أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - ناصر بن رجب - قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (5)















المزيد.....



قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (5)


ناصر بن رجب

الحوار المتمدن-العدد: 6103 - 2019 / 1 / 3 - 21:03
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


أعتذر على إعادة نشر نصوص الرّوايات التي سبق وأن وضعتها في نهاية المقال السّابق. ولكن أعتقد أنّ ذلك ضروريّ إذ تكون هذه النّصوص أمام أيعن القرّاء من جديد حتّى يتسنّى لهم الرّجوع إليها بسهولة وهم يقرؤون كامل المقال. وقد فضّلت تقديم نصوص الرّوايات إلى حدّ اكتمال المعنى المراد الكشف عنه، وذلك بالرّغم من طول بعضها ووجود مقاطع لا يُخِلّ بالمعنى حذفُها. ولكن تركتها هكذا للأمانة العلميّة.
ولكن بإمكان مَن قرأ المقال السّابق أن يُغفِل هذه النّصوص ويبدأ القراءة مباشرة بعدها.

نصوص الرّواية حول حفر بئر زمزم:
1- الرّواية التي تتصدّر كتاب المغازي لأبي عروة مَعْمَر بن راشد البصري (المتوفّي 153 هـ/770 م) في رواية لأبي بكر عبد الرّزّاق بن همام الصّنعاني (المتوفي 211 هـ/827 م). قال عبد الرزّاق بن عمر عن الزّهري:
"إنّ أوّلَ ما ذكر من عبد المطّلب جدّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّ قريشا خرجت من الحرم فارَّة من أصحاب الفيل وهو غلام شابّ. فقال: والله لا أخرج من حرم الله أبتغي العزّ في غيره. فجلس عند البيت وأَجْلَت عنه قريش. فقل:
اللّهم إنّ المرءَ يَمْنع رَحْلهُ فامنَع رِحالَك
لا يَغْلُبنَّ صَليبُهم ومِحالُهم غَدْوا مِحالَك
فلم يزل ثابتا حتّى أهلَك الله تبارك وتعالى الفيلَ وأصحابَه، فرجعَت قريش وقد عظُم فيهم بِصَبْره وتعظيمه محارمَ الله.
فبينا هو على ذلك، وُلِد له أكبرُ بَنيه فأدرك، وهو الحارث بن عبد المطّلب، فاُتِيَ عبد المطّلب في المنام، فَقِيلَ له: احفر زَمزَم خبيئة الشّيخ الأعظم.
قال: فاستيقظ، فقال: اللّهم بَيِّن لي. فأُرِيَ في المنام مرّة أخرى: احفر زمزم تكتم بين الفرث والدم في مبحث الغراب في قرية النمل مستقبلة الأنصاب الحمر.
قال: فقام عبد المطلب، فمشى حتى جلس في المسجد الحرام ينظر ما خُبِّئ له من الآيات، فنُحِرَت بقرة بالحزورة، فأفلتَت من جازرها بحشاشة نفسها حتّى غلبها الموت في المسجد في موضع زمزم. فجزرت تلك البقرة في مكانها حتى احْتُمِل لحمها. فأقبل غراب حتّى وقع في الفرث، فبحث في قرية النّمل.
فقام عبد المطلب يحفر هنالك، فجاءته قريش، فقالوا لعبد المطلب: ما هذا الصّنيع؟ لم نكن نُزِنُّك بالجهل، لِمَ تحفر في مسجدنا؟ فقال عبد المطلب: إنّي لحافر هذا البئر ومُجاهْد مَنْ صدَّني عنها! فطفق يحفر، هو وابنه الحارث، وليس له يومئذ ولد غيره. فيسعى عليهما ناس من قريش فينازعونهما ويقاتلونهما وينهى عنه الناس من قريش لما يعلمون من نسبه وصدقه واجتهاده في دينه يومئذ حتّى إذا أمكن الحفر واشتدّ عليه الأذى نذر إنْ وُفِي له بعشرة من الولدان ينحر أحدهم. ثمّ حفر حتّى أدرك سيوفا دُفِنت في زمزم. فلمّا رأت قريش أنّه قد أدرك السّيوف، فقالوا لعبد المطلب: أَحْذِنا ممّا وجدتَ! فقال عبد المطلب: بل هذ السيوف لبيت الله.
ثمّ حفر حتّى أنبط الماء، فحفرها في القرار، ثمّ بحرها حتّى لا تُنْزف، ثمّ بنى عليها حوضا. وطفق هو وابنه ينزعان، فيملآن ذلك الحوض، فيشرب منه الحاجّ. فيكسره ناس من حسدة قريش باللّيل، ويصلحه عبد المطلب حين يصبح. فلمّا أكثروا إفساده، دعا عبد المطلب ربَّه، فأُرِي في المنام. فقيل له: قل اللّهمّ إنّي لا أحلُّها لمغتسِل ولكن هي لشارب حلَّ وبلّ. ثمّ كفيتَهم. فقام عبد المطلب حين أجفلَت قُريش بالمسجد، فنادى بالذي اُرِي، ثم انصرف. فلم يكن يفسد عليه حوضَه أحد من قريش إلاّ رُمِي بداء في جسده حتّى تركوا له حوضه ذلك وسقايته".

