أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - ياسين الحاج صالح - الآبق والرابق















المزيد.....

الآبق والرابق


ياسين الحاج صالح

الحوار المتمدن-العدد: 6088 - 2018 / 12 / 19 - 21:48
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
    


كتبتُ مسودة هذا المقال قبل أن أعلم بحذف "مركز الشرق العربي" التابع للإخوان المسلمين السوريين لمقالة الدكتور أحمد محمد كنعان عن الراحل صادق جلال العظم. لا أريد أن أخمن إن كانت أسباب حذف المادة سياسية أم مبدئية، تفادياً لغضب محق أم رفضاً لمضمونها. مقالة الدكتور نفسها هي مناسبة لها التعليق وليست موضوعاً له، وهذا جزئياً على الأقل لأنه ليس للمادة مضمون يناقش، إنها تعبير عدائي حيال مفكر راحل واستئناف لمعركة قديمة، لا يضيف "الصائل" الجديد شيئاً لم يسبق أن قاله قبل نصف قرن إسلاميون آخرين. الرجل الذي لا يبدو أنه يعرف من عمل صادق غير "نقد الفكر الديني"، وربما اطلع على مضمونه مُحرَّفاَ عبر مرآة غيره، يمنح لنفسه باسم معتقده الديني موقع الحكم بين الأقوال والأفكار، دون أن يتبين المرء سنداً وجيهاً، شخصياً أو عاماً، لمحاباة الذات على هذا النحو.
من حق الدكتور كنعان أن ينتقد صادق جلال العظم وغيره مثلما انتقد صادق وغيره غيرهم. لكن هذا الحق مشروط بتصور للنقد كحق مشاع بين الناس كلهم، لا يعُفُّ عن شيء من معتقداتهم كلها. يكون النقد حقاً إن كان الكل ناقداً والكل منقوداً، ويخسر شرعيته حين يجعل أمثال الدكتور كنعان من أنفسهم مالكين لحقيقة مكتملة سابقة لكل نقاش، هي "الإسلام"، تُحكِّم نفسها من طرف واحد في كل ما يقال ويعتقد. في هذا التحكيم الذاتي ما يقوض أي أرضية مشتركة لنقاش مثمر بين مختلفين. هذا الأخير يجري بين أفكار وآراء وأشخاص، على أرضية من حسن النية وحسن الاختلاف، ودون إكراه. المتناقشون أفراد، قد يمثلون تيارات وعقائد، وليس بحال عقائد مطلقة متنافية. هذه تتناحر ولا تتناقش. ليس ما قاله الدكتور كنعان عن العظم قول الإسلام في الماركسية أو الشيوعية، وليس ما قاله صادق في نقد الفكر الديني هو قول الماركسية أو الشيوعية في الإسلام. إنها أقوال محتملة الصدق، وجيهة قليلاً أو كثيراً، ينتظر من النقاش الحر المتكافئ أن يساعدنا في الاقتناع بها أو التشكك بها أو شق مسالك تفكير غيرها.
بيد أن غرضي هنا ليس الدفاع عن تفكير صادق جلال العظم، بل بالأحرى التساؤل عما يجعل هذه ممارسة كنعان الكتابية ممكنة. ما الذي يجعل طبيباً وروائيا إسلامياً يقول كلاماً عدائياً، يخلو كلياً من الطرافة والفائدة، بقدر خلوه من السماحة وكرم النفس وحسن النية، بحق مفكر راحل كانت له آراء عبر عنها علانية، ونالته منه عداوة أناس متناقضين مثل الإسلامي كنعان ومثل الموالين للأسدية؟
أعتقد أن من أسس ذلك شيئاً أخذت أتبينه بالتدريج في السنوات المنقضية، وهو اعتبار الإسلام طبيعة المسلمين، وليس المعتقد الديني للمؤمنين منهم، ومورداً اعتقادياً ورمزياً وخيالياً وتاريخياً مهماً في مجتمعاتنا الحديثة. وعلى هذا الاعتبار الطبيعي تقوم التشكيلات التي تسمى الإسلاميون، وهم طوائف متنوعة، تشهد ببعضها شهادات سيئة تقارب شهادة الدكتور كنعان بالراحل العظم. يبدو الإسلام هنا طبيعة المسلمين الثابتة التي لا تتغير، عنصرهم الذي يولدون عليه ويموتون عليه، مثله مثل كون المرء أسود أو أبيض، فلا هو يتغير، ولا هم يتغيرون. ومن يفعل منهم "آبق" على ما استطاع الدكتور الأديب أن يقول. لكن الإسلام ليس بحال طبيعة المسلمين بقدر ما إن المسيحية ليست طبيعة المسيحين ولا اليهودية طبيعة اليهود ولا البوذية طبيعة البوذيين، ولا الشيوعية طبيعة الشيوعيين ولا الليبرالية طبيعة الليبراليين. الواقع أن من معتقدي هذه العقائد الدينية وغير الدينية من هم أقرب إلى اعتبار عقيدتهم "طبيعية" (أو "فطرية" أو "أبدية" أو "علمية")، وأن "الطبيعي" هو اعتناقها، لكن هؤلاء بالضبط هم الأكثر محافظة وعنصرية بين المعتنقين. وهم من يفكرون بمن "تنكروا" لهذه الطبائع بأنهم "آبقون" حسب تعبيرات الدكتور كنعان الممتلئة باستحسان النفس (أو هم منحرفون أو مارقون أو خونة... في معجم إشباهٍ أعداء للدكتور).
وظاهر أن هذا العتاقد بطبيعية أي معتقد ديني أو غير ديني باطل، فأنت تجد في مجتمعاتنا الحديثة كلها أناساً مختلفين جداً، بمن فيهم غير مؤمنين، وتجد أن الإسلام دين لبعضنا، يدينون به وراثة أو اختياراً، ويختار بعضهم لأسباب متنوعة أن لا يدينون به. وليس في هذا ما ينقص مروءة ولا ينال من إنسانية أو يشكل شذوذاً من الطبيعة، ما دام المرء يجد أخياراً بين غير المؤمنين، وما دام يجد أشراراً متعطشين للدماء ونهب الأموال من بين المؤمنين. وفي بلدنا، وهو بلد الدكتور كنعان وبلد الراحل صادق، من الأمثلة الإسلامية المشينة ما يفيض على حاجة "العدو الصائل"، وما عاد على الدولة الأسدية ببعض شرعية استعصت عليها من كل اعتبار آخر.
