أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - الصراطُ متساقطاً: تتمة فصل الختام















المزيد.....

الصراطُ متساقطاً: تتمة فصل الختام


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 6118 - 2019 / 1 / 18 - 15:57
المحور: الادب والفن
    


15
في موقعٍ آخر من هذه التذكرة، كنتُ قد تكلمت عن ميل " لمى " إلى التجسس على الآخرين. وهيَ خصلةٌ مقيتة، كادت صاحبتها أن تقوّض حياتي العائلية حينَ شاءت مرةً تتبع خطى العشيقة الصغيرة وصولاً إلى مكان اللقاء السريّ. في واقع الحال، أنّ جاسوستنا لم تكن آنذاك بريئة من شبهة السعي عمداً إلى وضعي في المأزق المذكور: أكان ما ينفكّ الأملُ يداعب مخيلتها، أم أنه القنوطُ مَن زيّنَ لها إمكانية الانتقام حتى لو كان مجانياً؟
ليسَ في وسعي الإجابة على السؤال، إلا بأن أعود أدراجي عامين على الأقل، منتقلاً بكم أيضاً من هذه المدينة البيضاء إلى شقيقتها الكبيرة؛ الحمراء. كذلك ينبغي التشديد منذ البدء، أنه ليسَ من العدل إدانة فتاة في أوان مراهقتها، كانت تود الاقتداءَ بشقيقتيها ( حياة أضحت خارج الحسبان مذ لحظة هروب الخطيب الحلبيّ! )، اللتين اقترنتا كلتيهما بأجنبيّ وتعيش بعيداً عن خط الفقر.

***
أعود بكم، إذن، إلى ذلك الصيف المراكشيّ ذي الحرارة الكاتمة للأنفاس، المشعل أوار الأجساد. كوني من غير المحسوبين على عاشقي البحر، تملصتُ حينذاك من مرافقة عائلتي الصغيرة إلى مدينة الجديدة. كالعادة، تحججتُ أيضاً بضرورة وجودي في المدينة الحمراء؛ ملهمةً كتابي الجديد بساحتها وحواريها وحدائقها وأسواقها.. وماذا أيضاً؟ على أيّ حال، كنتُ بالفعل متوغلاً في صفحات كتابٍ من صنف أدب الرحلات، وكانت امرأتي تشعر بالطمأنينة في كل مرة أعود فيها من موقعٍ ما ضمن أسوار المدينة القديمة. إذ دأبت " سلوى " على تحذيري من مغبّة التسكّع في حي غيليز، لدرجة شعورها بالغضب لو أخبرتها يوماً أنني تناولت الغداء هنالك في مطعم الوجبات السريعة. كانت تردد إذاك نفس العبارة: " مكدونالدز، هوَ مكانٌ تنصب فيه القحابُ شراكها لصيد الرجال الأجانب! ".
وهيَ ذي كبرى الشقيقات، بدَورها، تدخل في طور الغضب وإن يكن لسببٍ آخر. في عشية السفر، كانت " أنغام " في منزل الأسرة مع ابنها. حينَ أُبلغت صراحةً، أنهم اتفقوا على تسيير الأم لوحدها مع امرأتي وابننا، لم يكن منها إلا التكلم بأسلوب شاعريّ رقيق: " أرى أن نسافرَ مجموعين "، قالتها ماطّةً مفردة الختام. تحتَ عبارتها تلك، كان يتجمّع عفنُ النفاق والرياء. فإنها لم تكن قبلاً، قط، لتحسبَ حسابنا عندما كانت تمضي إلى المنتجعات البحرية مع رجلها وولدهما. مرات عدة، كانت والدتها قد ذكّرتها عبثاً، بحقيقة أن سيارة " بيير " تتسع لثلاثة أشخاص آخرين. مع ذلك، فما أن مضى يومان على ذهاب الجماعة إلى الجديدة، إلا والمرأة الملولة تلحق بهم واضعة نفسها وابنها في حافلةٍ يشتعل حديدها الصدئ في لهيب الشمس: لقد رفضَ رجلها، الكريم، إهدارَ ثمن البنزين على رحلةٍ غير مُحبَذة له شخصياً. كما أنه لا القطارات، ولا حافلات البولمان، تتصل بمدينة الجديدة.