2- رواية سيرة ابن هشام، ذكر حفر زمزم وما جرى من الحلف فيها:
"ثم إن عبد المطلب بينما هو نائم في الحجر إذ أتي فأمر بحفر زمزم. قال ابن إسحاق: وكان أول ما ابتدئ به عبد المطلب من حفرها، كما حدثني يزيد بن أبي حبيب المصري عن مرثد بن عبد الله اليزني عن عبد الله بن زرير الغافقي: أنه سمع علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه يُحَدِّث حديث زمزم حين أُمِر عبد المطلب بحفرها، قال: قال عبد المطلب: إني لنائم في الحجر إذ أتاني آت فقال: احفر طيبة، قال: قلت: وما طيبة؟ قال: ثم ذهب عني. فلما كان الغد، رجعت إلى مضجعي فنمت فيه، فجاءني فقال: احفر برة. قال: فقلت: وما برة؟ قال: ثم ذهب عني، فلما كان الغد، رجعت إلى مضجعي فنمت فيه، فجاءني فقال: احفر المضنونة. فقال: فقلت: وما المضنونة؟ قال: ثم ذهب عني. فلما كان الغد، رجعت إلى مضجعي فنمت فيه، فجاءني فقال: احفر زمزم. قال: قلت: وما زمزم؟ قال: لا تترف أبدا ولا تذم، تسقي الحجيج الأعظم، وهي بين الفرث والدم، عند نقرة الغراب الأعصم، عند قرية النمل".
[عند ابن إسحاق (المتوفي سنة 150 هـ/767 م): "احفر زمزم، إنّك إن حفرتها لم تندم، هي تراث ابيك الأقدم، لا تنزف الدّهر ولا تذم، تسقي الحجيج الأعظم، مثل نعام حافل لم يقسم، ينذر فيها ناذر، لمنعم، فهي ميراث وعقد محكم، ليست كبعض ما قد يعلم، هي بين الفرث والدم"](1).
قال ابن إسحاق: فلما بُيِّن له شأنُها، ودُلَّ على موضعها، وعرف أنه قد صدق، غدا بمعوله ومعه ابنه الحارث بن عبد المطلب، ليس له يومئذ ولد غيره، فحفر فيها. فلما بدا لعبد المطلب الطيُّ كَبَّر.
فعرفت قريش أنه قد أدرك حاجته، فقاموا إليه فقالوا: يا عبد المطلب، إنها بئر أبينا إسماعيل، وإن لنا فيها حقا فأشركنا معك فيها؛ قال: ما أنا بفاعل، إن هذا الأمر قد خصصت به دونكم، وأعطيته من بينكم؛ فقالوا له: فأنصفنا فإنا غير تاركيك حتى نخاصمك فيها؛ قال: فاجعلوا بيني وبينكم من شئتم أحاكمكم إليه؛ قالوا: كاهنة بني سعد بن هذيم؛ قال: نعم؛ قال: وكانت بأشراف الشام.
فركب عبد المطلب ومعه نفر من بني أبيه من بني عبد مناف، وركب من كل قبيلة من قريش نفر. قال: والأرض إذ ذاك مفاوز. قال: فخرجوا حتى إذا كانوا ببعض تلك المفاوز بين الحجاز والشام، فني ماء عبد المطلب وأصحابه، فظمئوا حتى أيقنوا بالهلكة، فاستسقوا من معهم من قبائل قريش، فأبوا عليهم، وقالوا: إنا بمفازة، ونحن نخشى على أنفسنا مثل ما أصابكم.
فلما رأى عبد المطلب ما صنع القوم وما يتخوف على نفسه وأصحابه، قال: ماذا ترون؟ قالوا: ما رأينا إلا تبع لرأيك، فمرنا بما شئت؛ قال: فإني أرى أن يحفر كل رجل منكم حفرته لنفسه بما بكم الآن من القوة، فكلما مات رجل دفعه أصحابه في حفرته ثم واروه، حتى يكون آخركم رجلا واحدا، فضيعة رجل واحد أيسر من ضيعة ركب جميعا؛ قالوا: نعم ما أمرت به.
فقام كل واحد منهم فحفر حفرته، ثم قعدوا ينتظرون الموت عطشا؛ ثم إن عبد المطلب قال لأصحابه: والله إن إلقاءنا بأيدينا هكذا للموت، لا نضرب في الأرض ولا نبتغي لأنفسنا، لعجز، فعسى الله أن يرزقنا ماء ببعض البلاد، ارتحلوا، فارتحلوا. حتى إذا فرغوا، ومن معهم من قبائل قريش ينظرون إليهم ما هم فاعلون، تقدم عبد المطلب إلى راحلته فركبها.
فلما انبعثت به، انفجرت من تحت خفها عين ماء عذب، فكبر عبد المطلب وكبر أصحابه، ثم نزل فشرب وشرب أصحابه واستقوا حتى ملئوا أسقيتهم، ثم دعا القبائل من قريش، فقال: هلم إلى الماء، فقد سقانا الله، فاشربوا واستقوا. ثم قالوا: قد والله قضى لك علينا يا عبد المطلب، والله لا نخاصمك في زمزم أبدا، إن الذي سقاك هذا الماء بهذه الفلاة لهو الذي سقاك زمزم، فارجع إلى سقايتك راشدا. فرجع ورجعوا معه، ولم يصلوا إلى الكاهنة، وخلوا بينه وبينها.
قال ابن إسحاق: فهذا الذي بلغني من حديث على بن أبي طالب رضي الله عنه في زمزم، وقد سمعت من يحدث عن عبد المطلب أنه قيل له حين أمر بحفر زمزم:
ثم ادع بالماء الروي غير الكدر يسقي حجيج الله في كل مبرْ
ليس يخاف منه شيء ما عمر
فخرج عبد المطلب، حين قيل له ذلك، إلى قريش، فقال: تعلموا أني قد أمرت أن أحفر لكم زمزم؛ فقالوا: فهل بُيِّن لك أين هي؟ قال: لا؛ قالوا: فارجع إلى مضجعك الذي رأيت فيه ما رأيت، فإن يَكُ حقا من الله يبين لك، وإن يكن من الشيطان فلن يعود إليك. فرجع عبد المطلب إلى مضجعه فنام فيه، فأتي فقيل له: احفر زمزم، إنك إن حفرتها لم تندم، وهي تراث من أبيك الأعظم، لا تنزف أبدا ولا تذم، تسقي الحجيج الأعظم، مثل نعام حافل لم يقسم، ينذر فيها ناذر لمنعم، تكون ميراثا وعقدا محكم، ليست كبعض ما قد تعلم، وهي بين الفرث والدم.
قال ابن هشام: هذا الكلام والكلام الذي قبله، من حديث عليّ - رضوان الله عليه - في حفر زمزم من قوله: (لا تنزف أبدا ولا تذم) إلى قوله: (عند قرية النمل) عندنا سجع وليس شعرا.
قال ابن إسحاق: فزعموا أنه حين قيل له ذلك، قال: وأين هي؟ قيل له: عند قرية النمل، حيث ينقر الغراب غدا. والله أعلم أي ذلك كان.
فغدا عبد المطلب ومعه ابنه الحارث، وليس له يومئذ ولد غيره، فوجد قرية النمل، ووجد الغراب ينقر عندها بين الوثنين: إساف ونائلة، اللذين كانت قريش تنحر عندهما ذبائحها. فجاء بالمعول وقام ليحفر حيث أمر، فقامت إليه قريش حين رأوا جده، فقالوا: والله لا نتركك تحفر بين وثنينا هذين اللذين ننحر عندهما؛ فقال عبد المطلب لابنه الحارث: ذد عني حتى أحفر، فوالله لأمضين لما أمرت به.
فلما عرفوا أنه غير نازع، خلوا بينه وبين الحفر، وكفوا عنه، فلم يحفر إلا يسيرا، حتى بدا له الطي، فكبر وعرفوا أنه قد صدق. فلما تمادى به الحفر وجد فيها غزالين من ذهب، وهما الغزالان اللذان دفنت جرهم فيها حين خرجت من مكة، ووجد فيها أسيافا قلعية وأدراعا؛ فقالت له قريش: يا عبد المطلب، لنا معك في هذا شرك وحق؛ قال: لا، ولكن هلم إلى أمر نصف بيني وبينكم: نضرب عليها بالقداح؛ قالوا: وكيف تصنع؟ قال: أجعل للكعبة قدحين، ولي قدحين، ولكم قدحين، فمن خرج له قدحاه على شيء كان له، ومن تخلف قدحاه فلا شيء له؛ قالوا: أنصفت.
فجعل قدحين أصفرين للكعبة، وقدحين أسودين لعبد المطلب، وقدحين أبيضين لقريش؛ ثم أعطوا القداح صاحب القداح الذي يضرب بها عند هبل (وهبل: صنم في جوف الكعبة، وهو أعظم أصنامهم، وهو الذي يعني أبو سفيان بن حرب يوم أحد حين قال: أعل هبل: أي أظهر دينك) وقام عبد المطلب يدعو الله عز وجل، فضرب صاحب القِداحِ القداحَ، فخرج الأصفران على الغزالين للكعبة، وخرج الأسودان على الأسياف، والأدراع لعبد المطلب، وتخلف قدحا قريش.
فضرب عبد المطلب الأسياف بابا للكعبة، وضرب في الباب الغزالين من ذهب. فكان أول ذهب حليته الكعبة، فيما يزعمون. ثم إن عبد المطلب أقام سقاية زمزم للحجاج".

