أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صبري يوسف - [10]. مفاجآت مدهشة للغاية، قصَّة قصيرة















المزيد.....

[10]. مفاجآت مدهشة للغاية، قصَّة قصيرة


صبري يوسف

الحوار المتمدن-العدد: 6102 - 2019 / 1 / 2 - 13:34
المحور: الادب والفن
    


10 . مفاجآت مدهشة للغاية

منذُ أن عبرْتُ البحارَ، وقبلَ عبوري لا أشاركُ في حفلةِ رأس السّنة إلّا نادراً، وقد أضربْتُ عن حفلاتِ رأس السّنة منذُ وفاةِ أخي كريم، أي منذ قرابة 35 سنة، لأنِّي أشعرُ أنَّ حفلات رأس السّنة لا معنى لها عندي من ناحيةِ الفرحِ وما شابه ذلك، وليس لها أي مدلول أو انجذاب للاحتفالِ في هذه اللَّيلة، حتّى أنّني أشعرُ بالحزنِ كلّما تقتربُ ليلةُ رأس السَّنة حيثُ كنتُ أنظرُ إلى الأمرِ من منظورٍ آخر، فاعتبرُ نفسي أنَّني أقتربُ أكثرَ نحوَ الموتِ والفناءِ، والعمرُ يمرُّ بنا ويطحنُنا تحتَ سنابكِهِ، فلماذا نفرحُ بهذهِ اللَّيلة وهذا اليوم طالما نكبرُ سنةً أخرى ونقتربُ أكثر نحوَ الرَّحيلِ؟ أفكارٌ متشابكة وغريبة كانتْ تخطرُ على بالي إلى أنْ قادَتْني في ديارِ الغربةٍ إلى اتّخاذِ قرارٍ بديعٍ يتعلَّقُ في ليالي رأس السَّنة، حيثُ بدأتُ أحتفلُ بليلةِ رأس السَّنة مع نفسي بعيداً عن الاحتفالاتِ معَ العوائل سواء كانت عائلتي أو علائلات أخرى إلّا باستثناءاتٍ قليلة جداً إلى درجة أنّ المشاركة ممكن أن تتمَّ لمجرَّدِ حفلة عشاء معَ مجموعة قليلة من الأهلِ وقد خلخلْتُ هذا القرار بقدومِ أخي سليمان وحضرْتُ حفلةً مشتركةً لأنّني ذهبْتُ للقاءِ بهِ بعدَ قدومِهِ إلى السُّويد وبعدَ غربة ربع قرن، فوجدْتُ من غيرِ اللّائقِ أنْ أعتذرَ عن حضورِ حفلة رأس السّنة معهم ومعَ بقيّةِ الأهلِ.
وهكذا وجدْتُ نفسي على مدى سنوات أنفردُ معَ عالمي وأسهرُ لوحدي وأخصِّصُ يوم وليلة رأس السّنة للاستماعِ إلى أغاني فيروز وكتابة نصوص شعرية من وحي عوالم أغاني فيروز البديعة، وفي إحدى ليالي رأس السّنة من عام 2001 أحببْتُ أن أحضرَ ليلةَ رأس السّنة في بار "سارغاسّو" في قلبِ العاصمة ستوكهولم، وأكتبَ هناك نصوصي الشِّعريّة على أنغامِ الموسيقى، لكن عن عوالم فيروز رغم أنّهم يستخدمون موسيقى صاخبة ليس لها أيّة علاقة في عوالم فيروز، لكنّي أحببْتُ أن أكسرَ القاعدة الَّتي كنتُ أسيرُ عليها لأنَّ مزاجي له خصوصيّة غريبة في بعضِ الأحيانِ!
