أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - سعيد مضيه - التخلف العربي أعراضه ومصادره















المزيد.....


التخلف العربي أعراضه ومصادره


سعيد مضيه

الحوار المتمدن-العدد: 6131 - 2019 / 1 / 31 - 15:14
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


.

التخلف العربي.. أعراضه ومصادره
تمضي المقاومة الشعبية في فلسطين المحتلة بقوة دفع عاجزة عن اكتساب طاقة ردع لممارسات الاحتلال الإسرائيلي، وأبرز مظاهر ضعف المقاومة محدودية المشاركة الجماهيرية؛ غير أن استنكاف الجماهير عن المشاركة الفعالة في مقاومة ممارسات الاحتلال، من الخطأ رده لعدم التعاطف؛ مصدر عزوف الجماهير انعدام الثقة بالذات. الجمهور الغفير فاقد الثقة بالقدرة الذاتية على تغيير مسار الأحداث. إنه تبخيس الذات، العاهة الاجتماعية المتجذرة منذ العصور القديمة وتحظى بالرعاية . يتجلى عرَض التبخيس الذاتي في ما يتردد عفو الخاطر على الألسنة، تحقيرا للجماعة أو للعنصر العربي أو الإسلامي. وقد أطلق الرفيق الراحل إميل توما على الظاهرة لطم الخدود وشق الجيوب؛ وأطلق عليها الدكتور مصطفى حجازي "الهدر"، هدر إنسانية الفرد أو الجماعة أو الشعب بأكمله. ويطلق عليها أيضا مفهوم "الاستلاب". وعندما يتقبل المجتمع واقع الهدر قدراً، فذلك مؤشر على تغلب نزوة الموت على نزوة الحياة؛ ويغدو ترميم المجتمع ضرورة ملحة. وأخطر جرائم الاستبداد الشائع في العلاقات الاجتماعية هدر الطاقة الحيوية لدى الجموع، بحيث يتقبل الضحية ما يلاقيه من اضطهاد وتجاهل قدرا لا فكاك منه. الهدر الخارجي لا يقيض له النجاح التام إلا بمقدار ما يتحول إلى قوى هدر داخلية ذاتية.
تمت مقاربة الثمار المرة للاستبداد السياسي من قبل ثلاثة باحثين عرب استشرفوا كشف العوائق المعطلة لحيوية المجتمعات العربية، والحافظة لقيم التخلف المادية والروحية . ومن المؤسف أن ثمار جهودهم الفكرية والبحثية، والتي تضع الإصبع على الجرح النازف، بقيت مجهولة لدى الفصائل السياسية والمثقفين الوطنيين، على نطاق واسع ؛ فقد نتائج الدراسات لمؤامرة صمت؛ واثناء صدور الكتب كانت قوى السياسة والثقافة تغط في سبات. بات من الواجب نفض الغبار عنها ووضعها بمتناول القوى المتطلعة للخلاص من إرث العصر الوسيط والارتقاء الى مستوى الحضارة المعاصرة.
في الدراسة الاجتماعية " البنية الأبوية إشكالية التخلف في المجتمع العربي"[ مركز دراسات الوحدة العربية –بيروت 1992] يقارب الباحث الراحل ، الدكتور هشام شرابي، ظاهرة الاستلاب والهدر من زاوية اجتماعية تاريخية ؛ لكنه يضع الإصبع على علة الهدر الاجتماعي . هدف شرابي من دراساته إلى الكشف عن أسباب انتكاسات النضالات في المجتمعات العربية، وكيفية تجاوز العجز في المواجهة . "التخلف هنا ليس تخلفاً اقتصادياً أو إدارياً أو إنمائياً ، بل إنه كامن في أعماق المجتمع العربي لا يغيب لحظة واحدة ، بل إنه يقبله ويتعايش معه ، ويتخذ هذا التخلف صفتين متلازمتين هما : اللاعقلانية والعجز ، الأولى تتجلى في عدم القدرة على التدبير أو الممارسة ، والثانية في عجزه عن التوصل إلى الأهداف التي يرنو إليها". وإلى ذلك يعزو الانكسارات والهزائم وفشل مشاريع التنمية. ومن ثم "فمصير المجتمع العربي متوقف على مقدرته في التغلب على نظامه الأبوي واستبداله بمجتمع حديث".
