أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - ميثم الجنابي - محمد رسول الإرادة















المزيد.....



محمد رسول الإرادة


ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)


الحوار المتمدن-العدد: 6088 - 2018 / 12 / 19 - 15:04
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


صدر هذا الكتاب عن (دار العارف) 2018. وعدد صفحاته 238 . ويستكمل سلسلة من كتبي التي صدرت عن الدار مؤخرا مثل كتاب (الزمن والتاريخ- نقد الراديكالية والأوهام "المقدسة")، وكتاب (تأملات فكرية حول الحضارة الإسلامية).
وينقسم هذا الكتاب الى قسمين، الأول وتحت عنوان (إرادة الروح)، والثاني (روح الإرادة).
ويتضمن القسم الأول ستة محاور وهي على التوالي:
• الصيرورة الروحية للإسلام،
• الإسلام - مجاز الحكمة الخالدة،
• الصيرورة الروحية للنبي محمد،
• النبوة- إرادة الحق،
• الجهاد والاجتهاد النبوي،
• القرآن- قراءة الأبعاد المتجددة للوجود الإنساني
اما القسم الثاني فيحتوي على أربعة محاور وهي على التوالي:
• الإسلام وفكرة التحدي التاريخي،
• إرادة البديل الشامل،
• النفي والبدائل،
• العقل الإسلامي الجديد).



من المقدمة
إن الفكرة الجوهرية لهذا الكتاب تقوم في تبيان أثر الشخصية المحمدية في وضع أسس اللحظة التأسيسية للمرجعيات الثقافية المتسامية التي أدت إلى نقل العرب من المرحلة الثقافية الدينية إلى المرحلة الدينية السياسية، وما استتبعها من تأسيس لاحق للثقافة الإسلامية وحضارتها. وبالتالي الكشف عن انه كلما جرى الغوص في حقيقتها التاريخية كلما تعمّق البحث في حقيقتها الما فوق التاريخية. ومن ثم البرهنة على أثرها الجوهري في تحدي الوجود التاريخي بإرادة البدائل الكبرى. من هنا بقاءها الحي وقدرتها على الإلهام العقلي والروحي بوصفها شخصية تاريخية وما فوق تاريخية، أي كل ما جرى وضعه في مفهوم النبي محمد والنبوة المحمدية، والرسول والرسالة الإسلامية.
ذلك يعني إن الكتاب، يختلف اختلافا جوهريا عما هو سائد من أصناف الكتابة المتنوعة عن "السيرة النبوية". اذ ليس للكتاب علاقة بهذا الصنف من التأليف، بمعنى انه ليس كتابا عن "السيرة النبوية" و"حياة النبي محمد" بالمعنى المنتشر والسائد من الكتب التأريخية والعقائدية والوظيفية (التعليمية والتربوية والادبية والسياسية وما شابه ذلك).
انه كتاب فلسفي صرف يستند من حيث الأسس النظرية لفهم حقيقة الشخصية النبوية والرسالية لمحمد ودورها وأثرها التاريخي العربي والإسلامي والعالمي إلى فلسفتي التاريخية والثقافية. وبالتالي، فهو كتاب تفتقده المكتبة العربية والإسلامية، إذ لم يتمرس كلاهما بعد في فهم حقيقة الشخصية المحمدية بمعايير الفكرة النظرية بشكل عام والفلسفية بشكل خاص. لاسيما وانه الأسلوب الأدق من أجل ارساء أسس النظرة المجردة والمتسامية والواقعية في الوقت نفسه عن الشخصية المحمدية والنبي محمد نفسه. ومن ثم إزالة الصيغ المبتذلة والظاهرية عن "توظيف" المعلومات عنها وعنه، او "توظيفهما" من اجل "البرهنة" على رؤيتها العقائدية والعملية.
ان حقيقة الشخصية المحمدية بالنسبة لي تتطابق مع المعنى القائم في عبارة "عين الحقيقة". وهذه بدورها لا تحتاج الى توظيف جزئي او مجتزأ، لأن الحقيقة لا تقبل التوظيف. انها كافية بذاتها من اجل تنوير العقل والضمير الفردي والاجتماعي والإنساني.
اما في الثقافة الاوربية التي تميزت لحد الآن أكثر من غيرها في ميادين وعلوم دراسة الدين والأديان وفلسفة الدين واللاهوت، فإنها لم تنتج من وجهة نظري سوى ثلاثة كتب هي تعبير عن ثلاثة نماذج نظرية فكرية كبيرة في دراسة (حياة يسوع)، وضعها كل من هيغل ودافيد شتراوس وارنست رينان. فقد وضع هيغل الصيغة الأولية والصورة الاولى للنظرة الفلسفية ضمن سياق فلسفته عن التاريخ والفكر، كان الهدف منه "عقلنة" يسوع وتقديمه على انه تجل اسمى لتطور الروح. اما كتاب دافيد شتراوس فهو الصيغة النظرية الكبرى الاولية للرؤية النقدية التاريخية الدقيقة واظهار تناقض وخرافات التصورات السائدة، واللاهوتية منها بالأخص، عن شخصية وحقيقة يسوع المسيح. اما كتاب ارنست رينان فيسير ضمن سياق الأسلوب النقدي والمتفحص والعام لدافيد شتراوس، ولكن من اجل بناء الصيغة والصورة الأخلاقية المتسامية لشخصية يسوع المسيح.

الرمز والمثال والأنموذج
ليس هناك من شخصية في تاريخ الإسلام جرى تصوير ورسم وتتبع كل دقائق حياتها وأفعالها وأقوالها، بل وحتى خلجات نفسها إضافة إلى أصلها ونسبها وحيثيات وجودها من المهد إلى اللحد أكثر من محمد. ومع ذلك بقي لغزا بمعايير الفكرة اللاهوتية والعقلية أيضا، وذلك لأنهما كلاهما لم يكن بمقدورهما التعامل معه بمعايير الفكرة التاريخية الواقعية والعقلانية الفلسفية. بحيث جرى تغليف شخصيته بغشاء اللاهوت بدأ من الاسم وانتهاء بمعجزاته، التي لم يكن يقر بها، وذلك لأنه تعامل مع نفسه بوصفه إنسانا طبيعيا وبشرا بين البشر. فقد ابتدعت الروايات اللاهوتية الحوار الذي دار بين أبوه وبين بعض من قريش، حالما أطلق على وليده اسم محمد. فعندما سألوه ما هذا الاسم؟ ما هذا من أسماء آباءك! أجابهم: أردت أن يُحمَدَ في السموات والأرض! وهي محاورة ملفقة، لأنها تحتوي على "علم" مسبق بما سيكون عليه محمد. بينما كانت صيرورته الشخصية نتاج عملية معقدة، شأنها شأن حالات العظام في التاريخ الإنساني. إضافة لذلك أن اسم محمد متأتي من كثرة الخصال المحمودة في الرجل. وبالتالي، فإن لاسمه اشتقاقه الخاص من تقاليد العرب في اشتقاق الأسماء. فللعرب مذاهب عديدة بهذا الصدد كما تكلم عنها ابن دريد (223-321 للهجرة) في الرد على الشعوبية بصدد اشتقاق الأسماء العربية. حيث كشف وبرهن على البعد الواقعي والطبيعي في اختيار الأسماء عند العرب قبل الإسلام. فالأسماء العربية دوما ذات معنى، وليس اعتباطا أن تتبلور عبارة "اسم على مسمى". فقد اختاروا الأسماء بما يستجيب لظواهر الحياة ومتطلباتها. واسم محمد يدخل ضمن فكرة التفاؤل. فهناك تفاؤل على الأعداء يبرز في أسماء غالب ومقاتل، وهناك التفاؤل للأبناء كما في الأسماء مدرك وسالم وعامر، وهناك أسماء للترهيب مثل أسد وليث، وهناك أسماء للغلظ والخشونة مثل اسم حجر وصخر وهراوة. واسم محمد يدخل ضمن التفاؤل. فقد عرفت العرب اسم محمد. لكن الإسلام اللاهوتي حاول أن يعطي لاسم محمد معنى لاهوتيا صرف. بينما نرى قريش في مرحلة صراعها ضده تذم اسمه، بحيث تستعيض عن اسم محمد باسم مذمّم، كما في شعر أم جميل "حمالة الحطب":
مذمما عصينا
وأمره أبينا
ودينه قلينا!

