أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رائد الحواري - رواية أورفوار عكا علاء حليحل















المزيد.....


رواية أورفوار عكا علاء حليحل


رائد الحواري

الحوار المتمدن-العدد: 6131 - 2019 / 1 / 31 - 01:29
المحور: الادب والفن
    


رواية أورفوار عكا
علاء حليحل
نحن بحاجة إلى التاريخ لنعرف حقيقة ما جرى على هذه الأرض، فلا يعقل أن نمجد "جزارا" لأنه صمد بوجه الغزاة، ولم يكن لهذا الصمود أن يكون دون دعم الاسطول الانجليزي الذي استولى على المدافع الثقيلة من الفرنسيين واعطاها للمدافعين عن عكا، وأيضا دوره في قصف الاسطول الفرنسي بالمدافع، وهناك دور مهم للضابط "دي فيليبو" الفرنسي المنشق عن بونابارت، والذي قدم كل الخبرة والمعرفة العسكرية للمدافعين.
إذن صمود عكا لم يكن بفضل خبرة "الجزار" بل بسبب ظروف خارجية حالت دون تحقيق الحملة لأهدافها. والمهم في هذه الرواية انها تكشف لنا حقيقة الوضع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي في عكا في فترة أحمد باشا الجزار، وهي تكشف لنا الحقيقة الرهيبة "للخازوق" الذي كان يستخدمه الأتراك في تأديب المعارضين لحكمهم، فهو أداة قهر للإنسان وأداة تعذيب في ذات الوقت، كل هذا نجده في رواية "أورفوار عكا" والتي تعتبر من أهم الروايات التاريخية التي تناولت واقع فلسطين أثناء فترة حكم الأتراك للبلاد.
"أحمد باشا الجزار"
هناك من يحاول أن يُجمل تاريخ الأتراك من خلال القول: "أن فترة القهر التي تعرض لها العرب تقتصر فقط على فترة حكم "جمال باشا السفاح"، أما بقية العهود التركية فقد كانت تنعم البلاد بسلام وأمان" وهذا طبعا منافي لحقيقة، فالأتراك هم من مهدوا المجتمع العربي للاحتلال الغربي، من خلال جعل البلاد العربية أرض لتموين الدولة التركية بالغذاء والمال، ومن خلال أخذ الرجال إلى السفر بريك، فقد كنا نحن الوقود الذي يستخدمه الأتراك في حروبهم، من هنا نجد قلة عدد السكان في بلاد الشام إذا ما قارناهم بأي دولة أخرى، هذا فضلا عن الجهل والفقر والقمع والاضطهاد الذي تعرض له أجدادنا.
في هذه الرواية يقدم لنا السارد "أحمد باشا الجزار" كأحد الأمثلة التي حكم بلادنا، فهذا الرجل جاء من البوصنة هاربا من عائلته بعد أن اغتصب زوجة أخيه، فهو متعلق ببلاده التي جاء منها: "... وهو يفكر بذلك السهل الأخضر الوعري المنحدر من بين التلال العالية نحو النهر، ذلك النهر الذي قطعه نصف عار، هاربا من غضب عائلته وأهله وهو في السادسة عشرة من عمره" ص79، إذن "الجزار" لم يكن ابن هذه البلاد، وهو ينتمي إلى بلاد أخرى يحن إليها ويتشوق للعودة،
ونجده في أكثر من موقف يتحدث عن وطنه الأم مؤكدا أن "عكا وبلاد الشام ليست أكثر من مكان يمارس فيه دوره الوظيفي ليس أكثر: "لا أريد أن أموت هنا، أشعر بالوحدة، هذه ليست بلدي، هذه الأرض العطشى للدماء منذ بداية الأيام ليست مسقط رأسي، ليست المكان الذي أريد أن انام فيه نومتي الأخيرة، البوصنة هي المكان" ص171و172، السارد يكشف لنا نفسية "الجزار" وكيف ينظر لبلادنا، فهو مسكون "بالبوصنة" وطنه، رغم ما تعرض له من قهر والتشرد فيها، بينما بلادنا، والتي أصبح فيها واليا يحكم بلاد بطولها وعرضها، لا يحمل لها أية حب أو حنين، وهذا ما يجلنا نقدر على تحليل حالة البطش التي تميز فيها حكم "الجزار".
