أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - لخضر خلفاوي - ‎ملحمة شعرية سردية واقعية من طفولة لخضر خلفاوي‎ :-مشّ بهلول .. في باديتي-















المزيد.....



‎ملحمة شعرية سردية واقعية من طفولة لخضر خلفاوي‎ :-مشّ بهلول .. في باديتي-


لخضر خلفاوي
(Lakhdar Khelfaoui)


الحوار المتمدن-العدد: 6116 - 2019 / 1 / 16 - 07:51
المحور: الادب والفن
    


1
" المشطاب" هو مكان فيه باديتنا *** و ديرنا اسمها "أولاد فاضل" كقبيلة ***الفاضل لغويا تعني الباقي الزائد على الحاجة *** و تعني أيضا الشخص المتصف بالفضيلة *** مرّة سبَّ شخص قبيلتنا و تهكّم على نسبنا بوصفنا "فضلات الأعراش".. *** نشبت حربٌ بيننا.. *** و استعملت أسلحتنا النارية ***و استخرج " الأمين" بتهوره المعهود *** من مخبئها بندقية أبيْ الغائب! *** و تم إطلاق النار على خصومنا *** و لحسن الحظ لم تحدث خسائر بشرية *** عدا ترهيب المعتدين و الحصول على الاعتذار! *** لا أدري وقتها أبي ماذا كان يعمل في فرنسا؛ *** أكان في "حانة" أو في مقهى" أو في المعملْ؟
2
ـ اسم المشطاب مُشْتَق و مركَّبٌ من تقاليد صنع "الجُبن" المعتّق بالملح و اللبنْ *** برد و شتاء باديتي
لا يُحتملْ *** و حرُّ صيفها يثير التساؤلات و الجدلْ
3
في باديتنا ..كنتُ أمقتُ بردها *** كان يفتكُ بأناملي الصغيرتينْ .. المنتفختينْ .. المتشققتينْ حدَّ النزف .. حدّ الرُّعاف .. لشدة هذا البردْ *** لم أكن وقتها أفهم و استوعب : كيف بامكانه هذا المَقيتْ حرق الشفاه .. و تمزيق اليدينْ .. و إرعاش ما تبقى من البدنْ! *** كنتُ عندما أعود إلى بيتنا *** و أنزع قفازاتي الصوفية ***يبقى بعض من جلدي المتهالك عالقا بها ***و ينزف من ندوب أناملي مصل الجراحْ! ***كانت الجدة " زينة" تعتني بي كثيرا .. و تحبّني حبا ليس له أيّ
حدْ! *** و هي تحاول مشفقة علي تعويض فقدي لأمي *** التي لم تخبرني عندما خرجت ذات صباح مع والدي .. و إليّ في المساء لم تُرَدْ! *** كانت " نانة زينة" تقول لي مفتعلة الغضب، و مازحة لما ألاعبها أو أتشاقى معها و عليها :أغرب عن وجهي أيها الشقي *** ابتعد عني يا " أبا الشفاه!" ***كنت أظنه سبابا.. أو الدعاء عليّ بالمرض و المصائبْ.. *** فأردُّ عليها داعيا بدوري
رافعا يدي الصغيرتين الى السماء: لأبتلاكِ الله بمثلها! ***شفتاي البارزتان ..الجائرتان *** كنت أظنهما عيبا أو وباءا ***جئتُ به من رحم أُمي *** لما شعرتُ بقنطتها و أبي يهينها و يعنفها ! *** و لم أدر أن نسوة القرية يفضلن الشفاه التي تشبه شفتيّ!*** لماذا معظم النساء يميلَنَّ
ميلة واحدة إلى كل ما هو ضد مصلحتهنَّ؟!***
4
في باديتي .. أحبُّ قُدوم الربيع *** و أحبُّ حُلته كلما اكتست أراضينا المحيطة لبيتنا الطيني
ببساط "أخضر" و أزهار مختلفات..*** كان يُخيّلُ لي حينها *** أني الطفل السّابق لزمنه ***الولد اليتيم المبتكر و العبقريْ الوحيد في قريتنا التعيسة!
5
‎كانت لدينا بئر *** البئر هي مصنع للحسنات .. و الصدقة الجارية تركه العم
" سي عبد الله" الفاضل *** قبل أن يستقر في " سيرتا"* … مدينة "الجسور المعلقة" ***هو من عائلتنا و صديق حميم لجدي إبراهيم. ***أذكر عند كل ربيع *** أقطف شقائق النعمان في حقلنا بالقرب من البئر ***و أجمعها في أوعيتي التي تعاني الإصداء *** ثم أمزجها بماء البئر *** لما صرت رجلا ندمت على عدم شربي لمستحضر ماء البئر .. و شقائق النعمان *** هنا في باريس :
تُباع مكملات غذائية في قنينات صغيرة.. *** المادة مستخلصة من شقائق النعمان *** تُعالج آنيا الهلع و الارتباك .. و خصوصا " رهبة المسرح .. *ندمت كثيرا على عدم تجريب شرب
مستحضري ذاك *** لو فعلتها لكنت تقيأت كتبا أو جرائدا تحكي قصتي *** أو كان لي السبق في تكسير "خشبة" مأساة باديتنا الركحاء المترامية الأوجاع .. *** أسفا لو كنت أعلم؛ *** فعند رحيل أمي تشابه عليّ الركح و أصبح المسرح دون عتبة *** كنت أتمنى أن يكون لي أكثر من قدمين *** لذا كنت أركض هلعا من الدنيا كلها *** في كل الاتجاهات
بحثا عن أمي كنت أطحن " الشقائق" بمهراس الجدة" زينة" لوقت معتبرٍ من الزَّمنْ *** ثم أحصل بعد جهد جهيد على حبري المفضل المعتّق .. الأرجواني المائل إلى الزرقة ***كنتُ أتساءل عن حمرة لونها ..أهل سُقيت أيام الثورة بدم عمّي الأخضر؛ *** الذي سقط شهيدا في حقلنا ! *** أحملُ صنيعي في يوم الغد ***و أتصدّق بنصيب منه إلى الأطفال البؤساء مثلي في مدرستي
النائية *** كنت أُؤثر على نفسي، رغم أني كنتُ أعرف أن حبري غاليا جدا! *** أوزع عليهم دم شقيقات " النعمان "الأرجواني؛ *** الذي سفكته بالأمس بكل عشقٍ ..كانوا يُذهلون لاختراعي
باستخراج حبْرٍ بربريٍّ الهوية من حقولنا *** الربيع كان صديقي المفضلْ *** لأني أمضي وقتي الضائع في صنع الحبر .. و تخزينه *** كأني كنت أُحضِّر مُسبقا لانتفاضة
حبرية تعيد الاعتبار للمقهورينْ و المحرومين في باديتي لمَّا أكبر! *** كانت باديتي تعاني " الأمية " *** و جبروت "الأبوية" في أدق التفاصيلْ .
6
حاولت أن أصنع من أزهار" العضيد" و " الجرجير البري".. ***و من " عُبّاد الشمس".. و من " الصبّار" تمثالا لأمٍّي التي تركتني .. و نسيت صورتها.. و صوتها ، و ريحها ..***
لكن الشمس أتلفت العضيد و الجرجير و حتى عبَّادها *** يا حسرتي عليهم .. إنهم لا يعلمون .. *** "العبيد" نباتا كانوا أو بشرا.. مصيرهم دائما الخزيْ! ***بقي ذلك الصبّار الجائر الملعون
يعترض سبيلي كل صباح و مساء
7
عمي " العليم و المدرِّس " إبراهيم كان يُحبني كثيرا *** و يُحب صحبتي … و يحرضني أحيانا
على مواجهة أبي في حضوره؛ *** إبراهيم هو الرجل الوحيد في الكون الذي يخضع له أبي .. و لا يرفع في حضرته طرف عين ***و لايجرؤ بتفوه أي كلمة! ***أبي الجبار.. كنت وأخي "عادل"
في وقت ما نعتقده إلها و كان هو ربنا!. *** في صلواتنا كنا ندعوه رهبا و خوفا منه .. *** لم أذكر أننا طمعنا في شيء من أبينا.. *** كان أبي الإله الوحيد .. و الرَّب الوحيد من دون كل الأرباب ؛ الذي لا يُطمع في عطائه! *** كنت أسأل : لماذا يعلموننا دائما أن الله متصل بصفة القسوة لا بالصفح و الرحمة ! *** عمي الذي ألقبه و أناديه بـ" جدي إبراهيم " .. يصفني مفتخرا مشجعا دوما ؛ و أنا في حجره أمام شيوخ القرى بالذَّكي *** وتارة بالنبيْ!
و أنا أدري جيدا أن لا خاتما لي كالمرسلينْ تلازم ظهري *** أو شامة
تُعدْ .. فقط كانت تطبع جلدي تلك الشامة البُّنية القاتمة .. تطرّزُ فخذي الأيسرْ *** أذكرُ جيدا لما قالت لي أمي قبل رحيلها:أنها من أثار الوحمْ لما اشتهت أكل الكبدْ.. و لم تحصل عليه! ***كان أبي بعيدا .. بعيدا عنا .. في ديار المهجر.. و لا أدري لما و لمن هاجرْ! *** كان إلهنا يكره زوجته
و غير مكترث لتوفير ما اشتهته حاملة ولده البِكرْ!