***
اضطررت لتسجيل مقدمة لحديثي، بغيَة وضعكم في الصورة العائلية لذلك الصيف؛ كيف وجدتني وحيداً تقريباً مع صغرى البنات، وكم كان يسيراً عليها دس أنفها في خصوصياتي بطريقة طائشة، وجسورةٍ في آنٍ واحد. مع أنها، حقاً، كانت دوماً بالنسبة لي في مقام الابنة الكبيرة. وكنتُ قد قلت ذات العبارة لامرأتي، حينما تصنّعتْ مرةً الغيرة على أثر تشبيهي لشقيقتها هذه ببطلة أحد المسلسلات التركية. رد زوجتي، كان عندئذٍ بأسلوبٍ مكشوف كمألوف عادتها: " أنتَ أخذتَ بكارتي، لما كنتُ في مثل عمرها الآن! ". غيرَ أنّ تغيراً ملحوظاً طرأ فيما بعد على خلق " سلوى "، فنحّت الغيرة جانباً، متعمدةً كل حين وآخر جذبَ الحديث إلى ناحية المقارنة بين جسدها وجسد صغرى شقيقاتها. كأن تقولُ مثلاً: " مؤخرتي أكبر، ولكن ثدييها أكثر ضخامة.. أليسَ كذلك؟ ". كونها تعلم علمَ اليقين اتجاهَ عواطفي، فضلاً عن زهدي في هكذا حديث، فإنها لم تكن تكترث كثيراً من تجاهلي معنى كلامها. آنذاك لم يكن ليدور في خاطري أنها متأصلة فيها، خصلةُ المكر الريفيّ؛ وبالطبع، في باقي أفراد أسرتها.
كان صيفاً يؤجج الأجساد، يكاد يحيلها رماداً بفعل السعار الجنسيّ. كان سهلاً لمن مثلي، أي الغريب ذي التابعية الأوروبية، أن يتصيد فتيات الشوارع كي يضاجعهن بثمنٍ بخس. مرة واحدة حَسْب ( مثلما سبقَ وذكرتُ أيضاً في مكان آخر )، مارستُ الجنسَ مع إحداهن وذلك نتيجة وقوعي تحت تأثير جاذبيتها الطاغية، وبشكل خاص كفلها الفاتن. بيْد أن لقاءاتي عموماً ببعض تلك المخلوقات البائسة، كان هدفها جعلهن كمادة خام، أدبية: الخطوط العامة لروايتي المراكشية، كانت وقتئذٍ " تتخمر في ذهني "ـ كما أعتدنا، معشرُ الكتّاب، على ترديد القول الشائع.