3- رواية ابن سعد في الطبقات:
روية ابن سعد مشابهة تمام الشّبه برواية ابن هشام (ابن إسحاق) مع بعض التعديلات الطفيفة. ولكن هناك إضافة هامّة عند ابن سعد نوردها هنا:
"وأخبرنا هشام بن محمد بن السائب قال: حدّثني محمد بن عبد الرحمن الأنصاري عن جعفر بن عبد الرحمن بن المِسْوَر بن مَخْرَمة الزهريّ عن أبيه عن جدّه قال: كان عبد المطلب إذا وَرَدَ اليمن نزل على عظيم من عظماء حِميَر، فنزل عليه مرّة من المَرّ فوجد عنده رجلا من أهل اليمن قد أُمهِل له في العمر، وقد قرأ الكتب، فقال له: يا عبد المطلب! تأذن لي أن أفتِّش مكانًا منك؟ قال: ليس كلّ مكان منّي آذن لك في تفتيشه، قال: إنّما هما مَنْخَراك، قال: فدونك، قال: فنظر إلى يار، وهو الشعر في منخريْه، فقال: أرى نُبوَّةً وأرى مُلْكًا، وأرى أحدهما في بَني زُهرة، فرجع عبد المطلب فتزوّج هالة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة وزوّج ابنه عبد الله آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة فولدت محمّدا، فجعل الله في بني عبد المطلب النبوّة والخلافة..."

