أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خيرالله سعيد - عريان السيد خلف : الشاعرية المكتملة في الشعر الشعبي العراقي (2)















المزيد.....



عريان السيد خلف : الشاعرية المكتملة في الشعر الشعبي العراقي (2)


خيرالله سعيد

الحوار المتمدن-العدد: 6122 - 2019 / 1 / 22 - 01:27
المحور: الادب والفن
    



تعـــود معرفتي بالشـاعر عـريان السيد خلف الى بـدايات عـام 1970 م . عندما نشر قصيدتـه المعـروفـة ( ردّي ردّي ) حيث كانت هـذه القصيدة بمثـابـة – جـواز سفـر- الى عريـان للدخـول الى الوسط الشعري الشعبي العراقي بقـوة ،فقـد كان الوسط الشعبي متـذوّقـاً وذو بصيرة عـالية بكل مناحي الشعر الشعبي ، إضافـة إلى أن كـثـرة الشعراء في هـذا الميدان، لايمكن أن تحصى أو تعـد ، بمعنى أن هـذه الكثرة من الشعراء عصية على الإخـتراق وليس من السـهـولة أن ( يبـرز) إسم شـاعر حـديث ، جاء من مدينة النـاصرية الى معقل الشعر بغـداد ، ويتجاوز الآخرين بسـهـولة ، نـاهيك عن الحـاسـة الذوقية العالية عـند متلقي الشعر الشعبي في مدينة الثـورة التي إتــّخذهـا عريـان مقراً لسـكناه، وهذه المدينـة ، إن قبلت شـاعراً فقـد قبله كل أهـل العراق ،نظراً لكثرة الشعراء فيهـا ، ولكون الشعر الشعبي يمثـّل الرئـة التي يتنفـّـسون منهـا الحـياة ، إضافـة الى أن إسلوب الشاعر مظفـر النـواب ، في نظم القصيدة الحــديثـة ، بـدأ يفرض نفسـه على كل شعــراء جيل السبعينـات ، يضاف إليه شعر الرواد من بقية شعراء العراق مثل شاكر السماوي وكاظم الرويعي ومجيد جاسم الخيون، وغيرهم الكثير الذي كان شعرهـم مهـوى الأفـئدة ، ومتـداول بين أوسـاط الشعر الشعبي، من مثل كـاظم إسماعيل الكَـاطع ، وأبو سرحان ( ذياب كـزار) ،وممـّا سـاعـد قـبول عـريان في هـذا الوسط بسهـولة وقـوة هــو (يسـاريـّته) بمفهـومهـا السياسي ، وتبني الشيوعيـّين لـه ، ولكن هـذا لاينكر عليه شـاعريتـه القـوية وإسلوبه المتمـيـّز في النظم وطريقة الإلقـاء العـذبـة وجمالية الصـورة التي يوظّـفها في القصيدة ، مــع فرادة في الإختيار للمفردة الموغـلة في المحلـيـّة العراقية ، لاسيما لهجة جـنوب العراق ، التي ينتمي إليـها ، حسـّاً ونشـاة وقـاموساً لهجوياً ، يجسـّد مفرداتهـا العميقـة ،بتـلقـائية فريـدة ، تستجيب الى وعي الناس البسطاء العام ، أو مايطلـق عليه إسـم (الحسـݘـة) الجنوبيـة، والتي تحمل بين ثناياهـا مضمـّرات شعبية ، يصعب فهـمهـا على أبناء بعض المناطق في العراق، يقول في قصيدتـه ( ردّي ردّي ) :

ردّي .. ردّي
ياضعن شت عن هله ، وحدّاي
غربة .. البيه يحدي
ردّي .. ينباع العشگ .. وال ياگلب
تهوين صدّي
لا تهيجين الجروح .. اجروحي من تنلݘم
... تدّي
وانة من دم اولحم .. مو من صخر
ݘبدة العندي
ردّي .. مليت الصبر .. وامگاطر
الدمعة .. اعلّى خدي
وانة .. خلاني الوكت .. ناعور
بس اترس .. وابدي
ݘورت ليل الصبر . واعجزت منه ..
وهذا حدّي
بلجي من يغفى الجفن .. ما ݘلمة
التنگال ، بعدي
انه موش اول زند .. يشتل
شلب .. ويحصد بردي
او لا آنه بس اتغرّبت والمعتنيله ..
ايصير ضدي
ردي .. ردي
مالي حيل امعاتبݘ .. وانه العليݘ
اديت جهدي
غلّست .. عن الگلت والگال ..
گمت اسمع .. واعدي ..
او صابرت صبر الطفل .. شربي الطفل
والحزن مهدي
واحملت ليل العطش .. وانه العيون
السود .. وردي
اوساهرت .. طول البعد لمّن
عشگت إليال .. سهدي
والله ݘا مل او جزع .. لو قصتي ..
اعلى ايوب تسدي
ردي ..وانه .. موطبعي العتب
عالم حلاله .. ايصون عهدي
يا رخص ذاك الجدم . كون اعله ياهو
الݘان .. يبدي
او يا مناحة ذلتي .. وليل الگضيته
ادموع وحدي
وانه .. من دم .. ولحم .. مومن
صخر ݘبدة العندي
انه خلاني الوكت
ناعور
بس .. اترس وابدي .

لعبت الصحافـة والإعـلام دوراً هـاماً في تقـديم عريـان الى الوسط الأدبي والفني ، فقـد أذيعت لـه أكثر من قصيدة في الإذاعة العراقية ، ضمن برنـامج (مع الشعر الشعبي) الذي كان يقـدمـه الشاعر أبو ضـاري، والصحافة المحلية، واليسارية خصوصـاً، أخذت تنشر قصائـده، ثم مـال المغـنون والملحـنون صوب قصائـده، وصاغوهـا بأجمل الألحـان، فقد غـنـّى لـه المطرب سـعدون جـابر قصيدة (تـلولحي بروحي قصيدة تلولحي) وغنى لـه فـؤاد سالم وريـاض احمد ، كثير من القصـائـد ،كما غنى لـه المطرب كريم منصوروعبد فلك ومحمد عبد الجبار وغيرهم الكثير، وشـارك في أكثر من مهـرجان شعري ، رغم أن الإعـلام الرسمي للدولـة كان يضايق عليه بشكل حـاد ، كـونـه يتقاطع مع تـوجهـات البعث السياسية ، حتى وصل الأمر بهـم إلى إنــــذار وإغـــلاق جريدة ( طريق الشعب) الشيوعية في منتصف عـام 1978م ، عندما نشرت لـه قصيدتـه الرائعـة ( الشجر يثبت شجر والخـاوية آتطيـح) وتم آعتقـاله أكثر من مـرّة ، وتوقيعـه على تعهـد بعدم الإنتماء الى أي حزب سياسي ، لكنّ قصائـده بـدأت تظهـر على ألسـنة العـامة من الناس عند أهـل الثـورة ، بشكــل يتحـدّى سلطة البعـث السياسية والإعـلامية،وراحت قصائـده وأخباره تـدخل كل بيت معارض لسـلطة البعث الفاشية ، ممـّا خلق لـه صـدى واسع النطـاق على الساحة الشعرية في العراق ،وبـدوره هـو أخذ يشتغـل على قصيدتـه بـإبـداع متفرّد خاص بـه ، إذ مـال في نظم قصائـده الى آستخدام القـافيتين والوزن الواحـد ، وسـمـّاه بــ ( الأنـدلسي ) وهو المعروف عندنا في العراق بإسم ( النصّاري) وكان أغلب شعره السياسي قد صاغـه بهـذه الطريقـة المتقـنة حتى غـدت عـلامـة خـاصة بـه ، سـار عليهـا الشعراء فيما بعـد، ومن أمثلة ذلك قصيدتـه المعروفـة التي يقول فيهـا

( گـصرن يا حسافـه وماخـذن ثـار .. ؤوصـل بيهـن گـصرهـن حـد المتــون
مـانشـفـن دمـع والدمـع مــدرار ... وما وصـلن لـخـدّي مسـحـن آشـلـون )