16
كنتُ حائزاً على ثقة حماتي، شبه المطلقة؛ مع أنها مؤمنة، ولا مِراء، بحديث " وثالثهم كانَ الشيطان! ". في عشية السفر إلى مدينة الجديدة، بادرتْ لاستدعاء صديقتها الحميمة، " للّا زهراء ". وكانت هذه امرأة طاعنة في السن، قاتمة البشرة، اعتادت بنات الأسرة على مناداتها بصفة الخالة. وقد يكون " لوحا "، مَن ذكّرَ الوالدة بذلك الحديث القدسيّ. الحق، أنني ارتحتُ لمجيء العجوز، كونه يسهّل تحركي في المنزل كيفما أشاء، علاوة على أن الود كان قائماً بيني وبينها. لقد كانت امرأة مرحة، ظريفة ولطيفة. يومٌ كان قد مضى على مغادرة الجماعة إلى المنتجع البحريّ، وإذا بي أفاجأ بمشهدٍ صباحيّ جعلني أقفُ بلا حول في مكاني عند مدخل الصالة الأرضية: " لمى "، كانت متمددة على الأريكة كأنها أمام عدسة مصوّرٍ ايروتيكيّ؛ بغلالةٍ رقيقة بيضاء، منحسرةٍ عن قدميها المفتوحتين على إطلالة سروالٍ بنفس اللون الناصع. الحارسة العجوز، مشفقةً ولا شك على موقفي المرتبك، قالت للفتاة بصوت منخفض وبطرافة لهجتها الدارجة: " اجمعي رجليكِ قدّامَ الرجل، واه! ".
في الهيئة ذاتها، ظهرت الفتاة في ظهيرة اليوم نفسه وراء باب حجرتي: " لقد أتيتك بالغداء.. ". كنتُ عارٍ على مألوف العادة صيفاً، فطلبتُ منها أن تنتظر قليلاً لأرتدي الجلابة. لما تناولتُ صينية الطعام ووضعتها على المنضدة الواطئة، سألتني ما لو كنتُ أحتاج لشيء آخر. شكرتها، فيما أتراجع إلى داخل الحجرة. ولكنها خطت خلفي، لتقول لي وهيَ تقلّب في علبة خشبية صغيرة مزخرفة بالعاج على الطريقة الدمشقية: " لقد عثرتُ صباحاً أثناء كنس الغرفة على كرت البنك، الخاص بك، فوضعته هنا "
" آه، هذا الكرت قديمٌ وقد سبقَ أن حصلتُ على بديله "، أجبتها بصوتٍ مرتعش قليلاً. ذلك أنها في أوان اندفاعها خلفي، ومن ثم التفاتي مُباغتاً بحركتها، أرتطم صدرها بصدري في قوة. كأنما لم تسمع جوابي. إذ جلست بعدئذ على طرف الأريكة، المحاذية للسرير، وصارت تمسح بيدها على سطح قدمها الأملس الناعم: " هل أعثر عندك على رواية عربية؟.. رواية حب، لو أمكن! "، قالت ذلك وهيَ تتكلف ابتسامة حيية. تلهيتُ عن منظرها المثير، برش الملح على وجبة الدجاج المحمّر مع البطاطس والجزر. ما أنقذني بعيد لحظات، هوَ صدورُ صوت الحارسة العجوز من الدور الأرضيّ: " لمى، ماذا تفعلين عندك؟ ".
هادفاً لعدم تكرار هكذا موقف، صرتُ أنزل إلى الصالة على وقت الغداء. ذلك، لم يفد مع الابنة الصغيرة. أصبحت تتخذ مكانها بقربي، ملتصقة فيّ على مرأى من الآخرين، المجتمعين حول طاولة الطعام. لحُسن الحظ، أن " لوحا " يتناول الأكل لوحده في حجرته بالدور العلويّ. لاحَ أن دافع " لمى " كان الطيشُ أكثر منه العاطفة. كوني كذلك استعدتُ كلامَ " لويزة "، بشأن علاقة الصهر الفرنسيّ بربيبته الصغيرة، فإنني صرتَ يوماً بعد يوم أطرح على نفسي مثل هذا السؤال الأخرق: " أيعقل أنها اعتادت على الوصال، أو بالقليل على شكلٍ من أشكاله، فطال بها الآنَ أمرُ الحصول عليه؟ ".