ملاحظات عامّة
هذه العيِّنة من السرديّات الإسلاميّة، التي تُعتَبر جزءا من الأرضيّة الاساسيّة التي بُنِيت فوقها كلّ التّراكمات السرديّة التي جاءت فيما بعد وفيَّة لها بشكل أو بآخر وبالخصوص فيما يتعلّق بالسيرة النبويّة، تنطوي على كلّ مقوّمات القَصص اليهودي-المسيحي الذي كان سائدا لقرون عديدة في مختلف المجتمعات الشرق أوسطيّة. الدّيكور العام هنا: أجواء روحانيّة مهيبة يختلط فيها الواقع العادي المُعاش مع تدخُّل عناية إلهيّة، غير معروفة الهويّة في غالب الأحيان أو ذات هويّة ضبابيّة قابلة لكلّ تأويل واحتمال، تقود أبطال المسرحيّة إلى مصير محتوم في مخطّط ما ورائي يضرب بجذوره في أعماق بزوغ الكائن البشري وكلّ ما حوله من نبات وجماد. البيئة التي تدور فيها الأحداث: مكان مقدّس مشحون بالأحداث "التّاريخيّة" الخارقة والأسطوريّة الضّاربة في القِدم والتي تكوّن مهدا لحدث جَلل: مكّة. بطل القصّة يتمثّل في رجل جُمِّعت فيه كلّ خصال الشخصيّة شبه الخرافيّة؛ فهو ذو أصل عريق، ورِع، صدوق مُجتهِد في دينه، صبور على ظلم ذويه، مُلتَزِم بتنفيذ ما يأتيه به "الغَيْب" (الرّب، الله...؟) من أوامر حتّى ولو كلّفه ذلك حياته وحياة أفراد عائلته الأقربين. الهدف: تحقيق آيات الله العظمى من خلال توالي النّبوءات الصّادقة التي تأتي على أفواه الكهنة والعرّافين الذين كانوا قد قرؤوا "الكُتُب"، وعرفوا الدلائل الماديّة والرّوحية لمجيء "المُخلِّص"، فيبشِّرون بمجيء "النّبيّ القرشيّ". فالحبكة القصصيّة هي ذاتها. أزمة مجتمعيّة عامّة أخلاقيّة دينيّة بشكل خاصّ، تبرز خلالها شخصيّة تختارها العناية الإلهيّة للوقوف ضدّ تدنّي القيم المُثلى، ثمّ انتصار الإرادة الإلهيّة في نهاية المطاف...إلخ.

بعض أوجه المقارنة
1- متى وُلِد محمّد؟
لقد أصبح من المتعارف عليه اليوم، بإجماع كلّ المؤرّخين تقريبا، أنّ النبيّ محمّد وُلِد "عام الفيل" الذي وضعوا له سنة 570 ميلادي كتاريخ رسميّ يزيد أو ينقص قليلا. وقد سأل عثمان بن عفان قَباث بن أشْيم، أخا بني عمرو بن ليْث: أنت أكبر أم رسول الله؟ قال: رسول الله أكبرُ منّي، وأنا أقْدَمُ منه في الميلاد، ورأيتُ خَذْقَ الفيل أخضَرَ محيلا بعْد عام..." (الطبري، تاريخ، ج 2، ص 155). ومثل هذه الرّوايات على كثرتها في المأثور الإسلامي تظلّ محلّ شكّ وريبة لغلبة طابع الوضع والصّناعة فيها؛ إذ كيف يمكن أنّ نصدِّق قباث بن أشيَم، وهو شاهد عيان، حين يؤكِّد أنّه رأى بأمّ عينيه روث الفيل محمود وهو لا يزال أخضر طريّا بعد مرور عام، فذلك يكون من باب المستحيلات وإلاّ يكون معجزة أخرى. ولكن من الواضح أنّ رواية مَعْمر-الزّهري [لأنّ مَعْمر يروي عن ابن شهاب الزهري] تُخالف ذاك تماما. فهذه الرّواية، خلافا لما ذكره ابن إسحاق وابن سعد والطّبري وغيرهم، تُعْلِمنا بأنّ عبد المطّلب، جدّ الرّسول، قام بإعادة حفر بئر زمزم "عام الفيل". فهي تذكر كيف أنّ قريشا "خرجت من الحرم فارَّة من أصحاب الفيل"، ثمّ بعد ذلك "اُتِيَ عبد المطّلب في المنام، فَقِيلَ له: احفر زَمزَم خبيئة الشّيخ الأعظم". كما أنّها تذكر أنّ عبد المطّلب كان في ذلك الوقت "غُلاما شابّا" ولم يكُن عنده إلاّ ابنه "الحارث"، أكبر أبنائه. وبناء على ذلك، إذا سلّمنا بأنّ 570 م [أي عام الفيل] هي سنة ولادة محمّد، فكيف يكون ذلك ممكنا وأبوه عبد الله، أصغر أبناء عبد المطلب، لم يولَد بعد حسب ما نستنتجه من رواية مَعْمر-الزهري؟ أمّا رواية ابن إسحاق-ابن هشام فهي وإن لم تربط الحادثتيْن ببعضيها، هجوم أبرهة على مكّة وحفر زمزم، فإنّها تؤكِّد على أنّ عبد المطلب عندما أراد حفر البئر "غدا بمعوله ومعه ابنه الحارث بن عبد المطلب، ليس له يومئذ ولد غيره". والأغرب أنّ أخبار السّيرة تقول بأنّ العبّاس، عمّ النبيّ، وُلِد قبل عام الفيل بثلاث سنوات أي سنة 56 قبل الهجرة، وأنّ حمزة، عمّه الآخر، كان يكبره بعامين أي وُلِد قبل عام الفيل بسنتيْن. كيف يمكن لذلك أن يكون عندما نعرِف أنّ عبد المطّلب وابنه عبد الله تزوّجا في يوم واحد، الأوّل من هالة بنت وُهَيْب بن عبد مناف، والثّاني من ابنة عمّها آمنة بنت وَهْب بن عبد مناف. وإذا صدّقنا أنّ عبد الله كما تقول السّيرة "دخل عليها [آمنة] حين أملكها مكانه، فوقع عليها فحملت منه برسول الله"، وأنّه سرعان ما فارق الحياة وامرأته حامل بحمّد، هل يمكن أن يكون حمزة، وهو ابن هالة الذي تزوّجها أبوه منذ بضعة أشهر أن يكون قد وُلِد بَعْد وله من العمر عاميْن أو ينقصان قليلا.
ومن هنا يختلط الحابل بالنّابل على رواة السّيرة فنرى عندهم تضاربا عجيبا غريبا في الرّوايات بخصوص عدد مَن وُلد لعبد المطلب. فإذا كانت كلّها تقريبا تُجمِع على عدد الإناث وهنّ ستّ بنات، فإنّها تختلف اختلافا شديدا في عدد الذّكور. فمنها مَن تقول أنّ عددهم كان عشرة، وأخرى تروي أنّهم كانوا أحد عشر طفلا، وثالثة تقول أنّهم كانوا إثنَيْ عشر رجلا ومن بينها رواية ابن سعد(2)، وحتّى هذه الأخيرة فإنّها أخطأت العدّ إذ أنّنا أحصينا ثلاث عشر ذكرا.
كما أنّ الرّوايات بخصوص عمر عبد المطّلب تأتي هي أيضا متضاربة. فمنها من يجعل ميلاده سنة 480 م وموته بشهادة النبيّ نفسه(3) في حدود العام 578 م أي أنّه يكون قد عمّر 98 سنة، ويكون قد تزوّج من هالة بنت وُهيْب وعمره 74 سنة. ولكن لما لا، وقصص الأنبياء حافلة بالأعمار الخياليّة التي تبلغ بخصوص بعضهم ما يُضاهي القرون من الزّمن! (نوح مثلا تقول الأسطورة أنّه عاش 950 سنة).