ويكشف لنا السارد حقيقة أخرى عن "الجزار" من خلال هذا القول للجزار نفسه: "كان علي أن أفل من هنا، حيث الكنسية الجميلة التي كنت أقضي فيها الساعات الطويلة حين أهرب من صراخ أبي وعويل أمي التي كانت تتلقى ضرباته الجلفة .. البوصنة الخضراء التي احتلها الأتراك القساة الطامعون أبدا بكل شبر من هذه الدنيا، وبكل درهم يأتيهم من الضرائب التي يفرضونها على من لم يقتل بسيفهم الغادر ... لذلك أصبحت مثلهم .. أقطع رأس من يرفعه وأبقي الناس على شفا الجوع، فليلهثوا وراء الخبز والماء بدلا من أن يلهثوا وراء الدسائس والمؤامرات" ص171، إذن هو لم يكن في أسرة سوية، وهذا ما انعكس على سلوكه مع الآخرين، كما أنه لم يكن مسلما في الأساس، لهذا نجده يحن للكنيسة التي كانت الملاذ له وقت الشدة، ونجده يبرر لنفسه بطشه لناس لأنه يراهم متآمرين، فهو رجل غير سوي النشأة ولا السلوك. وهو يعاني من حالة نفسية جعلته (جزارا)، فالسارد يعمل على تحليل شخصية "الجزار" لنتأكد أنه غير سوي ويعاني من نشأة غير طبيعية انعكست سلبا على تفكيره وسلوكيه معا.
وهو متعدد الانتماءات، فنجده يحن إلى "الكنسية": "سأرجع إلى الكنسية القديمة المهترئة وسأرممها وسأجعل من أعظم كنسية، سأشكر العذراء لأنها أوتني حين كنت أهرب من كرباج أبي وسأبني لها ولأبنها المسكين مذبحا لم يسبق لأحد أن بناه، "باسم الأب والابن .." هكذا يقولونها؟ لم أقلها منذ .. منذ 59 عاما! يا قديسة مريم، هل ينسى المرء الصلاة التي كان يرددها بدموع حارقة وهو يركع يرتجف خوفا أمام تمثالك البهي؟" ص173، نحن لا نعيب عليه المسيحية، لأنها دين محبة وسلام، لكننا نعيب عليه ازدواجية العقيدة، فهو يدعي أنه مسلم ويمثل الدولة العثمانية، لكننا نجده عاشق للمسيحية، أليس هذا تناقض؟، كما أننا نجده يعامل مسيحيي عكا بطريقة شرسة، حينما أخرجهم منها، لكي لا يتعاطفوا مع المسيحيين الفرنسيين، فهو كشخص غير مقتنع أو مؤمن حقيقة بعقيدة معينة، وهذا ساهم في جعلته يرى الآخرين بهذه الصورة، من هنا نجده يخرج مسيحيي عكا مكرهين من بلادهم.
طريقة تفكير "الجزار" وكيف ينظر إلى الناس: " نحن الوطن، نحن رموزه وبناته، وأبوه وأمه، والرعاع هم الرعاع ـ نحن من نجعلهم شعوبا وقبائل وممالك، لذلك يحبون أن ندعس على رقابهم، أن نسلخ جلودهم ليل نهار وأن يغنوا لنا قصائد عصماء ونحن نقتلع أظافرهم وعيونهم، الناس تحبنا أقوياء كي نحميهم ولا ضير أبدا لو قتلنا بعضهم ونحن نحمي الآخرين" ص174، من خلال هذا القول يمكننا أن نتأكد أننا أمام رجل لا يستطيع ان يفكر بطريقة سوية، بل يفكر ويرى الأمور من خلال واقعه، من خلال ما مر به من قهر وظلم، لهذا يحاول أن يفرغ قهرهم بقهر الآخرين والتجبر بهم.، هذا هو الحقيقة لا تنطبق على "الجزار" فحسب، بل على أي جزار جاء قبله أو بعده.
الجزار والمعارضين
"الجزار" لقب لم يأتي من فراغ، بل من أفعال وأعمال وأقول وسلوك وطريقة تفكير، بعد فشل محاولة اغتيال "الجزار" نراه بهذا الشكل: "... الجزار يريد أن يظل هذا الوغد حيا ليومين على الأقل بعد تعليقه على الخازوق... ما يكفي من الوقت ليكون عبرة لمن يعتبر" ص38، بهذه الوحشية تعامل "الجزار" مع المعارضين، فهو لم يكن ليكتفي بقتل المعارض، بل بالتمثيل به وتعذيبه، وهل هناك أشد من تعذيب الخازوق؟.