شخصية النبي محمد في الكتب الإسلامية
بلورت الثقافة الإسلامية مختلف الصيغ النموذجية عن النبي محمد. بحيث ارتقى فيها إلى مصاف النبوة المتسامية، أو نبوة التشريع وخاتمة الشرائع والأديان. الأمر الذي جعل من التعامل معه بمعايير النبوة، كما بلورتها الثقافة الإسلامية في مجرى تطورها، ميدانا للاختلاف والاجتهاد، لكن المشترك فيها وبينها هو جعله نموذجا، ومثالا، ومرجعية مطلقة، وميزانا توزن به الأقوال والأعمال. بحيث لم تتورع الثقافة هذه نفسها، على الأقل في بعض تياراتها، من أن تبتدع أحاديث مزورة من حيث الصياغة لكنها معقولة من حيث المعنى كما نراه، على سبيل المثال، فيما ينسب إليه من قول: "إذا أنا مت كانت وفاتي خيرا لكم، تُعرَض عليّ أعمالكم"، و"إني أوشك أن ادعى فأجيب، وإني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وأهل بيتي".
ففيهما نعثر على تضاد ولكنه معقول. فالصيغة الأولى تبرز شخصيته في أقواله وأفعاله التي تحولت لاحقا إلى "سنّة" متبعة، كما أنها تحتوي على أثره بوصفه فيصلا ومرجعا للأمة في كل ما تفعله وتنوي فعله. بينما الثانية تضع آل البيت والقرآن في مصاف واحد، وهو أمر يتعارض مع الفكرة الجوهرية لمحمد ألا وهي خلاصة التوحيد المجسّدة في القرآن. وقد كانت اجابة سفيان الثوري على سؤال متعلق بمقصود "آل بيتي" بعبارة: "أمة محمد" أو "أمة الاسلام"، يستجيب لحقيقة الفكرة المحمدية. مع ان الادق هو الرجوع الى آيات القرآن وخطبة الوداع. وينطبق هذا على ما يسمى بالسنّة النبوية. ففي حياته كان الصراع والخلاف ومختلف المواقف تقف وراء "نزول" الآيات. ذلك يعني، إن الجماعة والأمة لم تفكر بالسنّة. إنها كانت تنتظر على الدوام "نزول" الآيات القرآنية.
لكن مفارقة هذه الظاهرة تقوم في أن كتب "السيرة النبوية" بدأ من عروة بن الزبير (ت-93 للهجرة) مرورا بإبان بن عثمان (ت- 101 للهجرة)، وشرحبيل بن سعد (ت-121 للهجرة)، وابن شهاب الزهري (ت-124 للهجرة)، وانتهاءً بمحمد بن إسحاق (ت-151 للهجرة)، وبعدها أخذ منه وعنه ابن هشام (ت-213 للهجرة) في كتابه المشهور (السيرة النبوية) ولاحقا يضيف لها أو يتوسع في بعض جوانبها محمد بن سعد (ت-230 للهجرة) في (كتاب الطبقات)، هي تجميع كمي للمعلومات فقط.
إذ تحتوي هذه الكتب جميعا على خلط الواقع بالخيال. كما يجري رسم صورة واقعية وخشنة لحد ما عنه، على الأقل فيما يتعلق بالأحداث التي واجهها وتحداها وعمل من أجل تغييرها. وهي أعمال تخلو من اللاهوت والأسطورة، ومن ثم أقرب إلى الواقع، باستثناء بعض الحالات الملازمة والمترتبة على وعي المرحلة ونمط تفكيرها. ولا تشذ الكتب اللاحقة واختلاف مراحلها الزمنية والتاريخية عن الخروج على هذا النط السائد. وقد تكون الاضافة الوحيدة هنا هي بروز صنف الوظيفة العقائدية والعملية في بعض منها. ومن بين اكثرها سمعة وتوسعا بهذا المجال و"نموذجية"، هي كتاب "الشفا بتعريف حقوق المصطفى"، للقاضي عياض(ت- 544 للهجرة)، وكتاب "الروض الأنف في شرح سيرة ابن هشام، لأبي القاسم السهلي(ت- 581 لهجرة)، وكتاب "زاد المعاد في هدي خير العباد" لابن قيم الجوزية (ت-751 للهجرة)، وكتاب "الفصول في اختصار سيرة الرسول"، لابن كثير (ت- 774 للهجرة)، وكتاب "عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير" لأبن سيد الناس (ت-734 للهجرة)، وكتاب "سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد" لمحمح بن يوسف الدمشقي الشامي (ت-942 للهجرة)، ومن بين اواخرها بهذا النوع من التصنيف تجدر الاشارة الى كتاب "إنسان العيون في سيرة النبي الأمين المأمون" أو ما يسمى بالسيرة الحلبية، لمؤلفها علي بن إبراهيم بن احمد الحلبي (ت1044 للهجرة، الذي اعتمد بدوره على مؤلفات سقته بهذا الصدد مثل كتاب "الشفا بتعريف حقوق المصطفى" للقاضي عياض المشار اليه اعلا وغيره. اما الكتابات الحديثة العربية والاسلامية فهي الاخرى تصب في هذا المسلك العام. بمعنى انه لا جديد فيها،، وجميعا ينتمي من حيث الاسلوب والغاية والمنهج الى النماذج التقليدية المشار اليها اعلاه.