2- دلائل النبوّة وارهاصاتها في شخصيّة عبد المطلب:
هذه الشخصيّة تبدو محوريّة جدّا في الرّوايات الثلاث. الأولى، معمر-الزّهري، تجعل من كَشْف بئر زمزم لعبد المطلب تتويجا له ومكافأة غيبيّة على ثباته أمام "أصحاب الفيل" وهو "غلام شابّ" ومكوثه أمام "حَرم الله" لا يبتغي "العزّ في غيره". في الوقت الذي هربت قريش من الحرم بمجرّد سماعها بقدوم جيوش أبرهة. ففي هذا الإطار يرى عبد المطلب رؤيته في المنام وهو يُؤْمَر بحفر زمزم. أمّا رواية ابن إسحاق-ابن هشام فهي تدخل في الموضوع مباشرة دون مقدِّمات "ثمّ إنّ عبد المطلب بينما هو نائم في الحجر إذ أُتِي فأُمِر بحفر زمزم". رواية ابن سعد تربط بين وفاة المطّلب وتولّي ابن أخيه عبد المطلب بعده الرّفادة والسّقاية. وكان "يُطعِم الحاجّ ويسقيهم في حياض من أدَم بمكّة، فلمّل سُقي زمزم ترك السقْي في الحياض بمكّة وسقاهم من زمزم حين حفرها...".
وتتّفق كلّ الروايات على طبيعة رؤيا عبد المطلب. وهي قصّة تشبه كثيرا بل تكاد تتطابق كليّة من حيث الأسلوب السّردي مع مشهد نزول الوحي على حفيده محمّد في غار حراء. الإختلاف بين القصّتين يتلخّص فيما يلي: عبد المطّلب يستلم الأمر وهو نائم، في حين ينزل الوحي من خلال جبريل على محمّد وهو في يقظة من أمره قائم يتعبّد. رؤيا عبد المطلب تمتدّ لثلاثة أو أربعة أيّام، أمّا رؤيا محمّد فهي تأتي على ثلاث مرّات متتالية في نفس اللّحظة في أشهر الرّوايات. في رؤيا عبد المطّلب لا نعرف مَن يأمر بالحفر. فكلّ الرّوايات تذكر الآمر مبنيّا للمجهول: "فَقِيلَ لهُ"، "فلمّا كان الغَد أَتَاهُ فقال..."، "فأُتِيَ في المنام..."، "فَأُرِيَ في المنام..." إلخ. هذا في حين أنّ عبد المطلب، حسب رواية معمر-الزهري، يبدو على معرفة بمن يخاطبه، فهو يسأله أن يُوضِّح له أكثر قائلا: "اللَّهم بَيِّنْ لي"، مع أنّنا لا نعرف طبيعة هذا الرّب "اللّهم"، وهو ما تنكره رواية ابن إسحاق-ابن هشام: "إنّي لنائم في الحجر، يقول عبد المطلب، إذ أتاني آتٍ فقال..."، مَن هو هذا الآتي؟ هل هو ملاك مبعوث من السّماء من طرف إله مّا؟ أم هو إله بحدّ ذاته؟ هل هو صنم هُبل؟ أم اللاّت، أم العزّى، أم نائلة، أم إساف...؟ لا نعرف بالتّدقيق، والغموض يظلّ يلفّ ماهية هذا الرّب لأنّ الرّواة يبدو أنّهم لا يريدون الكشف عن هويّته الحقيقيّة. رواية معمر-الزهري تقول لنا أنّ عبد المطّلب "دعا ربَّه" فاستجاب له بطريقة غير مباشرة "فأُرِيَ في المنام"، وتقول رواية ابن إسحاق-ابن هشام أنّ الأمر آتٍ من "الله"؟ هل هو إله محمّد قبل مجيء محمّد إلى الوجود ثمّ تحمّله الرّسالة؟ هل هو إله المؤمنين الموحِّدين في تلك الفترة؟ أم إله وثني؟ هذا الغموض حول تحديد طبيعة هذا الرّب هو غموض مقصود، على ما يظهر، كما سنرى لاحقا، لأنّ المؤرّخين المسلمين سيعطون لشخصيّة عبد المطلب، مثلما فعلوا مع شخصيّة محمّد فيما بعد، سِمات مختلفة تُظهِره تارة في ثياب سيّدِ قريش بامتياز الاحرس لشعائرها والذائد عن معابدها وأصنامها، وتارة أخرى رجل دين مُوحِّد له أخلاق عالية عُرِف عنه "صدقه واجتهاده في دينه" لا يتورّع عن تدنيس المسجد الحرام رغم معارضة قريش معارضة شديدة حين رأوه يحمل مِعْوله ويتأهّب للحفر قائلين له: "والله لا نتركك نحفر بين وثنيْنا هذين اللّذين ننحر عندهما"، واكان جواب عبد المطلب أن طلب من ابنه الحارث: "ندّ عنّي حتى أحفر، فوالله لأَمضِيَنَّ إلى ما أُمِرْت به". وهذا الدّين نراه هنا مرتبط ارتباطا عضويّا بدين إبراهيم. فلا يمكن أن تأمُر أوثان قريش بحفر هذا البئر الذي يبدو أنّ عبد المطلب نفسه لم يكن على علم به، والدّليل على ذلك أنّه يسأل مَن أتاه في منامه يأمره: "احفر زمزم خبيئة الشّيخ الأعظم" [أي إبراهيم]، بقوله: "وما زمزم؟". وهنا نرى أنّ عبد المطّلب يتفاجأ بما رأى وسمِع في المنام، كما تفاجأ حفيده بظهور الملاك جبريل، ونحن نشاهده يعود ثانية للنّوم، سواء من تلقاء نفسه أم بطلب من قريش حين طالبوه بالرّجوع إلى مضجعه للتأكّد من أنّ ما يأتيه هو حقّا من عند الله: "فارجع إلى مضجعك الذي رأيتَ فيه ما رأيْت، فإن يَكُ حقّا من الله يُبَيِّنُ لكَ، وإن يكن من الشّيطان فلن يعود إليك"، كي يطلب المزيد من المعلومات بخصوص البئر، وأين مكانه. والقصّة هنا توازي بين إبراهيم وابنه إسماعيل وهما يحفران بئر زمزم من جهة، وعبد المطلب وابنه الحارث وهما يُحيِيان هذه البئر من جهة أخرى بعدما ظلّت خبيئة لمدّة قرون طويلة.