الدين، إن تكلمنا بلغة علماء الأناسة، ينتمي إلى مجال الثقافة وليس الطبيعة. ما هو طبيعي في الواحد منا هو التكوين الجسماني، وهو طرق توالدنا وما يحتاجه الوليد البشري من رعاية لسنوات طويلة، وهو مجال اختلافنا عن الطيور والأسماك وحيوانات البر، وعن النباتات، مع وجود مستويات في تكويننا نباتية وحيوانية، و"ترابية". كل شيء آخر، ومنه الأديان كلها، هو اكتساب بشري، نتاج وجودنا في مجتمع وتفاعلنا مع مجتمعات أخرى، وكر الأزمان علينا وتغير بيئات عيشنا. ليس هناك أديان طبيعية أكثر من غيرها، وليس هناك أديان هي طبيعة معتنقيها الثابتة. طبيعية الدين هي نتاج تطبيع، فعل يمتزج في الاقتناع بالإكراه، أي فعل ثقافي بالمعنى الواسع المشار إليه للتو. فإن جرى تطبيع الدين، ألغى ذلك التاريخ والحرية، وحكم على آنات الزمان بأن تكون تكراراً لا نهائياً للشيء نفسه، أبداً متجانساً لا ينقضي. ومن خبرتنا السورية خلال أزيد من نصف قرن نعلم أن الأبد لا يوجد إلا في شكل حالة استثناء تبيح حياة الناس لحاكميهم، وتتعامل مع المعترضين منهم كـ..."آبقين"، حياتهم تقبل الحذف.
ويبدو "الإِباق" في كلام الدكتور كنعان بمثابة انسلاخ عن الطبيعة البشرية السوية، موجب للإعادة إلى الربق بالغصب. لكن هذا باطل، فصادق جلال العظم كان بشراً سوياً ورجلاً يوثَق به، مهما أمكن أن يُختلَف معه. فوق أن في مثل كلام الدكتور كنعان ما يلغي الحرية كلياً. لا حرية في عالم الطبائع. ومثل الدين، الحرية تنتمي إلى مجال الثقافة، إنها بالضبط فعل إباق، انفلات من الربق، وتمرد على السيد أو هروب منه. الثورة السورية هي ثورة آبقين على السيد الأسدي، وليس هناك ما هو تحرري في الخروج من ربق للدخول في ربق آخر، يعتبره حراسه وحده الطبيعي. ليس هناك ربق طبيعي. العبودية هي الأخرى نتاج ثقافي، نتاج الاجتماع البشري والتاريخ وليست شيئاً نولد به ونموت به. وهذا النتاج يتوجب التحرر منه في كل أشكاله، السياسية والدينية والاقتصادية، بما في ذلك عبودية النساء للعمل المنزلي، وليس تغيير لون الربق أو مادة الأصفاد.
ليس الإسلام طبيعة المسلمين، بل هو عقيدة المؤمنين منهم. ومنذ أن نتكلم على عقيدة واعتقاد، نتكلم أيضا على عدم اعتقاد وتغيير للاعتقاد ولا مبالاة بالمعتقدات، ثم إننا نقترب من مجال التعاقد، العلاقات التي يؤمل أن تنتظم اجتماعنا السياسي. على تصور الدين كطبيعة، ما يقوم هو "حكم الطبيعة"، أي الشوكة والغلبة، مما سجلت باسم إسلاميين في زمننا صيغه الأشد توحشاً. وعلى تصور الدين كاعتقاد طوعي، مبرأ من الإكراه، نكون في وضع أنسب لتصور تعاقدي للدولة، بما يحول دون توريثها وامتلاكها الفردي والعائلي كحال دولتنا السورية اليوم.
فبل ختام هذا التعليق الوجيز يستغرب المرء من خوض الدكتو ركنعان حرباً ضد الشيوعية كان يظنها انقضت. الواقع أن شيوعية القرن العشرين عرضت سمات استبدادية أودت بها بحق واستحقاق، وذلك في ارتباط وثيق مع نزعتها إلى أن تكون طبيعة الناس في المجتمعات التي انحكمت بها. لكن كيف لا يرى الدكتور أن إسلام العقود الأربعة السابقة عرض سمات توحشية مماثلة؟ فإذا كان التاريخ هو الحكم، فإنه أحرى بالدكتور أن يغض الطرف ويتحفظ في أحكامه. ولو كان الدكتور كنعان مناقشاً حسن النية لكان ممكناً أن يقترح عليه النظر في ترابط تاريخي بين صعود الطغيان الدولتي في مجتمعاتنا وصعود الصيغ المتوحشة من التدين. لكن الرجل لا يناقش. فهو تسليمي كلياً حيال معتقده، بقدر ما هو إنكاري جداً حيال كل انشقاق عنه، لا يأخد مسافة مها تكن صغيرة مما يعتقد، ولا يقترب خطوة مهما تكن صغيرة مما يعتقد به غيره. وبأثر ذلك هناك عجز متمكن من النظر إلى الذات بعين الغير عند الإسلاميين، ومن الإحساس بالغير. ومحصلة ذلك اليوم نفور واسع من الإسلاميين، يبلغ درجة العداء، عند قطاعات واسعة من الجمهور السوري، بما في ذلك البيئات المسلمة السنية. حري بالدكتور كنعان أن يعلم أن الحال لم يكن كذلك قبل الثورة، ولبعض الوقت بعدها.
صادق جلال العظم رحل سلفاً، وإِباقه عند كنعان هو نفسه كفره عند غيره، إباحة للدم. نموذج الإنسان المباح ("الحياة العارية" في قول آخر) هو ما يستخلص من فكر تصنيفي كهذا، ينفتح على المستوى الجمعي على الإبادة، وهو ما وفر الأساس الأخلاقي لجرائم شنيعة ارتكبها إسلاميون، ولم يستنكرها بكلام واضح أي إسلاميين، دع عنك أن يجري الاعتذار عنها أو تقصي جذورها المحتملة في تكوينهم وتفكيرهم أي إسلاميين غيرهم.
خطاب الكراهية الفقير الذي سطره الدكتور كنعان، والانحدار الأسلوبي والقيمي لنصه، يدرجه ضمن ظاهرة الإسفاف التطوعي، أو التطوع للأسفاف الذي يتبينه المرء اليوم منتشراً بين إسلاميين من صنف الدكتور وبين أسديين يكرههم ويكرهونه، لكنهم أبديون مثله، "طبيعيون" مثله، يعرفون كل شيء سلفاً ودوماً مثله. تطوع الدكتور في خدمة السيء في نصوص ركيكة ضمن "سلسلة الأبقين"، أدرج فيها طه حسين (الحرب السابقة... مستمرة!) ويوسف زيدان وحسن حنفي إلى اليوم، يجعلان الإباق فعل احتجاج وكرامة، فعل ثقافة أيضاً، فضلاً عن كونه فعل تضامن مع راحل كريم.
كاتب هذه السطور آبق مثل صادق.