***
مضى ذلك الصيف، الذي جعلتني فيه خالة ابني الصغيرة هدفاً لسهام الإثارة. ما لبثتُ أن عدتُ بعد أشهر قليلة مع العائلة، لقضاء عطلة الميلاد ورأس السنة. لعلني في الوهلة الأولى خمنته دعابة، تساؤل قرينتي في الطائرة المتجهة إلى مراكش، عما لو كان في وسعي عقدَ قرانٍ زائف مع شقيقتها الصغيرة، بغيَة حصولها على إقامة في السويد.
" هل يُمكن شرعاً زواجك بأختي، في حال أننا تطلقنا؟ "
" نعم، ولكنه مكروه. ويفضل لو أنك تموتين، لأتزوج منها! "، أجبتها ضاحكاً. شاركتني شعورَ المرح، ثم ما عتمت أن تمتمت ساهمة: " لن نبقى مرتبطين إلى الأبد؛ فكّر بفارق السنّ بيننا.. ". ثم استدركت فوراً كالمعتذرة: " إنني أمزح بالطبع، وربي يخليك لنا! ". وأردفت على الأثر: " ولكنني أرغب بأن تكون لمى بجانبي في السويد، وأنت بلا أصدقاء يمكن أن نعتمد عليهم في هذا الموضوع "
" لا أستطيع أن أكون دلّالاً لشقيقتك، فأصرخ في آذان الناس بأنها معروضة للزواج! "
" لذلك أرى الحلَ في طلاقنا شكلياً، ومن ثم في وسعك أن تجلب لمى على إقامتك كزوجة أو صديقة.. "
" هذا هراء! هل جننتِ؟ "، قلتُ لها مقاطعاً ساخطاً. في المقعد خلفنا، كان يجلس ثلاثة شبان عراقيين. فلما ثبتُ إلى نفسي، فألقيت نظرة مواربة إلى ناحيتهم، لحظتُ أنهم أخذوا بالتهامس. هنا أيضاً، اشرأبت " سلوى " برأسها من وراء طفلنا النائم، لتمسك بيدي في حنان قائلة بصوت خفيض: " لا تغضب مني، أرجوك. لولا أنني يائسة من حل آخر، فهل يُمكن أن أقبل باقتراح كهذا؟ ".
أخرجُ مع امرأتي وولدنا إلى صالة الاستقبال في المطار، لنُستقبل من لدُن " بيير " وامرأته وولده؛ إضافةً إلى " لمى "، المعدة آنذاك أحد أفراد أسرته. في واقع الحال، أننا لم نغب عن أنظارهم طوال الأشهر الثلاثة المنقضية، وذلك بفضل وسائل الاتصال الإلكترونية الحديثة. خارجاً، شاء الطقس أيضاً البرهان على أن غيابنا كان مجرد خرافة. لقد تركنا السويد، تواً، وهوَ في قبضة الجليد الصباحيّ، بينما السحب المحملة بالثلوج تلقي غلالة بيضاء على وجه الشمس.