حـتى طـبــع هـذا الإسـلوب أغـلب قصـائـده ، ثـم بـدأ إسـلوبـه يتفرّد على مسـاحة واسـعة من العـراق ، وراح الآخـرون يقـلدونه في نظمـه وشكل تعاطيه القصيدة ، إلاّ أنهـم لم يصلـوا الى ماوصل إليـه من شـأوٍ عـال في البناء والسبك والمعنى والمفردة ، وبـدت هـذه الطريقـة في نظم قصائـدة تلقى قبولا منقطع النظير، لآنـّه جعل هـذا الإسلوب مبنيـّاً على وزن إيقـاعي يقبل التلحـين والغـناء ببسـاطة وسهولة ، إسمه ( النصّاري)،هـذا من ناحية ومن ناحية أخرى مال الى الغـور في آستخدام مفردات محليـّة شعبية موغـلة في القـدم وأعطـاهـا بعـداً ثقـافيـاً ، من خـلال الإستخدام في النظم، فـأحيا بذلك الكثير من المفردات التي كادت أن تـنـدثر من التـداول ، الأمر الذي جعل شعره مقبولاً عند كل طبقات المجتمع العراقي.
لقـد بـدأت تجـربـة عـريان السيد خلف في نظم القصيدة الشعبية تـأخذ مـداهـا الزمني في التطـور، مع قـلق مواظب نحو الأحسن والأكمل من قبل الشاعر نفسـه ، بوصفه شـاعر حـداثـة شعريـة بـدت تقترب من شاعر الحداثة الشعرية الأول في الشعر الشعبي في العراق ، قصدت الشاعر مظفـر النــواب، وهـذه المسـألة أملت ضرورتهـا عليه لأن يكون في مستوى التحدي لقامـة مظفر النواب الشعرية ، ممـّا شكل لـه عامل قلقٍ متواصل بغية إثبات التحدي هـذا, لذلك بـدأ أكثر حرصـاً على تشـذيب قصيدتـه الشعبية من كل الـزوائـد والإضافـات والحشـو. بمعنى آخر ، أن عـريـان بـدأ يـدرك بوعي كامل مسؤوليـته في تطور القصيدة الشعبية لديه ، من وازع المنافسـة أولاً، ومن وازع الوجود الإبـداعي ثانيـاً ،إضافة الى الحفاظ على رواج القصيدة العريانية في الوسط الثقافي ، لذلك شكـّلت قصيدتـه ( گـبل ليلـة) منعطفـاً هـامـاً في تجربتـه الشعريـة أفضت بـه الى تطـور منظور القصيدة من حيث الشكل والبنـاء والموضوع ، لأنهـا كانت حـدّاً مفصليـاً في تطور قصيدتـه الشعبية . وسنحاول هـنا، قراءة هـذه القصيدة ، بشكل تفصيلي للوقوف على تجربـة الشاعر عن قرب ومحاولـة كشف أعماق التجربة الشعرية ، يقول عريان في هـذه القصيدة:

گـبـل ليـلـة
هـلي كـتبتـلكم مكاتيبي على آوراق دفتر البـافـرة
وضميـّتهن لمـّن يصـح طـارش ليـوصـلهن ، وما صح الطارش
ومن المـامش گـضن وحـده وره الاخره دخـّان انترس صدري
* * *
(1 )

وعـلى واهـسكم خبطنـا المـاي الازرگ
طـالبين بـدين وآعـرف ديـنـّه
وعلى واهـسـكم لگـينا ( الگـصبة) كـعـبـة
نــزور حـزهـــا ولـو سـفـاهـة يعيـــــنـّه
وعلى واهـسكم عرفـنا المـوت الآول وآسـتحى
وعـينـه آنـثـنـت من عـينـّـه
وݘـــان ليـل الخـوف لفحـة ريـح شـــتوه
ولـو شبݘـنا الگــــاع يعـرگ ليلنـه
هـاذبين ..
وݘــانت الظلـمة سـوالف ناثرت ضحݘـه بحـوافر خيلنـه
وعلى ريحـتكم تلگـتنا الشـواطي بفرح نثـيـة وعانگـتنـا وطحنا ݘلمة إثنينـّا
* * *
(2 )
ݘلمـة بيهـا المـاي ذبــّـل كل زراگــــــه
ݘلـمه بيهـا العــــين غـبـّـش كل ترمـهـا
وخضـّرت طـاگــات بعـيـون الرفـــاگــــه
وبـــاگــه بـاگــــه
المـوت من يحصـد الـوادم ..... بـاگــــه بـــاگـــــه
وبــاگــه بــاگــه
الصـوت من يصـحى آعـلى ظـالم ...بــاگـه بــاگـــه
* * *
( 3 )
هـلي ..وثبتت گـلوبـنا ولايـه ، وسـوالفـنا ظفـيره
وشـوگـنا لـدهـله ، ومحـبـتـنا اظـنونـّـه
وخطـارنـا تـراب الجـزيرة .
وديـــره ديـــــره .
المـوت من يشـرب الـوادم ... ديـــره د يــــره
وديـره ديـره
الفيض من يمحي المعـالم ... ديــره ديــــره
* * *
(4 )
وصبـّحت يهـلي على جفـون الخـواطـــر غـاليـات
وطيفكــــم ، وطيفكـم عـاود على عيـوني حنيـنـه
وجـرّعت روحي لجلكم حنظـل الوحشـة
ولگـيت الروح بــالصفـنـــنات أمــــيـنـه
وذاك من ذاك اللـّـگـى النجمـة العـزيزة بلا سمـا ودگ الهـا عـيـنـه
وذاك من ذاك ليحط گـلبـه آعلى ݘفــّه
ويغســل بــآخر نفـس وجــه المـدينـه
وبيـنـه بيـنـه
إشـما تعب لـف المغـازل بيـنـه بيـنـه
وبيـنـه بيـنـه
إشما ثــگـل صوت الهــلاهـل بيـنـه بيـنـه
* * *
( 5 )
ومــرت الوحـشـه على آجفـوني
خـرز سـبحـه وتعـب روجـة بــلدنـه
وسـالفـة، وضحݘـة بـــدويـــّه تمـــوت بطراف النـــــدم
ومـرّت الظلمـه تـِغـِش الشـوف الأبيض
والطـــوارش حـامت بحـامي البخـــت تـوگـف عـَـلم
وݘـان جـفــّي يلاعـب النسـمة وذرى الگـذله عشـب
وݘـان گـلبي يريد يكبرأكبر من آسمه ويـا ذاتـه ويكره ويشگـى ويحب
وݘـنت آسمـّيكم الـذمـّـه...
وݘـنت أشيلنكـم وصـيـّة بغـير حـز مـاتنكـتب
عفـية نهران آشكثــر غـدرانـهـا ملهـا ومايهـا الراݘـد عـذب
* * *
( 6 )
وليـلة حضنتـنـا بتعـبـنا بخـوفـنا بيـوت العشـيرة
وݘـــان أول بيت ضحݘــه
وݘـان ثـالث بيــت رجــفـه
وݘـان رابـع بيت عـين
وݘـان ...دخـّـان المـواگـد ݘلـمـة مـروّه وهــلـه من يغفـى الحـنين
وصـوّغـتنا عيـونهـم بطابــگ دنــان ، ولبن شݘـوه وݘلمة مگـطوعـها بطـول السنين
وعــين عـين
إنشـدّت بـتـالي الطوارف عـين عـين
وعـين عـين
بـلهـفـه تنشـد ع السـوالف عـين عـين
* * *
(7 )
وعـين لفــّتنـا بحـزنهـا وزوّگـت لـون الجـرح
وعـين هـزتـنا ونخـتنا إيـغــزّر ويـانـا المـلــح
وعـين تنـشدنـا من آجـيتـوا ... ماعـثر بيـكم صـبح !؟
هـــلي ... وزتـّـتنا الظفـايروالضمايروالخناجـر
والـدّفـو الغـطـّى الݘفـوف
وݘـانت الهـلهـولـه خـرسـه تضيع بالشـفـه وتطـوف
والگـاع من يكبرگـلبهـا يشـب عشـبهـا وتوصل آحݘاياتهـا لتالي الجـروف
* * *
( 8 )
هــلي ... وسـيـّرتـوا عليّ بوحشـتي ... حݘـايـة بـريد ، وبيت نــايـل
وشتـهـيتـوني آكـتب الكم عن وفا البردي وحنين المـاي ودمـوع السنابل
وعن عين التلم اللـّيل دمعـه ،وتعتـلگ وكت الوفـا شموع ومشاعـل
وعـن الگـلوب التـموت بلايـا سـم وبلايـا رايـه
وعـن شمـس طـلگـت بسـمهـا وعسـّـرت بـآوّل قــضيـة
وغـربـتي وصـوت النـواعي يـلـوحـنـّي وتـلــتم إيــديــّه
الصـوت بيـه ريحـة عـيوني ، وبيـه هـلي ؤوّحشــة مسـيـّه
هـلي يـامـن ضـيعـوني
* * *
( 9 )
وكـحـه النفــس ماتفعـل تـلــين
منبـت حـزن ومـخـالف آســنين
واللـّيل لـو سـد الـروازين
شـمسـين حمـرا آيخضـّر الطـين
وهـيـّه هيـّه
العـــين من تگـَضي السـوالف هـيـّه هــيـّه
وهـيـّه هـيـّه
الگـاع من تجـفــي وتـوالــف هـــيـّه هــيـّه
* * *
( 10 )
هـلي ..وشـرّعني هـواكـم باب للخطوة الغريبـة
وخـايرنـّي عيـونكم :
ذِل لــوݘــتل ؟
وآنــا والمـوت آلتحمـنا بمـايكَـم سـاگ وحجــل
الروح شـاخص والعمـر بـرگـة گــــمر والموت ظـِل
أويـه كل مغـدرة زمــــرة رصاصـه
أويـّه كل لهـبة أصرخ بـدمّي إشتعل
الدنـيا من يشـح ضواهـا الدم بكل حيــــله يهـل
هـلي ... وآخر مكاتيبي كتبتـه الكم على الگـاع
إبنـكم بـاعـته الدنـيا ولا آنــــبـاع .