8
كان عمّي "إبراهيم" يعي سرّ الحِبر و وقع بُقعه المتناثرة علي *** ذلك الحبر الذي كنت أصنعه ***و أثار تدفقه على مئزري .. و أناملي .. و حتى ذقني الصغير .. و أنفي الطويل .. و بنطالي المهترئ
و حذائي المثقوبة***
9
في باديتي أعشق قدوم الصيف .. و موجات الحرْ .. و موسم الحصاد ***و الاستمتاع بدوابنا
و بخيلنا .. و ببغالنا و حميرنا .. و معزنا .. و مواشينا .. و بـ " رحمة" فرسنا الرائعة التي أحب ركوبها***و يبغضني عليها حسدا من أنفسهم أطفال القوم *** كنتُ أُسعد كثيرا بقدوم الصيف و بقيلولاته الإجبارية التي نادرا ما امتثل إلى أوامرها ***و سلطة زوجة أبيْ.. فأهرب من المنزل
بحثا عن السرابْ و اللعب معه.. و لا أخشى لفحات و لا صفعات الشمس ***
كل ما كنت أدريه .. أشعر كأني إبن الشمس ولا أدري ما السببْ ا!!!
10
في باديتنا .. كنت طفلا يدفعه الفضول لمطاردة الطيور ***و العبث بأعشاشها .. و تكسير بيضها على الصخور *** و مطاردة الحشرات .. و الزواحف الصغيرة .. و الثعابين المتكاثرة و المتسلقة
جنبات و حواف "مطمورات الحبوب" المهجورة منذ الاستقلال *** و التي استغلها ـ بعد تهجير زواحفها و عقاربها ـ لمآربي الأخرى مع "حَضْرية" بنت الخالة رقية *** كانت لا تملك من "الحَضَريّة" عدا هذا الاسم! *** كان جسمي الصغير و النحيف بالوراثة يليق به ذلك السراب الجميلْ .. الذي يرافقني على الدوام و لا يراه الجميع ***يا له من ولدٍ مسحور؛ تقول عني نسوة باديتنا ! *** كنتُ أشعرُ كأنه يحرسني *** يُخبئني عن عيون الوشاة *** فلا يراني كبار قومي
و أنا ألعب مع نفسي .. و تارة مع ظلي الذي يسبقني .. و خسرت كل الرهانات في الانتصار عليه
*** و أرقب التحركات القليلة النادرة لمن تخلَّف عن عمله في الحقول
و البساتينْ !
11
في باديتنا .. كانت نفسي تعبث بالنهار .. و تستريح بالليلْ *** كان يهمني أمر و سلوكيات
البط .. و الإوز .. و كل الدواجن .. و الأرانب .. و الحمير .. و المعز .. و الثيران .. و البقر .. و الخيلْ .. كذلك عدّ النجوم على مهل حتى أغفو و أنا في حجر " نانة زينة"
الطيبة، زوجة عمي.
12
كانت حظائر حيواناتنا تبدي توازنا فطريا و وراثيا*** و استقرارا... و انسجاما مع الحيوانات
الناطقة التي تسكن تلك الديار و الأكواخ المتباعدة فيما بينها. كنت أتابع عن كثب نشاطها
و حياتها *** و انبهر لسلوكياتها عند حلول مواسم الحب و التزاوج. *** كانت قططنا و ديكتنا و كلابنا .. و أرانبنا .. و حميرنا و عجولنا سعيدة فيما بينهما . *** حتى أتى والدي
بديك رومي و دجاجته .. و بديك فرنسي الأصل .. و بـ " حارس ألماني" ذكي .. يحرس قطيع أغنامنا
بدلا من الكلب العربي .. الذي وصفه بدونا طوال حياته باللقيط .. رغم وفائه و علمهم بنسبه
و بيوم ولادته و بكنية والديه الموصوفين باللقيطين!
13
حظي الزوج الرومي ، و الحارس الألماني باحترام و تقدير كبيرينْ *** تُعطى و تقدم لهم ما ألذ من الأطعمة *** فحزنتُ كثيرا لمصير كلابنا العربية القروية الراضية بكل شيء *** تأكل ما رُميَ إليها من فتات .. و فضلات .. و تنام شتاءا أو صيفا في العراء .. و إن نُسيت و أُهملت؛ تذهب تتسول بين الدير رغيفها *** أو ترضى بأكل "الردّة" أو تسد رمقها بالخراء !
14
بعد استقرار الدخلاء في حظائرنا الحيوانية *** دبّ اختلال في سلوكيات الجميع. ***رأيتُ ذلك الديك الرومي يتحرش بدجاجاتنا الصغيرة *** و كاد أن يقتل بعضها.. و " الحارس الألماني" ينكح
كلبتنا التعيسة على مرأى زوجها *** و نسوة المدينة اللائي أُبهرنَّ بالمشهد الايروسي
المستفز لكبتهنَّ *** و الديك الفرنسي قتل ديكا من ديكتنا *** ثم أخذ يطارد الصوص و ما تبقى مِن دجاجاتنا البدوية مكسورة الجناحْ *** خوفا ان تطير ذات يوم ... و تفاجأت بديك آخر لنا يحتضن بيضا موضوعا في سلة على فراش " الجدة زينة".. كأنه وباء تفسّخ الأنواع!
15
اتجهتُ إلى الاسطبل باحثا عن عجل اختفى *** فوجدت ابن الجيران ممتطيا كرسيا خشبيا
يحاول اللحاق بدبره لإيلاجه! ***خرجتُ و على ملمح البصر .. تراءى لي بغل جيراننا متسلقا واطئا
أتاننا .. و ليس ببعيد *** كان ثورنا في انتصاب عظيم يشتم مؤخرة فرسنا. و جوادنا الأصيل متوغلا بكل ما أوتي من قوة بغلتنا... ***و حملنا الوديع يتحرش بأمه
تارة و بخالته تارة أخرى و بعمته المسنة "البرصاء" في حضور والده الموقر *** إلا معزاتنا التعيسة ( المشعّرة ) كالنساء البرتغاليات .. كثيفات الشعر و غير مرغوب فيهن كثيرا *** لقد سلمن من هذه الهيستيرية الجنسية الحيوانية في باديتنا! ***و لم يتحرّش بهن أي جنس حيواني
بشرا كانوا أو "ما فوق ذلك" ! *** فقط الأرانب لم أتفقدها .. لانها كانت تُمارس طقوس حبها في
الظلام ، في جوف الارض *** بينما أنا أعد النجوم في الشهور القمربة. ***حيث هناك تتم كل التفاصيل .. ثم أن جحور الأرانب أمقتها؛ لإنها نتنة جدا لا تطاق *** تنبعث منها دوما رائحة الجنس المكثّف!! ببساطة تذكرني برحم والدتي اللعين *** الذي حملني و أنجبني .. و وضعني في هذه البادية المجنونة ! *** و يتساءلون لماذا هذا الصبي غريب الأطوار و له أفكار طوبانية! *** يحزنني حال عميد كلابنا اللقيطة و هو منعزل محبط *** و كنية "اللقيط" مازالت لصيقة به ! *** لا أدري ماذا كان يفعل قطنا بجوار جحر الأرانب *** و ما نوع الرغبة التي كانت
تشوّش أفكاره!
16
‎في باديتنا يعتمد قوت الناس اليومي صيفا أو شتاءًا ***على ما زرعته و غرسته أيديهم من
‎*** محاصيل و منتوجات الحقول و البساتين
‎صيفا على الطماطم والفلافل المختلفة من الفواكه و الخضر ***كنا نهوى أكل البطيخ
‎و التينْ و شتاءا نضيق ذرعا بأكل اليقطين .. و البطاطس و الجزر
17
‎يوم باديتنا الشتائي موحش و كئيب *** يعود معظم الشباب و الكهول .. و الشيوخ قبل كل مغيب
‎***و النسوة و الصبابا متجمعات مستأنسات بجوار فوهات أكواخهن ***‎و بيوت التراب و الطينّ
‎كنّ لا ينزعجن لوجود الأطفال مثلي بجوار حلقاتهن *** و لا يتحفظن في كلامهن ***يتراءى لي و لهن كل مساء شتاء من بعيد عودة بعولتهن .. و أبائهن و إخوانهن *** و عشاقهن في الليالي الحالكة بعيدا عن ضوء القمر.