#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العنف والذاتية والذاكرة: عرض لكتاب سلوى اسماعيل عن سورية
- رسائل إلى سميرة (11)
- رسائل إلى سميرة (10)
- عالم سورية بعد قرن من الحرب العالمية الأولى
- عن القدرية والإرادوية... رد على حسام الدين درويش
- إشكالية الاستيعاب وما بعدها
- حق الخسارة: رد على أيمن ابو هاشم
- نهاية نموذج الوطنية الديمقراطية؟
- الباراديغم الإسرائيلي / سورية وفلسطين ونظام الإبادة السياسية
- خلاصة عن سميرة ورزان ووائل وناظم بعد انهيار سلطة -جيش الإسلا ...
- ملاحظات بخصوص الكتابي والشفاهي في سورية
- سورية والعالمية الحربية الأولى
- العالم في -اللحظة الفاشية-
- سورية والتحول الأجنبي
- مقالات إلى سميرة (8) في المسألة الإسلامية
- مقالات إلى سميرة (7) الكلوم والكلمات: في تمثيل الأزمات وأزمة ...
- مقالات إلى سميرة (6): في نقد التضامن
- ثلاث مشكلات في مفهوم الدولة
- دولة إبادة في سورية، وليس نظام دكتاتوري
- مقالات إلى سميرة (5) الحبُّ والتعذيب والاغتصاب، والإبادة