* * *
المقدمة النثرية للقصيدة ، ترسم لـوحـة لرجل سياسي ينتمي الى طبقـة الفـلاحين ، يكتب على ( أوراق لف السجائر المعروفة في العراق بإسم – ورق بافرة) كانت سائدة الإستخدام في أغلب مناطق العراق الجنوبية ، في بـداية الخمسينات والستينات من القـرن المنصرم، وهـذا الفلاح الثائر إسمه (أبو محيسن) من أهل الناصرية ، كان قـد أودع سجن ( نگـرة السلمان) المشهور والخاص بالسجناء السياسيين ، وأغلبهم من الحزب الشيوعي العراقي ،ويقع في محافظة المثنى ، على الحدود السعودية العراقية . وليس لدى هـذا السجين سـوى ( دفتر لف السجاير هـذا) , بمعنى أن الشـاعر ينطلق بتوصيف الحـالة من ضروراتهـا الذاتية والموضوعـية كي يرسم حـالة إنتماء صادقة لهـذا الفـلاح اليسـاري السـجين ، وهـو ( يكتب) بعض خـواطره لأهـله، على هـذا ( الدفتر) المخصص لـلف السجاير، ( وهـنا نلمس أن كلمة أهـله) تعني تنظيمه الحـزبي ، من ناحية ، ومن ناحية ثانية تشير الى أهـله الحقيقيين الذين ينتمي إليهـم ، وقـد تنسحب الدلالـة على كل الأصدقاء والمـوآزرين لـه ولحـزبـه , وهنا نلمس قـوة الإيحاء في رسم المفردة الشعرية ، التي تقرأ على أكثر من وجـه ، وتلك واحـدة من خصوصيات عريـان السيد خلف الشعرية .
إذن ، أشارت هـذه المقـدمة ، وبشكل مباشر، الى أن القصيدة ( ذات طابع سياسي) منذ الوهـلة الأولى, الأمر الذي سيفسـّـر – لاحقـاً- بعض إسقاطـات المباشرة في القصيدة ، وكيف سيتخلـّص منهـا الشاعر بحرفيـّتـه العاليـة . فيما يكون – المقطع الأول- يشير الى بدايات ( ثــورة الأهـوار) عام 1968م حيث لجـأ – الثـوار الشيوعيين- إلى منطقـة الأهـوار في جنوب العراق، وآتخذوهـا ملجـأ عصياً على الحكومة ،في حالة آقتحامه ، لذلك تظهـر مفردات تلك البيئـة على القصيدة ، مجسّـدة حالة التفـاعل الثوري – عند أبو محيسن- ولحظة وصولـه الى – الهـور- حيث ، الماء الأزرق، والقصب ، الذي شكـّل للثـوار ( كعـبة) بوصفـه الحامي الأرأس والمتراس الأصلد لهـم من كل طـوارئ مفاجئـة من الحكومـة التي ( تـزورهـم على شكل زركَـــات ) مفاجـئة ، قد تـوقع بـهـم . لكن الحالة الثـورية ترفع درجة اليقظـة عـندهم كـونهم ( أصحاب حق ) وأن الناس تنظر إليهم بـآعتـزاز بطولي يعزز قـدرتهم على الصمود ، لذلك نقرأ عبارة الشاعر ( وعلى واهسـكم عرفنا الموت الآول، وآستحى وعينه آنثـنت من عينـه) هـذه العبارة المجنـّحـة بجماليتهـا المرسومة بعناية وبسـاطة ، قـد تعجـز عن مجاراتهـا بالتوصيف العبارة الفصيحة في رسم تلك الصورة في مواجهـة المـوت ، أو تلك العبارة التي يصـوّر زمهرير البرد وهم يخوضون ليالي الشتاء في تلك المستنقعـات المائية ، وكأنهم في نزهـة وليس في حـالة قـــتال (وݘـــان ليـل الخـوف لفحـة ريـح شـــتوه ولـو شبݘـنا الگــــاع يعـرگ ليلنـه . ) هذه المفردات لاتـدانيهـا مفردات ، تعبـّر عن حالات المقـاتلين ، لأنهـا من روح تلك البيـئـة التي تفهـم أبعـاد مضمراتهـا النفسيـة ولأنهـا عـامل رئيسي في الـدفع والمواصلة في خوض النضال. وعلى العموم ، كان هـذا المقطـع يعبـّر عن حـالة الإقـدام المتناهـية عند الثـوار من أجل قضية آمنوا بهـا.
فـيما يـوضـح – المقطع الثـاني- حالة الفـرح التي يستقـبل بهـا الثـوار عند زياراتهم الخاطفة الى شـواطئ الأهـوار ، وكيف يستقبلهم الناس ، دون وجـل وخـوف ، فيما ترسم عبارات التحـدي للسلطة أفقـاً يـؤمن بـه المقـاتلون ، وهم يرددون في ذواتهـم أمنيات صادقة يؤمنون بهـا تقـول :( الموت من يحصد الـوادم .. بـاگـه بـاگـه ) (والصوت من يصطي آعلى ظالم بـاگـه بـاگـه) حيث تشير مفردة الجـناس ( بـاگـه) في البيت الأول الى معنى ( مجموعة مجموعـة) فيما تكون في البيت الآخـر بمعنى (سرقـه من الحيـاة) ونلاحظ الترابط الجميل بين الطباق في المفردات ( يصطي و بـاكّـه) حيث التلازم في التوظيف والدلالة والبناء الشعري الجميل .
فيما يرسم المقطع الثالث، حالة من تـداعيات الخـوف المبطـّن والموجـّه ضد السلطات ، دون أن يكون هـناك مباشرة واضحة، فيما تتـداعي الأماني لإستحضار الأهل (وسوالف) الديرة والضيوف ، والتي لايروهـا ، ولكن يعـزّون أنفسهم بأن خطـّارهم ( تراب الجزيرة) كتعبير عن حـالة حالمة بالضيف ، بوصفهـا طبع متـأصـّل تشتاقـه الروح لتتـعايش معـه ، حتى وإن كان سراب .
فيما يستحضر الشاعر، وهـو يتحدث بلغـة (بطله) في المقطع الرابع ،طيوف الأهل والأحبة وهي تعاود عيـونه ، وهو في لجـّة النضال ( وطيفكم عـاود على عيوني حنينـه ...وجـرّعت روحي لآجلكم حنظل الوحشة ). حنظل الوحشة ، توصيف لمعـادل موضوعي يكشف مرارة الإشتياق في الروح ، ومقـدار حـالة الصبر في روح الإنسـان لتفضيل الأولويات في مسارات الوجود ، وهي درجة إختبار الذات في موضوعهـا ، ومن هـنا نفهم عبارة الشاعر ( ولگـيت الروح بالصفـنات أمينـه) بمعنى الإنتماء للناس هـو مقياس النضال .