فما الذي عناه شرابي بالنظام الأبوي في المجتمع العربي؟ في الفصل الثاني من كتابه يوضح السمات الأساس للمجتمع الأبوي: علاقات اجتماعية مركزية للتشكل الاجتماعي السابق للراسمالية. السلطة الأبوية ، كما لاحظها الباحث في مؤلف سابق، "مقدمات لدراسة المجتمع العربي"عام 1973، ليست سوى "افراز مجتمع بطريركي يقوم على علاقات القوة، حيث على العنصر الأضعف، أي الاولاد والنساء والمهمشين أن يتقيدوا بالقوانين القائمة التي لا تقبل بتميز الأفراد واستقلالية إرادتهم. فالجماعي يغلب على الفردي، الذي يطلب منه ان يختفي، بهدف تمتين الرابطة الاجتماعية".... وفي مقدمة لطبعة الكتاب نشرت العام 1994 روى المفكر الراحل كيف ارتبط بالماركسية منهجا لمقاربة القضايا الاجتماعية.
قيم شرابي في مؤلفه الأخير بعداً ضمن النظام الأبوي هو التحديث الذي نجم عن احتكاك العرب بالحداثة الأوروبية. "لم تتحول المجتمعات العربية إلى رأسمالية مكتملة، ولم تبق على تراكيب كانت متماسكة وتحافظ علي انسجام الحياة؛ غدت المجتمعات العربية هجينة تخلت عن التقليدي وقعدت عن إيجاد البدائل. لذلك لا يمكن قراءة المجتمع الأبوي العربي إلا وفق رؤية التبعية والأبوية. ادى تغلغل الرأسمالية في الاقتصاد العربي الى نشوء رأسمالية تبعية ومزيفة. لم تظهر طبقة برجوازية ناضجة ، ولا طبقة عاملة أصيلة".
يمارس الاستبدادَ على صعيد المجتمع بأسره في العصر الحديث أنظمةُ الحكم والعصبيات ( قبلية، عشائرية طائفية، إقليمية او دينية) وكذلك الأصوليات. السيطرة الكولنيالية طورت النظم الأبوية وشحنتها بحداثة مزيفة فغدت أنظمة محدّثة استعصت على التقدم وساست الأمور باللاعقلانية والعجز. عطلت الكولنيالية عملية القطع مع نظم العصر الوسيط وعلاقاتها الاجتماعية ونماذج اقتصادها وقيمها وثقافتها، وقدمت الدعم غير المحدود لأنظمة التخلف ، الأنظمة الأبوية. علاوة على جرائم الإبادة وقمع الإرادات الوطنية خلقت السيطرة الكولنيالية الظروف لتواصل ثقافة الاستبداد للعصور الوسطى بمكوناتها الكاملة، في الحياة الاجتماعية المعاصرة ومكنتها من الهيمنة على الثقافة القومية المعاصرة. وضمن الإطار نفسه احتفظ بمشروعيته تأويل فقهاء الاستبداد في العصر الوسيط لتعاليم الدين ومبادئه. إن الأثر الذي يتركه الاستبداد ونظام الهدر الإنساني لا يزول بزوال الاستبداد؛ بل تبقى رسوبات تفعل بصورة سلبية في نفوس البشر. الإنسان يبتلع علاقات الاستبداد وعلاقات الهدر وحين تترسخ في بنية الشخصية تستعصي على التجاوز التلقائي وتعيد توليد ذاتها . حينئذ يلجأ الفرد او المجموع الى ديناميات دفاعية تحفظ التوازن مستمدة من نظام القهر والهدر ذاته؛ فتتعقد ، من ثم المظاهر المرَضية في المجتمع ، كما يقول الكاتب.
