أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبدالرزاق دحنون - الرَّقصُ في حقول البرتقال















المزيد.....

الرَّقصُ في حقول البرتقال


عبدالرزاق دحنون
كاتب وباحث سوري


الحوار المتمدن-العدد: 6131 - 2019 / 1 / 31 - 14:05
المحور: الادب والفن
    


"نحن متفقان:
الحياة جميلة, والناس رائعون, والطريق لم تنته, ولكن انظر إليَّ قليلاً, فإنني اتألم كوحش جريح في الفلاة . نحن متفقان إذاً, الربيع سيأتي طبعاً, والشمس ستشرق كلَّ صباح ,وفي الصيف سيجني الفلاحون القمح. الربيع يكفينا, والشمس أيضاً, والقمح إذا أردت.
ولكن قل لي:
لماذا يملأ الدم غرفتي وسريري ومكتبتي؟ ولماذا أحلم دائماً بطفل متطاير الأشلاء, ودمية محطَّمة, ورصاصة تئزّ؟"
( الشاعر السوري رياض الصالح الحسين)

1
نحن الآن على شاطئ بحر إيجة, نُطلُّ من شاهق على جيراننا الاغريق في اليونان الحديثة, ننهض من نومنا في بكور صباحات شتاء باردة. نجتمع في ساحة بازار "ليمون تَبي" الحي الريفيّ الجميل, المعلَّق في السفوح الجبليَّة لمدينة أزمير. هنا, في غبش الصبح, ننتظر الحافلة التي ستحملنا صوب حقول برتقال بعيدة, ممتدة على طول ساحل بحر إيجة في ريف المدينة, فنصلها مع آذان الفجر, وصوت المؤذن يحثُّنا "حيَّ على الصَّلاة حيَّ على الفَّلاح".
2
سوريون من شمال بلاد الشام, من كل الملل والنحل, فينا الكردي, والعربي, والشركسي, والتركماني, والآشوري, والكلداني, و السرياني, والأرمني, كلّنا عَبَرنا حرب الشمال نحو سلم الشمال. وها هو جمعنا المكلَّل بالسلال الفارغة يعبر دروباً ضيّقة لحقول واسعة فسيحة من شجر البرتقال. الواحد منّا مثل طائر وحيد, أضاع اتجاهه, فقد أنهكته البراميل المتفجرة, و صوت أزيز الطائرات الحربيّة, وها هو بلا عشِّ, يحطُّ, منكمشاً, على غصن أجرد يابس, يضايقه البقاء هنا, ولكن إلى أين يطير؟ وما من ركن أخضر يأوي إليه, أو مكان يُقيم فيه عشَّاً مؤقَّتاً على الأقل. و يا للعجب, ما أكثر أعشاش العصافير الملوَّنة الصدَّاحة في شجر البرتقال.
3
نحن هنا في مدينة أزمير علَّقنا أحلامنا على مشاجبها , وتركنا بسُقُوف بيوتنا في شمال الشام, بصلاً, وبامية, ورماناً, وتيناً يابساً, وثوماً للشتاءْ, تركنا حليباً في أَضرع مَاعِزِنا, وتركنا رفَّ حمامنا المنزليّ بلا ماء, و تركنا الطائرات الحربية تُحلّق في الأجواء, وأعطينا لزغب القطا طوق النجاة, ثمَّ عبرنا جسر الموت إلى الحياة.
4
ها نحن بعد أسبوع من العمل نعبر دروباً ضيّقة أليفة بين صفوف شجر البرتقال, والشاويش "محمد" يحثّنا على العمل بصوت رخيم "هايدي أبي" بسرعة يا أخوتي, مردداً لازمته الدائمة "الشمس تميل, والهواء عليل, والبرتقال جميل". كنّا طيِّبين وساخرينْ, لا نعرف الرَّقص والمزمار إِلاَّ في أعراس بناتنا وطهور أولادنا. كنّا تعوَّدنا زراعة النعناع في فسحة من حدائق منازلنا, و "كلُّ منزل في الأرض يألف الفتى وحنينه دائماً لأول منزل" و كنّا تعلَّمنا زراعة البنفسج في أغانينا, وفي أحواض قبور موتانا. نحن هنا في الغربة, وهي أمكنة تُغيّر أهلها وزمانها, وهي الوصول إلى السواحل فوق مركبة أضاعت شراعها. يا بحر إيجة, عُدْ بنا يا بحر, نحن الذين أكلنا من خبز أهلك. طلبنا جوارك, فأجرتنا. أتينا إليك لننتصر في معركة الحياة, حياتنا. متى تُعيدنا أيها البحر القديم إلى نباح كلابنا في بلاد الشام؟ والشام شام لكلِّ زمان, أعدّنا إلى أحلامنا التي قصفتها الطائرات, ثمَّ تابع أيها البحر القديم مغامرات البحث عمّا ضاع من زوارقنا, عن أطفال أصبحوا شجراً من المرجان في القيعان. كم كنّا نُحبك يا بحر إيجة حتى رميتَ أطفالنا غرقى على رمل سواحلك, والشاهد الشهيد أصغرنا "إيلان كردي".
5