والمقطع ذاته ،يظهـر الإسقاط الطبقي ، في محموله الماركسي المـؤدلج ، إذ حـاول عـريان الإيحاء بين العمال والفلاحين حين قـال :( وبيـنه بينـه ...إشما تعب لف المغـازل بيـنه بينـه ) . فيما ينقـل رؤاه الإجتماعية ، في المقطع الخامس، كجزء لاينفصم من تفكيره المقلق على ناسه وذويـه ، لكن تبقى العبارة تحمل مدلولاتهـا السياسية حينما يقول : ( وݘـان ݘفـّي يلاعب النسمة وذرى الگـذله عـشب ... وݘنت أسمـّيكم الذمـّـه ، وݘنت أشيلنكم وصيـّة بغير حَــز ماتنكتب ) فالوصية ، مـوقف أخلاقي ، يحافظ عليه الشاعر من خلال مضمـّرات النص ومحاميله المؤوّلـة في البعد السياسي ، وهنا تظهر قـوّة التوظيف عند الشاعر، حينما يفرض القراءة على المتلقي على أكثر من وجـه ، وتلك أيضاً ، من سمات عريان الإبـداعية في الشعر .
في المقطع السادس، يستوقفنا الشاعر أمام حـالات إجتماعية في الريف العراقي ، تشكل فـولكلوراً قوي الحظور في الذاكرة الجمعية ، مع كشف لحـالة الواقع الإقتصادي الضعيف ، ولكن إبتهـاجات الناس تتجاوز عسر الحالة من خلال شكل التـآلف الوجـداني فيما بينهم ، يقول : (وݘـان ...دخـّـان المـواگـد ݘلـمـة مـروّه وهــلـه من يغفـى الحـنين ، ..وصـوّغتنا عيونهم بطابگ دنان،... ولبن شݘـوه وݘلمة مگـطوعـها بطـول السنين) .
بعض هذه المفردات ، لايحملهـا القاموس الفصيح، ولا تتـداولهـا لغـة المدينة ، فعبارة ( وصـوّغـتنا عيونهم طـابگ دنان) ترسم معالم الترغيب في الضيافة ، وتقـديم النادر- الطـابگ المصنوع من ( حـَب الـدنان الناعم) مع إيحائية لفت العين لهـذا المصنوع ، وكأنـّه هــدية ، والتي أوحت بهـا كلمة ( صـوّغتنا) المشتقـة من كلمـة ( صوغـة) أي الهـدية في مفهوم الريف ،ثم مع هـذه الهـدية ( لـبن شݘوة) أي ذلك اللبن الذي يشتق من خض السـقاء ، بعد فرز الزُبـد عن اللبن، مع كلمة شوق ووِد متسـرمـدة في ثنايا الروح بعزف الشوق كلّمـا إشتعل الوجـد في النفـوس ، أثناء الغيـاب ، هـذه المفردات توقض الضمائر الغافية في حـالة حظور شـاهـدة المكان ,وتلك أيضاً ، من صيدات عريـان الشــعريـة .
المقطع السابع ، يعزف على وتـر اللـّـقاء بالأهل والأحبة ومن ثم التـوديع ، بعد تلك الزيارة الخاطفـة للثـوار،حيث يكون هـناك ( الكتمان الواضح للزيـارة) خشية أن توصل أخبارهـا من قبل ( المخبرين) الى السلطة ، لذلك جاء توصيف الوداع على النحو التالي : ( وزتتـّنا الظفاير والضماير والخـناجر والدفـو الغطـّى الݘفـوف) ومن ثم عبارة ( وݘانت الهلهولـة خرسـة ، تضيع بالشفـّـه وتطوف) وهو تعبير جميل جـداً في قراءة وجوه الناس التي تحاول التعبير عن فرحتها بالقـدوم ، لكن – الحذر- يُلجم حالة الزغـردة ، أي الهلهولة ، ويبقيهـا أسيرة الشفاه ، ويلحظهـا القريب المقطع الثامن ، يـدورفي فضاء حـالة التـداعي الحالمة وحضور أخيلة الأهـل ، ومنلوج داخلي يحاور فيه الشاعرعن رغبات نفسه ورغبات أهـله في الكتابة لهم عن ( حـالة الهـور) التي يعيشونـا كسـاحة للنضال، وكتجربة جـديدة عليهم ، ويتماهى بالتوصيف ، حتى يصل بذلك التماهي ، في المقطع التاسع ، الى التعبير عن حـالة الموقف السياسي المتحدي للمستحيل عندما يقـول : ( وكحـه النفس ماتفعـل تلين ) أي قوية وترفض أي مسـاومـة ، ويعتبر ذلك موقفـاً يحدد بـه نفســـه .
أماالمقطع العاشر فقـد أراده عريـان أن يكون خاصاً بـه ، كموقف سياسي وإبـداعي بنفس الوقت ، حيث كان البيت (هـلي ..وشـرّعني هـواكـم باب للخطوة الغريبـة وخـايرنـّي عيـونكم، ذل لــــو ݘـتـِل )
وهـذا موقف الإختيار بين أن يعيش مقتـولاً ، ويصبح شهـيد ، وبين أن يعيش ذليلاً ، كما تريد السـلطات السياسية ، الأمر الذي فضـّل أن يكون شهيداً، كي لا يتلبـّسـه عار الـذلـة ، ولذلك قـال في نهـاية المقطع ، وهـو البيت الأخير في القصيدة أيضـاً : ( هـلي وآخـر مكاتيـبي كتبـتـه الكم على الگـاع .. إبنكـم بــاعتـه الدنيـا ولا باع ) وهنا أراد عـريـان أن يقـول كلمته السياسية فقـالهـا بهـذا الوضــوح الناصع .
كما أعـتقـد ، أن هـذه القصيدة كتبهـا عـريـان عام 1973م ، كقصيدة طـويلة ، حاول فيهـا أن يقـترب من شكل ومضمون قصيدة مظفـر النـــواب ( حݘـّـام البريـّـس) والتي كانت أجوائهـا ومضموتهـا ومكانهـا الجغرافي وبطلهـا الشيوعي أيضـاً، هي نفس أجواء وأماكن ماكتيه عريـان في تلك القصيدة، مع السبق لمظفر النـــواب، حيث كان مشاركـاً حالة العمل السياسي في الأهـوار،وكتب قصيدتـه تلك في عـام 1970م ، بوصفـه شاهـد عيان ، لذلك من يقرأ القصيدتين لاشك أن ستعيده الى تلك الأجواء والحواضن لبيئـة الأهـوار،مع الفرق أن مظفـر النـواب في قصيدتـه تلك واضح المجاهـرة بنقـده للحزب الشيوعي العراقي ،فيما أحجم عـريان السيد خلف عن ذلك ، رغـم أن حركـة أنصار الأهـوار كانت من الفصيل المنشق عن الحزب الشيوعي العراقي ، والذي كان يعرف بـــ ( القيادة المركزيـة) ، بمعنى آخر أن عـريـان أميل لمهـادنـة (اللجنة المركزيـة) لكن هـواه مع ثـوار الأهـوار ، وكل القصيدة تقـول ذلك ، بـل والأنكى ، أن عـريان كتب قصيدة أخـرى عن مناضل آخر ، كان يشتغـل ( بــلاّم) أي صاحب قـارب وكان ينقل أنصار الأهـوار ، من مكان لآخر، بمافيهـا نقلهـم الى الأهـوار الحـدودية بين العراق وإيران في هـور الحـويزة ، كان هـذا ( البـلّام ) أو مايعرف بتلك النـواحي بــإسم (المعـيبر) وكان إسـمـه (عـبد) وكانت قصيدة عـريان التي تمجـّد بطولة هـذا البـــلاّم تحمل عـــنوان: (المعـيبرعـبد) وهي قصيدة تحكي عن نفس أجواء وحياة الثـوار في تلك المسطـّحات المائية في العراق ، والمعروفـة بـإسم الأهـوار يقـول عـريان في بعضٍ منهـا :