وشخّص الباحث في الدراسات الإسلامية، نصر حامد ابوزيد، نفس العلة لدى محاولة رصد أعراض التخلف في دراساته ، نورد منها تصنيفه لمبدأ الحاكمية في الفقه الأشعري، في مؤلفه "النّص السّلطة، الحقيقة الفكر الدينيّ بين إرادة المعرفة وإرادة الهيمنة" [المركز الثقافيّ العربيّ، ط2 - 1997 ، ص143، 144] ، فيورد نفس الخصائص لمجتمع الهدر:
"لمبدأ الحاكميّة (المفهوم الديني للبنية الأبوية)، النّاتج عن قراءة تأويلية مغرضة للنصوص، امتداداته الضّارة جدا في بنية الوعي على جميع المستويات الاجتماعية والسياسيّة والفكريّة على حدّ سواء. إنّه باختصار يساهم – إلى جانب أجهزة القمع من الشرطة والجيش والتعليم والإعلام – في ترسيخ بنية وعي المواطن المذعن الخاضع المطيع، ويساهم من ثمّ في تثبيت الواقع المحقّق لمصالح طبقية حادّة" .
ويضيف بعد بضعة سطور، "خطر الحاكميّة لا ينحصر على مستوى الدّلالة السياسيّة، بل يمتدّ عميقا في بنية الوعي الاجتماعي، فيصبح مبدأ حاكما لكلّ المؤسسات الاجتماعيّة بدءًا من الأسرة، فتتركّز الحاكميّة في يد الذّكر في علاقته بالأنثى، وفي يد الأب في علاقته بالأبناء، والأكبر في علاقته بالأصغر، والرّئيس بالمرؤوس. ويتحوّل الأمر إلى كارثة حين نرى للمبدأ حضورا في المؤسسات الفكريّة والعلميّة، فتتحوّل المؤسسة الدينيّة – الأزهر- إلى حَكَم في شئون الفكر والإبداع الفنيّ والأدبيّ. إنّ وجود جهاز للرقابة على الكتاب والمصنّفات الفنية والأدبية كارثة في حد ذاته، فما بالنا حين يسيطر على هذا الجهاز المؤسسة الدينية، فتصادر الكتب وتتدخل بالحكم على بعض الإنتاج الفني".
أما مصطفى حجازي فيرصد في كتابه "الإنسان المهدور" [الطبعة الثانية -بيروت 2006 المركز الثقافي العربي] ظاهرة الهدر الاجتماعي عبر تتالي القرون "عطلت سياسات الاستبداد الطاقة الذهنية وكل الطاقات الحيوية في الفرد والجماعة عن الفعل، واحلّت البلادة والخضوع. هدرت التفكير والإرادة لدى الأغلبية الساحقة من الجماهير الشعبية. قوضت نظم الاستبداد الأبوية إنسانية البشر وهدرت طاقتهم الحيوية الإبداعية".
كل منا نال نصيبه من الهدر ، وإن اختلفت مرجعياته ودرجاته وألوانه والإحساس بآثاره. ومن لا يتذكر الهدر في حياته كأن يشب في بيت ثراء أو وجاهة ، فلا بد ان التربية البيتية شابها الهدر وتركت ندبا نفسية لا يحس بها المرء، عقد نفسية لا يعيها المرء او يعي تجلياتها معتبرا إياها حالة طبيعية، لكنها من اخطر إفرازات الهدر في الحياة الاجتماعية العربية.
دراسة الدكتور مصطفى حجازي، " الإنسان المهدور" طورت دراسة سبقت بعنوان "التخلف الاجتماعي سيكولوجية الإنسان المقهور". قادته مطالعاته إلى ان الإنسان العربي كابد ما هو أشد وطأة من القهر, فالمقهور يحتفظ بمداركه ، يعي قهره، حرمانا من ممارسة بعض الحقوق؛ اما المهدور فلا يعي مأساته ويستنزف طاقاته الحيوية في التخفف من وطأتها دون التخلص منها. الكتاب يحتفظ بأهمية استثنائية لكل مشتغل بالسياسة؛ فهو دليل المناضل السياسي في التعرف على الحالة النفسية للجمهور كما اوصى لينين مرارا وطبق في أبحاثه السياسية والنظرية. مجال علم النفس الاجتماعي رشد النضال التحرري ويساعد في تحكم الإنسان بمصيره ، الى جانب تنوير قضايا التنمية الاجتماعية ؛ إذ لا تنمية اجتماعية إلا بمقدار ما تتسع خيارات الإنسان في امتلاك زمام مصيره تسييرا او توجيها او صناعة مصيره، من خلال بناء قدراته الذاتية وتمكينه الكياني، بحيث يرتقي الى نوعية تحقق كامل إنسانيته، أ ويمارس ديمقراطية حقة.