18
‎الدخان المنبعث من سقوف الدير .. و ريح حطب السنديان و شجر السرو المحروق *** يُعدِّل من بؤس المكان *** القادمون العائدون .. لا تخلو قبضاتهم المتشققة من عمل الحقول .. مما جادت به بساتينهم من حُزمات "الجزر" الكبير المنظف و الملمّع بماء السواقي ***كانت تلك الحزمات الجزرية"
‎تفتح شهية الوشوشات *** و الإيحاءات الجنسية بينهن و الضحك و المزاح ***كان ذلك الجزر ـ الصلب ـ البئىيس كافيا لإثراء خيال الصبايا *** و مقايضة البؤس برائحة الجنس الافتراضية
‎ في عقولهن
19
‎في باديتي شتاءا .. كان كل مساء لها نصيبها من الجزر ما يكفي لتمويل القرى الأخرى ***السعداء بالجزر في باديتي صنفان .. نسوة القرية و أرانبها!
20
في باديتي .. كان الكل يتقي شرّ أمي الشمس في أوج هيجانها .. إلا أنا و ابن عمي " الأمينْ"
ذلك الشاب العشريني .. المغرور بشبابه .. و عضلاته المفتولة ***أشهد أني كنت أحبه كثيرا..
ربما لأن فَرِسنا الجميلة الرشيقة غلى غرار نسائه تحبُّ ركوبه.. و أنا أصحبه ممسكا بشعرها .. و عنقها الأنيق الأملس دون سِرج! ***و كأني أحلق في السماء .. و هي تركض .. و لا أخشى الوقوع..
21
"رحمة" .. كانت رائعة.. الكل يسميها فرسا ***كنت لا أدري لماذا لم يجدوا لها اسما يليق بجمالها و رشاقتها .. *** كل ما كان يهمهم هو ركوبها .. كانوا يخافون منها علي .. منعوا عليّ اقترابها بمفردي..
*** لم يكونوا على دراية بأني كنتُ أُسري إليها ، اخترع كل الحيل لامتطيها بلطف.. ***وقتها تضاربت الأسماء في مخيلتي *** هل أُسميها بُراقا، سِراجا، رعدا *** و في الأخير سميتها " رحمة"! *** كانوا لا يهمهم سوى ركوبها .. كنتُ أنا فقط أرقبها في خلوتنا الحزينة ***و كأني استمع إلى "كروبها"..***
ماتت فرسنا فجأة.. تساءل الجميع ما الذي قتلها *** كنتُ اعتقد أنها ماتت بقهرها من أُمّية مشاعر أعراب قومي!
22
"الأمين" كان وسيما .. و تأتمنه بعض نساء البادية على فُروجِهِنّ..! *** كنت أمضي وقت لعبي
مع صديقي السَّراب *** على مرأى أمي اللافحة .. أتلصص عليه و على حركاته .. فنادرا ما يكشف أمري
23
ذات مرة اقتفيت خطاه .. ففي كل قيلولة حارقة .. كان " الأمين " ذا سلوك مُريب و متذبذب .. هيسيري! *** يُغيِّرُ بوصلته تمويها لي و للفضوليين .. يبدُّل فجأة كالمجنون جهاته و مخادعه المتعددة *** في تلك المرة استطعت استباق نواياه.. و علمت بوجهته و فتحه المبرمج *** و بهوية القروية التي تريد إئتمانه على فرجها *** هَرْول "أمين" قريتنا، التفت يُمنة و شمالا ،، موَّه، استمرَّ في التمويه ***اِطمأن .. دخل بيتها.. فانتظرت دخوله .. و بعد ربع ساعة لاحقته خلسة
كنتُ أريد أن أقبض عليه متلبسا عارياً..*** و هو يقوم كالعادة بعمله الخيري.. دخلت مخدعهما***
يحملني السراب و الفضول على جناحيهما.. لكن لم أجدهما ***عجبا قلت في نفسي وقتها : لا يوجد أحدْ!.. أين ذهبا ؟! .. و كنتُ واثقا بوجودهماَ *** كم هو عظيم الحب الصيفي؛ عندما يصبح كالساحر .. يستطيع إخفاء الأجساد الملتهبة في ومضة صيف .. ***و في رمشة عينْ! اتقاء لعيون الحسدْ
24
بحثت عنه في الغرفة .. قلّبتُ عنهما وراء الستائر .. و الأفرشة .. و بسذاجة الأطفال بين الأواني المنزلية!*** في تنور الخالة " فاطمة" البارد المهمل أرضا.. *** لكني كنت أشعر بحرارة لهب
*** يختبئ في مكان ما قريب مني *** لم أجدهما تحت المقعد الإفرنجي الوحيد المتهالك ***و لا تحت ذلك السُّجّاد البربري! *** لم يدم طويلا كتم صوت حبُّهما .. سمعت احتراقها.. احتراقه .. تنهيداتهما من وراء ثقوب باب الغرفة الخشبي…*** فانطلقت جاريا لأُعيد الباب إلى وضعه الأولي *** و انتشل ابن عمي من بنطاله المنزوع .. و من قبضة تلك الملتهبة الغوية. ***كلما حاول استرجاع بنطاله بعد أن رآني … إلا أنها لم تعبأ بوجودي *** كانت بدورها تنزعه و تبقيه
مُسدلا! كانا ملتصقان عند اكتشافهما .. كأنهما كانا يصنعان " مَشَّهُما" المقدّس في عزّ
الصيفْ .. من الجبن المُعتق بملح جسديهما بعد إغلاق الأبوابْ *** كنتُ ألحظ هذه "الزليخة"؛ من زُليخات" باديتنا بهاتين العينين الجاحظتبن تختزل وجودي .. و لا تراني *** كانت تمشُّ من جسده المنفلت منه ما تبقى من طاقة الرغبة .. و كأن الشمس نفرتني .. و قايضتني مع صديقي السَّرابْ*** تُرى لماذا لا تراني هذه الشبقية المتمردة؟! ***انزعجا، ثم ضحكا، ثم انفصلا ! و كل منهما يمسك بناصية الرغبة انتصابه *** قلتُ في نفسي وقتها : "لكل طريقة في صنع حبره
***و ها هو الأمين وجد محبرته و مغمس مهراسه!"
25
أمسكته من يده .. كأني وليُّ أمره .. و نصحته بالعودة فورا الى بيته .. لإتمام قيلولته ***و الا فضحته عند عمي "ابراهيم" .. و لَأُخبرنّهُ بأن ولده قد هدّم "القواعد" في بيت الخالة " فاطمة"!
*** كان يعلم ما ينتظره من عقابْ .. اصطحبني غاضبا ماشيا يوضُّب بنطاله .. و ينظفه من أثار السجود .. و من "الحبر الأبيض" المتتطاير على بنطاله ***كاد أن يعنفني و يخنقني بيديه ثم تراجع *** فجأة حضنني ضاحكا بشدة .. ثم اقتادني الى بيتنا لكسب رضى "عمي إبراهيم" .. و الحصول على الثّوابْ... و هو يتمتم في شأني .. إلا أني سمعت قوله :" عسى الله ألا يُربِحُكَ أيها الشقي اللعينْ"!
26
‎حمدت الله حينئد؛ أنه لم يكشف بعد أمري مع " حضرية" و مغامراتنا في مطمورة الأفاعي!
*** قلتُ له مازحا لقد سمعت تمتماتك! بعدما أحبطت غارته .. و قتلت شهوته في منتصف الطريق.
*** لست ذكيا يا ابن عمي لهذا كشفتك ! ***ردّ ضاحكا : أنا لست ابن " النمر" مثلك يا"خنفساء" الصيف! *** أجبته ساخرا منه: والدي يُلقب بالنمر لرشاقته في التحرّك و لبطشه مع أعدائه
.. و لقدرته على السطو و تخطي أسقف و أسوار الدير ليلا؛ دون أن يشعر به أو يكشفه أحدْ
***تفاجأ سائلا: و من أخبرك بهذا كله عن والدك؟!.. قلت: سمعت النسوة و الصبايا يتحدثن في أمره! ***نعم أبي ذكي و نمر و ذئبوي الطبع .. و يتقنُ جيدا تفاصيل اللعبة *** ليس مثلك أنت
أيها الصياد الغبي الفاشل المغرور *** يكشفك صبي درويشي أمه الشمس و صديقه السرابْ!
27
ما دام " الأمين " حيا يرزق .. اعتقد أن لعنة الحب الومضي في باديتي تتبعني لحدّ الآن *** لأني فرقتُ دون قصد بينْ جسدين حميمين ! أرسلتُ اعتذارا للحب *** منذ أكثر من أربعين عاما و ما زلت أنتظر الجوابْ!
28
‎"عمّار" هو ابن "جدي إبراهيم" الأكبر؛ من الزيجة الأولى .. رجل لا نسمع له لغطْ منشغل بين عمله و رعاية أسرته .. و لا يصطدم بجدي كثيرا *** كان رصينا و غامضا أيضا .. له مكانة عند جدي إبراهيم ؛ خصوصا لما حفظ ما يقارب نصف كتاب الله ***حفظه للقرآن أمّن له الحصول على احترام الجميع بالبادية .. إلى أن رحل بعيدا مع أسرته
‎ بمدينة أوراسية تُدعى "الشمرَّة"..