عبد ستـّر قميصه، اعله اليعبرون
روحه ابدربهم شعل
يكشف الليل
وفرش جفنه السمح
عن لا يعــــثرون
وتنز يغلب السابح على الريح
ويحومر منتشي
ابطـور اليغنون
تمايـز نخـوتــه
وصوته وهـــوى الناس
وشبابه اليحلم ابليلة كلبدون .

وبعـيداً عن الموقف السياسي لعريـان السيد خلف ، نـرى أن نظـمه الشعري ، بقصيدة ( گـبل ليـلة) دخلت مضمار الحـداثـة الشعرية التي أسـّسهـا مظفـر النـواب، لكن عـريـان ، من خلال النماذج أعـلاه ، ظل يراوح بين الشعر الحديث والكلاسيكي المقفـّى ، وروحـه أهـوى وأميل إلى الثـاني ، حيث أن هـذا الطـابع متـأصـّل في روحـه وهـو عليه متطـبـّع ، وهـذه الإشكالية في أغلب منظوماتـه الشعريـة ، يميـّزهـا النقـّاد على أنـه مطبوع على ( الكلاسيكي) لكن هـذا الكلاسيكي ، يـــبذ الحداثـوي ، بين أوساط الشعراء الشعبيـّين في العـراق، ومتلقين شعره بهـذا النمط أكثر بكثير من متابعي نمط الحـداثـة ،لذلك مـال عـريـان الى القـديم- الكلاسيكي ، أكثر منه الى الشعر الحديث ، وحسـم ذلك بشكل إبـداعي عـندما أوجـد ( لـونـه الخاص) في النظم الشعري ، والذي يعتمـد القـافيتين والوزن الواحـد في النظم ،والذي يعرف في العراق باسم ( النصّـاري) كما أشرنا في مقدمـة هـذه المقـالة ، هذا النمـط الذي أصبح مـدرسـة سـائدة عـند أغلب شعراء منتصف السبعينات والثمانينات والتسعينات من القـرن المنصرم ، ومازال ثـابتـاً حتى هـذه اللـّحظة ، ومن نماذجـه الجميلة التي كتبهـا عـريان في منتصف عام 1975م هـذه القصيدة التي تعرف بــإسم( جــّيـة العيـد) يقـول فيهــا:
يناهي الشوگ ذمٌـه وذات من ذات
وفرق مابين حالي وحالك إبعيــــد
سنه وصدّك يِضَـوگ الروح لوعات
ويݘملٌي الجروح جروح ويزيــــــد
أبات إبحضن صبري إلليالي ويبـاتْ
جرح يصحه وجرح متغصّب إيزيــــد
وأگول إشوالف السرحان للشــــــــاة
إعله سـݘّــه وگاوداه الإيــد بالإيــــد
إلك ݘـانت يحــلــو الطـــــول جيــّـات
عجــب تبخل عليــنه إبجـيٌـــة العيـــــد

* * *

والمتابع لـهذه القصيدة يلاحظ كيف أنـّـها بنيت على حرفـي روي، : هـما الــدال والتـــــاء ، في نهاية كل شطرة من البيت ،مع وزن واحـد، هو وزن النصاري الذي يبنى على تفعيلة ( مفاعيلن مفاعيلن مفاعيل ) وتسير على هـداه القصيدة في كامل بنيانهـا ، وعـريـان على هـذا النمط من الشعر لايمكن أن يجاريـه شاعر آخـر، إذ هـو متمـكــّن من صنـعتــه بشكل فريــد ،وهـذا لايعني أنــّه ينظم فقط بهـذا اللـّون من النظم ،بـل على ألـوان أخرى من الشعر الكلاسيكي ، ويجـيدهـا أيضـاً ، ومن ذلك قصيدتـه المشهـورة ( جثــّة إلـتـم عليهـا الـدود) والتي تعطيه مـيزة الإقــتدار بشكلٍ ملفت للنظر من حيث القـدرة والتفـنن في صياغـة الأفكار وصبـّها بقـالب عـذب وجميل ، مع إستخدام حافـل بمفردات البيئـة الشعبية التي تكشف موسوعيـّتـه في استخدام تلك المفردات ، وكـأنـه يبعث الحياة فيهـا ، فتتراقص تلك المفردات ، على أنغـام أوزانـه الشعرية ، سـاحبة المتلقي الى فضاءات سحريـة ، سهل العثور فيهـا واكتشافهـا ، ولكن صعب المنال في توظيفـها بهـذا الشكل الذي يجيده عـريان السيد خلف ، بمعنى آخر ، أن إسلوب ( السـهـل الممتـنع ) في النظم عند عـريان ،يـأخذ شكل الفـرادة عـنده ،بحيث أنـّك تشعر بأن عريـان يتحدّث نيـابـة عـنك بشكل جميل ، وتلك واحدة أخرى من ميزات شـاعريـته العالية في الشعر الشعبي العراقي ، الأمر الذي يزيد في جماهيريـّته ، ويوسـّع في مـداه الشعري ، لذلك تخطـّى حـدود حاجزه الجغرافي العـراقي ، وراح يُسمع ويُقـرأ في بلـدان عربيـة أخرى كثيرة، ويـدعى الى مهـرجانات دولية وإقليمية ، وكل هـذا بفضل سعيه المتـواصل للسهر على قصيدتـه وتقـديمهـا للجمهـوربشكل عـالي البنـاء وعميق الغـور،وصورة إيحائـيـّة تشد المتلقي إليهـا بشكل عجيب ، تعالـوا نقـرأ قصيدتـه ( جثــّة إلــتـم عليهـا الـدود ) التي يقـول فيهـا :

تنيتك عــود .. ينشاف العطش بيـّـه
ؤ عله .. المامش ،اهروشي اتجــود
الوذ ابشيمة العاگول .. واصعد على
الآه اصعود
ومراوح يعمر اجفاك .. جرح ايصيح
او جرح يهود
ؤ تنيتك وانت ميـّت شوگ
ظنه اعله اليمـوت ايعـــود
اتاني الود .. يدمعة عين .. طاحت
وشيردها اردود
واشعِزة الدمع بالعين، لو شح ساعـــة المنگود
دخليني اعله بالك .. طيف لو عادت أيامي يعـود
ؤ خليني اويه دمك شوگ من شوگـي البـلايا إحـدود
ومحالل بعت وشريت بيهـن والعمـــر معـــدود
ؤ مو ندمه الغزالة اتطيح صيدة بشبݘة الصايود
لاݘـــن يـالعـزيز الحيف ع الصايد يگــع مصيود
لو ذيݘ الليالي تعـود ، ؤ لو شطنه الجزر خنـياب
يومين ويـرد صيهـود
ݘنت اصرخ : يهلغراف ما تغسل
اگلوب السود
وتشلبه اعله سور الغيض لو باب العتب مسـدود
وگبالك وفـك الروح من حـبل الوفـه المعگـود
وتكـتـّر ولك دنياك .. خـل تنگـص دخلي تـزود
واتصبّر .. يگلبي انعيش تتواكَد وآگـلـّك هـود
دنياتــك نحــيسة عـــين والـوادم خـِلـيـّة جـــود
وصوابك يجرح الآخ كل آخ التلـݘــمـه إيـزود
يمعتـّب هظيمـه اعليك تحصـد باگـة المحصـود.
و تعـتب والعتب مدفون جثــّه إلـتم عليهـا الـدود

