الأَخِيرين ينخرطون مع السّابقين طواعيّة وبكلّ حماسة في منظومة التّنديد بالمستشرقين "المُغْرضين"، وبالتيّار "الاستعماري الإمبريالي الجديد"، ذاهبين إلى حدّ التفريق بين "الاستشراق الغربي الحاقد" وحفيده "الاستشراق اليهودي الصّهيوني". وهم يتناسون تماما أنّ من أوائل المفكّرين الذين تجرّؤوا على رَفْع الفأس لإعطاء أولى الضّربات الموجعة للنّصوص الدينيّة، وبالخصوص نصوص العهد القديم، هو المفكِّر الهولندي باروخ سبينوزا، الذي أصدرت ضدّه الجماعة اليهوديّة، التي كان ينتمي إليها، فتوى تكفّره وتقصيه متَّهِمة إياه بالزّندقة والإلحاد؛ وما عِيب من أفكاره هو إنكاره الطبيعة الإلهيّة للبيْبل بالمعنى الحرفي للكلمة، وإنكاره لخلود الرّوح وأنّ اليهود هم "هم شعب الله المختار"، وكذلك رفضه مسألة تجسيم الذّات الإلهيّة؛ وقد أنكروا عليه مناداته بالحريّة الإنسانيّة أمام سلطة النّصوص الدينيّة المقدّسة. ولكنّ هذا الإقصاء لم يُعِر له سبينوزا أيّ اهتمام، فبالإضافة إلى كونه لم يرفع أيّ دعوى ضدّ هذا القرار، بل اعتبره مرحلة منطقيّة وضروريّة من مراحل حياته للانعتاق من نير مؤسّسة الدّيانة اليهوديّة. وقد تمّ هذا في القرن السّابع عشر، وما فعله سبينوزا سيجد له امتدادات أعمق خاصّة في القرن التّاسع عشر، مع ظهور وتطوّر المدرسة التاريخيّة النقديّة للكتاب المقدّس، حيث تهاطل وابل ضربات أسنّة المعاول والفؤوس الحادّة تهدم كلّ خرافات وأساطير النّصوص المقدّسة وتُعرّي كلّ ما احتوت عليه من خزعبلات. وقد تعرّضنا لها بعجالة في المقالات السّابقة.
فهناك إذن فرق شاسع بين "إيمان العجائز" الذي نادى به أوّلُ أَميرٍ للمؤمنين عمر بن الخطّاب، وبين مبدأ "قَبْل أن أُؤمِن لا بدّ لي أن أعرِف". ولكي أعرف يجب أن أتجرّد من الأفكار المُسبقة وكلّ ما يقدّمه التّراث والتّقليد من معارف جاهزة وقوالب فكريّة جامدة. قوالب تحجّرت عبر العصور وشُيِّدت لها أبراج من القداسة فأصبحت عابرة للأجيال وأضحت قيمتها الاخلاقيّة والإجتماعيّة والثقّافية تطغى بما لا يقاس على قيمة المواطن الفرد الذي تُسلَب منه حقوقه، حتّى أبسطها، باسم هذه المقدّسات. وهذا الفارق المِفصَلي، بين مَن يريد أن يُؤمِن "إيمانَ العجائز" وبين من يريد أن "يَعرِف" قبل كلّ شيء حتّى وإن أدّى به ذلك إلى "نُور" آخر مُغايِر يكون قد قذفه "العَقْل" في قلبه، نراه اليوم يتعمَّق بسرعة فائقة بين مُواطِن مجتمعاتنا العربيّة الإسلاميّة وبين مُواطن المجتمعات المتقدِّمة، المواطن الواعي بحقوقه في حريّة البحث والتّنقيب لكي يصل إلى الطّريق التي سيختارها هو بنفسه لينظِّم بها وفيها حياته. بخلاف المواطن عندنا الذي يستسلم تماما ليضع مصيره ومصير مجتمعه بين يدي شيوخ ورجال دين أصبحوا اليوم أكثر من أيّ وقت مضى طبقة إجتماعيّة مُنتَفِعة لها مصالحها الذّاتية خارج مصالح المواطن العادي وخارج المجتمع والوطن.