29
كان جدي " إبراهيم " الحكيم ؛ كثير الذكر مبسوط اليدينْ ..كان حبيب الله .. ليس بمتكبّر و لا متعالْ *** يرعى غنمه في حقولنا و مراعينا بنفسه عندما يغيب راعينا ***و هو يذاكرُ القرآن بصوت عالْ .. تسمعه يتلو آياته .. و يكثر الاستغفارِ.. ***خطان أحمران معه .. لا يجب أن تتجاوزهما. طربوشه التركي الأحمر يحببني أكثر في حبيباتي شقائق النعانْ ***خطاه الأحمران
مقدسان ؛لا يمكن لأحد تخطيهما و لو كنت أنا: ألا تزعجه و هو يصلي .. أو عند تتبعه عبر الأثير لـ
"صوت فلسطين" في بث مسائي ..أذكر كانت أخبار إخواننا هناك صلاتنا اليومية السادسة ؛التي لم يكتبها الله .. و شرَّعها فرض عين الجزائريون .. بدوا كانوا أو في المدن صالحين أو أشرارِ!
30
*** لكثرة قعودي بالقرب منه .. و في كل مرّة بأنفاس تكاد أن تكون مكتومة؛ خوفا من غضبه *** و حبًّا و هي تُحدٍّثُ أخبارها .. حَفَظَنِي الجُلوس معه هذه الأبيات: (لا تقعــــدن عن الجهــــاد إلى غـــــد .. فلقد يجـيء غد و أنت غبــار .. الصيد غيرك إن سهرت .. و إن تنم .. فالصيد انت و لحمك المختار") *** كأنه احتال و ضحك على ذقني الصغير " جدي إبراهيم "؛ عندما كان يدعوني مُرغّبا بقطع الحلوى إلى حجره كل مساء*** لأستمع معه إلى "صوت فلسطينْ" .. كنت أقول في نفسي :
ما لعمي إبراهيم يصر على حضوري لسماع صوت " الأرض المحتلة "و أنا لم أعد أذكر حتى صوت أُمي " ؛ التي لا تبعد قريتها عن باديتنا إلا ببضع مئات الأمتارْ ! نسيت فعل احتياله عليّ..
و أصبحتُ فلسطينيا بالوراثة !
31
-قبل موته أذكر لما دعاني؛ و هو ممددا وسط جمع غفير قائلا : تعال يا " فيصل" و أجلس بقربي :
.. أنا لم أضحك عليك يوما .. و لم أقم قط بخيانة براءتك ؛ حتى بعد تمزيقك عبثا أو خطأً لمصحفي الشريفْ .. فقط يا " نبيي" الصّغير المشاكس ***أردت الاعتناء بنبتة طيبة في قلبك و نفسك ..
لأني أعي جيدا لا يسلم إلا السليمْ ***أخبرك يا صغيري ألا تبتئس من جهلة القوم اذا كنُّوكَ
باليتيمْ .. فأنت "اليتيم" في أعين الحمقى و الجهلة .. و الفريد بعين السماء التي بعثتك هاهنا
.. أنت سليل الطهر ***أراك على جبين الأبطال و الأحرارْ ... أراك فيك عمّك الشهيد ***أبشر يا صغيري لا تحزن على رحيلها.. فإن قست عليك الدنيا و ضاقت بِمَا رحبت ؛ فالله و إن عشت غريبا
فهو راعيك ومعلمك في تأويل الأيام و في غرابة الأقدارٍ. ***
يا بُنيْ! اقترب يا صغيري و لا تخفْ.. لا تعتب عليْ و سامحني إن قسوت عليك يوما..
اليوم يوم الرّحيل و أريد عفوكْ
32
رغم صغري .. استشعرت أن مُعَلِمي و"جدي الحكيم " .. كان في بداية الاحتضار ***و كيف أعفو " جداه ؟! *** قلت.. ما علمتمونا أن يعفو الغٍلمان عن أخطاء الكبارِ ***قلت ، و قلتُ و الدّمع منهمر على حجره ***ساعفو عنك بشرط أن تبقى لي حيّا .. و اطرد الموت و اعتذر منه .. *** أترحلْ.. ويحكْ .. ترحلْ .. من لي من بعدكْ يا محتالْ! يا كذاب .. يا لئيمْ ! *** لماذا تفعل هكذا معي ؟! أجبني يا وغدْ! .. قلْ لي أنك تمزحْ..رد علي .. أجب .. رْدْ *** ليست هنا أمي .. و لم تعدْ!
إلى من تكلني يا معلمي و يا صاحبي و جدي و يا عمي لمن ؟! ***حبري الأزرق الذي تعرفه؛ لونه من لون السماء .. إن رحلت سأغضب عليها و أجعله حبرا أسودْ ***من يصطحبني إلى حقولنا
في عز الصيف خوفا علي من الأخطارٍ .. و يهديني بخزيرانه الى منابت شقائق النعمان .. و يشجعني على طحنها و على صناعة أحباري ؟! *** إلى من تكلني!؟ من يقبلني عندما يلتقيني الصباح و يلقي عليّ السلامْ؟! قلْ .. أترحلْ.. *** من يضع طربوشه الأحمر على رأسي؛ و هو يكاد أن يبتلع وجهي الصغير ثم يقول مازحا: هذا الطربوش الأحمر يليق بك يا ابن جده *** يا من يغار" النعمان" من شقائقه و هي تحتضر عشقا بين يديك! .. لماذا كلكم ترحلونْ؟! *** فقال: لا تجزع .. لقد جاء دوري .. راحل إلى من لا يخيب عنده ظن سائل .. إلى من نجّى نوحا و إبراهيما .. و موسى و عيسى .. العزيز الواحد الجبّار. ***هيّا الملك ينتطرُ .. لا تتماطل يا صغيري و لا تحزن لسفري قلها علنا أمام الملأ : سامحتك يا جدي .. أسمعني أياها إن كنت تحبّني *** انفجرت أكثر بالبكاء
-سامحتك و إن لم تسئ إليّ .. لقد حرَّقوا حَقلي الصغير و لم أفهم ما جرمي .. لو لاك لاعتقدت أن الرَّماد حسائي .. و الجمر قدري .. إلى أن جئتني و علمتني سرّ الحياة في سنابلك و زرعك
و من جمال الأزهار اهتديت. ***ماذا أقول لك جدي الحبيبْ ارحلْ ..مت هنيئا .. لَرُزيَ هذا الموت إن أخذك مني.. و ستبقى حيّا في قلبي و إن متْ .. و إن كانت حياتي
لا تتوقف عن الانشطار
33
***غفا قلب إبراهيم إلى الأبد .. و كان قلبي للحزن موطنا كنت أنا من بعد رحيله الصيد .. و ما كان بيدي هذا الاختيار *** رحل " جدي إبراهيم" و بقي ينتظر شاهدا كما أنا ذلك "الجبل"..جبلُنا الذي يتراءى على ملمح البصر ***جبلنا دائما كاسيا و نحن قوم البادية عُراة لا تنقصه شجيرة واحدة ***و كأن كل تلك الأشجار التي كنّا نتلفها لتصلى بها جلودنا في كل شتاء و تستجيب للقدرْ
تتجدد فوريا .. و تتسترجع أنفاسها حال مغادرتنا ***كان يزداد حضورا و هيبة .. عندما تعصف الرياح أو يهطل في الشتاء المطر .. يعطرنا على بعد كيلومترات .. بريح أشجار السنديان
و السرو .. و شجر البلوط ***كنتُ أحسد أقاربي عمي " عثمان الساسي " لو كان مازال حيّا في عصرنا هذا لتسيّس الرجل و أسّّس حزب البط و الإوز؛ لكثرتها و تكاثرها المستمرْ ***و الخالة " طوزر" و الجدة "خضراء".. و ابنتها "فضيلة" و ديارهم المتماسة مع الجبلْ
34
***نسيت ذكر " نانة زينة " .. التي لا حول لها و لا قوة إلا بالله و و حيدها "الأمين"
المغرور بعد رحيل " إبراهيم"عليه مني أزكي التحية و السلام ***لا حظ للنساء من تأريخ الرجال
التاريخ رجل و الرجال ذكور *** كنتُ لما اصطحب جدي عند قدوم الشتاء إلى الجبل .. تطلب مني
أشياء ثلاثة -أن أحضر لها ما استطعت من ربطات الزعتر والشيح الجبلي .. و قشور شجر البلوط
الكبيرة .. يسمونها "الدباغة" .. جدي لا يهمه عدا جمع ما أمكن من الحطب.. استعدادا لمقاومة قهر الشتاء البارد .. ***أما أنا لا يمكن أبدا أن أعود دون المرور إلى بيت الخالة " طوزر" .. و أجلب معي ما أمكن من " بيض" الإوز الكبير و البط ..*** و إن منعتني أسرقه و أفر كالقط اللعين باتجاه باديتنا
*** جدي ابراهيم الوحيد الذي كان يعلم بالسرّ؛ أني غامرت ثلاث مرات في الذهاب إلى الجبل .. و توغلته لوحدي دون خوفي من الذئاب و الخنازير .. و صعدتُ إلى قمته و لعبتُ بين أشجاره الكثيفة
***كانت مغامراتي تستغرق أكثر من نصف يوم ذهابا و أيابا؛ إذا ما رغبت في زيارة محراب الجبل!
***علمت أن الجدة" خضراء" هي التي أخبرت عمي " إبراهيم " بحماقتي الاستكشافية السرية الجبلية .
35
*** كانت " نانة زينة" تستعمل قشور شجر البلوط الحمراء .. الهرمة بعد تحضيرها في صنع مستخلصات مختلفة .. *** وأدباغ لتطهير الجلود و وقاية يومية لبشرة الأطفال و لعورات المواليد
الجدد من التشقق و الالتهاب. *** كم هو غريب سلوك و ممارسات أهل باديتنا.. ***منذ البدء، ومنذ أول صرخة لنا على قِدْرِ الحياة يهتمون بشكل مبالغ بحفظ جلودنا و عوراتنا..***إني أتساءل كم من امرأة قروية تشرفت بتدليك عورتي بزيوت الزيتون و بأدباغ شجر البلوط ؟!