ما قام به عبد المطلب يمكن أن يذكِّرنا بمشهد آخر قام فيه حفيده محمّد عندما فتح مكّة ودخل المسجد الحرام فدنّسه وحطّم أصنامه؛ وكأنّه يُشكِّل، وهو يقوم بذلك، امتدادا لما فعله جدّه بمعوله بين أقدس أصنام قريش. ثمّ نتفاجأ بعبد المطّلب وقد "كَبَّر"! حين "أنْبط الماء"؛ وقد جاء هذا في كلّ الرّوايات. قد نفهم أنّ عبد المطلب كان قد "كَبّر" لأعظم أصنام قريش وهو هبل، لأنّ بعض الروايات تقول بأنّ العرب كانت قد عرفت "التّكبير" قبل الإسلام وخصّت به هبل. ولكن كيف يمكن أن نفهم كلام ابن سعد حين يروي لنا أنّ عبد المطلب، حين نفد ماؤه وهو وأصحابه في الصّحراء وأبى بنو ثَقيف أن يسقوهم: "ففجّر الله لهم عينا من تحت جِران بعير عبد المطلب"، قام هذا الأخير: "فحمد الله، عزّ وجلّ"(4). وهذه الصيغة الأخيرة هي صيغة إسلاميّة بلا منازع. فلا يمكن أن يكون ابن سعد وهو يصف هذا "الله" بالعزّة والجلال أن يكون قد قصد بذلك إلها آخر غير إله محمّد. وهي أسماء كما نعلم من أسماء الله الحسنى. وقد أكّد لنا ابن العربي أنّ المراد بها " التكبير والتنزيه لخلع الأنداد والأصنام دون الله". ثمّ قال كثير من المفسّرين أنّها أوّل ما نزلت على الرّسول كانت كذلك. وبالفعل نجد هذه الصّيغة في كثير من الآيات القرآنيّة: ""ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ" [الحج: 62]؛ "وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ" [المدثر: 3]؛ "وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلَّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا" [الإسراء: 111]. ولكلّ هذا نعتقد أنّ عبد المطلب لا يمكنه أن يكون في عيون الأخباريّين والمحدِّثين والمفسّرين، خاصّة مَن كان يكتب منهم في ظلّ الخلافة العبّاسيّة، لأهميّة هذه الشخصيّة في نسبهم وهي حلقة وصلهم الأساسيّة بالنبيّ، على "باطل". قد يكون إذن من بين أهداف هذا المأثور هو محاولة رسكلة شخصيّة عبد المطلب وإعادة كتابة التّاريخ الإسلامي "المقدّس" بما يتماشى مع سلطة الخلفاء الجدد من أحفاد العبّاس بن عبد المطلب. وبراعة الرّواة هنا، في تقرّبهم من أصحاب السّلطان، تكمن في أنّهم صبّوا كلّ تركيزهم على شخصيّة عبد المطلب، في الوقت الذي تناولوا فيه شخصيّة ابنه العبّاس من خلال تلميحات طفيفة ولكنّها كلّها جدّ إيجابيّة تمتدحه خَلْقا وخُلُقا.
وجه شبه آخر يفرض نفسه يتمثّل في سيرورة رؤيا عبد المطلب وبدأ نزول الوحي على محمّد. فالمشهد يبدأ في كلتا الحالتين إمّا بالنّوم، أي في حالة شبه لا واعية، فيما يخصّ عبد المطلب، وإمّا بالإعتكاف والتعبّد، وهي أيضا حالة شبه غيبوبة عن العالم الخارجي، عند محمّد في غار حراء [في رواية البخاري عن عائشة]، أو أيضا في فترة النّوم [عند ابن إسحاق رواية عن عبيد بن عمير بن قتادة]. ثمّ يأتي "آتٍ" لعبد المطلب ويظهر فجأة رَجلٌ غير معروف لمحمّد أو في رواية أخرى عند البخاري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن " فَنُودِيتُ". ثمّ يأتي الأمر للأوّل بالحفر وللثّاني بالقراءة. وبقيّة القصّتين تدور بنفس الأسلوب. هناك حالة من الرّعب والاستفهام تحلّ بالجدّ وحفيده، الأوّل يسأل: "وما طيبة؟، "وما برّة؟"، "وما المضنونة؟"، وأخيرا "وما زمزم؟"، والثّاني يستفسِر "ما أنا بقارئ؟" أو "ما أقرأ؟" كرّرها ثلاثا. ويظلاّن هكذا في سؤال وجواب حتّى يفيض عليهما الهَديُ من الله، يأتيهما مسجوعا منغّما: "احْفِر زَمْزمْ، إنّك إن حَفرتَها لَم تَنْدمْ، هي تُراثُ أَبيكَ الأَقْدَمْ [خَبيئَة الشَّيْخ الأعَظَم، في رواية معمر-الزهري]، لاَ تُنْزَفُ الدَّهْرَ ولا تُذَمّ، تسقي الحَجيجَ الأَعْظَم، وهي بين الفَرْث والدم عِنْد نُقْرَة الغُراب الأعْصَم"؛ ثمّ "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَم، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ". وكما قلنا آنفا، مَن كلَّم عبد المطلب ظلّ مجهولا إلى آخر القصّة، أمّا محمّد فأنّه ا يكشف لنا عن هُويَّة مُحدّثه إلاّ بعد ما رآه عدّة مرّات وأخبره بأنّه الملاك جبريل أرسله الله له بالوحي وأنّه، أي محمّد، هو نبيّ حقيقيّ.