باختصار، يمكننا أن نقول بأنّ البحث في الوسط العلمي، بخصوص موضوع دراستنا هذه، هدفه الأساسي هو الإجابة على السّؤال التالي: "مَن هو محمّد في زمَنِه، وماذا كان يُمثِّل بالنّسبة لذلك الزَّمن بالذّات؟". في حين أنّ البحث في الوسط الديني اللاّهوتي من شأنه أن يُجيب على السّؤال الآتي: "مَن هو محمّد في زَمنه، وماذا يجب أن يُمثِّله في الزّمن الحاضر؟". فانعكاسات كلّ من المقاربتيْن تختلف فيما بينها اختلافا كبيرا: من جهة، المؤرِّخون في حقل البحث العلمي ليسوا مَعنيّين بتاتا بمصير أرواح النّاس وخلاصها، على عكس علماء الدّين الذين أُلقِيت على عاتقهم، ولو نظريّا، مهمّة إنقاذ البشر من عذاب الآخرة بهدايتهم إلى "الصّراط المستقيم"؛ وهي "هداية" يدفع النّاس ثمنها غاليا، في الأرض قبل السّماء؛ فهم يبيعون من أجلها أغلى ثمن ألا وهو "الإرادة الذّاتية وحرّية التّفكير" خارج نعيق الشّيوخ ووعيدهم بناكر ونكير، وعذاب القبر، وجهنّم التي "وقودها النّاس والحجارة".
آفاق وحدود البحث عن محمّد التّاريخي
من المتعارف عليه جدّا اليّوم هو أنّ المصادر المتعلّقة بمحمّد التّاريخي تسبّب إشكالات عويصة من الصّعب حلّها. فليس لدينا أيّ مصدر مباشر عن حياة محمّد خارج النّصوص المعروفة. فالآثار الأركيولوجيّة، والنّقوش أو القِطع النّقديّة التي يُفتَرض أنّها كانت موجودة زَمن حياته إمّا أنّها غير موجودة تماما أو ظلّت إلى حدّ السّاعة ممنوعة على الباحثين المختصّين. فلم يتمّ إنجاز أيّ بحث أركيولوجي لا في مكّة ولا في المدينة، ومن غير المرجّح أن يتغيّر هذا الوضع في أجل قريب. قد تقدّم الدراسات الاستقصائية في أجزاء أخرى من المملكة العربية السعودية نظرة ثاقبة على الخلفية الثقافية للجزيرة العربية في القرن السادس ميلادي، لكنها لا تحتوي على معلومات عن محمّد نفسه. أمّا النقود والنقوش التي تشتمل على محتوى إسلامي محدَّد أو تشير مباشرة إلى محمّد فهي لم تظهر إلاّ في نهاية القرن الأول هـ/ السابع م، أي بعد حوالي 50 أو 60 سنة من وفاته المُفترَضة. وعلاوة على ذلك، فإن الآثار التي تُنسب إلى محمّد، مثل أسنانه وشعره وصنادله وسيوفه وعباءته ورايته، التي يتم الاحتفاظ بها في قصر توب قبو وأماكن أخرى، تشترك في مصير فهي كباقي آثار الأنبياء والقدّيسين والأولياء الصّالحين لا يمكن اعتبارها وثائق تاريخيّة ذات مصداقيّة.