الجزار في الحرب
من المفترض أن يعطي (القائد) جنوده معنويات تجعلهم يقفون معه كجنود أشداء يستبلون في الدفاع عن (وطنهم) لا ان يعاملهم كعبيد اجراء، فهو رجل غليظ لا يعرف ألف باء التعامل حتى في الأوقات الصعبة، وقت الحرب: "لم يتوقع احد من الجنود المرابطين في برج القومندار أن يدخل عليهم الجزار بنفسه، حاملا سيفه وصارخا مثل عفريت: "اذبحوهم!" فانوعت/( ذعرت) العسكر. فقد دب الذعر في الجنود المرابطين في البرج بدل أن يتحمسوا أو يتشجعوا" ص65، بهذه الصورة المتوحشة كان الجزار، فهو لا يغير أو يبدل سلوكه، حتى لو كانت الحرب قائمة، فهو كشخص مريض نفسيا يرى أن الشدة لازمة في كافة الظروف والاحوال.
ولتأكيد أنه مريض نفسيا ويعاني من حالة جنون: "التفت الجزار إلى الخلف فرأى خمسة من جنوده يحملون البنادق المعمرة ويمدونها له، ثم رأوا الجزع الذي دهم الجزار، فاشتعلت عيناه، والتقط بندقية من الجندي القريب منه وصوبها إلى خلف رؤوسهم وأطلق الرصاص هو يصيح:
"أنت هون يا مخنث؟!" ذعر الجنود حيت رأوا أحد زملائهم القناصة يهوي على الأرض بعد أن أصابته طلقة الجزار في الجبهة، قتل الجندي على الفور وتراجع بقية الجنود إلى الخلف إلى أن لامست ظهورهم جدار البرج، واصطكت ركبهم خوفا، كان الخوف مشلا من هذا المسن الغليظ لدرجة أن أحدا منهم لم يفكر باستخدام البندقية التي يحملها للقضاء عليه بطلقة واحدة عاجلة" ص 67، صورة توضح طبيعة الجزار وكيف يعامل جنوده في الحرب، فهو رجل متوحش مهوس بالقتل وينظر للآخرين على أنهم مجرد اتباع، أو أدوات يمكن أن يزيلهم من الوجود متى أراد وكيفما يشاء، والمشهد السابق يؤكد على الحالة المرضية التي يعاني من "الجزار".
حاشية الجزار
تعد الحاشية مرآة الحاكم، فمن خلالها يمكننا أن نعرف طبيعة هذا الحاكم وطبيعية الحكم أيضا، فالطريقة التي يتصرف ويتعامل بها تعكس طبيعة نظام الحكم والطريقة التي ينتهجها الحاكم، "أبو الموت" أحد الشخصيات التي جاء في الرواية، وهي شخصية مقربة من "الجزار" فهذا الرجل يقوم بأخذ الفرنسية "برناديت" سبية، فيقوم بضربها بوحشية أثناء اغتصابها وتعذيبها: "... ونجحت رغم قوته ذراعيه بتخليص رأسها من المخدة التي كادت خنقها، وبحشرجة مؤلمة ويائسة نجحت في التمتمة بصعوبة وألم:
"تحيا الجمهورية"
حين سمع أبو الموت حشرجات برناديت املكه حمى الشهوة وصاح بصوته الملتهب:
"أيش قلتي؟" ...ثم تحول إلى ماكنة صلبة تخترق هذه المرأة التي تختنق وتشهق روحها تحته... كلما علا صراخ برناديت تمد يدها بحركة لا إرادية وتلمس الندوب التي كانت بادية على خدها وبارزة مثل وسم قبيح، ندوب تحمل آثار أسنان أبو الموت" ص89 و90، إذن الحاشية لا تقل وحشي عن الحاكم، فهي تتماثل معه في سلوكها وتعكس صورة التوحش التي يمثلها الحاكم نفسه.