ومن اولى شروط التمكين والاقتدار على مستوى الكفاءات والخيارات معرفة هذا الإنسان ذاته في خصوصية ظروفه التاريخية والثقافية والسياسية والاجتماعية .
تندرج كلتا الدراستين ضمن مشروع توظيف علم النفس في خدمة قضايا التنمية البشرية، الشرط الأساس للتنمية الاجتماعية، بدءًا بمعرفة خصائص وديناميات الإنسان العربي.
يهيب الدكتور مصطفى حجازي بعلماء النفس والباحثين إلى رفع اهتماماتهم وتوسيعها من معالجة مرض فرد واحد الى معالجة مجتمع بأسره. في كتابه الثاني يشهّر بنظام مربوط بالعصور القديمة، ينزع عن الجموع الشعبية إنسانيتها، ويتعامل معها كأشياء بدون حقوق إنسانية.
الكتاب يتألف من تسعة فصول ، الفصل الثامن مرآة نشاهد فيها حقيقتنا بدون رتوش. "الديناميات الدفاعية للإنسان المهدور"، تعرض الفرد والمجموع في مأزقهم، يسعون للتعايش مع الاستبداد السياسي وما يتركه من هدر اجتماعي بالاتكاء على عناصر الهدر في الحياة الاجتماعية، فيفاقمون ضررها ويعززون وجودها . يتم اللجوء الى "آليات دفاعية تحفظ التوازن النفسي وتجعل الحياة قابلة لأن تحتمل وتخفي الخسارة التي تلحق بكيان الإنسان المهدور وفكره ووعيه وطاقاته الحية" (279).تقوم السلطة من خلال إعلامها بتزييف الوعي، إذ تلفق مظاهر اعتزاز وطني زائفة تقلب القيم وتزيف اللغة وتروج أوهام العيش في رغد موهوم في عهد المستبد، حيث لا يمت شيء للواقع المعاش. تشاع ثقافة القطيع تبث الأوهام، وتتحول المعاهد التعليمية الى دور حضانة او معسكر اعتقال.
بيئة الهدر احتقان نفسي يمور بالغضب والثورة والتمرد المصاحبة للجرح النرجسي وفقدان ا لاعتبار والقيمة. تضمحل نزوة الحياة وتتنامى نزوة الموت (285. الهدر حقل ألغام قابلة للتفجير عند الاحتكاك يحمل دلالة الخسارة الكيانية(286). يرصد الباحث تركم عوامل السخط التي قد تتمرد على الحكمة السياسة وتنحاز للمغامرين دعاة التطرف الدمويين. نشر الكتاب عام 2006 ، قبل تشكل ظاهرة الإرهاب التكفيري.
الهدر وفخ الاكتئاب الوجودي
يقترن الهدر بمشاعر الغضب والعنف والانشطار النفسي، يسفر عن تغيرات نفسية وسلوكية ومعرفية وانفعالية وجسدية، تشمل نظام التفكير والأفكار الانتحارية ، ولوم الذات وصعوبة التركيز. العطالة النفسية تتمثل في صعوبة المبادرة والقيام بالأنشطة الحياتية المختلفة حيث تبدو أبسط المهام أعباء كبيرة وثقيلة (287). الاكتئاب الوجودي احساس بالمسئولية الذاتية عن فشل تحقيق مشروع الوجود وتبخيس الذات وانعدام القيمة والجدارة (288). تعطل الطاقات والامكانات وتوظيفها . ينشأ الاكتئاب عن صدمة نفسية او رد فعل لحدث مفجع.