هـذه القصيدة تفـاجئك بالمفردة البسيطة السهلة ، لكنهـا تحمل معانيهـا ودلالاتهـا العمـيقة ،ويغـريك التوظيف البنائي ، والقدرة العالية في هـذا النظم الكلاسيكي ،المحكم الأوزان، والمرتكز على القـافية العـذبـة التي تنسجم وجرس هـذا الوزن، بحيث أن حـالة الكمال النظمي والبناء الشعري، أخذت كل أبعـادهـا الجمالية ، وعريـان يضيف إليهـا بعـداً آخـراً، يتمثــّل في طريقـة الإلقـاء الساحرة التي يملكهـا عـريـان ، ممـّا يفرض على المتـلقي السماع بكل الحـواس ، وليس فقط بحاسـة السمع، بمعنى آخر ، أن عريـان يغـريـك ويغـويك ويشاغل عقلك ، ويجيـّـش كل حـواسك ويشـدّك إليه ، كي تكون كـلـّك آذان صاغـية ،ممـّا يجعـله قـادراً على توصيل فكرة قصيدتـه الى المتلقي بسهولـة ويسـر، وتلك أيضاً، سمة أخرى من سمات شـاعريـة عـريـان المتمـيـّزة .
كل هـذه الأمور جعلت من شعر عـريـان السيد خلف أن يجتاز عتبة كل بيت ويـدخل الى النفـوس بسـهولة وترحـاب ،الأمر الذي جعـل عـريـان أن يوظف شعره هـذا في المضمار السياسي ، بحيث أنـّك تتلمـّس هـذا الجانب في أغلب قصائـده ، ولكن ليس بالشكل المباشر والفـج ،بل بالتـأويـل وتضمين دلالات الكلام ومـرموزيــّاته مفردات شعبية تلزم العقـل لأن يفسـرهـا على أكثر من وجـه ، دون أن يخرج عريـان ، في هـذا الشكل عن أصول نظم القصيدة ، مـاخـلا بعض القصائـد السياسية من مثل ( عـتاب لعبدالكريم قـاسم ، والشجر يثبت شجر والخـاويـة إتطـيح) وغيرهـا .
وعـريـان ينظم قصيدتـه السياسية ليس بـإسلوب واحدٍ ، بل بـأساليب مختلفـة ،وأنماط مألـوفة في مجتمع البـداوة والمدينـة ،وهـذا يعني أن عـريـان يعرف طرائق توصيل قصيدتـه ، السياسية وغير السياسية ، ولكونـه شاعر يسـاري، فـإن التــأويل عند القـارئ يحيله الى تسـيـّد الجانب السياسي على الجانب الإجتماعي ، وعـريـان ، من جانبـه، يـزيد هـذا الإيهـام عند القـارئ ، لأسباب شـتـّى ، منهـا : أولاً، تجـاوز عقـل الرقيب ومقصـّه ، لاسيما وهـو ينشر قصائـده في أغلب الصحف العراقية .
ثانيـاً، يريد التميـّز عن بقية الشعراء بهـذا الإسلوب ، ثالثـا ، تـأكيد قـدرتـه على الصناعـة الشعريـة ، بفـرادة وتميـّز ، رابعـاً، إضفاء طـابعـاً خاصـاً ، يشير الى بصـمته الشعريــة ، في هـذا التفـرّد .
ففـي قصيـتـه المعروفـة ( يـاگـلبي لا تتـمـنـّى) فـإنـه يمازج بين ثقـافـة الريف والمدينة والبـادية ،مع اختيار وزن شعري معروف بـإقـاعاتـه في كل هـذه المنـاطق ، رغم أن هـذا اللـّون من الشعر سـائـد في البـادية ، وأقـرب الى ( نظم الميـمر) من حيث الإيقـاع لا الشكل ، بمعنى أن ( لازمـة القصيدة) وهي من النمط الكلاسيكي ، تملي على الشاعر أن تكون قـوافيـه تتناغم وتلك ( اللاّزمـة) بحيث أن المتـلقي يشعر أن هـناك إيقـاعـاً راقصـاً يلف القصيدة، ويعلي من ضجيجهـا في النفس ، مع وجـود مفردات شعبية مستخدمـة في ثقـافـة تلك البيئـات، وهـذه واحـدة أخرى من ميزات شاعريـة عـريان ، يقول في هـذه القصيدة :

لا تتمنى.... ياگلبي لا تتمنى
ماطول جافانا الهوى وبطلنا
لاعين ظلت خاليه ولا ظل ولف يتعنّى
لاتـدگ يالدگك قهـر مقفول باب الجنه
وهينوب ما مش ضنـّه !
آه يا ياوكتنه الماصفت نيته وزرگ عـينه النه
وطحنا بوسط شلوة هفا وكل ذيب يبرج سنـّه
ردنه نـگـف ونهـوش نحـمي الروح ما امكنـّا
وانت بجلادة عـين صحـت اكلنـّـه
وماطول راضي بموتـنـا آستاطـنـّه
آه يا خسارة نوحــنه ويارخص ذيݘ الونـّه
ردفن علينا آسهامـكم وعلى الصبر دامنـّه
لا احنه للدنيا صفينا ولا هـوى الدنيا النه
متبدّل بطبعـه الوكت لـو احنه اللي تبدلنه
آه ياهــواهـم بــاوّل ايامـه شكثــر دللـّنــه
ومن وصل طينتها الظهر كلها تـبرّت منـّه
لا سالفة بشفـة محــب ولا عـاذل اليعذلنـه
أُوحشت دنيانا وصفت ݘنهه ابد موش النه
متبدل بطبـعـه الوكت لــو احنـه اللي تبدلنه

فـالمفـردات : هـينوب ، شـلوة هـفـا ، نگـف ،دامـنـّا ، نهـوش، أغـلبهـا مفردات البادية ، فيما تبقى بقية المفردات تتوزّع على قاموس المدينة والريف ، إضافـة الى أن ( الإحسـاس الشعبي ) وسـايكولوجية التعـامل الإنساني في تلك البيئـات يقبل بوجود مضمامين تلك المفردات ، بوصفهـا تعبـّر عن حالاتـه الشخصية ، والتي تـبرز أجـواء القصيدة دلالاتهـا الشعبية والنفسية ، بل تعـبّر عن روح البـداوة الخشنة ، والتي يشترك معهـا الريف العراقي بتلك الخصال , التي تحاكي الذات والواقـع وتتحدّى الزمن ، وعـريـان هـنا ، وجـّه نقـداً الى السلطة السياسية القـائمـة والى بعض الأحزاب السياسية التي ينتمي إليهـا اليسـار بـرمـته ، فحينما يقـول ( آيـا وكـتنـه الماصفت نيـتـه وزرگ عيـنه الـنـه ) فـإنـه يشير الى الحالـة السياسية السائـدة في العراق في نهـاية السبعينات من القرن المنصرم ، وأن الوقت ليس بصالح اليسـار ، ولم يلتفت لهـم ، أي الزمن ، فيما تشير عـبارة ( طحنا بوسط شـلوة هـفـا ،،، وكل ذيب يبـرج سـنـّه ) هذه العبارة بدوية بالمطلق ، إذ أن مفـردة (شلوة هـفـا) تشير الى مجموعـة الذئـاب الكاسرة ، وهو وجماعـته قد وقعـوا في وسطهـا ، والعبارة هـنا ، تـؤوّل الى توصيف حـزب البعث في تلك الفترة ، عام 1978م ، حيث إستشـرس في تصفية خصومـه السياسيـّين في العـراق ،وهو على رأس السلطة ، فيما تشير عـبارة ( وانتَ بجـلادة عين صحت إكــلـنـّه) تقرأ على أنهـا نقـد للحزب الشيوعي العراقي الذي ينتمي إليه عـريان ، والذي كان حليفاً لسلطة البعث قبل عام 1978م ، وكان لايستطيع الدفاع عن أغلب كـوادره التي زجّ بهـا البعث في السجون والمعتقـلات ، فيما تكون عبارة ( ومادام راضي بـموتـنا إستـاطـنـّه ) هـو توجيه الخطاب للحزب الشيوعي الذي ( وافق ) على تلك المـأسـاة من خلال عـدم الدفاع عن أعضاءه ، وقـد تقرأ العبارة بشكل آخر ، من حيث دلالتهـا الإجتماعية ، إذ يكون المخاطب ( الحبيب) الذي يوافق على قتل حبيبه عن طريق السماح للذئـاب بـافتراسـه ، فيما تـكون عبارة ( متبـدّل بطبعـه الوكت لو إحــنا اللتبـدلـنـه ) تشير الى التغـير العام بسياسة البعث الحاكم ، ومهـادنة الشيوعيين لهـذا التبـدّل ، لأن نهاية العبارة تخاطب الذات ( لـو إحنا اللـّتبدلنا ) بمعنى أنفسنا التي تبدلت , ورضينا بهـذا الواقع ،مع عـلامة الإستفـهـام الكبيرة التي يفترضهـا الشاعر.
وتـأكيد هـذه القـراءة السياسية للعـبارة ، هـو تـوكيد الشاعر بعبارة أخرى على هـذا التبدل في الموقف عـندما يقـول ( ومن وصل طينتـها الظهـر ..كلهـا تبـرّت منـّه) ومعنى ( وصل طينتهـا الظهـر) هي عبارة تشير الى عمق الأزمة عند الأنسـان الذي يوصف نفسـه بـ ( الفرس) وهي تغوص في أوحـال الشدة ، ويصل الوحـل الى ظهـرهـا ، بحيث لم تستطع أن تكون قادرة على السير أو التقـدم ، وهي أخطر حـالة للتوصيف عن المسـألة ، سياسية كانت أو إجتماعية ، ومفردة ( كلهـا تـبرّت منـّه) تحسم القراءة السياسية ، كون التعميم في العبارة يشمل الكل ، وينتقـد الكل ، بحيث أن الأبيات الأخيرة في القصيدة تشير الى الجفـاء المطلق بين الشاعر وحزبـه وأصحابه ورفاقـه حيث منطوق عبارة ( لاسالفـة بشفة محـب ولا عاذل اليعذلنه ) تشير بوضح الى جفاء الناس عـنه ، أحباب كانـوا أو عـواذل ، ويختم القصيدة بالبيت الذي يقول ( متبـدّل بطبعته الوكت لـو إحنا اللـتبدلـنه ) هـو أراد البـوح بإيحاء مقصود للحزب الذي ينتمي إليه ، وكأنما أراد القـول ( متبـدّل بنهجـه الحزب لـو إحنا اللـتبدلنـه ) وآبتعـد عن ذلك كي لايقع في المباشرة السياسية .
وعـريـان ، أعـذب في الشعر عندمـا يبـــدأ في الغـزل ، فهـو مفرط في توصيف حـالته وعـذابـاتـه أمام الحبيب ، وكــأنـه يتمـاثل –عمليـّاً- ومقـولـة القشيري المتصوّف ، التي تقـول :
( بـني الحـُـبّ عـلى القـهـرِ فـلــو ... عــدل المحبـوب يومـاً لسـمج
ليس يستحسـنُ في حكم الهوى ... عـاشـقُ يطلبُ تـأليف الحجـج )