تقييم شخصية محمد عند الأغراب (الغربيين)
اما بالنسبة لدراسات والأبحاث التي كتبت عنه في الثقافات غير الإسلامية، وبالأخص عند الأوربيين فقد اختلفت فيه الآراء والمواقف والأحكام. وفي اختلافاتها وتنوعها تعكس اولا وقبل كل شيء اختلاف مراحل الأحكام، ومستوى تطور المعرفة وتدقيق العلوم، ونوعية المناهج، إضافة إلى مختلف الصيغ الظاهرية والمستترة لانتماء الباحثين الديني والقومي والثقافي. وسوف اكتفي بالإشارة الى بعض الكتب "النموذجية" بهذا الصدد.
فقد اعتقد الفرنسي هنري ماسه(1886-1969) بأن انتصار الإسلام وظهور العرب على المسرح التاريخي كان بفضل محمد. وذلك لأنه اخرج بالإسلام العرب من حالة الجهل والتشتت إلى العلم والوحدة. وبالتالي، فإن محمد هو عبقرية دينية سياسية. بينما اعتقد المستشرق الروسي فاسيلي فلاديميروفتش بارتولد(1869-1930)، أن محمدا عبقري ليس لأفكاره الدينية، بل لوجدانه الديني. وذلك لأن أفكاره هي خليط من اليهودية والنصرانية، لكنه اقرب للأولى فيما يتعلق بالموقف من المسيح وفكرة الثالوث. بينما مثال المسلم الحق هو مثال المسيحي الحق. وهي أحكام مبنية على الفكرة المنتشرة آنذاك من أن الإسلام هو نسخة غير مباشرة لليهودية. ومن ثم تحتوي على مغالطات جوهرية. فالبديل الاسلامي الشامل والهائل الذي غيّر مجرى المسار التاريخي العالمي آنذاك كان نتاج منظومة نوعية جديدة. انه نفي لليهودية العنصرية وتاريخها اللاهوتي والأسطوري بوصفه زمن الغرائب. أما الفيلسوف الروسي الكبير فلاديمير سيرغييفتش سولافيوف فقد وجد في محمد عبقرية دينية. بينما اعتقد الهولندي رينهارت دوزي (1820-1883)، بأن محمد إنسان عملي وحالم، بوصفها حالة نادرة عند العرب. وهو حكم يحتوي على ما كان منتشرا بين المستشرقين والمستعربين الأوربيين عن وجود شخصيتين في محمد احدهما روحية والأخرى سياسية، ولاحقا مكية ومدنية. وهي فكرة مسطحة وتصنيفية بمعايير العلم التاريخي السائدة آنذاك.
في حين اعتبر برنارد لويس محمدا شخصية استجابت للحاجات الاجتماعية والسياسية لعصره. بينما اعتبره البعض شخصية مظلمة لا يختلف عن مسيلمة الكذاب. أما الهنغاري اغناطيوس جولدتسيهر(1850-1921) فاعتبره أول مصلح في الجزيرة. في حين قال ارثور جون آربري(1905-1969)، بان الإسلام هو محمد. واعتقد بأن من الضروري دراسة الحالة الاجتماعية والثقافية والنفسية والأيديولوجية للعرب آنذاك، وكذلك دراسة القرآن والشعر الجاهلي لكي يمكن على أساسه تقييم شخصية محمد. وعموما، إن الإسلام قطع مسار التطور الطبيعي للعرب وقدّم نموذج جدي، وبالتالي، فإن الإسلام هو مرحلة ضرورية في تطور الوعي الديني في الجزيرة.
وقد شكلت تراجم القرآن احد المصادر المهمة لدراسة شخصية النبي محمد. وقد بدأت هذه الدراسات منذ وقت مبكر نسبيا في أوربا. فقط ظهرت أولى الطبعات إلى اللاتينية في سويسرا عام1543، ثم تلتها إلى الايطالية عام1547 (اندريه ارفابينه)، ثم للفرنسية عام 1633 (اندريه دي رير) وكذلك ترجمة اندريه دو بيه. ثم أخرى للاتينية عام 1649 وأخرى 1698 والتي قام بترجمته مراجي. وتعبر من الترجمات الجيدة نسبيا، وعنها قام بترجمته للألمانية نيريتيرا عام 1703. ثم ترجم للإنجليزية مرتان متتاليان الأولى ظهرت عام 1649 والثانية عام 1688. وللهولندية عام 1658 . وترجم للروسية مرات عديدة. ومن بين أوائل التراجم ما قام به بوستينكوف عن الفرنسية عام 1716 ثم فيريوفكن 1791 وبعده نيكولايف 1842 ثم كاظم بيك 1859 (عن العربية) وتبعها ترجمات عديدة حتى يومنا هذا.
وعلى اساس هذه التراجم وغيرها ظهر الاهتمام بما يسمى بالدراسات القرآنية، التي سلطت الأضواء على مختلف الجوانب المتعلق بالقرآن، من دراسة الكلمات وأصولها والعبارة وتركيبها، والصيغة المأثورة للغة العرب ما قبل الاسلام، وأثر البيئة والشعر والعرافة والكهانة وغيرها في بلورة الصيغة المعروفة عن لغة القرآن. ثم دراسة القرآن من الناحية التاريخية، بما في ذلك ترتيب سور وآيات القرآن بما يتناسب مع "نزولها" الزمني. وتباينت هذه الدراسات من حيث قيمتها بالنسبة لدراسة شخصية محمد، إلا ان هناك من بينها من اتسم بقدر كبير من المنهجية العلمية والبحث الأكاديمي الرصين، كما هو الحال بالنسبة لكتاب المستشرق والمستعرب الالماني الكبير تيودور نولدكه(1836-1930)(تاريخ القرآن) بستة أجزاء (1909-1938، بالألمانية)، وكتاب المؤرخ واللغوي الانجليزي كلير تيسدال (1859-1928) (المصادر الأصلية للقرآن) (1911، بالإنجليزية)، وكتاب ادوارد سيل (التطور التاريخي للقرآن) (1909، بالإنجليزية)، وكتاب ستانتون (تعاليم القرآن او بيان القرآن) (1919، بالإنجليزية)، وكتاب اغناطيوس جولدتسيهر (صحيح الدراسات الإسلامية القرآنية) (1920 بالألمانية)، وكتاب ريتشارد بيل (مقدمة لدراسة القرآن) (1952 بالإنجليزية).
أما الدراسات التي تناولت شخصية محمد بصورة محترفة، فإنها كثيرة ومتنوعة الأحجام والمستويات، لكنها لعبت دورا كبيرا في إرساء الأنماط الشكلية السيئة عن شخصية النبي محمد. غير أنه جرى تهذيبها مع مرور الزمن في مجرى دراسة حياة محمد وأفكاره. واكتفي هنا بالإشارة إلى المهم من بينها والتي ترتقي إلى مصاف "النخبة المكتبية".
فمن الناحية التاريخية يمكن الإشارة إلى احد المؤلفات القديمة التي كتبها بيوتر الموّقر (ولد عام 1594)، الذي ألف كتابان، الأول تحت عنوان (سيرة النبي وحياته) والثاني (جدل بين مسلم ونصراني). وكلاهما مليئان بالتشويه والكذب. وقد كتب لهما مقدمة في وقت لاحق مارتن لوثر! وقد تأثر فولتير بهذا النمط من الكتابات الضعيفة بحيث نعثر على صداها في فكرته عن مطابقة الاسلام مع النزعة الجبرية والتعصب إضافة إلى كمية كبيرة من الاتهام الجاهل بحقه. لكنه غيّر رأيه بصورة معاكسة تماما وأصبح من المدافعين عن محمد تحت تأثير كتاب غافييه (الفرنسي البروتستانتي الطريد) الذي وضعه عن حياة محمد استنادا إلى ترجمته الخاصة لتاريخ أبو الفدا (التاريخ) عام 1732. وضمن هذا السياق سار المستشرق الالماني يوهان ياكوب رايسكه (1716-1774) بعد ترجمته لكتاب أبي الفدا المشار إليه أعلاه. واستمر بهذا التقاليد شبه العلمية المستشرق الفرنسي الشهير انطوان ايزاك سلفستر دي ساسي(1758-1838).
أما في العصر الحديث فتجدر الإشارة إلى عدد من الكتب التي لعبت دورا كبيرا، ضمن سياق الدراسات الاستشراقية، عن رسم ملامح الشخصية المحمدية. فقد ظهر كتاب كوسين دي بيرسيفال(1795-1817) عام 1846-1848 عن (تاريخ الاسلام وحياة محمد) بثلاثة أجزاء. وتبعه أو تزامن معه كتاب ميولر عام 1858 بأربعة مجلدات ضخمة عن حياة محمد هي من بين أفضل الأعمال المكتوبة آنذاك بالإنجليزية وصدرت تحت عنوان (حياة محمد وتاريخ الاسلام منذ الهجرة، مع مقدمة خاصة بالمصادر الأصلية المتعلقة بسيرة محمد). وقد أعار ميولر اهتماما خاصا في كتبه للأبعاد السياسية في حياة محمد. ولحقه كتاب كويل س. (محمد والمحمدية) (بالألمانية 1889)، ثم كتاب مرجيليوث د.س. (محمد وظهور الاسلام) (بالإنجليزية) عام 1905.
كما تجدر الإشارة إلى كتابات ارنست رينان(1823-1892) وتحليله النقدي والتاريخي تجاه الاسلام ومحمد والتي سيقوم لاحقا بتحليلها والبرهنة على ما فيه من جانب عدد كبير من المستشرقين والمستعربين مثل النمساوي ألويس شبرنجر والالماني ثيودور نولدكه.
فقد اظهر ألويس شبرنجر (1813-1893) فيما وضعه بهذا الصدد عن احترام كبير للإسلام، لكنه يلتقي مع ميولر بنظرته إلى النبي محمد، باعتباره شخصية ليست مثالية. إضافة إلى البحث عن الجوانب "المظلمة" في حياة وشخصية محمد. ولم ير شبرنجر في محمد شخصية موهوبة، وبالتالي فإن انتصاره كان بفعل مصادفات وظروف حالفه الحظ فيها. بينما نراه يجد في عمر بن الخطاب الشخصية الفعلية والمؤسسة للإسلام. وعلى العكس من هذه المفاهيم تناول المؤرخ الاسكتلندي توماس كارليل(1795-1881) شخصية النبي محمد في كتابه الشهير عن العظماء والأبطال في التاريخ. وضمن سياق الدراسات النقدية التاريخية الدقيقة التي تناول في الكثير منها شخصية النبي محمد تجدر الإشارة إلى المؤرخ الالماني الكبير يوليوس فلهوزن (1844-1918)، الذي حاول تنقية التاريخ الاسلامي مما لصق فيه من انطباعات وأحكام ليست دقيقة. كما كتب كل من المستشرقين الألمان غوستاف فييل ((1808-1889) ونولدكه عن محمد بصورة عرضية ضمن سياق دراساتهم عن القرآن. واتسمت أبحاثهما بالتدقيق التاريخي الرصين والموثق، وبالأخص عند تيودور نولدكه الذي جرب هذا المنهج للمرة الأولى في أطروحته عن تركيب الآيات القرآنية، والتي طورها وعمقها وتوسع فيها لاحقا في احد اكبر وأعظم المؤلفات الأوربية عن تاريخ القرآن في كتاب الموسوعي الذي صدر تحت عنوان (تاريخ القرآن).
كما تجدر الإشارة إلى كتاب تور أندريه (محمد الإنسان في ورسالته وعقيدته) الذي ظهر للمرة الأولى عام 1918 بالألمانية ثم بالطبعة الإنجليزية عام 1936، وكذلك كتاب بيل، ر. (أصل الإسلام في بيئته النصرانية) عام 1928 بالإنجليزية، وكتاب سويتمان ج. (الاسلام واللاهوت النصراني) بثلاثة أجزاء (1945-1955) بالإنجليزية، وكتاب المؤلفان فيول ف.، وشنايدر (حياة محمد) بالألمانية 1955، وأخيرا كتابات واط مونتغومري واط (محمد في مكة) (1953) و(محمد في المدينة) (1956) وكلاهما بالإنجليزية. والأخير من بين أكثر الكتب موضوعية ودقة وتتبعا لحياة محمد العملية.