الهدر والغضب والعنف والاكتئاب وجه آخر للغضب الشديد المكتوم المرتد على الذات مصحوبا بأمراض جسدية – نفسية مثل ضغط الدم وقرحة المعدة والسكري نتيجة التوترات (292). أحيانا يغري بالرضوخ والاستسلام أو التبلد وإلغاء الأحاسيس المؤلمة ، وأحيانا أخرى يتخذ طابع الكمون التكتيكي لحين زوال الخطر (293). ليست سلوكات الرضوخ والغضب والتبلد والهروب والاكتئاب سوى إعادة إنتاج الهدر وتكريسه بفعل الاستجابات الذاتية ، ليغدو هدرا مضاعفا يحول الإنسان المهدور الى اداة هدره الذاتي وإلى حليف لقوى الهدر الخارجية ضد كيانه (294). يتجلى هذا في شتم الذات القومية والحط من الانتماء العرقي أو الطائفي العصبي. لا يجوز الانخداع بالسكون الظاهري لدي الشعوب المقهورة؛ فالرضوخ ليس سوى قناع دفاعي وليس حالة أصيلة . انفجار طاقة الحياة المتحولة الى غضب يغلي يتخذ طابع العنف الكاسح المباغت.
قد يتسرب العنف الى مسارب جانبية من خلال اواليات الإزاحة والإبدال المعروفة في التحليل النفسي، فتحدث التوتر وسرعة الاستثارة والانفعالية ؛ تفتعل الأزمات والصراعات والنزاعات وتضخمها ، او تنفس الإحباط الذاتي عدوانا على الأضعف ، تفشي سلوكيات التخريب والتعدي على الممتلكات العامة والخاصة ظواهر التطرف والفاشية التقليدية تطلق نزوة الموت.
الهدر يعطل الحوار ، ومعه يتهاوى النظام الرمزي المصاحب لإفلاس اللغة بما هي اداة التعبير عن الذات او الجماعة وعن حقها في الاعتراف بالقيمة والوجود(295). تنهار اللغة ويتفجر العنف .الهدر ينتج العنف بالضرورة.
الهدر والانشطار الذاتي
ينجم عن الهدر انفصام بين صورة للذات مقبولة اجتماعيا واخرى مخفية تخص العالم الذاتي الداخلي وما فيه من رغبات وأزمات وصراعات وقلق واحتقانات يتعذر الإعلان عنها لا والتصريح بها لأنها تورط المكانة الاجتماعية وتهددها (296). احيانا توظف عاطفيا ما بين الحب والحقد، لتفكك وحدة الفكر والعاطفة والسلوك . ومن هذا التفكك اتخذ المرض العقلي تسميته بالأصل. بالنتيجة تتشكل نماذج اربعة للذات: علنية مقبولة اجتماعيا ، وسرية مكتومة عن الجميع ومخفية، يتكتم عليها الشخص حفاظا على لياقة مظهره، وجانب أعمى من الذات لا ينتبه اليه الشخص لكنه ظاهر للآخرين، وعادة ما يلفت الأصدقاء نظر الشخص إليه حفاظا على مكانته الاجتماعية. والنموذج الرابع للذات مجهول للذات وللآخرين ، عبارة عن اللاوعي يتجلى في الاختبارات الإسقاطية او الأحلام وسواها من منتجات اللاوعي(298). هدر الطاقات الحيوية يخلق الثقوب في الكيان . الحاضر مأزوم بالانفعالات المفضية الى الانهيار او الانفجار ، والعيش خارج الوجود الذي يعجز عن مجابهته والتعايش معه .خواء وجودي وفراغ القيمة الاعتبارية.