ففـي قصيدة صغيرة لـه إسمهـا ( حـِسـن يــاحـِـسن) يجسـّد فيهـا تعاشق الحـواس كلـّها مع وجـه الحبيب وكيانـه ،ولكنه ، مع ذلك، تبرز فيهـا ( ذاتيـّتـه) كـإنسـان يعي معنى الحـب ومعنى الحبيب ، أي جـدلية التعاشق والحـياة في منظورٍ متكـافئ عـند الطرفين ،ولكن ( أحاسيسـه السياسية) تظهـر بمجرد إمعـان النظر في القـراءة التحتيـّة للنص الشعري ، يقـول في هـذه القصيدة :

حـِسن يـاحـِـسن
يمـولـّع العـين الما ترضى تـِمـِل
تمـلهـا انتَ ويملـهـا الكـِـل
تملهـا ارموشـهـا وينݘـِـسر بيهـا الظـل
طـبع روحي .. ولك روحي أريحيـّـه اتشـيل راس الخـِل
روحي امعـلـّـمـه وتحمـل
جـِدَم يصعـد جـِدَم ينــزل
ݘثيره الحملـوهـا اذنـوب گـالـوا يـوم مـاتݘـمل
عمـرهـا ولا تگـول أحـّـاه واليشـݘي الهضيمـة ايــذِل
ودلـّل بالهـوى اتــــدلـِّل
يهـل الحـلوين: مامش طيف يطوي ارموشنــا وينزل ؟
يهـل وكـحيــن : مامِـش زين ويّ آهـل العــدِل يـعـدِل ؟
وتـگـلي بوجـه ريــح اثــبت ؟؟
لا يل الحـِسـن مابيــّاش سمݘـه وفـولكـم تهشـِل
يلاگـنـّي ويَ مجرى المـاي عشـرة تصيب وُحــده اتــزِل

هـذه القصيدة واحدة من أجمل (فـلتات) عريـان السيد خلف ، التي حـاول التخلص بهـا من سيطرة ( الإسقاط السياسي) إلاّ أن الهاجس هـذا ، ظل يوحي بوجوده من خلال بعض الأبيات 7 و 8 ،ولكن طابع القصيدة العـام بقى متماسكاً للمضمون الإجتماعي , وأعتقــد ، أن فتــرة السبعينات من القرن المنصرم ،كانت عـاملاً مهمـاً في وجـود هـذه الظاهرة السياسية ، سلباً وإيجاباً، وعريـان ليس إستثـنـاءً منهـا ، لاسيما فترة مابعـد عام 1978م ، حيث أعلن حزب البعث في العراق معـاداتـه لكل الإبـداع العراقي ، شعراً ونثـراً، إذا لم يكن يخدم توجهـاتـه المـؤدلجـة في سياقات مضامينهـا السياسية ، لذلك نـرى في أدب تلك الفترة طغيان الهاجس السياسي عند الشعراء أكثر من غيرهم ،ومع ذلك إستطاع عـريان أن يعـالج مسـألة ( العشـق) في وجـوده الشخصي والإبـداعي في أكثر من قصيدة ،وأكثر من ديـوان ، فرغـم حـالة المراقبة السياسية عليه ، بشكل صارم من قبل السلطة السياسية في العـراق ، إلاّ أنـّه إستطاع أن ينجز الكثير من دواوينـه الشــعريـة ، ومنهـا :
1- الگـمر والـديرة – صدر عام 1967م
2- صياد الهمـوم
3- گـبل ليـلة
4- أوراق ومواسم
5- شفاعات الـوجـد ، بالإشتراك مع مظفر النـواب وكاظم إسماعيل الگـاطع، صدر عـام 1995م
6- تــل الـورد ، الصادرم في عـام 1998م

وأعتقـد أن لـه بعض الـدواوين الشعرية التي لم تصدر بعـد ( مخطوطات) وعلى العمـوم ،يمكن أن نقـرأ قصيدتـه ( تـــل الورد) التي جاء الديوان الأخير بإسمهـا ، كقصيدة موضوعهـا الحـب ، أكثر من سـواه من الموضوعـات الأخرى :

تـــــــــــــل الـورد

عاتبني ابعتابك خل ترد روحي
ؤهسني . . ابدلالك . . ياشتل شمام
حتى ازهگ . وشوفك وينها اجروحي
بيّ اشبع غرورك . .
يا أعــز ݘتــّال
يتمايل غنج لو بيه ثگل نوحي
تعاتبني اعله حالك . .
صار بيك الصار
ݘا شـتدّل اجروحك هـــاي وشتوحي
گبل حبك . . جبل مالاح طرفي السيل
هسه اول زخاخ
ايغطن سفوحي !
ومنك ماروت يدعــج بعـــد روحي
ولا رادت . . ولاسمعت . . ولاحبت
لاتحمل ((نجاة)) ابليل لوغنت
اعلمها الورع واطبگ عليها الباب
تذكر ضحكتك . . واجهرت ماعـنّـت
لا لامتك ليش . . وشوفك اصبح طيف
اشلون ابعدت عنها . .
اشلون ماجنت !
وعيونك ابغير عيـونها اتهنّـــت
وݘفوفك ابغير اجروحها اتحنّـت
يا تــل الورد ، تل آخر الســبـّاح
حتىّ اطفه . . من اشوف ارويحتي انتلّت
گلت انݘـفـه الماي .
وذبل عـــود الياس
والوادم نست وغيـرنا آتسـلـّت
وأول ما شفت طولك نسيت الصوت
وروحي بلا سـبب بݘفـــوفك افتـلـّت
ياگـــمرة حياتي البعــــد مـا هـلـّت
يا انت . . وكفاني اتوهدنت ويّـاك
تحسبني . . وحسبتي وياك ما فلت
كلمن عرّف وشره . . وشال منها الشال
وتعده العمر والوادم اندلـّت
هسه الراح راح . . وبين ايديك الروح
بس ذمه ابرگبتك يوم لو سلـّت .

والملاحظ على هـذه القصيدة أنهـا ( خـالصة لـوجـه الحـب) فهي تعبيرات عن وجـد صادق يملأ السريرة بعنفـوان يؤكـّـد وجوده ، وعريـان بـه يتـألق بوضوح شـاعر نرجسي ، يحكم صناعة الكلمة بـآقــــتدار عــــالٍ .