ارتديْتُ أجملَ ملابسي، نظرْتُ إلى نفسي في المرآة وسرّني ما أنا عليهِ، تركْتُ التِّيلفزيون مفتوحاً بصوتٍ مقبول، كما تركتُ مصابيحَ الصّالون والمطبخ مضاءة أيضاً وتركْتُ السَّتائرَ مسدولةً في سائرِ نوافذِ الشّقّةِ، كي يظنَّ من يخامرُهُ اقتحامَ الشّقّة، أنّ أصحابَها في المنزلِ ويحتفلونَ بعيدِ رأس السَّنة والموسيقى الصَّادرة من التّلفاز تصدحُ في أجواءِ المنزلِ، وخرجْتُ مطمئنَّ البالِ على أنّ شقتي ستكونُ على مايرام ولا أحد يراودُهُ اقتحامها في هذه اللَّيلة المعروفة في الاقتحاماتِ للكثيرِ من الشّققِ والفيلّاتِ في ستوكهولم، سرْتُ نحوَ قطارِ الأنفاقِ، لم أنسَ أن أجلبَ معي مجموعة طيّبة من أوراقٍ بيضاء من الحجمِ المتوسطِ ومجموعةَ أقلامٍ وموبايلي، وصلْتُ قبلَ دقائق من وصولِ القطارِ، انطلقْتُ باتجاهِ مركزِ المدينةِ، وإذ بالقطارِ يعجُّ بالمراهقين والمراهقات والشّبّان والشَّابّات من أعمارٍ مختلفة وهم في أوجِ فرحهِم ودردشاتِهِم! سرَّني المشهدُ، وانتابني أنَّ ليلتي ستكونُ لها نكهة خاصّة ومميّزة، أخرجْتُ من جيبي بعضَ الأوراقِ وبدأتُ أكتبُ نصوصي فورَ انطلاقِ القطارِ في أوجِ الزُّحامِ والضَّجيجِ، أندَهِشُ من نفسي على قدرتي العجيبة في إلغاءِ صوتِ الضَّوضاءِ والضَّجيجِ والدَّردشاتِ الَّتي حولي عندما أكتبُ نصوصي في هكذا أمكنة، تدرَّبْتُ منذُ سنوات ونجحْتُ بمهارةٍ عاليةٍ على إلغاءِ الأصواتِ من حولي مهما كانت مزعجة وعالية وكأنّها غير موجودة على الإطلاقِ، ولكن في البدايةِ كنتُ أعاني من هكذا ضجيج لكنّي مع الزَّمنِ وصلتُ إلى مرحلةِ القضاء عليها بشكلٍ نهائي! كان إلى يساري صبيّة جميلة للغاية تتحدّثُ معَ صديقتِها الَّتي جلسَتْ مقابلها تتحدّثان بهمسٍ عنّي، تتساءَلُ الَّتي على يساري كيفَ يستطيعُ هذا الشّاب أنْ يكتبَ بكلِّ هذا التَّركز وسطَ هذا الضّجيج والزّحام، ما هذه الطَّاقة الّتي لديهِ كي يتمكَّن من التَّركيزِ عمّا يريدُ كتابته، وماذا يكتبُ وسط هكذا جو؟ لم أكترثْ لهمساتِهم ولا لضجيجِ الآخرين، تابعْتُ أكتبُ بكلِّ شغفٍ. عندما وصلنا إلى آخر محطّة لمركزِ المدينة، نهضَتِ الصَّبية ومن سرعتِها ولهفتها نسيَتْ حقيبة اليد الصَّغيرة على مقعدِها وإذ بي أجدُها تنطلقُ بسرعةٍ وحقيبتُها على المقعدِ، فناديتها أنتِ أيَّتها الأجمل من الجمال، تفضّلي حقيبتك، وإلّا فإنَّكِ لا تستطيعي حضور حفلة رأس السّنة. نظرتْ نحوي، ناولتُها الحقيبةَ. شكراً، وبكلِّ بشاشتها قالت، هل أنا فعلاً جميلة إلى درجة أن تقولَ لي أنتِ يا أجمل من الجمالِ؟ طبعاً أنتِ جميلة جدّاً، ألّا يوجد عندكِ مرآة؟! فقالت أشكرُك مرَّتين، مرة لأنّكَ وجدْتَ حقيبتي ومرّة لأنّك اعتبرتني أجمل من الجمالِ. طيّب ممكن أسألكَ سؤالاً. تفضّلي خذي راحتكِ. ماذا كنتَ تكتبُ في القطارِ وسط كل هذا الضَّجيج والأصوات والدّردشات، وكنتَ في أوجِ تركيزِكَ؟ هل تريدي أن تعرفي ماذا كنتُ أكتبُ؟ بكلِّ تأكيد، أريدُ أن أعرفَ، حتّى أنّهُ راودني أن أسألكَ في القطارِ هذا السُّؤال، لكنّي ما أحببْتُ أن أقاطعَكَ. أنا في كلِّ يوم وليلة رأس سنة أكتبُ شعراً من وحي عوالم فنَّانة لبنانيّة مبدعة اسمها فيروز، وأجمع ما أكتبُه في ليالي رأس السّنة إلى أن يصبحَ كتاباً، تحت عنوان: "فيروز صديقة براري الرُّوح"! لمعَتْ عيناها فرحاً، وقالتْ سمعْتُ بهذه الفنّانة الرَّائعة واستمعْتُ إلى بعض أغانيها، إنَّ أغانيها رائعة للغاية فعلاً، شكراً لكَ على الإجابة. سرِرْتُ بكِ يا عزيزتي، ولا تنسَي حقيبتَكِ في القطارِ أو في أيِّ مكانٍ آخر. شكراً، سأحافظُ عليها بكلِّ تأكيد. عانقتني على الطَّريقة الأوروبِّيّة عناقاً سريعاً وكأنّها تقولُ، بالتّوفيقِ ليلة سعيدة، شعرْتُ وكأنَّ فراشة معبَّقة بالأزاهيرِ لامستني، ثمَّ عبرَتْ لأغوارِ البساتينِ بحثاً عن أشهى مذاقِ الفرحِ، توجّهْتُ نحوَ بار "سارغاسّو" حيثُ لا يستقبلُ زبائنه إلَّا إذا ارتدى الرِّوادُ لباساً رسميَّاً كالـ"كافاي" مع بنطلون وحذاء وقميص بحيثُ أن يكونَ أنيقاً، وأنا من طبعي عندما أحضرُ احتفالاً ما، أذهبُ في قمّة قيافتي وأناقتي، وقفْتُ على الدَّورِ، رحَّبَ بي ببسمةٍ تفضَّل ليلة ممتعة أتمناها لك. شكراً، دخلْتُ إلى البارِ بفرح، ألقيتُ نظرةً على ساحةِ الرّقصِ وأجواءِ البارِ وأخذْتُ طاولة شاغرة تتّسعُ لستَّةِ أشخاصٍ وجلسْتُ على كرسيٍّ يتوسَّطُ الطَّاولة الَّتي تطلُّ على ساحةِ الرّقصِ، طلبْتُ كأس بيرة مركّزة، وبعض الموالح، وأخرجْتُ أوراقي، وأقلامي، وضعْتُ في الاعتبارِ أن آخذَ المساحةَ المخصَّصة لي من الطَّاولة، وبدأتُ أكتبَ على أنغامِ الموسيقى، وقد سبقَ وحضرْتُ سهرات في هذا البار أكثرَ من مرّة، ولدي اِطِّلاع على برامجِهِ الموسيقيّة، وهو بار حازم في قراراتِهِ حيثُ لا يسمحُ بالدّخول إليه الشّبّان والشَّابات دون الخامسة والعشرين من العمرِ، ويجبُ أن يرتدي الشَّخصُ لباساً يليقُ بالمكانِ، تابعْتُ أكتبُ بكلِّ هدوءٍ وشغفٍ عميق، وكأنَّ الموسيقى الّتي أسمعُها هي موسيقى فيروزيّة، حيثُ كنتُ أكتبُ عن عوالم فيروز كما كان برنامجي، رغم أنَّ الموسيقى كانت خاصّة بموسيقى السَّالسا، موسيقى لاتين أميريكا وموسيقى سويديّة وغربيّة ومنوّعات من الموسيقى العالميّة، إلّا الموسيقى الشَّرقيّة غير متوفرة لديهم نهائيّاً! لكنّها كانت تموجُ في أعماقي وتطغى على موسيقاهم، كنتُ أسمعُها عبر مشاعري الفيّاضة، وكأنَّني في المنزلِ أسمعُ فيروز: "زوروني كل سنة مرة".