والوضع لا يختلف اختلافا جوهريّا عندما نتفحّص المصادر الادبيّة الإسلاميّة؛ إذ أنّنا لا نمتلك تقريبا أيّ مصدر أدبي كُتِب في القرن الأوّل هجريّة/السّابع ميلاديّة يحتوي على معلومات مهمّة بخصوص محمّد. والقرآن، الذي وقع تثبيت نصّوصه بعد موت محمّد بعشرين أو خمسة وعشرين عاما، فيما يعتقد غالبية العلماء المختصّين في الإسلام المبكر من المسلمين والغربّين على حدّ سواء، يمثّل استثناءً بارزا. ولكن هناك من الباحثين مَن يُنازع في هذا الرأي ويُفنِّده. على سبيل المثال لا الحصر، يزعم جون وانسبرو أن القرآن لم يصل إلى شكله النهائي إلا في القرن الثاني هـ/ الثامن م أو الثالث هـ/ التاسع م، وهو ما من شأنه أن يقلِّل من قيمته كمصدر، بعد السّيرة والحديث، لحياة محمّد. من جهة أخرى، يعتقد غونتر لولينغ وكريستوف لكسنبيرغ أن جزءًا من القرآن، على الأقل، يعود أصله إلى ما قبل الإسلام. ومع ذلك، فحتى لو قبلنا بالتأريخ التقليدي للقرآن الذي يعود إلى القرن الأول للإسلام، فإنّ النص يبقى غامضاً جداً ومفتوحاً لتفسيرات مختلفة كلّما تعلق الأمر بالإشارات المحتملة إلى محمّد الموجودة فيه. فالقرآن عادة ما يشير فقط إلى الأحداث دون أن يرويها بتفاصيلها، وهو بشكل عام لا يذكر أسماء الأشخاص أو الأماكن. فلم يذكر محمّد نفسه إلاّ خمس مرات بالاسم، ويمكن تفسير العديد من الآيات التي عادة ما يتمّ تفسيرها على ضوء حياة محمّد، على أنّها يمكن أن تُشير إلى شخص مّا غير محدّد الهويّة أو إلى أيّ شيء آخر لا يمتّ لحياة محمّد بأيّة صلة. باختصار شديد، يجب أن نعتبر بإن القرآن وحده لا يمكن أن يُستخدم إلا قليلا في إعادة بناء حياة محمّد وسيرته.
أمّا المصادر الأدبيّة غير الإسلاميّة فلا تُسعِفنا هي الأخرى في شيء. هناك منها بعض المصادر التي تشير إلى بدايات الإسلام قبل ظهور المصادر الإسلاميّة، غير أنّها مع ذلك لا تشتمل على مادّة مهمّة تتعلّق بشكل خاصّ بحياة محمّد. كما أنّها في العديد من الحالات تكون هي أيضا قابلة لشتّى التأويلات. أخيرا، نُشير إلى أنّه لا يوجد أيّ مصدر خارج المصادر الإسلاميّة من شأنه أن يُسلِّط الضّوء على السّياق الاجتماعي، والسّياسي أو الرّوحي لمنطقة الحجاز في الفترة التي وقعت فيها هذه الأحداث، وبالتّالي يُوفّر لنا سياقا نستطيع من خلاله تقييم المعلومات الواردة عن محمّد.
وبسبب كلّ هذا، فإنّنا نجد أنفسنا مُجبَرين إلى حدّ كبير، عندما نريد أن نقدّم تفاصيل جوهريّة حول حياة محمّد، على اللّجوء إلى المصادر الأدبيّة الإسلاميّة. هذه المصادر، كما هو معروف للقاصي والدّاني، يعود تدوينها على اقلّ تقدير إلى القرن الثّاني هجريّة/الثّامن ميلاديّة، أي ما لا يقّل عن 150 إلى 250 سنة بعد وقوع الأحداث التي ترويها. وقد وُضِعت هذه المصادر موضع شكّ في نهاية القرن التّاسع عشر وبداية القرن العشرين ثمّ تطوّر الشّك في مصداقيّة هذه المصادر وتعمّق بدايةً من سبعينات القرن الماضي. ولم يقتصر هذا النّقد على بعض الأحاديث الآحاد المطعون فيها أصلا بل شمل جميع موادّ المأثور الإسلامي برمّته. ولذلك فقد وقع الطّعن في الرّواية التقليديّة لأصول بدايات الإسلام كما ترويها المصادر الإسلاميّة ووقع اعتبارها مُتحيِّزَة وقليلة المصداقيّة. وقد بلغ هذا التيّار النقدي الحادّ ذُروَته عندما ذهب إلى حدّ التّأكيد على أنّ محمّد لم يوجَد كشخصيّة تاريخيّة، وكلّ ما نفتَرِض معرفتَه عنه ليس إلاّ اسقاطات كُتّاب القرنيْن الثّاني والثّالث هجريّة، الثّامن والتّاسع ميلاديّة.