حقيقة النبوة المحمدية
النبوة ليست تكهنا بالمستقبل، بل استدراكا له بمعايير المطلق. كما أنها ليست نبوءة بالمستقبل، بل إدراكا له بمعايير الماضي. وهي ليست فعلا عابرا ولا كيانا طارئا، بل إرادة متحررة من رق الماضي والمستقبل، لأن أولها حق وآخرها حق. الأمر الذي يميزها عن النبوة الكاذبة والأنبياء الكذبة. تماما كما نقول فيلسوف حقيقي وآخر مزيف، ومفكر حقيقي وآخر مقلد ومبتذل، وشاعر فحل وشويعر وشعرور وما إلى ذلك.
وفي هذا تكمن حقيقة النبوة باعتبارها إرادة متسامية. لأن النبوة هي معاناة الحق. وليس مصادفة أن تظهر على خلفية الانحطاط المادي والمعنوي للشعوب والأمم، باعتبارها تحد ملهم للحياة. من هنا وحدة الحياة والموت في بدايتها، والانبعاث والقيامة في نهايتها كما لو أنها تستعيد في مظهرها معنى الحركة المطلقة للحياة، باعتباره صيرورة حرة تحددها جبرية الالتزام الفردي والجماعي تجاه النفس والآخرين.
الأمر الذي يجعل من النبوة معاناة الحق. مما يفترض رؤية المجاز فقط في أحكامها. بمعنى رؤية المعاني الروحية الخالدة لا العقائد الثابتة. إذ لا أمر جازم في النبوة غير دعوتها لتمثل الحق. وهو كيان متغير في الصور ثابت بالمعنى. الأمر الذي يستلزم النظر إلى القرآن، باعتباره كتاب الوحي النبوي، على انه نموذج وتجسيد وتحقيق لمعنى النبوة بوصفها معاناة من اجل الحق، والرسالة بوصفها تحقيقا لها في المواقف والقيم والأحكام. وبالتالي ليس القرآن بهذا المعنى سوى قراءة الأبعاد المتجددة للوجود الإنساني، والتي شكّل التوحيد نموذجها الأرقى.
فحقيقة التوحيد تقوم في كونه نظام الوجود الحق، أي نظام النسب المثلى، الذي يفترض بدوره إبداع التجانس التاريخي الدائم بين عوالم الملك والملكوت في جبروت الإرادة الإنسانية الفاعلة باسم الحق. وهي ذات النسب التي تكشف عن تجليها الفعلي في شخصية النبي محمد وجهاده التاريخي باعتباره اجتهادا وتحقيقا مرنا لنسب الملك (الإنساني - الطبيعي) والملكوت (الإلهي - المطلق) في الفعل الإنساني بوصفة إرادة دائمة للخير. الأمر الذي جعل من النبي محمد احد النماذج المثلى التي جسدت وحققت في ذاتها وأفعالها وإرادتها وغاياتها النسبة الحية لما ادعوه بالطبيعي والماوراطبيعي في الموقف من إشكاليات الوجود الكبرى.
ومع ذلك لا تخلو الأنبياء من أساطير في معتقداتها، لكنها أساطير رمزية، وذلك لأن جوهرها معاناة فردية، وغاياتها قيمة معنوية. لكن الامر يختلف حالما تنتقل إلى ميدان العوام. حينذاك تصبح شعوذة تقليدية، بحيث تتوحد في جوهرها وغايتها على تخدير العقل واستباحة الضمير. وقد كانت تلك على الدوام النتيجة الحتمية الملازمة لبلوغ المرحلة الدينية السياسية في الوجود والوعي حدودها القصوى، أي حالة الانحطاط المغلقة. ولكل حالة تاريخية ثقافية نموذجها الخاص في تجسيد وبلوغ المبادئ والغايات، كما أن لكل منها نهايته الحتمية ونموذج الخروج منها عليها ببدائل مستقبلية. وفي الحالة المعنية يفترض ذلك تحرير الأنبياء من النبوة اللاهوتية عير إرجاعهما إلى ميدان التاريخ الفعلي، بوصفهما محاولة من محاولات الإصغاء لصوت الحقيقة والاستماع إليها عبر معاناة الباطن الفردية.
وضمن هذا السياق أيضا يمكن فهم المعنى الحقيقي الكامن فيما أسميته بمحمد رسول الإرادة، أي حياة وفناء الشخصية المحمدية في الصيرورة التاريخية والكينونة الثقافية للعرب (والمسلمين)، التي لا تشكل النبوة فيها سوى أسلوبها العملي ونموذجها التاريخي. وقد كان الجاحظ على حق عندما قال بأن حقيقة الإنسان إرادة. والنبي محمد هو أولا وقبل كل شيء إنسان، وبالتالي فإن حقيقته إرادة، لكنها إرادة البدائل الكبرى. ومن ثم ينبغي قراءة وفهم ما في الكتاب ضمن هذه الرؤية المنهجية وهذا السياق التاريخي والثقافي لصيرورته وكينونته وديمومته أيضا.
ومن ثم يمكن التوصل إلى استنتاج مفاده، إن الكينونة التاريخية للأمة هي كينونة إرادتها. والإرادة هي ليست فقط ما تريده، بل وما تعيه بمقاييس الواجب التاريخي للوجود والمثال. فاقتران كينونتها التاريخية بصيرورة إرادتها المثلى يكشف عن ضرورة جهادها واجتهادها بمعايير وعيها الذاتي، أي بمعايير الكلّ الثقافي المتراكم في مجرى تجاربه المتنوعة من أجل تذليل الحدود الذاتية في تجاربها التاريخية. وفي الحالة المعنية تذليل الكينونة العربية لصيرورتها التاريخية الثقافية في المرحلة الدينية السياسية عبر نقلها إلى المرحلة السياسية الاقتصادية من خلال تذليل فكرة وحالة الهيمنة الظاهرية والباطنية لفكرة الأصول الدينية (اللاهوتية) في كافة مجالات الحياة ومستوياتها النظرية والعملية.