كنتُ قد تعشَّيتُ في المنزلِ، ووضعْتُ في الاعتبارِ أنْ أشربَ قليلاً من البيرة وأكتبُ أكبر وقتٍ ممكن، وربّما أرقصُ قليلاً بحسبِ مستجدَّاتِ الوضعِ، بدأتُ أكتبُ حوالي السّاعة التَّاسعة ليلاً، قبلَ منتصفِ اللَّيلِ بثلاثِ ساعاتٍ، كي يكونَ لدي متّسعاً من الوقتِ، وفيما كنتُ أكتبُ وأنا في أوج انغماسي في الكتابةِ جاءتْ عائلة تتألَّفُ من زوج وزوجة وصبيّة وشاب، وجلسوا على نفسِ الطَّاولة، لم أنتبه إطلاقاً متى جلسوا على الطَّاولة، كنتُ غائصاً في عوالمي أكتبُ من تدفُّقات مخيالي، وأحياناً كنتُ أحتسي قليلاً من البيرة، لم أرفعْ رأسي، كنتُ منغمساً في الكتابة، مرَّ الوقتُ سريعاً، وإذ في حدودِ السَّاعة الحادية عشرة، أسمعُ موسيقى بديعة من الإيقاعِ الَّذي يستهويني أنْ أرقصَ على إيقاعها، فهذه الموسيقى قريبة إلى الإيقاع الشّرقي والغربي معاً، رفعْتُ رأسي وإذ بي أجدُ صبيّةً مُدهِشةً في جمالِهَا أمامي، وإلى يساري اِمرأة متوسِّطة العمرِ وعلى يميني شاب وبجانبه رجل في السِّتينيَّاتِ من عمره تقريباً، ابتسمَتِ الصّبية لي حالما التقتْ نظراتنا معاً، وابتسمْتُ لها وشعرْتُ أنّهم ليسوا سويديين، سلّمْتُ عليهم وسألتهم، هل أنتم من السُّويد أم ..؟ فأجابَتِ الصَّبيّة نحنُ من فرنسا وجئنا زيارة سياحيّة إلى السُّويد؟ تحدّثْتُ معهم بالإنكليزيّة، كانَتْ إنكليزيَّتها بديعة، فقلْتُ لها ما رأيكِ بالموسيقى، فقالت رائعة، ابتسمْتُ لها بكلِّ فرحٍ وقلْتُ لها هذه الموسيقى من الموسيقى المفضَّلة لدي، فهل أستطيعُ أن أدعوك للرقصِ على إيقاعٍ شرقيٍّ وغربيٍّ معاً؟ فسألتْني من أينَ أنتَ؟ فقلتُ لها أنا من سورية ومقيم في السُّويد إقامة دائمة. فقالت لي بكلِّ سرور أريدُ أن أرقصَ معكَ، تفضَّلْ. أمسكْتُ يدَها وتوجّهنا إلى ساحةِ الرٌقصِ، وبدأنا نرقصُ، حاولْتُ أنْ أرقصَ على إيقاعِ رقصِها من جهةٍ وأرقصُ على إيقاعِ الرَّقصِ الشَّرقي أيضاً، ودمجْتُ الإيقاعَين في الرّقصِ معاً، كانتْ أسرتُها في غايةِ السُّرورِ، وهي كانَتْ متألِّقة، يا إلهي كم كانَ الرّقصُ بهيجاً، كنتُ في أوجِ حبوري وبهجتي، وشعرْتُ أنّني أطيرُ فرحاً، كما شعرْتُ أنَّ هذهِ اللَّيلة هي أجمل ليلة رأس سنة مرّتْ في حياتي، ليسَ لأنّ هذه الفرنسيّة تراقصُني، بل لأنّني كتبْتُ ساعتين متتاليتين من وحي