***عندما نكبر تُكوى الجلود .. و تنفلت منا عوراتنا أو نساعدها على التعبير و الهرب إلى مكان ما
لا يعلمه الا المكان !*** رغم كل الموروثات التي نَحَتُوها و زخرفوها على جلود أرواحنا الباطنة! لعوراتنا دوما شيء تقوله .. أو تفعله رغم تقبيحها و حظرها!
36
لا تحلو قهوة " نانة زينة " ؛ إن لم تتخللها عُشيبات الشيح الصغيرة .. تحِبُّ الغناء " الشاوي" وهي تُمارس أشغالها المنزلية .. و رعاية المواشي عند دخولها مساءا *** تغني "نانة زينة " و تطرب نفسها
و هي تحضر لبنها و تمخضُه داخل " الشكوة".
***جلد مجفف لمعزة من معزاتنا المنبوذات بعد نحرها و أكل لحمها على مضض!***لا حظ للمعز أيضا أحياء و أموات .. و حتى عندما تشوى لحومها! القِربة و فنجان القهوة ( المُشيَّحْ)
و الموشّح بأغاني بربرية يجعل من نانة زينة سيدة المكان بامتياز! كانت تحب المذاق المر الممتزج
بقهوتها المسائية! .. كنت لا أفهم كيف لكبار باديتنا يفضلون قهوتهم ممزوجة بمرارة
الشيح رغم حضور رائحة الجبل .. المنعشة التي تنبعث من فوهات فناجينهم! مرارة الشيح تذكرني
بأمي ذات يوم ... ***كانت تتقيّأُ و هي تجلس القرفصاء في الفناء الخارجي، أو الحوش
قيئها كان أخضرا .. كان يُرثى لها وهي تتجرع، تتقيأ بمعاناة محلولا معويا أخضرا
***قلت و أنا قلقا عليها - ما بك أُمّاه!؟ قالت مريضة يا كبدي ! أعدت السؤال و ماذا عن هذا السائل "الأخضر" ؟ قالت إنه" المرار"! قلت : مرار!؟ و ما سبب هذا المرار أو " المُرَّيرْ"؟ أُماه؟! أجيبيني!
قالت: سببه والدكْ! ***حزنت كثيرا لما حصل لها و لأني أول مرة أرى لون القيء أخضراو لأول مرة أعرف أن الرجال يزرعون " المُرّير" في بُطُون النساء! و لأول مرة أحزن أكثر لأجل أمي و أغضب من والدي ***و بدأتُ أشكُّ في قداسة اللون الأخضراكتشفت بعد بلوغي ؛أن أمي كانت تكذب علي
و تجَنَّت على والدي ؛لأن هذا "البقل البرّي" لا ينبت في بُطُون الناس! ***كنت أنا أول بقل بشري يحمل
مرارة أمي الذي نبت في بطنها .. أُمي كانت تقحمني في أشياء لا دخل لي فيها و سمّمت أفكاري..
تعجّبتُ من الكبار؛ لأجل نزواتهم يلتقون دون تفكير على الورد و العسل .. وينتهي بهم المطاف
عند بواطنهم المزروعة بحقول لـ" المُرَّيْر"! و يطلبون من صغارهم أن يساهموا في قطف ثمارها..
***الانفصال هو الشيء الوحيد الذي يجتث أو يحرق هذه المحاصيل السامة في دواخل نفوسهم المجروحة.
37
***شيء يزعجني كإزعاج اسمي بعد موت جدي إبراهيم .. هو اكتشافي أن ذلك الجبل العظيم .. كان يطلق عليه " جبل قرن حمار ".. ***كأن في باديتنا بعد تلك الثورة الحيوانية .. و اختلال في سلوك حيواناتنا.. صار" للحمار قرون".. *** كنت في ذلك الوقت اعتقد أن اسم الجبل له علاقة بمغامرة ثورنا مع أتان عمي " صالح" لاندوشين! *** أضيفت إليه هذه الكنية ؛ لانه شارك إجباريا في هذه الحرب مع جيش الاستعمار الفرنسي. ***عمي "صالح " كان النسخة النقيضة لجدي إبراهيم .. احترام شيوخ القرى و القبائل المجاورة له تثير حساسية العم " صالح "! ***كان حاله أقل يسرا من إخوته .. ولا يملك إلا رؤوس قليلة من المعز و زوج أحمرة .. و دواجن بكثرة .. *** قتل مرة حماره الذي أغضبه
بضربة فولاذ غليظ .. فترملت تلك الأتان!
38

***بعد رحيل جدي إبراهيم ، كنت أغتنم فرص غياب زوجته .. لكي أقلّب و أفتّش داخل كل
الخزائن و الرفوف .. و بين الفينة و الأخرى أقوم بغارة على كيس معجون التمر .. أو أقضم شيء من القديد المملح دون طهي ! *** كانت مقدسة هذه الأمكنة و الأثاث .. و حقيبة جلدية نادرة .. تحمل كتبا كثيرة و قديمة مصفرة الصفحات .. و لساني وقتها لا يفقه معظمها *** فقط عطر جدي إبراهيم .. أو طرابيشه التركية الحمراء تلك ؛ هي التي كانت تسحبني بفضولي اللامنتهي نحوها..

39
***مررنا بوقت لئيم! .. كانت عناوينه كلها تختصر في الفقد و الغياب.. *** و كأن كل الأشياء بدأت تتهيأ بالرحيل .. واحدة تلوى الأخرى منذ وفاة جدي إبراهيم *** فرسنا الرائعة كذلك ماتت دون أيّ تفسير *** كم حزنت لموتها الفجأة .. و هي ليس ببعيدة عن ديارنا .. تركت ملقية.. ينهش لحمها المتعفّن الدود و الكلاب .. و من دونها صرت لا "أطير " ***ركوبها كان يعطيني الحلم اللذيذ .. و يمدني بالأجنحة .. و يشعرني بقمة الحرية و أنا أشق الريح و أقطع المسافات .. ممسكا بعنقها الأملس و شعرها الطويل. *** ازدادت باديتنا انكماشا على نفسها .. و تناقص تعداد سكانها
بعد موت جدي ، و الفرس ***و منذ أن أخذ الدَّرك " الأمين" إلى الخدمة العسكرية الإجبارية ..
لم ينفعه تهربه الطويل من ذلك القدر!
40
***كانت " نانة زينة " تسهر على سلامتي .. و الاعتناء بي ما استطاعت .. كنت أحب حضنها .. و أنام ملتصقا في بطنها ***و كأني أريد أن اختبئ من شيء يهدد وجودي .. المنبثق من الظلام .. كالأشباح و " الغولة " التي حدثونا عنها.. لكونها حسب مزاعمهم تشتهي أكل الأطفال الأشقياء *** تنتهي شجاعتي و شقاوتي عندما يجتاح الظلام المحيط و الأمكنة *** كنت أتمنى دخول بطنها .. و أعلن إضرابا عن الخروج إلى عالمهم حتى تقوم الساعة ! *** فَرَحِم هذه العجوز الطيبة لا طهر بعده .. لما عَلمتُ بفوضى و حروب النسل و ما تُحاك خارجا من أباطيل *** تدور رحاها منذ ألف سنة بسبب دجاجة التقطت حبة قمح من مطمورة شيخ شيوخ القبائل .. كان جدهم الأول"قابيلْ" . ***شيء واحد كان يمنع تقدمي و توغلي أكثر لأجد منفذا .. لأدخل منه إليها و أطلب اللجوء العاطفي والإحساسي من رحمها…***كان يرعبني " القمل".. قملها الذي يمتص دمها كل ليلة .. و تتطاول بعض القملات عليَ .. ***و تجبرني كل صباح على القيام بعمليات التمشيط الواسعة .. و كان يتحتم علي قتلها .. و سفك بعض من دم " نانة زينة " في بطونها التي لا تشبع! ***رغم ذلك لم تبعدني عنه تلك
القملات الحقيرة من سلالة " هابيل " و " قابيل" *** لن أجد لحضنها أي وكيلْ .. كنت أُحب نانة زينة بقملها، بروائحها و روائعها القروية و مناديلها البربرية .. و تلك العقود التي تأتي بها
من عند أهلها ؛ كلما سمحت لها الفرصة لزيارتهم ! *** كانت تهديني أجملها.. ***تعرف أني أُحبّ تلك العقود .. و عندما أملُّ من تماسكها .. أقطّعها لاستمتع بتبعثرها في كل مكان ***و أمضي وقتا كبيرا حابيا على أربع أجمع ما تبعثر من العقد الممرّد .. و لا يحلو لي يومي إذا عجزت على ترميم تلك
العقود الممزقة . ***كلما نجحت في الاعتذار لكل عقد قطعت وصاله .. أطرح سؤالا على نفسي
لحظتها .. و نانة زينة لا تدري ما يجول بخاطر ذلك الدرويش الصغير ***كنت أتحسّر لماذا ترميم العقود الممزقة أسهل بكثير من ترميم حياة مضت !؟
41
*** كان كل أهالي البادية يتحدثون في شأني .. و تحولي من ذلك الصبي .. النحيف الذي يستطيع
أن يختبئ بسهولة .. وراء إناء الوضوء لجده الحكيم! ***عجبوا لأمري عندما تضخم جسدي .. و صرت لأول مرة أُشبه بالبدينْ *** كانوا يحسدونني على اهتمام جدتي زينة بي .. و بكل التفاصيل .. فمن فيهم حُظي باصطحابها في كل صباح و مساء .. و هي تحمل دلوها الكبير ؛ لتحلب بقرها و غنمها..