عندما يجمع "الجزار" الحاشية أثناء الحصار الفرنسي لعكا، يقوم بممارسة ساديته على الحاشية، يتهم مجموعة منها بالتآمر عليه ومنها "محمود عارف رجب" بالخيانة، لنرى كيف كانت ردة فعل "محمود" على هذه التهمة: "بصعوبة بالغة وقف محمود عارف رجب وهو يرتعد، اضطر للاستناد إلى الرجل الذي كان يقعد بجانبه لكن ذلك الرجل سحب يده فورا ودفش جسمه بعيدا عنه كي لا يظن للحظة أنه معه" ص161، نجد ان تلك الحاشية ما هي إلا ورق يمكن لأية رياح أن تحملها وتلقي بها بعيدا دون أبدأ مقاومة أو ردة فعل ايجابية تدافع بها عن نفسها، هكذا هي حاشية الجزار.
والمشكلة لا تكمن في عدم قدرتها على الدفاع أو المقاومة، بل في كونها غارقة في الولاء وإبداء التأييد والوقوف إلى جانب "الجزار": " أنا كلبك يا مولاي! والله كلب .. كلب حقير مالو قيمة. شوف كيف يا مولاي: عو! عو! مين أنا يا سيدنا لحتى أتآمر؟ تافه وما أستاهل رصاصة من طبنجة! منحبك يا مولاي، نعشقك!" ص162، حالة الذل لا يمكن أن نجد لها مثيل، فهنا (الضحية) ما زالت غارقة في وحل (الجزار) بحيث لا تجد خلاص إلى به ومن خلاله، وكأنه أصبح الرب القادر على كل شيء، وفي المقابل لا تملك (الضحية) أي شيء.
وعندما يتم اتهام "الميرميران رستم" بالخيانة يبدي استغرابه بهذا الشكل: "خائن؟ هو؟ من أفنى عمره في القتال من أجل الباشا؟ ..ألقى بسيفه ثم انفجر ضحكا:
"مولاي الباشا أنا فداك! روحي لك!
...دار بين السبعة والأربعين وهو يعرض عليهم جسده المليء بالندب والجراح القديمة.
تشوفون؟ كلي مثقوب من الجنك (الحرب والقتال) مين قدي جنكي؟ صدري، يدي، ذراعي، ما تشوف يا مولاي؟ كلها لك، أنا وشباب عكا نحارب لأجلك ولأجل البلد، والله يا مولاي كل نقطة دم انهدرت من جسمي كانت ترقص فرح والله!" ص166، رغم وجود حالة من الدفاع عن النفس، إلا أن (الضحية) أيضا تبدي إخلاصها للجزار، تمجده وتمجد وحشيته، وبعد أن يتم إخراج أثنا عشر شخص على انهم متآمرين على "الجزار" نجد البقية وعددهم خمسة وثلاثون شخصا بهذا الحال: "يرقصون ويحتضنون بعضهم البعض والدموع سيالة غزيرة" ص168، صورة حقيقة لما يدار في قصور الجزارين، فقد وضعوا من حولهم مجرد دمى/آلات ليس إلا.
الناس والجزار
كلنا يعيش أو عاش حالة المشاركة في الاحتفالات التي يقيمها (الجزار) فالعسعس يراقبون كل من يتخلف أو يبدي امتعاضه مما يجري، فيمسى متآمرا خائنا للوطن و"للجزار/للرب" أيضا، بعد محاولة الاغتيال الفاشلة، نجد جموع الناس تخرج لتشاهد "خوزقت" المتآمر على الجزار: "خرجت عكا عن بكرة أبيها، بآلافها الخائفة، كي تسير في الموكب، لا تبصق على الخائن الغادر ـ كما فعلوا فعلا وبغزارة ـ فحسب، بل أيضا ليراهم العسس والحراس ومعاونو الوالي ورجاله وأجناده، إنه صك براءة علني لا فكاك من الحصول عليه في هذا اليوم، حتى المصابين بالطاعون المنبوذين القلائل خرجوا هم أيضا في الموكب من دون أن يقوى أحد على الاعتراض" ص102، اعتقد أننا أمام مشهد واقعي نراه في كل بلد يحكمها "جزار" فتعليل المشاركة واحد رغم مرور أكثر من مائتي عام على "الجزار"، لكن يبدو أن "الجزار" في المنطقة العربية ما زال حاضرا بيننا، لهذا نعيش عين الحالة.