فضاءات أغاني فيروز وأنا في بارٍ سويدي وموسيقى غربيّة من حولي، فكيفَ تمكّنْتُ أنْ أكتبَ قرابةَ ساعتين وكأنَّني خارجَ الزَّمانِ والمكانِ معاً، ومن الجميلِ أنّني انقطعْتُ عن الكتابةِ حالما سمعْتُ هذه الموسيقى وحظيتُ بهذا البهاء الفرنسيِّ البهيج، رقصنا قرابة 20 دقيقة وانتهَتِ الوصلة الغنائيّة وانتقلَ الإيقاعُ إلى رقصٍ غربي خالص، وشعرْتُ أنّها أكتفَتْ من الرَّقصِ، وأعطتني إيحاءً أنّها ستأخذُ استراحةً، فشكرتُها على تلبيتِها دعوتي للرقصِ وعانقتها بشكلٍ خاطف، كأنّ العناقُ كانَ جزءاً متمِّماً لبهجةِ الرّقصِ، ثمّ توجّهنا نحوَ الطَّاولة، وبدأنا نتعارفُ، قدّمْتُ نفسي إليهم، ثمَّ قدَّمَ الرَّجلُ نفسَهُ وإذْ بهِ والدها، وقدّمَتْ أمَّها نفسها كذلك هي وأخيها، وقالَتِ الأمُّ أنّكَ رقصْتَ بشكلٍ بديع، وكأنّك عملْتَ دورةَ رقصٍ معَ إيلينا. سرَّني إطراء الأم، شكراً لهذا الإطراء الجميل، وقلْتُ لإيلينا، ما رأيكُ بما قالتهُ الوالدة؟ أجابَتْ وبسمة وديعة ارتَسَمَتْ على وجهِها، أوافقُها الرَّأي تماماً، تمتّعْتُ بالرَّقصِ معكَ، ترقصُ بطريقةٍ مفرحة للغاية وكأنّكَ تطيرُ فرحاً. وأنتِ كذلك كنتِ تحلِّقينَ ألقاً في إيقاعِ رقصِكِ، حتّى أنَّ رقصي أصبحَ أجمل لأنّكِ منحتيني تجلِّيات بهيجة في الرّقصِ، فضحكَ والدها وقالَ رائع ما أسمعُهُ منكَ، تبدو شاعراً أليسَ كذلك؟ بالضّبط أنا شاعر. لهذا كنْتَ تكتبُ طوالَ الوقتِ، هل تعلم أنّنا جلسنا على طاولتِكَ بعد أن سألنا الكرسون فيما إذا الطَّاولة شاغرة أم معكَ ضيوف وأصدقاء؟ فقالَ لنا أنّكَ لوحدِكَ! فجلسنا بكلِّ هدوء منذ السَّاعة التَّاسعة والنّصف حتّى الحادية عشرة عندما رفعْتَ رأسَكَ وبعد دقائق دعيْتَ إيلينا للرقصِ. أنا سعيد لأنّكم تشاركوني الطّاولة وأشاركُكم الطّاولة، ونحنُ أيضاً سعداء بكَ. هل أستطيعُ أن أسألكَ سؤالاً؟ تفضَّل، ماذا كنتَ تكتبُ في هذا الجوّ والموسيقى والضَّجيج، وكيفَ استطعْتَ أن تركّزَ طوالَ الوقتِ دونَ أن ترفعَ رأسَكَ، هلْ تكتبُ مذكَّراتكَ؟ أنا لم أنتبه متى جلستم بجانبي، كنتُ غائصاً في الكتابة، لا، ما كنْتُ أكتبُ مذكَّراتي. ماذا كنتَ تكتبُ؟ كنتُ أكتبُ شعراً من وحي أغاني فنَّانة لبنانيّة مبدعة اسمها فيروز، ولكنّكَ كنتَ تسمع موسيقى البار؟ لا ما كنتُ أسمعُ موسيقى البار، فلقد ألغيتُها، كنتُ أستحضرُ موسيقى أغاني فيروز وطوال الوقتِ كنتُ معَ عوالمِ أغاني فيروز، وأستوحي من فضاءات أغانيها ما كتبتُه، لأنّني دائماً أحتفلُ بيوم وليلة رأس السّنة وأتفرّغ للاستماع إلى أغانيها وأستوحي منها ما يجودُ به مخيالي. ولكنّكَ حالما سمعْتَ كما قلْتَ الموسيقى الّتي قطعتكَ عن الكتابة ورقصْتَ على إيقاعاتها الجميلة مع إيلينا، أجل لأنَّ هذه الموسيقى قريبة إلى حدٍّ ما من الإيقاع الشَّرقي لهذا جذبتني لأن أسمعَها وأرقصَ على إيقاعِها، ولحسنِ حظّي كنتم تشاركوني الطّاولة وإيلينا حقّقَتْ رغبتي العميقة في الرّقصِ، وإلّا كنتُ سأرقصُ مع أيّةِ صبيّة أصادفُها، أو أرقصُ منفرداً وكأنَّ عشرات الصَّبايا يرقصْنَ معي. هل ترقصُ لوحدِكَ؟ طبعاً لو اعتذرَتْ إيلينا عن الرَّقص كنتُ سأرقصُ لوحدي، لأنَّ هذا النَّوع من الرَّقص ممكن أن يرقصَهُ الرّاقصُ لوحدِهِ، ولكنّي كنتُ سأتخيَّل إيلينا معي ونظرْتُ إلى إيلينا فأحمّرَّ وجهها خجلاً وحياءً. سألتني الأمُّ منذُ متى أنتَ في السُّويد؟ منذ قرابة 12 سنة، ثمَّ تساءلَ الأب قائلاً، أنتَ قلتَ أنّك معتاد أنْ تسمعَ لأغاني فيروز في يومِ وليلةِ رأس السّنة، فلماذا لم تسمعْ أغانيها في مكانٍ آخر يتوفَّر فيه أغاني فيروز كي تكتبَ من وحي أغانيها بشكلٍ مباشر؟ نظرْتُ إلى إيلينا ثم غمزتُ أمّها وقلتُ، وكيفَ سألتقي بكم وأرقصُ معَ إيلينا أجملَ رقص لو لم آتِ إلى "السَّارغاسّو"؟! فضحكوا جميعاً وفتحَتِ الأمُّ كفّها كي أضربَ كفِّي بكفيها عربون فرحٍ وجواب رهيف، ثمَّ وشوشَ الشَّاب أخته بالفرنسيّة وبدا أنّهُ قال لها الشّاعر غاطس بكِ حتّى النّخاع. فضحكَتْ وغطّتْ وجههَا بيديها، ثمَّ قلْتُ للوالدِ، يبدو لي وكأنَّ هناك قوّة ما أو طاقة ما قادتني إلى "السَّارغاسّو" كي ألتقي بكم، لأنّهُ ليس من تقليدي أنْ أحضرَ هكذا حفلة في ليلةِ رأس السَّنة، إضافةً إلى أنَّ الجوَّ لا يلائمُ نهائيَّاً للكتابة وسط هذا الضّجيج، لهذا يراودني أنَّ هناكَ قوّةً ما خفيّة ألهمتني كي آتي إلى هذا المكان ونلتقي، نظرَتِ الأمُّ إليّ وكذلك إيلينا والشَّاب باندهاش، حتّى أنّه راودَهم أن يكونَ تحليلي صائباً، ثمَّ سألتُ الوالدَ، طيّب لماذا من بين كلِّ الطّاولات اخترتم هذه الطّاولة؟ لأنّها كانت شاغرة وشعرْنا بنفس الوقت كأنّك غير موجود لأنَّكَ كنتَ غائصاً كما تقولُ في عوالمِكَ تكتبُ، لهذا لم نشعرْ بالإحراجِ من مجالستِكَ، وقد جذبنا وضعكَ وأنتَ تكتبُ، وقد لاحظنا فعلاً أنكَ لم تنتبهْ إلى وجودِنا إلَّا بعدَ أن رفعْتَ رأسَكَ، وقد كنتَ تكتبُ وبينَ الحينِ والآخر تشربُ قليلاً من البيرة، لهذا عندما أوشكَ كأسكَ على الانتهاءِ طلبَتْ إيلينا كأساً جديداً لكَ، ووضعَتِ الكأس مكان كأسكَ وتابعْتَ تشربُ البيرة دونَ أنْ تلاحطَ نهائيَّاً أنّ هناكَ كأساً آخرَ غير كأسِكَ. رائع، شكراً إيلينا، ولماذا إيلينا تحديداً طلبَتْ لي كأساً آخر من البيرة؟! ربّما لأنَّها شعرَتْ بحدسِها أنّكَ ستدعوها إلى رقصٍ جميل فأرادتْ أن تعبِّرَ عن شكرِها واِمتنانها مقدِّماً؟ رائع جدّاً وفتحتُ كفِّي للوالد فضربَ كفَّهُ بكفِّي، وضحَكْنا جميعاً، ثمَّ نظرْتُ إلى إيلينا، ما رأيكِ بتحليل ورد بابا؟ انحرجت قليلاً ثمَّ هزّتْ كتفها وأخفضَتْ رأسها بحياءٍ جميل؟! ثمَّ تدخَّلتُ قائلاً، هناك أحياناً مصادفات جميلة تحصلُ في الحياةِ، تغيِّرُ مجرى البشرِ، إنّها مجرّد مصادفات، وربّما هي نوع من القدرِ ونوع من التَّواصل الرُّوحي بين البشر، لا يستطيعُ المرءُ معرفة أسباب اللِّقاء ولا يعرفُ كيفَ يفسِّرُ هكذا لقاءات، لهذا ننسبُها إلى المصادفة، وربَّما تكون مصادفات وربَّما تكونُ أقدار مقدَّرة على البشر ولا ندري! أجابَ الشَّاب، ربّما، وكلّ المقترحات ممكنة، نحنُ سعداء باللِّقاء معكَ في هذه السّهرة الجميلة، بعد قليل ستدقُّ السَّاعة الثَّانية عشرة كي ندخلَ عاماً جديداً، بعد لحظات دقّتِ السَّاعة 24 بتوقيت ستوكهولم على بدءِ السّنة الجديدة، وهنَّأنا بعضنا بعضاً، كانَ العناقُ رهيفاً وشعرْتُ حقيقةً كأنّني معَ أسرتي أو معَ أسرةٍ قريبةٍ جدّاً منِّي، معَ أنّه ليسَ بسهولة أن تنسجمَ الأسرة الفرنسيّة أو الغربيّة بهذهِ السُّرعة، لكنّ لكلِّ قاعدة استثناء وممكن أيّة أسرة على وجهِ الدُّنيا تكونُ سلسة مع كائنٍ مَنْ كانَ شريطة ظروف وقائع اللِّقاء يكونُ سلساً وفيه قفشات جميلة ودردشات راقية، كما حصلَ في سهرتِنا وليلتنا الرَّائعة، الَّتي دفعتْني لأن أستلهمَ هذه القصّة من تلكَ اللَّيلة الّتي وقعَتْ في آخر ليلة من عام 2001، وقد مضى عليها قرابة 17 عاماً وماتزال تتراقصُ أمامي وقائع تلك اللَّيلة البديعة!