17
ها نحن تحت شمس مراكش الدافئة، المُلوِّنة أغراسَ الصبّار، الرائعة المنظر، التي ترنو بحنان نحو المسافرين الآتين من قارة الصقيع. بدَورها، أخذت الخالة الصغيرة ترمقني بين حينٍ وآخر بنظراتٍ باسمة. في السيارة، حيث أفردوا لي مكاناً بجانب العديل العتيد، بقيَ صوتُ الفتاة، الشبيه بأزيز خلية نحل، يطن طوال الطريق في مؤخرة رأسي. من ناحية " الكَاوري "، قائد السيارة، كانت تصدر عنه همهمة متواصلة وكأنما الرجل يتحدث مع امرأته بشيفرة ملغزة. " أنغام "، الجالسة في الخلف، كانت تلتقط بعض تلك المفردات لترد على صاحبها. فكّرتُ عندئذٍ، ما إذا كان الرجل قد دخل في مرحلة الخرف المبكر. إلا أنني كنتُ أتكلم معه بين الفينة والأخرى، مبدياً إعجابي بكل جديد في عمارة المدينة وشوارعها الفسيحة، الفواحة بأريج زهر البرتقال. كنت أستعمل وإياه الدارجة المغربية غالباً، برطانةٍ تثير ضحك الآخرين.
كوننا سنُمضي نحوَ شهرٍ في المدينة الحمراء، ونعود بعدئذٍ للسويدٍ وهي ما تفتأ في سباتها الشتويّ، فإنني رحتُ منذ وصولي أقنن كل ساعةٍ من ساعات اليوم. إلا أنّ طقس الكتابة ظل كما كان عليه قبلاً؛ محصوراً بين السابعة والعاشرة صباحاً. إذاك تمتلئ حجرتي بأصواتٍ آتية من الخارج، مشكلةً سمفونية العمل، المشاركة فيها شتى المخلوقات. بعد ذلك، تُحضر إحدى نساء المنزل فطوري، ثم أخلد على الأثر لقيلولة تمتد أحياناً حتى موعد الغداء. عصراً، ويكون الجو قد مال قليلاً إلى البرودة، أخرج إلى المدينة مشياً أو راكباً السيارة في حالة الطقس الماطر. المغاربة، يُسمّون المطرَ " شتاء ". تتلبسهم صورة من الرعب، طريفة حقاً، في أوان هطول المطر؛ فتراهم يتراكضون هنا وهناك، كما لو أنّ حجارة من سجّيل تقذفها عليهم السماءُ السابعة!
عادةً، نشاركُ أسرة العديل الفرنسيّ في إحياء ليلة عيد الميلاد. في ذلك الوقت، لم يكن " بيير " قد أضحى حطام رجل، مثلما هو عليه الآنَ. إفراطه في التدخين والخمر، أثر على صدره المحتضن كلاً من الرئتين والقلب. كما أنه كان ما ينفك محافظاً على الخصلة، المعرّفة بها ملّته؛ أي الشغف الشديد بالجنس سواءً تحت سقف الزوجية أو خارجها. مغامراته مع النساء، وكن من فئات متنوعة، جلبت عليه كل مرةٍ جنون " أنغام ". وفق رواية امرأتي، أن شقيقتها صرفت مؤخراً الفتاةَ الشابة ( وكانت شقراء حسنة الملامح )، المتعهدة لوحدها كل أعمال الخدمة في الرياض، وذلك بسبب الغيرة. ثم جاءت " أنغام " بفتاة أخرى، قبيحة الشكل عجفاء الجسم، ولكنها لم تبقَ طويلاً. نتيجة المبالغة في استعمال المنظفات الكيماوية، سرعان ما سقطت الفتاة مريضة. " الكَاوري " الحريص، قام فوراً بقطع راتبها ثم راح يُتكتك لاستبدالها بأخرى ملائمة لمزاجه. بيْدَ أنّ امرأته استبقت ذلك، بأن عرضَت على شقيقتها " حياة " العمل كطاهية لزبائن النزل. حتى إذا مضت أيام قليلة، وجدت المسكينة نفسها في وضع أسوأ من الخادمة. بهذا التصرف اللئيم، كأنما صاحبُ الرياض كان يود القول لامرأته: " حسناً، أنتِ شئت فرضَ أمرٍ واقع عليّ؛ وهذا ما جنيته أخيراً من الغيرة! ".
في تلك الأجواء، المعكَّرة بالخصام والنكد، تمت دعوتنا لليلة عيد الميلاد. كذلك فهمتُ من " سلوى "، حتى أنني هُرعت إلى مخزن كارفور كي أشتري زجاجة نبيذ من الصنف الفرنسيّ الجيد. في سيارة الأجرة، وبينما نقترب من منزل شقيقتها، سألتها ما لو كان من المستحسن أيضاً شراء قليل من الحلويات. ففي عام أسبق، اعتقدتُ أنّ حضورنا ليلة الميلاد خالين اليد من هديةٍ ما، كان وراء ما حصل في خلالها: مع أنهم يعلمون عدم استساغتي أكل المحار، فإنه كان الوجبة الوحيدة على العشاء علاوة على سلطة هزيلة من المازوريلا مع الطماطم. صباحاً، وكنتُ قد أفقت فارغ المعدة، إذا بالرجل الحريص يضع أمامي على المائدة قطعة كرواسان مع قدح قهوة سوداء.. وكان هذا كل شيء.
" لا داعي لذلك، لأننا سنكون وحدنا في المنزل "، أجابتني زوجتي. للوهلة الأولى، لم أفهم معنى قولها. ولكنها أومأت بعينيها إلى ناحية السائق، موحيةً بعدم رغبتها الكلام على مسمع منه. فيما بعد، حينَ صرنا داخل المنزل، علمتُ أنها " لمى "، حَسْب، مَن ستشاركنا في الاحتفال بالليلة المجيدة. " بيير " كان قد مضى مع أسرته إلى أغادير، تلبيةً لدعوة من أحد مواطنيه. هذا الأخير، كنتُ قد صادفته في الرياض وذلك في أوان حلولي فيه لأول مرة قبل نحو خمس سنين. كان يبدو في السبعين، ضخمَ الجثة مع طول مناسب، متعجرفاً بدلالة غناه الفاحش.
هكذا قضينا أمسية خالية من البهجة، مقتصرة على رفد المائدة بشتى أصناف الطعام المحليّ والإفرنجيّ. " لمى "، وكانت قد بالغت بشرب النبيذ، أخذت تتقلب على الأريكة مقهقهةً لأي طرفة كان يُطلقها فنانٌ كوميدي فرنسي على شاشة التلفاز. كانت مكتسيةً بخراطة قصيرة، تلمع تحتها جواربُ رقيقة سوداء. مع حركاتها الموصوفة، أنجذب بصري مرةً إليها، فرأيتُ أنها لا ترتدي شيئاً تحت جواربها. ثم لاحَ أن امرأتي ثملت أيضاً، فطلبت مني أن أراقصها. بعد فراغنا من الرقص، قالت لي بلسان ثقيل: " جاء دور خطيبتك، كي ترقص معها! ". انطلقت قهقهات كلتا الشقيقتين، فيما أنا اكتفيتُ بابتسامة تُنبي عن الحَرَج. منتهزاً فرصة ذهاب الأخرى للحمّام، طلبتُ من " سلوى " الخلود للنوم لأن الساعة متأخرة.
" هل انزعجتَ لأنني مزحتُ معك، بشأن الخطيبة؟ "، ردت عليّ وقد غابَ المرحُ من نبرتها. قلت لها متكلّفاً البراءة: " لا، هل يُمكن للمرء أن ينزعج من مزحة؟ ". تركتهما يلملمان آثار الحفلة، ثم توجهت للحجرة المخصصة لنومي وكانت هيَ نفسها، حجرة " أميل " وخالته الصغيرة. استلقيت على السرير المفرد، المتوحد، وصرت أحملق في العتمة. كنتُ في حيرةٍ حقاً من أمر الشقيقتين، وفي المقابل، غير مصدومٍ تماماً. إذ تعهدت الماكرتان إعطائي الدواء اللازم على جرعات. كوني في سنّ شبعت من تجارب الحياة، فإنني لم أستطع إدانة أيّ منهما. بهذا الشعور بدأت أهوّم، ثم ما لبثت أن غفوت. في ساعة ما، أحسست ما يحسه النائم حينَ ينفخ الحلمُ في سحنته: تهيأ لي أنني أرى إحداهن، وكانت منتصبة وراء باب الحجرة المفتوح إلى منتصفه. كانت شبه عارية في الجزء العلوي من جسدها، وما عتمت أن خلعت بحركة سريعة حمالة الصدر ليتدلى نهداها العارمان ـ كما لو أنهما قطتان صغيرتان، انزلقتا معاً عن بدن أمهما.