كُنّا هناك, والآن نحن هُنا, في حقول البرتقال, نُعلّم الأقدام كي تألف الرَّقص الخجول مع الحجل, فالمنافي هي المنافي, هنا, و هناك. هل تذهب منافينا سدى؟ أم نتعلّم الرَّقص في حقول البرتقال, ونتعلّم البكاء على مهل لئلّا يسمع الأعداء ما فينا من دهشة الروح و هشاشة البلور المكسّر. يا بحر إيجة كم من زمان مرّ كي نجد الجواب عن السؤال ؟ والسؤال هو الجواب, من زهرة البرتقال تولد حبات البرتقال, ولا شمس تحت الشمس إلا نور قلوبنا يخترق ظلال الشجر, والبرتقال يضئ جباهنا وأكفّنا, وتقول جارتي في الشجر المجاور: أما كفانا اليوم برتقالاً؟ من نحن يا بحر إيجة؟ هذه أشياء غربتنا: سلال البرتقال, زوّادة الفقراء, مقصَّات من حديد, ابريق ماء من فخّار, أعشاب ترفض الموت, و أعجبُ من مقاومة هذه النّباتات البريّة الصامدة, العنيدة, التي تنجو حتى بعد دهسها بأقدام البشر. هل نستطيع اعادة الماضي إلى اطراف حاضرنا؟ هل نستطيع غناء أغنية ونرقص في دقيقة مسروقة من وقت الشاويش "محمد"؟ .
6
يا بحر إيجة, يا صديقي, كم في سهول سواحلك من أشجار البرتقال؟. يا بحر إيجة, حمي الوطيس, ومقاريضنا تعبت, وتشنّجت أصابع أيدينا و أرجلنا, وشاويشنا يُرتّل الكلمات ترتيلا: "الشمس تميل, والهواء عليل, و البرتقال جميل" تاريخهم تاريخنا, دينهم ديننا, عاداتهم عاداتنا. لولا اختلاف الهلال في الرايات وحَّدت الشعوب دروب فكرتها, ولعلهم كتبوا على اسمائهم اسماءَنا. عُدْ بنا يا بحر إيجة, هل تُعيدنا من حيث هبُّت ريحنا.
7
غادرنا شمال البلاد إلى الشمال, لم نسأل عمّا وراء حدود بلادنا. كانت ساحاتنا أوسع من سماء لا تغطينا, وكان البحر ينسى أسماء صغارنا في كلّ حين, ولكن كنّا نعرف شمالنا من جنوبنا. نحن الآن هُنا يا بحر إيجة, نضحك كثيراً من قول صاحبي, من أهل مدينة "قامشلو" في شمال الشمال, وهو يقصُّ بالمقراض البرتقال, واقفاً على درجات السلّم الخشبي في أعلى الشجر: قد يكون السجن أرحم من بساتين البرتقال.
8
بأيّ أسلحة تصدّ الروح حنيناً إلى ديار تركناها معلَّقة على حبل الغسيل في عصف الريح؟ بأيّ أسلحة نكبت الشوق إلى خبز تنور أمّهاتنا؟ يا بحر إيجة, من يلمّ غسيلاً تركناه أشباحاً معلَّقة على الحبال في صحن الدار؟ نحن لم نذهب بعيداً ولم نصل, لأن قلوبنا حبات لوْز مضرَّجة في أزقة حارات شعبية منسيَّة مهدَّمة, وكلَّما قلنا وصلنا إلى آخر الدرب الطويل خَرَّ أولنا. أيها البطل ابتعد عنّا قليلا نحو نهاية أخرى, أيها البطل المضرَّج فينا من شظايا صواريخ قصف الطائرات, قُلْ لنا كم مرة ستكون غربتنا البداية والنهاية؟ وها نحن نقاوم بأسلحة الحيلة, ونتذكَّر "جيمس سكوت" في كتابه المشهور" المقاومة بالحيلة-كيف يهمس المحكوم من وراء ظهر الحاكم- و صاحبنا في قطاف البرتقال "حنّان" يؤلف همساً و يُتحفنا بملحة أو "نكتة" لا فرق بين الكلمتين, يقول: تشاجر كلب و شاب سوري في ساحة بازار "ليمون تَبي" كان الشاب يُقدم إذا رأى الإقدام عزماً, ويُحجم إذا رأى الإحجام عزماً. أدمى الكلب الشاب, وأدمى الشاب الكلب, كانا يتحاربان, وأُثْخِنَ كلاهما بالجّراح, وفي نهاية المعركة, تضرَّجا بسيل من دماء. أخبر الجيران سيارة الإسعاف, جاءت, حمل المسعفون الكلب على عجل, وقالوا للشاب السوري: انتظرنا لن نتأخر في العودة.
9
تُعيدنا حكاية "حنّان" في نهايتها إلى زمن الفكاهة والمسرّات الصغيرة والأوجاع الكبيرة, وعلى كلِّ حال, للكلاب في مدينة "أزمير" حكاية أخرى, وهنا, يا بحر إيجة, تدخل مأساتنا في ملهاتنا, ويقول "حنّان" وهو يرقص مع الشاويش "محمد" في فسحة بين أشجار البرتقال: "لا تحسبوا رقصي بينكم طرباً, فالطير يرقص مذبوحاً من الألم". ها أنا ذا ألملم شعث دفر مسودتي المغبرّ من تراب حقول البرتقال, وأجمع ما تبقى من ذكريات عن وطن ضاع بين جنازير الدبابات. وأقول لصغيري إبراهيم حين يسمع صوت أزيز الطائرات في سماء مدينة أزمير: لا تخف يا ذا "الأنيف الأكشم" هذه طائرات مدنيَّة.
10
من نحن يا بحر؟ نحن المنسيّون في زمن الحرب الضروس. لنا الله يا بحر إيجة, نحن نفرح عندما يأتي نهار واحد لا موت فيه. و هُنا أذكر حديث رسول الله : "ربَّ أشعث أغبر مدفوع بالأبواب, لو أقسم على الله لأبره" و الآن يا بحر إيجة, ها شمسك في غروب, ونوارسك مَلَّتْ من التحليق في الأفق, فدعني أجمع أوراقاً متناثرة من قصيدة محمود درويش "مأساة النرجس, ملهاة الفضّة" التي اعتمدتها لضبط إيقاع المقال, فما عدتُ أرى حروف الكلمات جيداً كي أُتابع الكتابة, فالدموع تحجب الرّؤية.