*** كنت بجوار ضرع البقر .. و صدر نانة زينة .. كنت أُسحر بتهاطل بياض الحليب .. المنحدر من ضروع البقر .. و الغنم .. و بنغم سقوط رذاذ البياض الحليبي في دلوها .. و الزبد الأبيض المتفاقم فيه..
***كانت لا تنهض نانة زينة من مكانها حتى تناولني دلوهاالممتلئ بالحليب .. تساعدني على حمله
و على تقريبه إلى شفتي الثائرتين و لا أتوقف في ابتلاع أكبر قدر من ذلك الحليب الطازج! ***كنت ربما و جدتي زينة أول من أسس للنظرية الفلاحية الزراعية.. ***و الشعار القومي البومديني " من المنتج إلى المستهلك "! *** دام استهلاكي لمنتوج ضروع البقر و الغنم مدة طويلة .. دون أن أنسى صنيع نانة من مشتقات حليبها كالأجبان المختلفة التقليدية *** فَعَظُمَ جسمي النحيل .. و صرت تارة سخرية ، و تارة موضع حسد عند فضولِي قريتنا البائسة .. التي تهتم بكل التفاصيل !
42
***لهذا كنت إبنا مطيعا لها .. كلما طلبت مني أن أجلب لها نبات الشيح البري .. و الزعتر .. و قشور الدباغة لأشجار البلوط .. ***و آخذ دجاجها و بيضها .. و أسلمه إلى " كفيف القرية ""يوسفي" .. ليتكفّل ببيع رزقها في مدينة "مسكيانة" .. و يأتي لها في المساء بالنقود .. فتؤجره على ذلك
***كان " يوسفي " ذكيا و فصيحا و جريئا .. و مستقلا في تحركاته بعصاه .. منتقلا من البادية إلى المدينة.. *** و لم تعجزه مطبات الطريق البري .. و لم يسقط في بئرنا و لو مرة و لا غرق في " ملاق"
ذلك الوادي المشهور الممتدّ إلى التراب التونسي .. كان كفيفا ، نظيفا .. أنيقا .. يرتدي بدلة إفرنجية
***كان لا يرى شيئا و يرى كل شيء ! .. هو نقيض " يوسف " الذي إئتمنه العزيز على خزائنه! لا يعجبني في سلوكه وقتها ؛ تدخله المفرط في أمور لا تعنيه و ضحكه على " جدتي زينة "؛عندما كان يغش في ثمن بيعه لدجاجها و لبيضها و لصوف .. غنمها و جلود ماشيتها
و لا يعطيها إلا الثمن الذي حدده هو .. و ليس ثمن البيع الأصلي ***لو لم يكشفه قريب من عائلتنا .. و هو يتتبعه و يقتفي أثره في السوق .. لظلت نانة زينة البصيرة الضحية الأبدية لكفيف فاقد لبصيرته الشابة في ذلك الوقت!
43
***ابتعدت ذات يوم مشمس عن الديار .. و ساقني فضولي .. إلى التمادي في حب اكتشاف أبعد
الأمكنة .. ***في تلك المرة و التي لن أنساها .. وصلت ليس ببعيد عن الوادي الكبير
المنسجم مع الطبيعة و المروج .. و السواقي المتفرعة منه…***كنت بسلوك استكشافي مغامر
حد المجازفة .. يتوسط الوادي ممرا منخفضا .. يستعمله الناس للمرور و قطعه راجلين .. أو على متن العربات بخيولهم أو بسيارتهم ***"المجاز " هو المكان الوحيد الذي يفصل الحياة الحضرية
بالحياة القروية …***و كأن من أعطى هذا الإسم لهذا " المعبر " من الوادي كان جدي إبراهيم ! ***فأول مرة تنطبق التسمية على الشيء .. أو المكان .. فـ " مجاز " وادي مسكيانة المتفرع من وادي ملاق لم يخذل المعاني في لغة الضاد..*** القرويون من باديتنا يتلفظونه " مزاز"! .. و بجانبي " المجاز " تُترك ليلا كمياتٍ هائلة من منتوج حزم " الجزر " .. التي ينتجها أهالينا ***يتركونها مثبتة بإحكام طيلة ليال لتبقى يانعة .. و ليغسل أتربتها وادينا المعطاء!*** ثم تأتي الشاحنات و المراكب الصغيرة
بعد إتمام الصفقات .. لشحنها و أخذها لبيعها في الأسواق المختلفة في الجهة الشرقية للبلاد .
44
***عبثي بمياه "المجاز" و أكلي لبعض الجزرات المنفلتة من حزمها تحت الماء .. و مواصلة مطاردتي لتلك الأسماك الصغيرة المتواجدة في بعض السواقي الموازية .. أنساني الوقت و اقتراب المغيب …***إلى أن رأيتُ على مقربة مني دابة تركض نحوي *** تمتطيها" جاندارك" باديتنا العظيمة نانة زينة بوجه غاضب مكشر.. *** نزلت في عجل و تقدمت مني .. و دون أن تسألني و تتفوه بكلمة واحدة ؛أردتني أرضا من خلال صفعة قوية باغتتني بها:" يا كلب .. لقد أحرقت قلبي ..*** بحثنا عنك طول النهار ..
و أنت هنا تعبث كالمجنون!" *** لم أر و لم أعهد نانة زينة بهذه الغلضة و الغضب و الشدة مثل ذلك الْيَوْم ! *** نهضت من سقوطي .. و لم استطع الإجابة لأني فهمت سبب الصفعة و لو كانت عنيفة !
*** أركبتني أتانها من خلفها و تشبثت بظهرها و احتضنته بشدة ***فـ للجدة "زينة " حضن حنون
مترام ، و رباعي الأبعاد *** و لو كان ظهرها ألجأ إليه لما " تظاهرني " الدنيا ***تقدمت " حمارة " نانة زينة بضعة أمتار ..***أرادت أن تجتاز بِنَا متخطية ساقية صغيرة ***تعثرت " الأتان" .. سقطت بجانب الساقية الزلجة الجنبات .. و سقطنا جميعا أنا و جدتي زينة *** هذه المرة وجدتني واقعا على حضنها الأمامي ... بقيت أنظر إليها .. مليا *** كنت أنظر إليها بإمعان .. و لم تغيضني و لم تؤلمني السقطة من أعلى ظهر أنثى الحمار ،التي سرعان ما نهضت .. و استمرت مهرولة تاركتنا على حالنا
*** ثم انفجرنا ضحكا لا ندري لماذا ضحكنا .. و ضحكنا .. دفعتني بلطف و قالت لي : انزل أيها الشقي من على صدري .. و الحق بالحمارة "الكلبة" قبل أن تبتعد عنا.. و نعود إلى البيت راجلين متأخرين ! ***و نحن على ظهرها ثانية متشبثين ببعضنا .. متجهين إلى بيتنا و قريتنا ***كنت أحدث نفسي و حمدت الله على مغامرتي *** و شكرت تلك الأسماك الصغيرة الجبانة التي أنستني الوقت
*** و جردت الأمكنة من سياقها الطبيعي .. و تعلمت درس " المجاز " .. و الصفعة التي تُطلق بدافع
الحب الأكبر ! *** لا يمكن لحمارة نانة زينة .. و لا لأسماك وادينا و لا لجزرات " المعبر " أن يفهموا
هذا ؛ فقط أنا و هي …*** كانت نانة زينة أول من أعطتني صفعة عنيفة أحببتها من خلالها
و تعلقت بها أكثر !
45

***كانت سعادتي لا توصف .. عندما توقظني على روائح الرغيف " المعجون ".. الساخن المنزوع من فرنها الطيني.. و هي على شفا الموقد .. و إبريق القهوة الممزوجة بالحليب الموضوع
على الجمر !*** غالبا ما كان إيقاظها لي يسبق صياح ذلك الديك "الديوث" .. الذي يرعبه دوما حضور
الديك الرومي .