مثل هؤلاء القوم كانوا ضحية وجلادا في ذات الوقت للجزار، هذا ما قاله الجزار فيهم: " نحن الوطن، نحن رموزه، وبناته وأبوه وأمه، الرعاع هم الرعاع ـ نحن من نجعلهم شعوبا وقبائل وممالك، لذلك يحبون أن ندعس على رقابهم، أن نسلخ جلودهم ليل نهار وأن يغنوا لنا قصائد عصماء ونحن نقلع أظافرهم وعيونهم، الناس تحبنا أقوياء كي نحميهم ولا ضير أبدا لو قتلنا بعضهم ونحن نحمي الآخرين" ص174، الملفت للنظر، أن طريقة تفكير "الجزار" ما زالت سائدة حتى اللحظة، كما أن طريقة تعاطي الناس مع "الجزار" أيضا ما زالت هي ذاتها، وهنا تكمن الطامة الكبرى.

الجزار والمرأة
يمكننا أن نأخذ فكرة عن اي شخص من خلال رؤيته للمرأة والطريقة التي يعاملها بها، فالمرأة هي التي تنمح الرجل الهدوء والسكينة، وهي احدى المخففات والمسكنات له وقت الألم والشدة، كما أن هيئتها وصوتها وجمالها كاف لجعله بحس بالجمال، وهذا الجمال يمنحنه احساس بالراحة، ويخلصه مما علق به من أدران، "الجزار" وأية جزار آخر ينظر إلى المرأة بطريقة متدنية: "لم يتكور يوما في حضن امرأة، إنه يكرههن، هذا الجنس الضعيف المراوغ، لا ينفعن إلا للحيض والولادة، لم يفهم طيلة سنيه الخمسة والسبعين كيف يمكن لرجل أن يسلم أمره وحياته وقلبه وعقله لجنس قيل عنهم إنهن "ناقصات عقل ودين"؟" ص 61، أحدى مشاكل "الجزار" أنه لا يعرف حقيقة المرأة، فهو لا يرى منها إلا الحيض، وإذا ما ربطنا أعماله الدموية بمشهد الحيض، يمكننا الاستنتاج أنه يراها مجرد ضحية/متاع/سلعة/شيء يمكنه التصرف به كما يتصرف بأي شيء آخر، فهو حتى رجاله لا يعتبرهم كائنات إنسانية، بل مجرد أدوات، فكيف سيكون حال المرأة؟، فالمرأة في حالة "الجزار" تعد مشكلة مركبة، بمعنى، أنه لا يعرف أنها يمكن أن تخلصه من وحشيته، ومن ثمة يبدأ في التقدم من الحياة بطريقة سوية، فهو يُفقد نفسه ويضيع (عنصر/شيء) يمكن أن يحرره من واقعه المتوحش، ولا يكتفي بهذا الأمر الذي يمكن ان يحسب له، فهو يحولها إلى ضحية من ضحاياه، بمنعى أن طريقة تعامله معها يسهم في انحطاطه ووحشية أكثر.
فالنساء عند يشكلن عقدة سلبية، بمعنى أن نظرته لهن غير سوية وكذلك سلوكه، لكن عندما يتم اسر سفينة النساء الفرنسيات يجعلهن سبايا لجنوده، يشاهد "أبو الموت" كيف يغتصب أحدى النساء نجد عنده شيء من الميل لهن: "...غالبيتهن تبكين بصمت، ثم فكر أحمد باشا الجزار كم كان سيكون سعيدا لو أنه يحب النساء مثل أبو الموت، ... وهن رهن إشارته، وهو لا يشتهي أن يقترب منهن حتى" ص84، فأحدى مشكل "الجزار" حرمانه لنفسه من المرأة، وكأن السارد أرادنا القول أن من اسباب وحشية الجزار عدم معرفته بحقيقة المرأة، لهذا نجده بهذه الوحشية والدموية.
يحدثنا السارد عن أحد موقف أثر على الجزار عندما شاهد الجنود الفرنسيين يغتصبون النساء العربيات: "...يمزقون ملابس النساء ويعروهن بالقوة... يحاولن تغطية اجسادهن بأيديهن، .. ثم هجم جندي على امرأة عارية وألقاها على الأرض واعلاها وصار يغتصبها بعنف... لم يكن يعتقد يوما أنه سيشفق على امرأة تغتصب" ص188، رغم علمنة السارد بما يدور في داخل "الجزار" إلا أننا يمكننا أن نصل إلى ما وصل إليه السارد من خلال تتبعنا لسلوكه، فكل المشاهد تؤكد أنه رجل فاقد لأية سمية إنسانية يمكن أن تسهم في خروجه من حالة التوحش التي تسيطر عليه.