شخصية محمد ودورها التاريخي
لكل مرحلة تاريخية تصوراتها وأحكامها عن الماضي. وللماضي هنا وقعه الخاص. فهو زمن عند الأغيار، وتاريخ عند النفس. والفرق بينهما كالفرق بين المسلم وغير المسلم حالما يقولان أن محمدا عبقري. ففي الحالة الأولى هو تمثل لحقائق الروح وتاريخ المعاناة الذاتية، بينما في الثانية هو حكم وتقييم مجرد. وينطبق هذا على كل مقولات ومفاهيم الوجود التاريخي للأمم. وذلك لأنها تبقى في نهاية المطاف مقولات ومفاهيم ثقافية صرف. واستخلاص الصرف منها يمكنه الاندماج في الفكرة المجردة للرؤية الإنسانية العامة وتجاربها حالما يرتقي الجميع إلى مصاف الفكرة الميتافيزيقية أو فكرة ما وراء الوجود الطبيعي المباشر.

شخصية محمد الفعلية
إن الشخصية الواقعية هي شخصية تاريخية. ومحمد واقعي فهو تاريخي. والصورة الأكثر صدقا هي القادرة على رؤية الصيرورة التاريخية والواقعية للشخصية، ومن ثم رؤية أفكارها ومواقفها وعقيدتها ضمن هذا السياق. فهو الأساس الضروري لبناء الصرح الفعلي لعالمها الذاتي. حينذاك فقط يمكن الكشف عما فيه من دهاليز وطرق قادرة على إيصال البحث فيها عما كان محمد نفسه يدعو إليه: الخروج من الظلمات إلى النور! بمعنى كيفية تراكم وتحديد مهمات وغاية التحدي للواقع التاريخي وشحذ الإرادة وعقلها الذاتي من اجل رسم ملامح وحدود البديل التاريخي.
لم يفكر النبي محمد ولم يضع أمام ناظريه ما ندعوه الآن بمهمات الحاضر والمستقبل، وذلك لأن المرجعيات الممكنة والمحتملة بالنسبة لنقل الأقوام والأمم إلى المرحلة الدينية السياسية تظل دوما محكومة بفكرة الواحد المتسامي والوحدة الخالصة لروح الجماعة النقية والتقية. وهي مرجعية قادرة على إبداع مختلف النماذج العملية الضرورية لحل المشاكل والقضايا التي تواجه الأمة والدولة. بمعنى أنها تمتلك الصيغة النظرية المجردة للاجتهاد النظري والعملي. الأمر الذي يجعل من تحرير الرؤية العلمية من غشاء العقائد الدينية واللاهوتية أسلوبا لإرجاع محمد الحقيقي وحقيقة محمد إلى أصل وجذر واحد، ألا وهو كفاحه الذاتي وبناء شخصيته في مجراه. وضمن هذا السياق يمكن القول، بأن المصدر الأكثر دقة لإدراك شخصية محمد وحقيقتها هو القرآن. وبالتالي، فإن إعادة ترتيب آياته بما يتوافق مع زمن "نزولها"، أي بما يتوافق مع ما أطلقت عليه الثقافة الإسلامية عبارة "أسباب النزول" سوف يساهم في رؤية شخصيته التاريخية والواقعية كما هي، ومن خلالها تتبين ملامحها ومعالمها الفعلية. وذلك لأن الرؤية الواقعية والعلمية الدقيقة هي أكثر "قدسية" من تقديس اللاهوت الأجوف.
فالقرآن واحد من حيث آياته بوصفها استجلاء لمعاناته الفعلية في مجرى كفاحه من اجل التوحيد، وبالتالي لا يوجد قرآنا مكيا وآخر مدنيا. والترتيب الدقيق يصنع رؤية دقيقة، بينما عادة ما يؤدي الترتيب كيفما كان إلى إمكانية تصوير محمد كيفما كان. طبعا، إن هذه المهمة معقدة للغاية ولكنها ممكنة، على الأقل بالشكل الذي يجعلها أكثر قربا من الواقع، لكن المشكلة تقوم في أنها مهمة "محرّمة" بحيث تجعل من كل محاولة بهذا الصدد كفرا وإلحادا، مع أن جميع المعطيات والوثائق التاريخية وما هو مجمع عليه بين المسلمين يؤكد ويحقق الفكرة القائلة، بأن جمع القرآن وإخراجه بصيغته الحالية هو من عمل واجتهاد المسلمين الأوائل.