بناء على كلّ ما تقدّم، تظهر لنا بجلاء إشكاليّة الإعتماد على المصادر الأدبيّة الإسلاميّة واستخدامها كمادّة تاريخيّة لحياة محمّد. فهي ليست مجرّد روايات عن سيرته إذ أظهرت دراسات عدّة إلى أيّ درجة أثّرت حوافِز شتّى واهتمامات مختلفة على مرّ العصور في صياغة هذه السّيرة وتوجيهها.
هناك خمس حجج رئيسيّة تدفعنا إلى عدم الوثوق وثوقا تامّا بالمصادر الإسلاميّة:
1- الرّوايات الإسلاميّة حول سيرة محمّد لم تُدوَّن في مصادر مكتوبة إلاّ بعد مائة وخمسين عاما على تاريخ وفاته المُفتَرَض. وهذه الأخبار لا تُسندها مصادر غير إسلاميّة ولا تؤكِّدها اكتشافات أركيولوجيّة،
2- بعض الأخبار أوحت بها على ما يبدو آيات قرآنيّة. ولذلك فهي لا تشكِّل مصادر مستقلَّة ولكن مجرّد محاولات لتفسير الآيات القرآنيّة وتنزيلها في سياق مُعيَّن،
3- بعض الأخبار والرّوايات تظهر فيها أغراض وتوجّهات ثانويّة واضحة التي تعكس جدالات سياسيّة، كلاميّة أو فقهيّة لاحقة،
4- الرّوايات التي بحوزتنا يغلب عليها غالبا التّناقض. فهي تحتوي على معلومات متضاربة لا يمكن التّوفيق بينها لا من حيث الزّمان، ولا الأشخاص الفاعلين فيها، ولا سير الأحداث داخلها،
5- لا يمكن اعتبار الحافز الذي يقف وراء صُنّاع هذه الأخبار وناقِليها حافزا تاريخيّا محضا. عوضا عن ذلك، يجب أن نفترض أنّ غايتهم كانت أوّلا وقبل كلّ شيء تقديم سيرة محمّد بمثابة تاريخِ خلاص لمَنْح سِياقٍ للنّص القرآني، أو دعم بعض الأحكام الشّرعيّة برفعها إلى محمّد من خلال الأحاديث المنسوبة إليه، أو تزكيّة بعض الأشخاص ذوي مكانة خاصّة بالتّشديد على دورهم صُحْبة محمّد...إلخ. ولهذا السّبب، فإنّ هذه الأخبار لم تقع إعادة صياغتها أو تحريفها من خلال الأغراض الثّانويّة التي ظهرت لاحقا زمن الخلافة، ولكن لأنّها لم تكن قد هدفت يوما مّا إلى تقديم سيرة محمّد تقديما موضوعيّا.
هذه الحُجج يتّفق معها على العموم مختصّون أقلّ تشكيكا في المأثور الإسلامي، ولكنّ من خلال منظور مختَلف: فإذا كانت بعض الأحاديث والأخبار يبدو فيها بوضوح أنّها تَخْدِم أغراضا ثانويّة فإنّ هذا لا يعني بالضّرورة أنّ هذا ينسحب على كلّ الأحاديث والأخبار برمّتها.
وإذا كانت الرّوايات عن سيرة محمّد لم يقع تدوينها في مصادر مكتوبة إلاّ بعد أكثر من 150 سنة على وفاته، فإنّ هذا لا يُلْغي إمكانيّة أن تكون هذه الرّوايات قد وقع تناقُلُها بدقّة وأمانة بين الزّمن الذي تمّ فيه الحَدث وبين زمن تدوينه في هذه المصادر. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ عدم توفُّر مصادر معاصِرة للحدث لا يَنْتُج عنه استحالة تقديم إفادات ومعلومات عن تاريخيّة ذلك الحدث.