بعد هذا المشهد المؤثر، كان من المفترض على "الجزار" أن يعرف أن هناك حالة (إنسانية) يجب ان تأخذ بالحسبان عند تعامله مع النساء، لكنه يفاجئنا بهذا السلوك: "تنكحوهن الآن! أمام الفرنساوية!"
... ثم اسرع وانتزع امرأة فرنساوية من بين يدي جندي له، اقترب بها من حافة السور حيث يراه الفرنساويون/ سحب سيفا من غمده أحد الجنود وحز به أحد ثديي المرأة فقطعه بضربة واحدة، اختلط الدم بالعويل والصراخ، ترنحت المرأة فيما كان الجزار يشد شعرها فوق هاوية السور، ...ثم أفلت شعرها ودفعها بقدمه دفعة أطاحت بها فوق السور فهوت من علو السور لتقع على الأرض جثة هامدة... حمل كل جندي المرأة التي كان يأتيها ... فتهات النساء الفرنساويات كلهن دفعة واحدة... بيدو أن الجنود الفرنساويين رأوا ما حدث واهتاجوا، فأخذوا يطلقون الرصاص عللا رؤوس النساء العربيات في السهل الفسيح، واحدة بعد الأخرى، حتى قتلن جميعهن" ص 190و191، كان من المفترض عليه كقائد أن يعرف أن أي فعل يقوم به سينعكس على الطرف المقابل، لكنه لم يكن يفكر إلا بنفسه وأن يعبر عن الغضب في داخله، فكان أكثر وحشية من عدوه، مما أدى إلى قتل كل النساء من الطرفين.

التعذيب
التعذيب هو الوسيلة المتعبة في العهد التركي، وكان يمارسه الاتراك في كافة المناطق الخاضعة لهم، لكن استخدمه في المنطقة العربية كان الأكثر وحشية، والسجون بالأساس كانت هو المكان الذي يمارس فيه التعذيب، يقدم لنا السارد أحد المشاهد فيقول: "شد أبو الموت السلسة الحديدية فصرخ الرجل بألم مفزع، كانت السلسة الحديدية مربوطة بخطارة كبيرة في بطن الرجل، حيث كان الدم ينز ببطء بين ثنايا الجرح الذي تخثر في معظمه، وكانت كل شدة خطار تعيد فتح الحرج قليلا لينز قليلا آخر.
أسمك... كانت يتعرق من الحر الخانق في الغرفة الصغيرة معدومة النوافذ، نزلوا إليها عبر 16 درجة... هذا المكان البارد المليء بأدوات التعذيب المتنوعة" ص35، هذا احد الاماكن الذي مورس فيها التعذيب، فما جاء من وصف كاف لجعلنا نتعرف على طبيعة النهج التركي في تعامله مع العرب.
ويقدم لنا طريقة تعذيب أحد الأشخاص: "كان أحد الجنود يحمل بيده اليمنى مطرقة كبيرة وفي اليسرى بعض المسامير الحديدية، وكان جندي آخر يقف إلى جانبه يحمل حذوة حصان، هل سيحذونه؟ تمتم فرحي، ...اقترب صاحب المطرقة من الصياد المسجى على الأرض وانتظر حتى وضع الجندي الثاني حذوة الحصان على قدم الصياد الحافية، وضع المسمار في الثقب الأول فتعالى صراخ الصياد، ... لم يبدر الصياد أي رد فعل، لقد كان إغماؤه عميقا" ص153-155، طرق شيطانية لم يفعلها إلا الدواعش في عصرنا، هذه (الخلافة العثمانية) التي يمجدها من أوجدوا الدواعش ويتغنون بها وبإنجازاتها.
"الخازوق"

ما زلنا إلى غاية الآن نردد كلمة "الخازوق" عندما يصاب أحد بكارثة أو مصيبة كبيرة، فها هو الخازوق؟، ولماذا ما زال حاضرا في مصطلحاتنا حتى اليوم؟، لم أكن أعرف معنى الخازوق إلا بعد أن قرأت "أورفاوار عكا" فقد ضنن أنه ليس أكثر من أداة توضع في الدبر، لحد معين، لكن لم أتخيل أن يوضع في الدبر ويخرج من الكتف، وأن يبقى المتخوزق معلقا لمدة قد تصل إلى أربع أيام معلقا وهو يتعذب على الخازوق، فالرواية تكشف لنا حقيقة الأتراك والخازوق: "يريد الجزار أن يبقى هذا الوغد حيا ليومين على الأقل بعد تعليقه على الخازوق" ص38، (الخوزجقي) اسم لأشخاص كانوا يعرفون كيف يدخلون ويخرجون الخازوق، بحيث لا يخرب الأمعاء الداخلية أو القلب، ذا كان هنا مختصين بهذه (المهنة).