محمد الإنسان والنبي
لقد جمع محمد بين الإنسان والنبوة، أو أن النبوة امتداد للإنسان فيه واستكمال له وتحقيق ما فيه من خصال وتجارب. إذ لم يتحول محمد إلى نبي بل صار إياه. والنبوة، شأنها شأن كل حالة نوعية في الاحتراف الإنساني لها مقدماتها وخصوصيتها. فالأنبياء كالعلماء والشعراء والفلاسفة والأدباء وقادة الحروب وأهل السياسة والدولة، لكل منهم خصوصيته وموقعه فيما ينتمي إليه وصار جزءا منه، وأثره في تقاليد احترافه وخارجها.
فالتاريخ الإنساني يعرف أنبياء قد يصعب حصر أعدادهم. فمنهم من مات واندثر بلا أثر، ومنهم من بقي ذكرى في العقول والأوهام، ومنهم من تشظى في أساطير وحكايات، ومنهم من يتلألأ في الماضي وذكرياته من أقوال وأفعال مأثورة، ومنهم من عمّر واستمر في رحيق الثقافة الروحية والفكرة الدينية، ومنهم من بقي فاعلا في عقول وضمائر الأمم، ومنهم من ارتقى إلى مصاف المرجعية المطلقة لإتباعه.
حقق النبي محمد بذاته صيغة ما أسميته بلوغ مصاف المرجعية المطلقة لاتباعه (المسلمين) مما أدى الى أن تقتطف هذه الصيغة من كل الأنواع الأخرى ما يمكّنها من تعزيز قيمتها المرجعية الروحية والفكرية الدائمة. لاسيما وأنها تغلغلت جميعا في مسام المعركة التاريخية الكبرى التي قادها في نقل العرب من الطور الثقافي الديني إلى الطور الديني السياسي، أي إرساء أسس الانتقال الأكبر والأعقد في تاريخ العرب ولاحقا المسلمين بمختلف أقوامهم وشعوبهم وأممهم. وهي العملية الثقافية الكبرى التي أسست للطابع الثقافي للقومية العربية والأمة الإسلامية ككلالنبي محمد في الثقافة النظرية الإسلامية
عادة ما لا تثير الشخصية العظيمة رغبة في تصويرها والكتابة عنها إثناء حياتها، خصوصا عندما تكون صيرورتها الشخصية وكينونتها الفكرية والروحية نتاج صراع عنيف لا هوادة فيه. فهي في أفضل الأحوال مادة للنقد والتهكم والاستهزاء والسخرية، لكنه حالما يندثر وجودها الجسدي عندها تنبعث روحها التي لا يمكن مقاومتها إلا بروح أقوى. ولا يمكن لهذه الروح الأقوى أن تكون شيئا غير تمثل ما فيها أو استمرار لها أو نفي أعمق وأكبر لما فيها. حينذاك تتحول الشخصية التاريخية إلى شخصية ما فوق تاريخية، أو رمز هائل، ومصدر لا ينضب للتأمل والتفكر، وروح متسام، وفكرة بحد ذاتها. عندها يأخذ دبيب الاهتمام بكل حيثيات وجودها وحياتها وأفعالها وأقوالها إلى أروقة الوعي الثقافي. وقد كان نصيب محمد من كل هذه العملية كل ما فيها. اذ لا يخلو أي من علوم وفنون الثقافة الإسلامية من أثر له مباشر أو غير مباشر سواء بهيئة رمز أو مثال أو أنموذج أو مبدأ أو فكرة أو نمط حياة أو فكرة لاهوتية أو فلسفية أو صوفية.
ارتبط الإسلام منذ البداية بشخصية النبي محمد. وبغض النظر عن أن الدعوة الإسلامية لم تستمد حروفها من اسمه، إلا أن "المحمدية" تطابقت مع مفهوم الإسلام، على الأقل، عند الاتجاهات التي ادعت تمثيله الخالص. لهذا السبب عادة ما ترفض الاتجاهات السلفية، لأسباب دينية وثقافية، تسمية الإسلام بالدين المحمدي أو المحمدية. بحيث اعتبر البعض أن ما يميز الإسلام عن الديانات الكبرى (العالمية والوحدانية) هو انتماؤه للفكرة الوحدانية لا إلى دعاة الأديان ورسلها، انطلاقا من أن حقيقة الإسلام مرتبطة بمصدره وغايته لا بشخصيته الرئيسية. أما في الواقع، فإنه لا خلاف جوهري بينهما فيما لو جرى فهم هذه القضية بعيدا عن خلافات المذاهب الضيقة ونفسية العقائد المتحجرة. إذ لا يمكن عزل الصفات الجوهرية لإسلام الدعوة والرسالة و"السّنة" اللاحقة بمختلف تجلياتها عن شخصية النبي محمد ونموذجها الواقعي ومثالها الواجب. بهذا المعنى لا تناقض بين هذه الأسماء من حيث مضمونهما التاريخي والمثالي، أي أن "هرطقة" التسمية المحمدية هي من "بدع" العقائدية الضيقة. وإلا فيستحيل فهم حقيقة النبوة المحمدية ودوره التاريخي الفعلي فيها. فقد كان محمد مسلما بالقدر الذي عبّر في أعماله وغاياته عن جوهر الإسلام. ومع ذلك كان لشخصيته كيانها التاريخي المستقل. فقد جمعت في ذاتها وحدة المتناقضات من خيال وواقع، وفكرة وصراع، وماضي ومستقبل، مما أعطى لها إمكانية التحول إلى رمز مجرد ومستودع لا ينضب للوجود والاستمرار. وهو السبب الذي يفسر سرّ المنافسة التي لا تنتهي بين مختلف القوى في محاولاتها استنهاض أرواحها الغابرة في مواجهة تحديات "العصر". أما في الواقع فإنها لا تفعل إلا على مواجهة ذاتها.
تقاسمت الاتجاهات الإسلامية شخصية النبي محمد ومفاهيمه بما يتطابق مع تصوراتها عما هو "جوهري" فيه. وهي عملية طبيعية مميزة لظهور وتطور الحركات الاجتماعية والسياسية والفكرية. وبغض النظر عما في هذه العملية من إمكانات خفية مثيرة للتناقض "الحي" مع بعض منطلقاتها الفكرية الأولية التاريخية، لكنها عادة ما تؤدي إلى نقل هذه التناقضات إلى ميدان الفكرة وتثويرها عبر صياغة الحلول الجديدة.
غير أن اشد الأفكار تجريدا، تأبى الارتماء أمام أقدام الخمول الاجتماعي والنفس الخاملة. لأنه يتحتم عليها آنذاك مواجهة مصيرها وتندثر وكأن شيئا لم يكن. إلا أن هذا المصير التعس من صنع الخيال السارح وراء إدراك حقيقة الوحدة المستترة خلف استمرار الوجود. وإلا فإن التطور الاجتماعي الثقافي سوف يفقد آنذاك ذاكرة التاريخ وأثرها بالنسبة لبلورة الوعي المتجدد، باعتبارها أهم مبررات وجوده. وقد واجهت هذه الذاكرة امتحانها الأول في التاريخ العربي الإسلامي بعد دفن جسد النبي محمد تحت حجارة المدينة. حينذاك ظهرت شخصيته في التساؤل الساذج عما إذا كان قد مات فعلا، وفي النفي الأكثر سذاجة لعدم موته، الذي تفوّه به عمر بن الخطاب. غير أن للسذاجة التاريخية قيمتها المعرفية. فهناك فرق بين السذاجة التاريخية والسذاجة المعرفية، رغم ارتباطهما بأواصر جزئية. فالسذاجة المعرفية متأتية من قلة المعرفة وتدني الممارسة العلمية والعملية، بينما عادة ما ترتبط السذاجة التاريخية بروعة الحدث وخطوبته.