#عبدالرزاق_دحنون (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بالروح بالدَّم نفديك يا عدنان
- كتبٌ تعيشُ ولا تموت
- جنوسة الوعي...حواء النمط المبدئي للجنس البشري
- تعلَّم الحريَّة في سبعة أيام
- ثلاثية الخروف السوري والدولار الأمريكي
- لا تنشر بيدك غصن الشجرة الذي تجلس عليه
- الحُكّام يأكلون الحصرم
- ثلاثية الكلاب
- علي الشوك وداعاً ... هل كتبتَ روايتكَ الأخيرة؟
- الفلسفة في جذورها اللغوية
- أُفّ من الحُكّام
- أنا لا آكل أحداً
- المعرّي فيلسوفاً
- قضيَّة المرأة الساكتة
- من هي السيدة ديمقراطية؟
- شيوعيون في المساجد
- أنا أحبُّ سقراط
- حاشية من تاريخ مصر الحديث
- أفسحوا الطريق
- إذا قطعتم أصابع كفي سأرسم بأصابع قدمي


المزيد.....




- نيويورك: الممثل الأمريكي أليك بالدوين يضرب الهاتف من يد ناشط ...
- تواصل فعاليات مهرجان بريكس للأفلام
- السعودية تتصدر جوائز مهرجان هوليوود للفيلم العربي
- فنانون أيرلنديون يطالبون مواطنتهم بمقاطعة -يوروفيجن- والوقوف ...
- بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ ...
- مظفر النَّواب.. الذَّوبان بجُهيمان وخمينيّ
- روسيا.. إقامة معرض لمسرح عرائس مذهل من إندونيسيا
- “بتخلي العيال تنعنش وتفرفش” .. تردد قناة وناسة كيدز وكيفية ا ...
- خرائط وأطالس.. الرحالة أوليا جلبي والتأليف العثماني في الجغر ...
- الإعلان الثاني جديد.. مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 الموسم ا ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبدالرزاق دحنون - الرَّقصُ في حقول البرتقال