و"الخازوق" له فكرة عند الحكام الاتراك، فهم وجدوه بهذا الشكل: "الخازوق خير فاتح، يفتح الجسد والقلب والعقل" 73، فهو لم يكن وسيلة (عادية) فحسب بل لها قيمتها ومكانتها لهذا أوجدوا لها هذا المخرج (الفكري).
كتأكيد على أن الخازوق كان يمارس بشكل يومي من قبل الاتراك، فقد أوجد له رؤية (اجتماعية) تقول: "إن حكمة القتل والإعدام والخوزقة على أيدي الحكام هي نعمة من عند الله جل جلاله" ص75، إذن الخازوق له أفكار متعلقة به، وهذا يشير إلى أن حالة القمع التي تمارسها (الدولة العلية) على الناس، كان ينظر إليها كضرورة اجتماعية، لا بد منها، وهنا تكمن وحشية الاتراك وأجرامهم بحق أهلنا.
أما عن هيئة "الخازوق" والطريقة التي يجبأن يكون عليها: "أن يكون الخازوق أملس وبلا عقد أو التواءات لأن مهمة إدخاله وتسيره في غاية الخطورة ويجب أن تتم باعتناء فائق كي لا يموت المتخوزق بسرعة، وهكذا تنعدم أي قيمة للخوزقة وجدواها، وهي تتمثل بأي حال من الأحوال بتعذيب المتخوزق، فالعذاب الذي يلقاه هو تحصيل حاصل... لكن الغاية الأساسية من تعليق الناس على الخازوق ليومين أو ثلاثة أو أربعة هو الاستعراض والفرجة... يجب على الناس جميعا أن ترى ما يحل بالخونة والغدارين واللصوص والجناة، أنهم عبرة لم يعتبر" ص75، يبدو أن الحديث عن "الخازوق" له هيبة، لهذا نجد السارد في حديث كتواصل عنه، فهو يتماثل بأهميته مع حال الحرب الدائرة بين نابليون والجزار.
وهناك مشهد للخوزقة جاء فيه: "...من تشحيم راس الخازوق جيدا، ... وبهذا فإنه سيخترق أي شيء بسلاسة وسهولة... حين لامس رأس الخازوق فتحة البدن أهتز جسد المحكوم وصرخ صرخة كانت أشبه بالعواء،.. نظر عبد الهادي إلى الحرس بسرعة، ففهموا أن عليهم أن يمسكوه بالحبال جيدا، فشدوها إليهم رغم أنها مربوطة بالمنصة، فزاد ألم المحكوم،... بعد أن تأكد عبد الهادي عامل من دخول الخازوق بما يكفي وثبته في جسد المحكوم ...يعرف أن الخازوق الآن قد دخل بما فيه الكفاية وهو في أعلى الأمعاء وعليه الآن ان يكون في قمة الحذر فعليه توجيهه ليتجاوز القلب مارا بين الرئتين وخارجا من الكتف بجانب الرقبة، هكذا سيضمن له ميتة طويلة جدا" ص 108و109، مشهد في غاية البشاعة، ومع هذا كان الاتراك يمارسونه يوميا، فأي بشر هم، كان يمكنهم أن يقتلوا (المجرم) بسرعة يريحونه ويرحوا الناس من مشاهدة هذه الجرائم الوحشية، لكنهم فعلا كانوا متوحشين، وكانوا يعاملون الآخرين بطرق لا تخطر على بال أحد، لهذا قال عنهم "ميكافيلي" في كتابه الأمير: "من الصعب أن تدخل/تحتل الدولة العثمانية لكن من السهل أن تبقى فيها" واجزام أن هذا القوم لم يأتي من فراغ، بل من معرفة وافية بالطريقة وأسلوب الحكم التركي.