46
***عائلة "خلفاوي" ملقبون بـ"أولاد الخلفة البهلول" .. المنحدرة عن الجد الأعظم "الخليفة البهلول"*
ـ يُعتقدُ منذ القدم في منطقتنا؛ أن "البهلول" تعني فقط "المجنون" .. أو الدرويش.. ***لما كبرتُ و طلقت حياة البدو .. و تمدّنتُ و تحضّرت و صنعت لنفسي البدائلْ ***بحثتُ لماذا لقبي مرتبط بهذا
الجدّ ، و بهوس الدنيا .. قضى حياته ذا عقل مسكونْ ***يذكرني نسبنا بذلك الراعي الغريب الذي يوظفه في كل مرة جدي إبراهيم لمواسم كاملة .. في رعي مواشينا و الاعتناء بها *** فجهز له بيتا متواضعا ليس ببعيد عن مخدع خيولنا *** كان الرجل دون أي مفاجأة "درويشا".. بهلولا.*** يطلق عليه بكل غرابة اسم "أبو عقلين" ***كل أهالي البادية لهم عقل واحد ***و صاحبنا الراعي أنعم الله عليه بإثنين! ***كان توصيفهم لحالة الهبل للراعي جزافيا و مجازيا ***لم يكونوا على دراية بأنهم طرقوا باب علم النفس من بابه الواسع .. و أن هذه الكنية تتطابق مع " حالات ثنائية القطب"
؛ التي يعاني منها المرضى *** أما أنا كنت أشعر في اقتناع شديد بتعدد الأقطاب لديّ! ***هذا يعني أني بمثابة مصحة للأمراض العقلية النفسية .. متحركة على ساقينْ
47
***عدتُ إلى محراب " قرن حمار".. أتعبّد، أبحث عن الأجوبة.. علّ أشجار السنديان و السرو .. تدلني على شجرتنا ـ و تدبّرتُ الأمر ***بعد بحث طويل أن "اقتران الخليفة " بـ" البهلول"لم تكن صدفة .. و اكتشفتُ في القصة الشيء المعقولْ… *** تمنيتُ لو كان "جدي إبراهيم " مازال على قيد
الحياة .. و أطلعه على بحثي و اكتشافي ؛ الذي يمزج العجب بـ "الذهول" ***ـ لقد نقلوا و ربطوا قديما خطأ قصة نسب عائلتنا.. *** التاريخ يؤكد ارتباط "الخليفة" بذلك " البهلولْ" .. لا يمكن أن ينفصل " البهلول" عن"الخليفة" ! ***اكتشافي لحقيقة نسبنا .. وقصة اسم عائلتنا كانت تاريخيا
في منتهي التناغم *** لا أخفي عليكم أني كنت أمزح دوما مع صديقي"صالح جبار" .. و أسأله عن مجانين "بغداد" .. و أؤكد له أننا نحن أيضا من سلالة " الدروايش المهابيل" ***كان للخليفة "هارون الرّشيد" قصة طريفة و ظريفة مع أشهر "مجانين بغداد" .. و هو "أبو وهب بن عمرو،
بن المغيرة ، بن محمد بن علي بن عبد الله، بن العباس
بن عبد المطلب، بن الهاشم" .. و قصته مع هارون الرشيد مذكورة في كتاب"عقلاء المجانينْ" .. حيث يذكر قصة جدنا "بهلول بن عمرو الصيرفي الكوفي.. المتوفي في القرن الثامن الميلادي .. و مرقده بـ "مقبرة الكرخ القديمة"؛ ليس ببعيد عن سكنى صديقي "صالح".. *** ليته يقوم عني بزيارة قبره
و يلقي عليه السلام كما فعلها " الرشيد" و يقول له: "السلام عليك يا بهلول!" *** الآن لا أفهم صدف حياتي .. أذكر و أنا في بداية الشباب و مشواري الفني.. أول الخطوط العربية السبع
الأساسية التي تعلمتها .. و مارستها كان " الخط الكوفي"!
48
***جدنا "البهلول" كان شاعرا جريئا أيضا .. فمن يجرؤ في زمانه على مواجهة أمير المؤمنين
.. إنه "هارون الرشيد"! لقد فعلها جدنا الأول"أمير المجانين ".. صاحب اللسان الفصيح ***لكن الرشيد كان يحبه و يحب سجاله .. بل كان " يشتهي" رؤيته و التحدث إليه ***جدنا الأعظم "البهلول " .. كان أفضل و أجرأ مجانين الأقوام الأخرى في زمنه ***ـ هل تدرون؟! .. ساجل "هارون" ذات مرة بهذا الكلام الصّريح:("يـا مـن تمتع بالدنيا وزينتها
‎ولا تنام عن اللذات عيناه .. شغلت نفسك فيما ليس تدركه .. تقول لله مـاذا حين تلقاه .. هب أنك قد ملكت الأرض يوما .. و دان لك العباد فكان ماذا .. ألست تصير في قبر و يحثو
‎عليك ترابه هذا و هذا") ***بعد كل هذا العمر.. بعد كل صولاتي و جولاتي المتواضعة
‎ في الشعر و القصيدة الثائرة .. و محاربة الوصاية و التمجيد .. و التعبيد في كل شيء .. أرى التاريخ في حرفي للمأساة يجدد و يُعيد *** كلما هربت من تاريخي .. من هزائمي ، من نفسي
‎من أباطيل الماضي؛ يعود إليّ في كل مرة هذا" الرّشيد"! لقد أتخمتني، قريتي بماضيها .. تاريخي أيضا و تاريخ هذه الأمة المجنون *** يا أقداري لا أريد المزيد! .. لا أريد أن تبدأ كل قصصنا
‎بالرّشيد . و تنتهي بالرّشيد .. و لا أحد فكّر في أعظم الفتن التي تُحاك في القصور .. و في الحروب الطاحنة بين " الأمين و المأمون"! ***وحدها الشعوب؛ تبدأ من مسقط رأسي باديتي
‎و في مدينتي .. أو في الكوفة .. و بغداء .. لا تستقرّ على رشاد .. يُؤَمُّون، يُحكمون، و لا يُؤتَمَنُون!
‎كلهم للفساد ينتمونْ ..
49
*** في السابع من أول شهور السنة.. من عام التاسع عشر بعد الألفين.. كنت أتسوق في أحد الأسواق بضواحي باريس *** ناداني صديقي التاجر "محمد"؛ و هو من خيرة التونسيين ..*** في الوهلة الأولى لام غيابي كثيرا.. فسلمت عليه و هنأته بحلول العام الجديد *** قبلته جبرا للخاطر على الرأس
و الجبين . *** صديقي كالعادة يعرض أشياء متنوعة للبيع .. إلا الأخلاق الحسنة و الضمير ***عندما ألتقيه في كل مرة أحب التفسح بعيني ؛عبر حاوياته التجارية المعروضة ***علني أعثر على شيء مختلف لم اقتنه من قبل..*** شدتني حاوية مكدسة فيها قداحات متميزات.. ***عندما التقطت واحدة منها فضولا للتأمل
.. كانت قداحة معدنية رأسها على شكل "بومة"!***أنا رجل -أقصد الطفل الذي لم يكبر بعد- لا يحب طائر البوم! *** و كنت لا أدري ما الذي حببني في هذه القداحة التي ستلتحق بمتحفي الخاص لـ القداحات
المتميزات ! *** صديقي كعادته أحرجني بكرمه المعهود ؛ "خذها يا لخضر، إذا أعجبتك خذها يا سيد الرجال.. خذها و لا تصد هبتي يا عزيز .. خذها والله عن طيب خاطر !"*** رغم إلحاحي في دفع ثمنها
إلا أن "محمد" كان يريد أن يقرض الله قرضا حسنا (في) من خلال قداحة " البوم"!***عندما تركته بعد لحظات تبادل معه؛ اشتعلت نار الماضي الطفولي .. و عدت إلى أكثر من أربعين حولا إلى فضاءات باديتي .