آليات الدفاع ضد الهدر
لتوفير حد مقبول من التوازن والاستمرار الوجودي تبذل محاولة لترميم الواقع الذاتي واستعارة قيمة بديلة توفر التوازن المطلوب(300). تتمثل المحاولات في حلول تسكينية تعويضية:
آليات تحمي من القلق العصابي عادة إلا أنها تبقي على القوى المكبوتة (النوازع ، والنزاعات والصراعات) المولدة للاضطرابات. هي نمط من الدفاعات السلبية تجنب الأذى وتحمي لكنها لا تعالج(301)، تستنزف الطاقات الحيوية في الدفاع بدل البناء والنماء الكياني، وقد تسقط الهدر على الآخرين الأشد بؤسا أو تنخرط في تدمير الممتلكات وشغب الملاعب. يتخذ التبلد الإدراكي الناجم عن معاناة العصاب خمس طبقات مرَضية:
*احاديث خالية من المعنى عبارة عن مجاملات ومشاركات في كلام يدور عن الأوضاع العامة ،
*أدوار وألعاب اجتماعية مهينة تستبعد التواصل مع الذات الحميمة او التواصل المليء مع الآخرين،
*طبقة المازق دفاعات عصابية معروفة وصراع وقلق واضطرابات تهدر الطاقة النفسية،
* موت وجودي أو انهيار داخلي، ذعر من العالم الداخلي، تبلد وموت وجودي،
* الطبقة الأعمق عبارة عن طاقات حية وثابة طامحة للنماء والتوسع ، تمثل الجانب الأصيل في الذات والتحرر من كل الأقنعة وسقوطها . تتحرر الطاقات الحيوية وتدخل في وفاق ووئام كيانيين.
آليات دفاع جماعية
الهدر يبحث عن تعويض في البيئة المحيطة يمضي في مسارات عدة:
1-الاحتماء بالماضي هربا من الواقع المعاش، ومن العجز الوجودي بانتظار الخلاص وتعطيل الفعل . تهب المسلسلات التلفزيونية يتفنن الكتاب والمخرجون فيها في إيراد الماضي المجيد وإبرازه(303). توفر للجماهير الغذاء الروحي المعوض،
2-الاحتماء بالقدرية والاستسلام للمصير العاجز عن الفعل،
3- كلام برسم التمويه وملء الخواء الكياني ، ثرثرة تمنح وهم القيمة والمكانة والقدرة تستر بؤس الذات، كلام فاضي من الدلالات الوجدانية او الوجودية.
4-كلام مبهم يزيد اللغة عقما وينحسر نطاق الدلالة، تغدو اللغة أداة تزوير الواقع الوجودي .
5-القلب الى الضد، التشاطر، ادعاءات مبالغ فيها، إيهام بالقدرة الخارقة والاعتداد بالقدرات والامكانات، صخب الحوار، هنا ينفي الواحد قصوره وعجزه وهدره، مقنّعا بقناع زائف من القدرة والدراية والمهارة. آلية القلب الى الضد هذه تعود فتنتج الهدر لأنها مجرد استعراض وسائل القوة والمقدرة على المواجهة والفعل بدون امتلاك مقوماتها (306).
6- التقرب من الوجهاء وعلية القوم ذوي السلطة والنفوذ، ليس بقصد التكسب بل لمجرد التباهي.مخالطة اجواء النخب والإحاطة بمظاهرها املا في كسب مكانة ذاتية وقيمة واعتبار مقتبسين ومصطنعين غير أصيلين(307).
7-الإدمان على الكحول والمخدرات يقلب الخواء امتلاءًا، والبؤس نعيما . علاج الإدمان ردم هوة الخواء الوجودي التي تستبد بالمريض وتزلزل توازنه، وتصيبه بالقلق الذي يصل حد الذعر الذي لا يدري كيف يتعامل معه"(307 ).
8- الاحتماء بالمقدس، عند الفئات الشعبية حيث التصوف والتمسح بأهل الكرامات . الموال الصوفي في احتفالات الموالد وما يرافقه من موسيقى وحركة وإيقاع يتخذ طابع الندب المعبر عن الألم والمعاناة الوجودية.غير أن الحركة المعبرة عن هدر الكيان الكبير ينفتح على عالم بديل متعال عن الشقاء الأرضي من خلال استدعاء التوق الى حالة الوصل الذوبانية في الحبيب (محمد) والرجاء بالحظوة في زيارته والتقرب منه (308) . تشير حسابات العقل والمنطق في هذه الحالات الى خسارة وجودية محضة لا تحتمل، نظرا لما تنطوي عليه من اختلال للتوازن.