علاوة على الاختلافات في تناول الوقائع، هناك حجّة هامّة كانت قد قدِّمت ضدّ النّظرة التشكيكيّة: الأخبار المتعلِّقة بسيرة محمّد، بالرّغم من وجود العديد من التناقضات في الجزئيّات، هي بالأحرى أخبار مُنسجِمة بشأن الملامح الرّئيسّة والشّكل العامّ للأحداث: مثلا، لا نجد أيّ خَبر أو حديث يُشير إلى أنّ محمّد وُلِد خارج مكّة، أو أنّه لا وجود لأيّ أثر لوقوع الهجرة، أو أنّ الأحداث وقعت في منطقة أخرى أو في حقبة زمنيّة أخرى. وإذا سلّمنا بأن الجماعة الإسلاميّة كانت قد تشقّقت صفوفها باكرا وانقسمت إلى عدّة فرق ومذاهب واضطرّت إلى مواجهة فِتَن داخليّة كُبْرى بسبب اختلافات الرّؤى بين هذه الفِرق والمذاهب، فإنّه من الصّعب عليها أن تكون، بالرّغم من ذلك، قد استطاعت أن تَجمَع كلمتها على تاريخ وهميّ مشترك يتعلّق بأصولها. كما أنّه من الصّعب تَصوُّر أنّ سلطة مركزيّة كان بإمكانها أن تفرِض رؤية أُحاديّة بهذه الدّرجة لهذا التّاريخ وأن تحذف وتُقصي كلّ تضارب بين الأحاديث والأخبار.
ولكن، بالرّغم من أنّ هذه الحجة مقنعة، إلا أنها تقودنا إلى استنتاجٍ مفاده أن روايات المسلمين عن حياة محمد لا يمكن أن تكون خيالية بالكامل ولكنّها تحتوي حتما على نواة أصليّة. ولكنّ النقاش لا يزال مفتوحًا حول طبيعة هذه النواة الأصلية. بعبارة أخرى: حتى لو قبلنا بأن الأخبار والرّوايات عن حياة محمد ليست كلّها مزورة، فإنّنا ما زلنا لا نملك مأثورا واحدًا يمكن أن نعتَبِره تاريخيًا.
وقد دفع هذا الوضع بعض الباحثين إلى استبعاد مسألة تاريخية الرّوايات أو أصالتها من أبحاثهم؛ وبدلاً من ذلك قاموا بالتركيز على دراسة التقاليد الإسلامية المتعلقة بمحمّد. هذا النهج له ميزة أيضًا، إذ يتجنَّب التعرض لتحفظات إيديولوجية محتملة وإثارتها. في حين يسعى علماء آخرون للتَّغلب على الصعوبات التي تعترضهم بخصوص المصادر وذلك بفتح مسارات منهجية جديدة في بحثهم عن محمّد التاريخي.
من المؤكّد أنّ إمكانيّة اكتشافَ مصادر جديدة، أركيوجيّة كانت أم وثائق قديمة جدّا، أم نقوش أو ما شابه ذلك، من شأنها أن توفِّر لنا معطيات جديدة عن حياة محمّد. بالمقابل، ما يظلّ محور جدال هو معرفة ما إذا كان في مقدور المصادر المتاحة اليوم أن تسمَح لنا بالحصول على المزيد من المعلومات بخصوص محمّد التّاريخي.
(يتبع)
______________
مراجع
لقد اعتمدنا في هذا المقال على عدّة مصادر عربيّة وأجنبيّة. المصادر العربيّة تتمثّل في المؤلّفات التّراثيّة فحسب، لأننا، ونقولها بكلّ مرارة وأسى وحصرة، لم نعثر إلى اليوم على دراسة نقديّة باللّغة العربيّة تتناول السّيرة النبويّة، حتّى البحوث التي تُرْجِمت إلى العربيّة بهذا الصّدد من لغات أخرى كالإنجليزيّة والألمانيّة مثلا وقع اختيارها من بين تلك الدّراسات "النّاعمة" « soft » التي تصدر في الغرب والتي لا تُحْرِج أحدا؛ والغاية من هذه التّرجمات أوّلا وأخيرا، في أغلب الأحيان، هو نَيْل جائزة قيّمة في "ميدان التّرجمة" يقدّمها أمير من أمراء الخليج، وهي كثيرة في أيامنا هذه ويُهروِل لها كلّ عام كُتّاب، ومترجِمون، وناشِرون حتّى أولئك المحسوبين على التيّار العلماني التّقدّمي. ولهذا كانت مادّتنا الأساسيّة بعض المقالات الأجنبيّة التي ترجمناها في أجزاء منها، ولخّصنا منها في أجزاء أخرى واجتهدنا من عندنا عندما وجدنا إلى ذلك سبيلا:
Andreas Görke, Prospects and-limit-s in the study of the historical Muhammad, 2011.