محمد الخلافة الاولى
وتتميز هذه "المرحلة" التي امتدت منذ موت النبي محمد وحتى سقوط "خلافة الراشدين" بنظرتها اليه بمعايير المثال العملي الأخلاقي الرفيع، الذي يرتقي بمقاييس الوجدان والإيمان إلى مصاف المقدس.
فقد رفض عمر بن الخطاب فكرة موت النبي محمد. وهدد بقطع أيدي وأرجل من زعم بأن رسول الله قد مات، وأعتقد برجوعه كرجوع موسى إلى قومه. وبغض النظر عن صعوبة تحقيق بواعث اعتراضه (في حال افتراض صحتها) على فكرة موت النبي محمد، إلا أنها انطلقت في حوافزها المباشرة من التأثير الهائل لشخصية النبي على الجماعة والأمة الإسلامية الناشئة، أكثر من انطلاقها من الآيات القرآنية. فالمراجع التاريخية عادة ما تستند في تأويلها لرفض عمر بن الخطاب الاعتراف بموت النبي محمد، إلى فهمه المباشر للآية: "لكل أمة شهيد وأنت عليهم شهيد". وهو نفس المصدر الذي أعطى لأبي بكر إمكانية نقضها في كلماته الشهيرة: "من كان يعبد محمدا، فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت"، ثم تلاوته الآية (وما كان محمدا إلا رسول قد خلت من قبله الرسل). وهي الآية التي استغرب عمر من أن تكون "في كتاب الله".
غير أن هذه السذاجة التاريخية تبقى في نهاية المطاف من مصادفات الزمن. وما بدا مرفوضا للوهلة الأولى، سوف يعيد الكرّة من جديد وبقوة أعظم. فقد طرح عمر في رد فعله المباشر حدس القضية التي ستتجوهر في المعضلات الروحية والعملية الكبرى للأمة من الإمامة حتى الأخلاق، ومن النبوة حتى الولاية (الصوفية)، ومن الطابع الظني للفقه وحلوله الافتراضية حتى يقين الإيمان العقائدي، ومن الشريعة حتى الحقيقة. ولم تكن هذه العملية انعكاسا لرمزية المطلق بقدر ما كانت انعكاسا للأهمية التي شغلها النبي محمد في عالم الإسلام ومكوناته الحضارية.
من هنا سطحية الفكرة الشائعة عن أن المؤمنين لم يتركوا أنفسهم يتأثرون بصورة محمد كما رسمها التاريخ الصادق، بل حل محلها منذ الوهلة الأولى الأسطورة المثالية للنبي، والتي اخذ علم الكلام على عاتقه مهمة رسمها باعتباره بطلا ونموذجا أعلى الفضائل. وعدم دقة هذه الفكرة لا تقوم فقط في تجنيها على علم الكلام ودوره في إبداع الصورة المثالية للنبي، التي تفتقدها كليا ما يسمى "بالسيرة النبوية"، بل وفي رفض الكلام لتقاليد الأسطورة عن النبي محمد منذ الوهلة الأولى. وإذا كان علم الكلام قد ساهم في رسم الصورة المثالية عن شخصية النبي، فإن ذلك لا يعني أسطوريتها الفكرية أو التاريخية. فالاختلافات الكثيرة بين آراء وصور المتكلمين عن النبي محمد هي الصبغ الفكرية المتعددة عن الشخصية الأولى للإسلام. فقد كان الكلام بمعنى ما نتاجا لظاهرة الدفاع عن عقائد الإسلام في مجرى احتكاكه بعقائد الأديان الأخرى. وتضمن منذ البداية عناصر إبراز عظمته وصحته بما في ذلك على مثال النبي محمد. ولم يعر لهذا القضية جل اهتمامه. لاسيما وانه نظر إليها بمعايير العقلانية المميزة لمراحله الأولى. إذ لم تكن "الأسطورية" فيه سوى المثال الرمزي لليقين العقلاني. ولا يغير من حقيقة هذه العقلانية وقيمتها افتقادها النسبي للتجانس، وذلك بفعل جوهرية النبوة في التقاليد الكلامية، باعتبارها جزءا من عقائد الإيمان. فالإيمان يفترض كشرط ضروري مثالية النموذج. من هنا كانت "أسطورة" النبي محمد و"مثاليته" الصيغة الضرورية لوعي الحقائق المتسامية. أما في الواقع، فإنه لا أسطورية فيها ولا مثالية. إذ لم يتعد الكلام في أحكامه الأساسية عن النبي محمد ما تناوله القرآن، الذي نظر بدوره إليه نظرته إلى التجلي "الرحماني" في الخلق الإلهي.
إضافة لذلك كان من الصعب حينذاك توقع رد آخر. فالأسطورة يصنعها الانتصار حينا والهزيمة حينا آخر. وإذا كان الانتكاس النفسي لعمر بن الخطاب هو رد الفعل المباشر على "فقدان" الشخصية المركزية للأمة وتعبير عن حرفية الفهم الأولي لبعض آيات القرآن، فإن خمود العاطفة ونصوح العقل، سرعان ما أقنعاه بخطئه الشخصي وهفوته الفكرية. وإذا كان من الصعب الآن البحث في خلجات النفس المشتعلة في أعماق عمر بين الخطاب آنذاك، فإن رد فعله يعكس في بعض ملامحه الصفات المميزة له في مباشرته المتسامية وواقعيته الحصيفة، أي كل ما استعرضه في خلافته. ومن الممكن النظر إلى كلماته المشار إليها أعلاه باعتبارها "شطحا" تاريخيا عبّر فيه عن قوة الانتماء للأمة وبؤرتها الحساسة (النبي محمد)، لا "شطحا" فكريا كالذي نعثر عليه عند غلاة الفرق الإسلامية. ومن العبث البحث في كلمات عمر عن عناصر الغلو الأولى في تاريخ الفكر الإسلامي، تماما كما أن من الصعب تصور فقدانه للواقعية العميقة والعقلانية المتسامية (العملية).
إننا نستطيع رؤية قوة الكلمة المحمدية في هذه الشطحات. فقد صنعت كلمات القرآن موضوعاتها وموضوعاتها المضادة. وكلاهما أصبح قابلا للأخذ والرد. وقد حوّله هذا الواقع إلى رمز، بحيث أصبح بإمكان القوى الاجتماعية أن تتخذ منه شعارا للمعركة، كما فعل هو نفسه في صراعه مع العرب الوثنية بتحويله الله إلى شعار للمعركة.
ولا يعني ذلك تطابق مضامين هذه الظواهر. بل يمكن القول بأن تأثير الشخصيات الروحية الكبرى ليس أقل تأثيرا من آلهتها. فهي تمثل في نموذجها الفردي أسلوب تصوراتها عن الله. إلا أن هذه الظاهرة تبقى من عالم المعتقدات الفردية والإيمان. أما انتماءها لعالم السياسة فهو جزء من عالم المصالح الجديدة، التي يفرضها منطق ومستوى الصراع الاجتماعي والثقافي وغاياته الملموسة. فالآلهة المحمدية في فعلها المباشر وغير المباشر في نشاط النبي محمد هي صيغة تجلي المطلق في فضاء الوجود الأول. لذا كان تأثيره اللاحق في صيرورة التقاليد الفكرية والسياسية والروحية استمرارا واقعيا للصياغة الأولى. بمعنى إن الحركات التالية يمكنها الاستناد مباشرة إلى شعار "الله اكبر" و"لا اله إلا الله"، إلا أن هذه المباشرة التي يفترضها الإسلام في نفي رهبانية الكيان الكنسي والوساطة الخالصة (المؤسساتية)، تبقى مباشرة في استمرارها، أي أنها لا بد وأن تستثمر صلاتها من خلال وحي النبي محمد. وهو المعنى المقصود بمقارنة شعارات المعركة الدائمة لدراما التاريخ والوجود. كما أنه السبب الذي يفسر بقاء الشخصية التاريخية العقلية للنبي محمد سارية حتى في اشد الصور الأسطورية غلوا. بمعنى استمرارها كالبرزخ الصوفي عن عالم المثال أو كتشكيلة مجردة قابلة للبناء المتعدد، أي كل ما نعثر عليه في التراث الفكري الاجتماعي السياسي الإسلامي في هذا المجال.