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الصراطُ متساقطاً: فصل الختام 14
- عصيرُ الحصرم ( سيرة أُخرى ): 71
- الصراطُ متساقطاً: فصل الختام 13
- الشرفة
- الصراطُ متساقطاً: فصل الختام 12
- الصراطُ متساقطاً: فصل الختام 11
- الصراطُ متساقطاً: فصل الختام 10
- الصراطُ متساقطاً: فصل الختام 9
- الصراطُ متساقطاً: فصل الختام 8
- إحسان عبد القدوس؛ الصورة النمطية للكاتب/ 2
- إحسان عبد القدوس؛ الصورة النمطية للكاتب
- الصراطُ متساقطاً: فصل الختام 7
- الصراطُ متساقطاً: فصل الختام 6
- الصراطُ متساقطاً: فصل الختام 5
- الصراطُ متساقطاً: فصل الختام 4
- الصراطُ متساقطاً: فصل الختام 3
- الصراطُ متساقطاً: فصل الختام 2
- الصراطُ متساقطاً: فصل الختام 1
- شيرين وفرهاد: الفصل السابع 5
- شيرين وفرهاد: الفصل السابع 4


المزيد.....




- تونس خامس دولة في العالم معرضة لمخاطر التغير المناخي
- تحويل مسلسل -الحشاشين- إلى فيلم سينمائي عالمي
- تردد القنوات الناقلة لمسلسل قيامة عثمان الحلقة 156 Kurulus O ...
- ناجٍ من الهجوم على حفل نوفا في 7 أكتوبر يكشف أمام الكنيست: 5 ...
- افتتاح أسبوع السينما الروسية في بكين
- -لحظة التجلي-.. مخرج -تاج- يتحدث عن أسرار المشهد الأخير المؤ ...
- تونس تحتضن فعاليات منتدى Terra Rusistica لمعلمي اللغة والآدا ...
- فنانون يتدربون لحفل إيقاد شعلة أولمبياد باريس 2024
- الحبس 18 شهرا للمشرفة على الأسلحة في فيلم أليك بالدوين -راست ...
- من هي إيتيل عدنان التي يحتفل بها محرك البحث غوغل؟


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - الصراطُ متساقطاً: تتمة فصل الختام