هذا النّص الذي ترجمنا منه أجزاء في هذا المقال سنواصل لأهمّيته ترجمة مقاطع أخرى منه في المقالات اللاّحقة.
Simon C. Mimouni, Jésus de Nazareth et l’histoire, in Recherches de science religieuse n° 99 (2011).
Francis E. Peters, “The quest of the historical Muhammad”, International journal of Middle Eastern studies, vol. 23, no. 3, 1991.
Ibn Warraq, The quest for the historical Muhammad, Amherst, 2000,
Harald Motzki (ed.), The biography of Muḥammad: The issue of the sources, Leiden, 2000.
Gregor Schoeler, Foundations for a New Biography of Muhammad: The Production and Evaluation of the Corpus of Traditions according to Urwah b. al-Zubayr, in Method and theory in the study of Islamic origins, Herbert Berg (ed), Brill, 2003.



#ناصر_بن_رجب (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (7)
- قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (6)
- قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (5)
- قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (4)
- قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (3)
- قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (2)
- قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (1)
- سورة الفيل والتّفسير المستحيل!
- مَكّابِيُّون وليسَ مكّة: الخلفيّة التوراتيّة لسورة الفيل(2)
- مَكّابِيُّون وليسَ مكّة: الخلفيّة التوراتيّة لسورة الفيل(1)
- سورة الفاتحة: هل هي مدخَل شعائري لصلاة الجَماعة؟ (2)
- سورة الفاتحة: هل هي مدخَل شعائري لصلاة الجَماعة؟ (1)
- لماذا وكيف يصبح النّص مُقدَّسًا؟ (خاتمة)
- لماذا وكيف يصبح النّص مُقدَّسًا؟ (6)
- لماذا وكيف يصبح النّص مُقدَّسًا؟ (5)
- لماذا وكيف يصبح النّص مُقدَّسًا؟ (4)
- لماذا وكيف يصبح النّص مُقدَّسًا؟ (3)
- لماذا وكيف يصبح النّص مُقدَّسًا؟ (2) بعض الأفكار حول تاريخ ا ...
- لماذا وكيف يصبح النَّص مُقدَّسًا؟ (1)
- المُطَّلِب: إِلَهٌ في نَسَب مُحمَّد (3)


المزيد.....




- “العيال الفرحة مش سايعاهم” .. تردد قناة طيور الجنة الجديد بج ...
- الأوقاف الإسلامية في فلسطين: 219 مستوطنا اقتحموا المسجد الأق ...
- أول أيام -الفصح اليهودي-.. القدس ثكنة عسكرية ومستوطنون يقتحم ...
- رغم تملقها اللوبي اليهودي.. رئيسة جامعة كولومبيا مطالبة بالا ...
- مستوطنون يقتحمون باحات الأقصى بأول أيام عيد الفصح اليهودي
- مصادر فلسطينية: مستعمرون يقتحمون المسجد الأقصى في أول أيام ع ...
- ماذا نعرف عن كتيبة نيتسح يهودا العسكرية الإسرائيلية المُهددة ...
- تهريب بالأكياس.. محاولات محمومة لذبح -قربان الفصح- اليهودي ب ...
- ماما جابت بيبي أجمل أغاني قناة طيور الجنة اضبطها الآن على تر ...
- اسلامي: المراكز النووية في البلاد محصنة امنيا مائة بالمائة


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - ناصر بن رجب - قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (8)