* * *
ومن عـالم القصيدة الى عـالم ( المـوّال) الشعري ، والذي يحتاج الى شـاعريـة عـالية ، متمكـّنـة من النظم على الجـناس لصياعـة المشاعر الذاتيـة ، بقـالب مختلف ومتمـيـّز في عـالم الشعر العراقي، ذلك اللـّون الذي يقصده الكـبار من الشعراء للنظم فـيه ، وإثــبات القـدرة والموهـبة الشعرية ، لأن أكبر شعراء العراق ولجـوا فيـه ، وأفصحوا عن إبـداعهم الحقيقي في صنعـة الشعر ، وعلى رأسهم يقف الشاعر الكبير الحـاج زايــر الـدويݘ ، ذلك الذي وضع بصمتـه المتميـّزة على هـذا اللـّون من النظم في الشعر الشعبي، ومن هـنا نـدرك أن أغلب شعراء الحـداثـة الشعرية أحجـموا عن الدخول الى عـبابـه ، وظلـّـوا عـند الضفـاف ، وترددوا في بـابـه ، لكـن عـريـان ، الـواثق من شـاعريـتـه ولج بحر المـوال العراقي بـإقـتدار مشهـود لــه ، في هـذا النمط الشعري، بـرزخ الفـنون الشعريـة السبعة الملحـونـة ، كما يسميـّه الشاعر صفي الدين الحـلـّي ، شاعر الفترة المظلمة في العراق ، وهـذا النظم من الموال يعتمد على سبعة أبيـات منظومـة على البحر البسيط ، وكل ثلاث أبيات تنظم على جناس واحد ، فيما يكون البيت السـابع يعـود بجناساته على الثلاث الأولى وأبـدع عـريان في هـذا النمط أيضـاً ،فـآسمع ماذا يقـول في هـذا المـوال الزهيري :


يادمـــعة العين ســــالت عالــخدود وجــرت 1
ومثلي على الناس ماصارت مصيبة وجرت 2
والــــنار يا صــــاح شبَّـت بالدلــــيل وجرت 3
اطّـــــول يـــــد النـــذل وانه اگــصرت يــدّي 4
ويظـــــل جرح الگلـــــب يا هـــــــالربع يدّي 5
ليه ماتــــــراعون حــــگ للمصــــطفى يـدّي 6
معـــــلوم مذنـب ولاݘــــن ما طغـيت وجـرت 7

معـاني الكلمات : 1- جـرت : إنسـابت على الخـدود .
2- جـرت : حــــدثت .
3- وجـرت : إسـتعرت من شـدّة حـماوتهـا .
4- اگـصرت : قصـرت . يــدّي : يديــّه ، ومفردهـا يـد ي .
5- يــدّي : يتقـيـّـح .
6- حـگ : حق . للمصطفى : كناية عن الرسول محمد . يـــدّي : جـدّي ، كون عريـان يمت بصلة النسب الى الرسـول .
7- ولاݘن : ولـكن . ماطغيت : لم أكو طـاغيـاً . وجـرت : من الجـور على الناس والتكبـّر عليهم .

* * *
ومـن المـوّال ، ينتقـل عـريـان الى الكــتابة في نمط آخـر ، عـذب هـو الآخر ، إسـمه ( الأبـوذيـّة العراقيـة) وهو نمط شعري قديم في العراق وأصيل المولد فيه، يعتمد على أربعـة أبيـات مجنـّـسـة ثلاثـة منهـا والرابع يختم بــ ( ي ، هـ )ويعتمد الوافر، في بحره العروضي، وهـذا اللـّون من النظم شائع الذيوع في العراق ، ومن الألـوان المفضلة في الغـناء العراقي ، وقـد كتب عـريـان فيه باقتدار وتميـّز أيضـاً، إسمع ماذا يقـــول في هـذه الأبـوذية :

احبابي واعز من صحتي..صحتهم 1
جـــــفوني ولا ضمايرهم ..صحتهم 2
بـــــــديه اعمت وبلساني ..صحتهم 3
اسمعوا شافوا ولا فـزعـوا عـليــــه 4

معـاني الكلمات :
1- صحتهـم : المقصود حـالتهم الصحيـّة .
2- جفـوني : من الجفـاء والمفرقـة . صحتـهـم : أي صحـّـتهم ، بمعنى أيقضـتهـم
3- أعـمـت : أأشـّر بيداي . صحتهـم : نـاديت عليـهم .
4- شافـوا : رأوا . ولا فـزعـوا : لم يهـبـّوا لنجدتي . عليـّه : إليّ .

* * *
وهـناك لـون آخـر من الشعر الشعبي العراقي ، كثير الإنتشـار ، وسهـل النظم ، لكنـّـه يحتاج الى كثافـة في الصورة ، وقـوة في الفـكـرة ،ومقـدرة في التجانس بين الموضوع والذات ،كي يكون التعبير شديد القـوة وسريع الفاعلية على المتلقي ، يقبله الغناء بشكل عجيب، ويتعـاطى بـه الجمهـور بشكل ملفت ، وتفضله النسـوة في التخاطب والغـزل ، وهـو ينظم في بيتين يعتمـدان القـافية ووزن ( المجتث ) الميني على تفعيلة ( مستفعلن فعـلان مستفعلاتن ) ، نظم فيه عـريـان وأجـاد في ذلك ، ومـنـه قـوله في هـذا الـدارمي الجميــــل :

سـِـر وآبتـلي من آحݘيـه ومن آسـكت إيشيع
حصـتي وعـلي تنــسـام والشــامت إيبيــــــع

* * *

إن ماتقـدم من عرض وتشـريح للإبـداع الشعري لعريان السيد خلف ، يظهـر بأن الشـاعر أثبت فعلاً، قـدرة متميـّزة ، وحضوراً لافتـاً ، ومواقف سياسية تنتمي الى بسـطاء الناس وفصائد تعبــّر عن مأسـاتهم ، وتعكس همومهـم ، بــإبـداع قلّ نظيره في نظم الشعر الشعبي العراقي ، ممـّا حـدى بجمهـور واسع جـداً من الناس ، داخل العراق وخـارجـه، لأن يحفظـوا قصائد عـريـان ،ويتعاملوا معـها بحسٍ نقـدي ، وتعـاطٍ جمـالي ،مما يشير الى المكانـة التي تحضى بهـا قصائد عـريان في الوسط الثقافي العربي بعامة ، والعراقي بخاصة ، مع تميـّز وآقـتدار في الإبـداع في صنعـة الشعر الشعبي ، وفي أكثر من لـون وبحر شعري، لذلك إستحقّ فعـلاً لقب شـاعر العـراق بـامتياز ، نظراً لاكتمال هـذه الشاعريـة لـديه ، والتي عرضنا ، في هـذا المقـال ، بعض نماذجهـا ، على أمـل إعــادة دراسـته بشكلٍ مفصلٍ ، حـال عـودتنا الى العراق . نـأمل أن نكون قـد قـدمنا فكرة موجزة عن هـذه الشاعريـّة الخلاقــة عند شاعرنا عـــريـــان السـيد خلـف .
* * *



#خيرالله_سعيد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أناشيد للبصرة
- الإصلاح يبدأ بالثقافة .
- رسالة الى الفنان نصير شمّة ( كلنا مع أهلنا )
- ماذا تُحدّثُ عن صنعاء يا أبتي
- نبض السنين الحلقة التاسعة والأخيرة
- نبض السنين - الحلقة الثامنة
- نبض السنين الحلقة السابعة
- نبض السنين الحلقة السادسة
- نبض السنين الحلقة الخامسة
- نبض السنين الحلقة الرابعة
- نبض السنين الحلقة الثالثة
- دراسة سياسية في كتاب آرا خاجادور( نبض السنين ) 2
- نبض السنين الحلقة الأولى - دراسة سياسية في كتاب آرا خاجادور( ...
- مشروع رؤية لتأسيس دار نشر جماعية
- تلويحة وداع أخيرة لشاكر السماوي
- لا مسرح في الإسلام .
- ال ما حَݘّم فات احݘامه
- الفولكلور العراقي – بين قوّة الحضور وسذاجة الإعلام
- دراسات في الموال العراقي
- حوار ثقافي تاريخي مع د. خيرالله سعيد : ( القسم الأول )


المزيد.....




- “بتخلي العيال تنعنش وتفرفش” .. تردد قناة وناسة كيدز وكيفية ا ...
- خرائط وأطالس.. الرحالة أوليا جلبي والتأليف العثماني في الجغر ...
- الإعلان الثاني جديد.. مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 الموسم ا ...
- الرئيس الايراني يصل إلي العاصمة الثقافية الباكستانية -لاهور- ...
- الإسكندرية تستعيد مجدها التليد
- على الهواء.. فنانة مصرية شهيرة توجه نداء استغاثة لرئاسة مجلس ...
- الشاعر ومترجمه.. من يعبر عن ذات الآخر؟
- “جميع ترددات قنوات النايل سات 2024” أفلام ومسلسلات وبرامج ور ...
- فنانة لبنانية شهيرة تتبرع بفساتينها من أجل فقراء مصر
- بجودة عالية الدقة: تردد قناة روتانا سينما 2024 Rotana Cinema ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خيرالله سعيد - عريان السيد خلف : الشاعرية المكتملة في الشعر الشعبي العراقي (2)