"ظاهر العمر"
مقابل الجزار وما يحدثه من خرب وقتل وتوحش للمجتمع، يذكر لنا السارد "ظاهر العمر" الرجل الذي بنا عكا، ليس البناء العمراني فحسب بل بناء الإنسان الاجتماعي أيضا: "...أسس أول مصنع للصابون في عكا والمنطقة... عكا كانت خرابة بعد دمار الفرنجة ولما جاء ظاهر العمر أراد بناءها وإعمارها وكان يجب إحضار أناس لتسكنها... لقد جلب الكاثوليك من الناصرة، وبيت لحم والقدس ودمشق، واليونانيين الأرثوذوكس من قبرص، كان ـ الله يرحمو ـ واعيا لضرورة تعدد السكان واخلافهم من أجل بناء مدينة جيدة وناجحة" ص248و249، اعتقد أن السارد أراد بها الذكر أن يشير إلى دور "الجزار" في خاب عكا اقتصاديا واجتماعيا، "والجزار" عمليا يحتمي بسور عكا الذي بناه "ظاهر العمر" فهو أخذ مدينة عصرية مدنية وحولها إلى سجن لسكانها ووضع نفسه سجانا عليهم.
سرد الرواية
في أول فصول الرواية وجدنا السارد ينتقل بين مشهدين، مشهد عكا والجزار من جهة، ومشهد نابليون وسفنه وجنوده من جهة أخرى، لكنه تخلى عن هذا الأمر الجميل، وأخذته زحمة الأحداث ليتحدث في الفصل الواحد عن الحالتين معا، واعتقد أن هذا أضر بالبنية الجمالية في الرواية، لكنه استعاض عنها من خلال عملة "التخيل" واللقاء بين "نابليون والجزار" التي نجدها في أكثر من مشهد في الرواية، وما يحسب للسارد أنه اعتمد عين النص التاريخي الذي كتب في ذلك الوقت عن الجزار وعلى لسان الجزار، بحيث جعلتنا نعيش الحالة الحصار وعصر الجزار كحدث حقيقي وليس حدث متخيل.
الرواية من منشورات الأهلية للنشر والتوزيع، عمان الأردن، دون تحديد سنة الطباعة.



#رائد_الحواري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سعيد العفاسي وتناوله للشاعر إبراهيم مالك
- مناقشة ديوان شغف الأيائل لعفاف خلف
- نافذ الرفاعي في قصيدة -أنشودة مجنونة-
- تعرية السياسيين في مجموعة -فوق بلاد السواد- أزهر جرجيس
- السيرة الروائية في -الست زبيدة- نوال حلاوة
- لغة الأنثى في -شغف الأيائل- عفاف خلف
- عبود الجابري وتقديم الانتحار
- الحركة الشيوعية في فلسطين -عبد الرحمن عوض الله-
- الكلمة والحرف والمعنى عند -السعيد عبد الغني
- -جواد الشمس- مرام النابلسي
- رواية صديقتي اليهودية صبحي فحماوي
- مناقشة مسرحية بيجماليون (لتوفيق الحكيم)
- اليهودي في رواية -مئا شعاريم- أحلام الأحمدي
- -مسلة الأحزان السومرية- علي السباعي
- المثل في رواية -على سكة الحجاز حمال الحسيني
- الملاحقة الأمنية في رواية -الوطن عندما يخون- عادل الأسطة
- الشارع في رواية -ليل الضفة الطويل- عادل الأسطة
- القسوة في ديوان -أجنحة في للريح- خليل قطناني
- تياترو 1949- رواية فواز حداد -حسني الزعيم- و -أنطون سعادة- ع ...
- السواد في قصيدة -قلبي والشتاء- أسامة مصاروة


المزيد.....




- باتيلي يستقيل من منصب الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحد ...
- تونس.. افتتاح المنتدى العالمي لمدرسي اللغة الروسية ويجمع مخت ...
- مقدمات استعمارية.. الحفريات الأثرية في القدس خلال العهد العث ...
- تونس خامس دولة في العالم معرضة لمخاطر التغير المناخي
- تحويل مسلسل -الحشاشين- إلى فيلم سينمائي عالمي
- تردد القنوات الناقلة لمسلسل قيامة عثمان الحلقة 156 Kurulus O ...
- ناجٍ من الهجوم على حفل نوفا في 7 أكتوبر يكشف أمام الكنيست: 5 ...
- افتتاح أسبوع السينما الروسية في بكين
- -لحظة التجلي-.. مخرج -تاج- يتحدث عن أسرار المشهد الأخير المؤ ...
- تونس تحتضن فعاليات منتدى Terra Rusistica لمعلمي اللغة والآدا ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رائد الحواري - رواية أورفوار عكا علاء حليحل