ما يجب التّنويه به هنا أنّ النّصيّين يتطابقان تقريبا من حيث الإيقاع والقافيّة. ولكنّ ابن هشام يعتبر نصّ عبد المطلب سَجْعًا [وهو كلام الكهّان من مرتبة دنيا وغير معترف به] أي ليس هو بوحي كالنّص الذي نزل على محمّد ولا يرقى إلى مرتبة الشّعر. ولكنّنا لا نرى في الحقيقة أيّ فرق في الشّكل والأسلوب على الأقل بينهما.
أخيرا، يمكننا ملاحظة أنّ هذه الرواية-الإطار مُستوحاة مباشرة من مقطع من الكتاب المقدّس، فقد جاء في سفر أشعيا (40، 6): "صوت قال: اقرأ، فقلتُ: ماذا أقرأ؟"(5).
ينفرد ابن سعد بذكر حادثة يجب أن نتوقّف عندها قليلا لأنّها تبدو حسب رأينا دليلا لا يرقى إليه الشّك على الصّناعة التّاريخيّة والعمل التحريري الذي قامت به أجيال المؤرّخين والرّواة المسلمين المتتالية عبر قرون من الزّمن في تناولها لهذه الرّوايات بالحذف والإضافة والتّبديل بالتأخير والتّقديم وخلط الأحداث بعضها ببعض.
يروي لنا إذن ابن سعد أنّ عبد المطلب كان كلّما سافر إلى اليمن نزل عند أحد أشرافها. وفي إحدى سفراته وجد عنده شيخا طاعنا في السنّ كان "قد قرأ الكُتب". طلب الشّيخ من عبد المطلب أن يأذَن له بتفتيش مكان مُعيَن من جسده وهما "مَنْخَارَاه"، فسمح له عبد المطلب بذلك: "فنظر إلى يار، وهو الشَّعر في مَنْخريْه، فقال: أرى نُبوَّةً وأرى مُلْكًا، وأرى أحدهما في بَني زُهرة، فرجع عبد المطلب فتزوّج هالة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة وزوّج ابنه عبد الله آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة فولدت محمّدا، فجعل الله في بني عبد المطلب النبوّة والخلافة..."(6).
كما نجد رواية أخرى تضع عبد المطلب يَعْلَم أنّ حفيده محمّد سيبعثه الله نبيّا قريبا جدّا. تدور أحداث هذه الرّواية في اليمن أيضا ولكن بعد أن طَرَد سيف بن ذي يزن الأحباشَ منها واستلامه السّلطة فيها. وكان عبد المطلب من بين الوافدين العرب الذين قدموا إلى سيف يهنّؤونه. يقول أبو الفرج الأصفهاني في أغانيه: "فأرسل إلى عبد المطلب فأدناه وأخلى مجلِسَه، ثمّ قال: يا عبد المطلب إنّي مُفوِّض إليكَ من سرِّ عِلمي أمرا لو يكون غيرُك لم أَبُحْ به إليه، ولكنّي رأيتُك موضعَه فأطلعْتُك طلعه، فليَكُن عندك مطويًّا حتّى يأذَن الله فيه، فإنّ الله بالغ أمره. إنّي أجد في الكتاب المكنون، والعلم المخزون، الذي اخترناه لأنفسنا، واحْتَجَنَّاه دون غيرنا، خبرًا عظيمًا وخَطَرًا جَسيمًا، فيه شَرَفُ الحَياة وفضيلة الوفاء، للنّاس عامّهة ولرهطِك كافّة، ولك خاصّة. فقال عبد المطلب: مِثلك أيّها الملك مَن سَرَّ وبَرَّ، فما هو، فداك أهْلُ الوبَر، زُمَرًا بعد زُمر؟ قال ابن ذي يزن: إذَا وُلِد غلامٌ بتهامة، بين كَتِفيْه شامَة، كانت له الإمامة، ولكم به الزَّعامة، إلى يوم القيامة". ثمّ يسأل عبد المطلب أن يزيده سيف "في البشارة"، فيقول الملك: "هذا حِينُه يُولَدُ فيه، أَوْ قَد وُلِد، اسمُه محمّد (صلعن)، يموتُ أبوه وأمّه، ويكفله جدّه وعمّه، قد ولدناه مِرارًا، والله باعِثُه جهارًا، وجاعل له منّا أنْصارًا (...) ويَدحَر الشيطان، ويكسر الأوثان، ويعبد الرحمن...". ويشتدّ فضول عبد المطلب فيطلب من مخاطِبه أن يُوضِّح أكثر. فيُضيف ابن ذي يزن: "والبيْتِ ذي الحُجْب، والعلاماتِ على النُّصُب، إنَّك يا عبد المطلب، لَجَدُّه غير الكذب". وما إن سمع عبد المطلب ذلك لم يتمالك نفسه فتهاوى "وخَرَّ ساجدا". فلمّا ثاب إلى رشده باح للملك أنّه بالفعل كان له غلام يُدعى عبد الله وكان قد زوّجه آمنة بنت وهب فجاءت بغلام سمّاه محمّد. فمات أبوه وأمّه... إلخ(7). وهكذا تكون علامة النبوّة الجسديّة عند عبد المطلب في "مَنْخاريْه" وعند حفيده محمّد "شامة بين كتفيه". وشتّان بين المَنخَريْن والشّامة.
هذه القصص تتجاوز بطبيعة الحال الإطار العربي-الجاهلي البحت لكي تضع عبد المطلب في منظور ديني جديد موسَّع، ألا وهو عمليّة تأمين سلسلة النبوّة التي لم تنقطع منذ ظهور آدم إلى محمّد خاتم الأنبياء. وهي تتمثّل في مبدأ "الوصاية الكونيّة" وتمرّ عبر "أوصياء" تختارهم العناية الإلهيّة بدقّة فائقة من بين أنقى الأصلاب البشريّة وأشرفها وأعرقها نسبا.