ودّعتهم قرابة السّاعة الواحدة واحداً واحداً، ثمَّ وجّهتُ أنظاري نحوَ قطارِ الأنفاقِ، وحالما اِنطلقَ القطار بدأتُ أقرأ ما كتبتُهُ في البارِ، اِندهشْتُ لهذهِ الغزارة المتدفِّقة، واندهشْتُ لكلِّ ما حصل، كم كانت السّهرة ممتعة وكم جاءتِ الكتاباتُ منسابة رغم الضَّجيج السَّائد في أجواءِ المكانِ، وصلْتُ إلى المنزلِ وأنا في أوجِ الفرحِ، فتحْتُ حاسوبي، وبدأتُ أسمعُ إلى أغاني فيروز وأقرأ ما كتبتُهُ من جديد، شعرْتُ وكأنَّ الكتابات جاءَتْ من وحي استماعي للأغاني وما كنْتُ نهائيَّاً في الأجواءِ الصَّاخبة، وشعرْتُ أنَّ ليلتي كانت مبهجة وحافلة بالتَّجلِّياتِ الإبداعيّة والفرحيّة، وشعرْتُ أيضاً أنَّهُ من الخطأ جدّاً أنْ أحكمَ على نفسي بعدمِ الاِحتفالِ بليلةِ رأسِ السَّنة، فهذهِ اللَّيلة كانَت من أجملِ اللَّيالي، لهذا اعتباراً من الأعوامِ القادمة سأتركُ هذه اللَّيالي تسيرُ على مزاجي، بحيثُ أنْ أكتبَ شعري من وحي عوالم فيروز إلى أنْ يكتملَ ديوان: "فيروز صديقةُ براري الرُّوح"!

ستوكهولم: 11. 10 . 2018



#صبري_يوسف (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- [9]. استنفار لإنقاذ قطّة، قصّة قصيرة
- [8]. سلطنةُ الفيس بوك على عرشِ العوائل، قصّة قصيرة
- [7]. احتيال مروّج المخدّرات على البوليس، قصّة قصيرة
- [6]. سطو مريح على صائغ، قصّة قصيرة
- [5]. حرامي يقاضي المسروق، قصّة قصيرة
- [4]. اِندهاش شاعرة سويديّة في حانوتي، قصّة قصيرة
- [3]. عبور في عوالم واهِم، قصّة قصيرة
- [2]. النَّمل، قصَّة قصيرة
- [1]. حفلة موسيقيّة في الهواء الطَّلق، قصّة قصيرة
- [10]. العلّوكة والطَّبّكات، قصّة قصيرة
- [9]. رحيل امرأة من فصيلةِ البحر، قصّة قصيرة
- [8]. يذكِّرني يوسف، ابن كابي القسّ بالخبز المقمّر، قصّة قصير ...
- [7] . الشّروال، قصّة قصيرة
- [6]. خوصة وخلّوصة، قصَّة قصيرة
- [5]. إيقاعاتُ الشَّخير، قصّة قصيرة
- [4]. الطُّفل والأفعى، قصّة قصيرة
- [3]. نوال ودلال وعيدانيّة بالدَّين، قصّة قصيرة
- [2]. تسطعُ ديريك فوقَ خميلةِ الرُّوح، قصّة قصيرة
- [1]. حيصة وسلال العنب، قصّة قصيرة
- [10]. ترتيلة الرّحيل، قصَّة قصيرة


المزيد.....




- أزمة الفن والثقافة على الشاشة وتأثيرها على الوعي المواطني ال ...
- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- مصر.. الفنان بيومي فؤاد يدخل في نوبة بكاء ويوجه رسالة للفنان ...
- الذكاء الاصطناعي يعيد إحياء صورة فنان راحل شهير في أحد الأفل ...
- فعالية بمشاركة أوباما وكلينتون تجمع 25 مليون دولار لصالح حمل ...
- -سينما من أجل غزة- تنظم مزادا لجمع المساعدات الطبية للشعب ال ...
- مشهور سعودي يوضح سبب رفضه التصوير مع الفنانة ياسمين صبري.. م ...
- NOW.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 154 مترجمة عبر فيديو لاروزا
- لماذا تجعلنا بعض أنواع الموسيقى نرغب في الرقص؟
- فنان سعودي شهير يعلق على مشهد قديم له في مسلسل باللهجة المصر ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صبري يوسف - [10]. مفاجآت مدهشة للغاية، قصَّة قصيرة