***ـ المصريون القدامى يعتبرون هذا الطائر رمزا للحكمة .. و مجتمعات "عالم ـ ثالثية" تعبتره رمزا للأرواح الشريرة .. و مرادفا لكل أشكال البلاء .. و بعض المجتمعات الغربية تلقبه بـ " البرلماني" .. و قدامى أستراليا يقدسونه .. و يحرمون قتله.. ***حسب اعتقادهم ؛ البومة تجسيد لـ أرواح النساء ! ***
50
في باديتي كانوا يعتبرونه نذير شؤم .. و ساعي بريد الموت ! *** فكلما حطت بومة على أسقف منازلنا؛ إلا و تسارع الجميع في رميها بجذاء.. فإذا التقمت البومة جذوة من تلك الجذاء؛ كان الموت لا يمس شؤمه أحدا من باديتنا ... *** و إذا أُخطئ الرمي أو لم تلتقم البومة تلك الجذاء .. فيتبعها بعد أيام معدودات خبر وفاة و عزاء ! *** كان أمرا عجيبا مع البوم في باديتي .. ***و كان التطير وفيا عند كل حضور لهذا الطائر بلا عنق! *** كان يخيفني كثيرا هذا الكاسر اللعين .. فأصبحت بدوري راصدا بشريا متنقلا
متطوعا في باديتنا .. و كلما لمحت هذا الطائر أُصاب بالذعر و الهلع ،*** فأنذر أصحاب المنزل المُنتقى من قبل ساعي بريد الموت .. و تُوقد الأعواد و تُرمى الجذاء صوبه اتقاء شره .. *** كم كان هذا الطائر الملعون نذير شؤم في باديتنا .. ففي كل موتة تقريبا سبقها حتما مرور بومة ما! ***وقتها ما آلمني كثيرا أنني لم استطع إنقاذ روح أخي " خالد "…*** لقد حطت تلك البومة المشؤومة على سقف بيتنا شتاءا .. و ما لبثت أن تستقر على سقفنا .. و بدأت تضبح ضبحا مزعجا .. حتى سارعت إلى داخل البيت لأخبر أمي
كانت بجانب الموقد ترضع خالد ..*** اختطفت على مرآها جذوة بسرعة الومض و رحت أصوبها باتجاه البومة دون أن أفلح في إصابتها *** و أعدت الكرة كما في "الصفا و المروة" .. أسعى بين الموقد و خارج البيت *** لأُعيد الرمي لـ " الجمرات" باتجاه موضع البومة .. فشلت مرارا و أمي المذعورة في إصابة هذا الطائر ! *** كان يبدو عليها القلق الشديد لزيارة رسول الموت ! قلق أمي لم يكن من فراغ أو هلوسة . *** لقد كان "خالد" الذي يصغرني بثلاث سنوات ليس على ما يرام .. و أبي كان يعتبر عيادة الطبيب من الرفاهيات
*** و الرفاهة ممنوعة على أهل البدو و رضعهم ! مرّ على زيارة تلك البومة اللعينة أسابيعا.. و ساءت حالة " خالد " أكثر .. فبعدما كان قبل مرضه يحاول الاعتماد على قدميه في المشي .. و الاستعانة بجدران الحجرة في التقدم نحو أمي.. *** و هو يضحك بمنجزه منتظرا تشجيعنا. كانت نساء البادية عند كل حضور لزيارته
يلقبنه بـ"جميل الجنة"! *** إلا أن أمي كانت لا تحب مجاملاتهن هذه .. و كنت لا أفهم سبب انزعاجها
من توصيف جمال " خالد".. *** كان حقا أجملنا و أوسمنا كولد ثالث .. أشقر الشعر ، مشمس البشرة
.. ويتمتع بعينين زرقاوين كلون السماء! كانت سحنة خالد مختلفة عن سحنتينا أنا و عادل ! .. ربما كان الولد الوحيد لعائلتنا الذي طالته جينات بربرية .. ***جيناته تبدو خالصة غير مورطة في جينات
العرب الفاتحين ! من هو الجنس الذي لا ينتسب إلى آدم العرب أم البربر" ؟ لا هذا و لا ذاك.. الكل يعود إلى نسب واحد .. التراب ! *** ذات صباح قارص، كانت أمي مضطربة .. و حزينة، و خالد في حضنها يفتك به سقم "شلل الأطفال".. *** كان والدي ليس ببعيد عن الدار .. يتسلى كعادته في صيد الطيور الشتائية
التي تحط و تقتات من أراضينا المجاورة *** كنت ألعب على مقربة من الدار .. قلبي كان مع أمي المهمومة و خالد بين يديها *** عيناي ترقبان على بعد عشرات الأمتار"محمد الصالح" و هو يقبض أرواح طيوره
من خلال قنص و طلقات بارود بندقيته المتواصلة! ***كنت أتمنى لو تلك البومة تمر خطأ بمجال صيد أبي
ربما يصيبها و يُشفى "خالد" .. ***سمعت بكاءا و نواحا فجأة قادم من بيتنا .. هرعت إلى أمي لأرى سبب هذا النحيب *** وجدتها تتخبط في حزنها و خالد دائما في حضنها لكنه دون حياة .. *** هكذا أخبرتني أمي .. و أمرتني أن أخبر والدي سريعا بنبأ وفاة "أخي" الذي لم يكتب له الخلود! ***ذهبت متجها إليه ؛ كانت الريح الباردة تذرف بدلا من عيني دموعي *** كنت أقول في نفسي : لقد فعلتها البومة، لقد فعلتها و أخذت روح شقيقي " خالد".. ***و يحني لماذا خاب رميي للجذاء .. و ما رميتُ إذ رميت
و لكن "رسول الموت رمى"! كان لا يسمع ندائى .. *** لقد كتم الحزن صوتي لوقع الصدمة، صوت بارود أبي و بندقيته أقوى.. *** قلبي الصغير بلغ الحنجرة .. حنجرتي كانت هي أيضا مذبوحة حد النزف .. لا يُرى من ذبحي سوى أنا.. *** "بابا ! .. بابا! .. بابا! " فجأة .. كانت تبدو المسافة بعيدة إليه .. تبدو و كأنها سنوات ضوئية بالرغم من قربه .. *** كأني كنت أجرى إلى الوراء! ـ ما بك؟ .. ويحك! ، ماذا تريد مني؟ *** كان يبدو أن نداءاتي المتكررة قد أزعجته و أفقدته تركيزه في القنص
و استمراره في قتل طيوره! *** قلت بكل خوف و رعب ـ نقلا عن أمي ـ :إنها تخبرك بأن "خالد" مات!
كان الأحرى عليّ أن أقول له ٬"أبي ، أبي ، توقف عن الصيد و إطلاق النار ..أخي خالد في ذمة الله و يجب أن ترجع معي إلى البيت! *** لكن نحن نُسأل و الإله لا يُسألْ ؟! هذا منطق الطواغيت مع العبيد!
لم أكن وقتها شجاعا بما فيه الكفاية . ***ـ نظر إليّ نظرة تشبه نظرة الرَّب المتجبّر الغاضب من عبده !
كأنه سيُغشى عليّ ! *** لا أريد نقل إجابته للقراء حتى لا يكره جميع سكان الأرض و السماء أبي ..
فما زلت أحبه و أعذر جهله ! ***لم يحضر معي عند سماع الخبر .. لقد استمرّ في ممارسة هواية
الصيد و قتل الطيور… *** عدت إلى أمي و جثة " خالد" .. و لم يكن لدي حضن كبير .. و لا ذراعين طويلتين حتى أحضنهما معا *** لم يكن بوسعي عدا التسمّر في مكاني بقربهما .. أسمع موال المآتم تردده أمي بكل ألق ! ***كان قلبي الصغير يرقص داخلي.. مع كل لطمة توجهها لوجهها .. مع كل دمعة تحفر خدها! *** بينما كانت هي تبكي بأسى *** كنت أنا لحظتها أُشَيِّدُ بداخلي من خلال ندوب الوجع
معابدا للحزن .. *** يا "نزار" إعلم و أنت في قبرك أن الحزن الذي ـ أستَذَكَ ـ تتلمذ على يدي أنا بباديتي و ما كنت تدري ! ***فجأة نزل الرّب من سدرته واقتحم علينا الغرفة و بندقيته .. نظر إلينا، للحظات وجيزة، رمى الصيد بمحاذاتنا و انصرف بعدما أمرها أن تقوم بطهي صيده! ***منذ ذلك اليوم و أنا أتساءل: هل تحوَّل قلبي إلى " بومة" .. تلتهم أرواح كل من أحبهم !؟ *** عندما بلغت مع الزمن السعي عرفت أن خالد قتله المرض .. وعقوق ربه له! *** كنت أعتقد أن تلك الجذوات المُصوّبة باتجاه
البوم .. المُصيبة منها و المخطئة قد بقيت في بطون البوم .. أو قد تكون على سطوح منازل باديتنا
*** لكني اكتشفت مؤخرا أنها مازالت مستقرة في قلبي .. و قبسها لم يخمد بعد ! *** كان طائر البوم يخيفني برحيل قريب عزيز .. و الآن صار يحيي بداخلي ذكرى أحبتي و شقيقي خالد رحمة الله عليه!"
ـ لحضر خلفاوي ـ باريس
نص كُتب على فترات :
من آب 2018 إلى كانون الثاني 2019



#لخضر_خلفاوي (هاشتاغ)       Lakhdar_Khelfaoui#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- البناء و إعادة البناء النصي في المنحى السيامي ل: -لخضر خلفاو ...
- نقد النقد:انطباعات سيامية ل -لخضر خلفاوي- في رؤى الروائي -صا ...


المزيد.....




- هتستمتع بمسلسلات و أفلام و برامج هتخليك تنبسط من أول ما تشوف ...
- وفاة الفنان المصري المعروف صلاح السعدني عن عمر ناهز 81 عاما ...
- تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
- انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - لخضر خلفاوي - ‎ملحمة شعرية سردية واقعية من طفولة لخضر خلفاوي‎ :-مشّ بهلول .. في باديتي-