المزيد.....




- روسيا توقع مع نيكاراغوا على إعلان حول التصدي للعقوبات غير ال ...
- وزير الزراعة اللبناني: أضرار الزراعة في الجنوب كبيرة ولكن أض ...
- الفيضانات تتسبب بدمار كبير في منطقة كورغان الروسية
- -ذعر- أممي بعد تقارير عن مقابر جماعية في مستشفيين بغزة
- -عندما تخسر كرامتك كيف يمكنك العيش؟-... سوريون في لبنان تضيق ...
- قمة الهلال-العين.. هل ينجح النادي السعودي في تعويض هزيمة الذ ...
- تحركات في مصر بعد زيادة السكان بشكل غير مسبوق خلال 70 يوما
- أردوغان: نتنياهو -هتلر العصر- وشركاؤه في الجريمة وحلفاء إسرا ...
- شويغو: قواتنا تمسك زمام المبادرة على كل المحاور وخسائر العدو ...
- وزير الخارجية الأوكراني يؤكد توقف الخدمات القنصلية بالخارج ل ...


المزيد.....

- اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية / ياسين الحاج صالح
- جدل ألوطنية والشيوعية في العراق / لبيب سلطان
- حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة / لبيب سلطان
- موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي / لبيب سلطان
- الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق ... / علي أسعد وطفة
- في نقد العقلية العربية / علي أسعد وطفة
- نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار / ياسين الحاج صالح
- في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد / ياسين الحاج صالح
- حزب العمل الشيوعي في سوريا: تاريخ سياسي حافل (1 من 2) / جوزيف ضاهر
- بوصلة الصراع في سورية السلطة- الشارع- المعارضة القسم الأول / محمد شيخ أحمد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - ياسين الحاج صالح - الآبق والرابق