وهذا ما سنتناول بعضا من عناصره في المقال القادم.

_______________
الهوامش:
(1) المبتدأ والمبعث والمغازي، تحقيق وتعليق محمّد حميد الله، معهد الدراسات والأبحاث للتّعريب، المغرب، 1976.
(2) ابن سعد، الطبقات، ج 1، ص 73-74.
(3) "وسئل رسول الله. صلى الله عليه وسلم أتذكر موت عبد المطلب قال: نعم وأنا يومئذ ابن ثمان سنين. قالت أم أيمن: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ يبكي عند قبر عبد المطلب وذكر بعض العلماء أنه كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم موت عبد المطلب ثماني سنين وشهران وعشرة أيام". ابن الجوزي، صفة الصّفوة، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان 2012، ص 41.
(4) نفس المصدر، ص 69.
(5) أنظر ترجمتنا بعنوان "المقاربة التاريخيّة للشّخصيّات الدّينيّة: محمّد"، مقال منشور في الحوار المتمدن، 11/10/2012.
(6) ابن سعد، نفس المصدر، ص 67.
(7) أبو الفرج الأصفهاني، كتاب الأغاني، ج 17، ص 215.



#ناصر_بن_رجب (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (4)
- قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (3)
- قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (2)
- قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (1)
- سورة الفيل والتّفسير المستحيل!
- مَكّابِيُّون وليسَ مكّة: الخلفيّة التوراتيّة لسورة الفيل(2)
- مَكّابِيُّون وليسَ مكّة: الخلفيّة التوراتيّة لسورة الفيل(1)
- سورة الفاتحة: هل هي مدخَل شعائري لصلاة الجَماعة؟ (2)
- سورة الفاتحة: هل هي مدخَل شعائري لصلاة الجَماعة؟ (1)
- لماذا وكيف يصبح النّص مُقدَّسًا؟ (خاتمة)
- لماذا وكيف يصبح النّص مُقدَّسًا؟ (6)
- لماذا وكيف يصبح النّص مُقدَّسًا؟ (5)
- لماذا وكيف يصبح النّص مُقدَّسًا؟ (4)
- لماذا وكيف يصبح النّص مُقدَّسًا؟ (3)
- لماذا وكيف يصبح النّص مُقدَّسًا؟ (2) بعض الأفكار حول تاريخ ا ...
- لماذا وكيف يصبح النَّص مُقدَّسًا؟ (1)
- المُطَّلِب: إِلَهٌ في نَسَب مُحمَّد (3)
- المُطَّلِب: إِلَهٌ في نَسَب مُحمَّد! (2)
- المُطَّلِب: إِلَهٌ في نَسَب مُحمَّد! (1)
- سورة النّجم: قراءة سريانيّة-آراميّة جديدة (4)


المزيد.....




- قوى عسكرية وأمنية واجتماعية بمدينة الزنتان تدعم ترشح سيف الإ ...
- أول رد من سيف الإسلام القذافي على بيان الزنتان حول ترشحه لرئ ...
- قوى عسكرية وأمنية واجتماعية بمدينة الزنتان تدعم ترشح سيف الإ ...
- صالة رياضية -وفق الشريعة- في بريطانيا.. القصة الحقيقية
- تمهيدا لبناء الهيكل المزعوم.. خطة إسرائيلية لتغيير الواقع با ...
- السلطات الفرنسية تتعهد بالتصدي للحروب الدينية في المدارس
- -الإسلام انتشر في روسيا بجهود الصحابة-.. معرض روسي مصري في د ...
- منظمة يهودية تستخدم تصنيف -معاداة السامية- للضغط على الجامعا ...
- بسبب التحيز لإسرائيل.. محرر يهودي يستقيل من عمله في الإذاعة ...
- بسبب التحيز لإسرائيل.. محرر يهودي يستقيل من عمله في الإذاعة ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - ناصر بن رجب - قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (5)