9- ظواهر فاشية وتطرف يميني او أصولي، والدينامية النفسية القابعة خلفهما واحدة. الهدر يدفع الجماعات للانقياد المنظم لشخص تجتمع فيه سمات المنقذ؛ إماما او صاحب كاريزما قائدا او زعيما يسلمه الجمهور زمام قيادته وتسبغ عليه خصائص القوة القادرة على الخلاص. يحدث التماهي بالقائد ويجري تفريغ احتقان العدوانية والغضب ضد الجور والظلم، وتشحن نزوات العنف والعدوان.
الفاشية، كما الأصولية المتطرفة، هما في الأساس حالة حرب تهدف تدمير واقع غير مقبول وإلغائه، والعيش في حالة حلم بدون مشروع بناء مستقبلي فعلي. لهذا فإنهما ينتهيان عادة الى مأزق بديل عن المازق الأصلي الذي اعلنا الحرب عليه، ما يكرر حلقة الهدر.



#سعيد_مضيه (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حزيران انعطافة نحو صفقة القرن- الحلقة الأخيرة
- هل تعي الفصائل الفلسطينية ما يدبر على المكشوف؟_4
- هل تعي الفصائل الفلسطينية ما يدبر على المكشوف؟-3
- هل تعي الفصائل الفلسطينية ما يدبر على المكشوف؟-2
- هل تعي الفصائل الفلسطينية ماذا يدبر على المكشوف؟-1
- جرس إنذار
- لن تامن إسرائيل من جانب الفلسطينيين ولن تهادنهم
- ألقهر يحطم الروح والترياق في الفن
- بخطايانا لا بقوة إسرائيل
- اغتيال صحفي .. الملابسات والدلالات
- نعيق الإرهاب مقدمة لحروب تنجز اهدافا مضمرة
- الليبرالية الجديدة نظام وهياكل وإيديولوجيا
- الأقصى صدع رأس السيد سامي الديب
- بوب وودوارد :الشرق الأوسط في مكائد المخابرات المركزية
- كيف تكافح إسرائيل التضامن مع قلسطين
- مظلات حماية للقرصنة غير واقية
- النظام الأبوي إ شكالية التخلف في المجتمع العربي- الحلقة الأخ ...
- النظام الأبوي إشكالية التخلف في المجتمع العربي-4
- تهدئة تحت سيف قانون يهودية الدولة؟!
- إشكالية التخلف في المجتمع العربي-3


المزيد.....




- عالم أزهري: الجنة ليست حكرا على ديانة أو طائفة..انشغلوا بأنف ...
- عالم أزهري: الجنة ليست حكرا على ديانة أو طائفة..انشغلوا بأنف ...
- يهود متطرفون من الحريديم يرفضون إنهاء إعفائهم من الخدمة العس ...
- الحشاشين والإخوان.. كيف أصبح القتل عقيدة؟
- -أعلام نازية وخطاب معاد لليهود-.. بايدن يوجه اتهامات خطيرة ل ...
- ما هي أبرز الأحداث التي أدت للتوتر في باحات المسجد الأقصى؟
- توماس فريدمان: نتنياهو أسوأ زعيم في التاريخ اليهودي
- مسلسل الست وهيبة.. ضجة في العراق ومطالب بوقفه بسبب-الإساءة ل ...
- إذا كان لطف الله يشمل جميع مخلوقاته.. فأين اللطف بأهل غزة؟ ش ...
- -بيحاولوا يزنقوك بأسئلة جانبية-.. باسم يوسف يتحدث عن تفاصيل ...


المزيد.....

- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود
- فصول من فصلات التاريخ : الدول العلمانية والدين والإرهاب. / يوسف هشام محمد
- التجليات الأخلاقية في الفلسفة الكانطية: الواجب بوصفه قانونا ... / علي أسعد وطفة


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - سعيد مضيه - التخلف العربي أعراضه ومصادره