النبي محمد في آراء ومواقف المعارضة السياسية الاولى
وضع التراث الفكري والاجتماعي السياسي الإسلامي شخصية النبي بهيئة كيان يتراوح بين الشخصية (الملموسة) والفكرة (المجردة)، وربط أحيانا بينهما إلى درجة التطابق. وجرّده أحيانا إلى درجة حوّله فيها إلى فكرة أو مثال، وأنزله أحيانا أخرى إلى الواقع وجعله محكا للحق الشامل. ووجد ذلك انعكاسه في الحديث الموضوع :"إذا أنا مت، كانت وفاتي خير لكم تعرض على أعمالكم"، أي أن التجربة اللاحقة للتطور الاجتماعي السياسي والحضاري حوّلته إلى مقياس طالما رفضه رفضا باتا في حياته. فقد رفض محمد بفعل وجدانيته الخالصة ووحدانيته الكلية أن يضع مقياسا لكل ما هو موجود أعلى من الله، باعتباره الوحيد الحق. وهي الفكرة التي سيجري صياغتها لاحقا بعبارة "الرجال بالحق لا الحق بالرجال".
حوّل التاريخ الإسلامي النبي محمد إلى بؤرته الجوهرية، وينبوع ذاكرته الحية، ومرآة تأمله الذاتي. فالرجال تموت وتبقى أفكارها الحية. وإذا كانت الفكرة المحمدية هي كلمة الحي "القديم" التي ينفد مداد البحر دون نفادها، فأنى لهؤلاء الذين عوّدهم الإسلام على أن ينظروا لأنفسهم كذرات صغيرة تسّبح بحمده (في عالم الملك) أن يتخطوا حدود المطلق؟ إلا أن للتاريخ "منطقه" الخاص، الذي لا يتعدى مع ذلك تجارب أممه. وهي التجربة التي رفض عمر بن الخطاب نسبيتها الملموسة باعتبارها نهاية الجسد، وأقرّها أبو بكر بصيغة الأبدية المطلقة. بينما كان علي بن أبي طالب يعالجها من منطلق "في الله عزاء عن كل مصيبة"، بينما رأى العباس بن عبد المطلب (عمه) فيه علائم "الموت الهاشمي"، في حين تقّبل المؤمنون هذه النهاية بحزن لا يخامره فزع الطفولة وتحطم اليقين، واستقبلته أفواج عام الوفود، فيما يبدو، بروح تقاليدها القديمة، التي نطق بها في يوم ما شاعرها كعب بن زهير، في مدحه للنبي محمد نفسه (كل ابن أنثى وإن طالت سلامته يوما على آلة حدباء محمول). في حين ارتدت العرب المستسلمة. ولم يكن ارتدادها خال من طرافة فكرية. لقد استغربت موت نبيها الأكبر ووجدت الفرصة المناسبة للتخلي في آن واحد عن إسلامها وزكاتها وصلاتها.
كان لهذا الشرخ الفكري في الوعي الاجتماعي آثاره العميقة. غير أن استعادة الوحدة الاجتماعية السياسية للأمة الجديدة، كان يعني في نفس الوقت استعادة نوعية للشخصية المحمدية. فقد رفرف هو مع رايات المسلمين إلى جانب "الله اكبر"، وصاحب كل انتصار عسكري جديد تعظيم جلي لقدرته الروحية الخفية. وكان لا بد لهذه المعارك التاريخية أن تفرز إخفاقاتها، وأن توّلد في الأعماق اليائسة شعاع الأمل الروحي. وحالما تمت هذه المقدمة في مخيلة القوى الاجتماعية، فإنها تكون قد تحولت إلى بديهية ينبغي البرهنة عليها كل بطريقه الخاص.
وكانت هذه العملية، شأن كل العمليات الفكرية الأيديولوجية، أن تتشذب في مجرى تطورها وتتهذب أساليب مقالاتها. فإذا كان الأشعري على سبيل المثال، ينظر إلى الاختلاف الفكري للقوى الإسلامية على انه تفرقا إلى شيع وفرق بعد موت النبي محمد مع إبقائه الجميع في حيز الإسلام، فإن البغدادي ادخل الخلاف حول موت النبي محمد باعتباره أول الخلافات الفكرية بين المسلمين. فهو يقف عند الحد الذي يتناوله الشهرستاني لاحقا بأسلوب التحليل والمقارنة، الذي يكشف عن كيفية تحول القدرية إلى "مجوس هذه الأمة" و"المشبهة إلى يهودها"، و"الروافض إلى نصرانييها".
وبعض النظر عن المنهجية المؤدلجة للبغدادي في استعماله للحديث الموضوع عن "افتراق الأمة على ثلاث وسبعين فرقة" كلها في النار إلا فرقة أهل السنّة والجماعة، الذي يستهلكه الشهرستاني أيضا، ولكن ضمن منظومة تحليلية أعمق وتوجه اشمل، فإن غياب حصانة التحمس الفعلي لحقيقة الدوافع الاجتماعية السياسية والروحية القائمة وراء ظواهر الغلو، جعلته يبحث عن "مصدرها المعرفي" عند تخوم صراع "الرأي والنص"، أو فيما دعاه الشهرستاني "بشبهة إبليس" التي تشعبت منها "الشبهات السبع" المسطورة في شرح الأناجيل النصرانية الأربعة والتوراة اليهودية!
إلا أن الشتيمة الإسلامية بحق الروافض "النصرانية" لها خيالها التوليفي في تصورات وأحكام علم الكلام في موقفه من تأليه الفرد الذي رفضه النبي محمد رفضا قاطعا. فقد نسبت إليه مختلف المصادر الإسلامية، وصيته الأخيرة القائلة: "قاتل الله قوما اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". وقد فعل هو هنا بما يتطابق مع تصوراته عن نفسه، باعتباره رسولا للعالمين ومبشرا ونذيرا. لهذا اكتفى بقبر لا يرتفع ترابه عن الأرض. غير أن مفارقة التاريخ تقوم في أن من يحارب العلو الظاهري في الحياة ينبغي أن يخلد في الاعالي بينما "يَخلد" الباحثون عن العلو الظاهري في حضيض الازدراء.
ولهذه المفارقة مقوماتها التاريخية ومثولها الدائم في الواقع والوعي حتى "الوقت" الذي تنحلّ فيه تناقضات التاريخ وإبداعاته. فالعظمة الظاهرية هي أسلوب تمظهر الوعي السطحي والقوة الخشنة، أي كل ما لا صلة عضوية له بالحقيقة. من هنا تعرضها للزوال. إذ فيها سبب نقيضها. وإذا كان بإمكان "العظمة" الظاهرية أن تؤدي أحيانا دور المثوّر التاريخي للقوى الاجتماعية والطبيعية الكامنة، فإنها عادة ما تصنع نقيضها أيضا بأشكال يصعب حصرها. وفي مجرى هذه العملية تتكون معالم التاريخ. فالتذليل الحقيقي "لازدراء" التاريخ يمكن أن يحدث فقط من خلال تمثل وتمثيل الصلة الروحية الأخلاقية بالمطلق. أما النبي محمد فقد ذاب في الحركة التي بلور معالمها الأولية. فهو روحها المنّسقة السارية في كيان الوجود الروحي والمادي للإسلام. فهو مثال الحقوق المادية وسلطتها السياسية، وهو الخميرة الروحية لـتيارات الإسلام جميعا.
فالروافض الغالية هم أول من ساهم في "تنصير" النبي محمد. وافلحوا إلى الحد الذي جعلهم معزولين نسبيا عن ميدان العلاقات المادية. فقد صورت المغيرية (أتباع المغيرة بن سعيد) النبي محمد باعتباره المخلوق الأول استنادا واحتجاجا بالآية القرآنية "قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين". بينما نظرت المنصورية (أتباع أبي منصور العجلي) إلى النبي محمد باعتباره جزءا جوهريا من السماء، واعتبرت آل بيته السماء وشيعته الأرض. بينما أدخلت الخطابية (أتباع أبي الخطاب بن أبي زينب) مفهوم الناطق والصامت (الصيغة السياسية الأولية لمنظومة الظاهر والباطن) مما فسح المجال لبلورة منظومة الروحانية المقدسة للنبوة، التي شكل محمد التاريخي أحد تجلياتها. وأدى ذلك إلى نقل النبي محمد إلى مصاف الروح المطلق، الذي وجد استمراره في البيت العلوي تمثيلا بالآية: "فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين". أما الغلاة الحلولية (وبعض النساك والمتصوفة كما يقول الأشعري) فأقّروا بحلول الروح القدس في محمد ثم في أئمة الشيعة، كما تنسب إلى الشريعي رغم حصره إياها في محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين.
لم تكن هذه المقالات عن شخصية محمد النبوية مصادفة طارئة، بل تكونت من النسيج الأسطوري للهزيمة الاجتماعية، التي بحثت في أعماق الظلمة عن شعاع نوراني. وليس "الاتفاق الروحي" بين الغلاة في استلهامهم القرآن "المكي" نتاجا عفويا، بقدر ما كان تعبيرا عن وحدة المزاج النفسي الأخلاقي للقوى الاجتماعية التي صنعها تطور الدولة العربية الإسلامية، وحوافز تكوين اتجاهاتها. فقد رأت هذه الاتجاهات في هيئة الخلافة وأفعالها استعادة جديدة للسيطرة الجاهلية التي حاربها محمد. غير أن محمدا حارب في الجاهلية مثالها الوثني، بينما واجهت القوى الجديدة مهمة محاربتها بغلافها الإسلامي. لهذا كفّ محمد الواقعي عن أن يكون شخصيتها الملهمة. من هنا بحثها الدائم عن مثال مأساوي يعكس حالتها الواقعية (على بن أبي طالب والحسين بن علي). لقد كان محمد ضروريا لهرمية النسب والشجرة العائلية التي كان ينبغي بدورها أن تتحول إلى مثال نوراني، ما زالت لم تؤد حتى إلى تجنب سفك دماء أحفاده.
حينذاك أصبح محمد جزءا من النبوة، باعتبارها المنظومة الشرعية والمصدر الذي لا ينضب والمعيار الأمثل لتجديد المواقف من الإمامة الإسلامية (الخلافة). وفي هذا يكمن سبب غياب الجدل اللاهوتي عن شخصية محمد والنبوة في المراحل الأولى لعلم الكلام. فقد برزت هذه القضايا في وقت لاحق. إذ اندفعت آنذاك المهمات التي فرضها الواقع الاجتماعي والسياسي والحكومي، وانعكاسها في المواقف الفردية والجماعية كقضية الحكم والإمامة عند الخوارج، والجبر والاختيار عند الجبرية والقدرية، وقضايا العدل والتوحيد والمنزلة بين المنزلتين عند المعتزلة وغيرها.
إذ كان ينبغي للفكر الاجتماعي أن يتوسع ويتعمق ويتسامى إلى الدرجة التي يصبح معها قادرا على إعادة النظر بشمولية أكبر تجاه قضايا النبوة، أي كل ما يحوّلها وينقلها من ميدان التاريخ الواقعي إلى فضاء التجريد المثالي، أي من السياسة إلى الكلام والفلسفة والتصوف.
فإذا كان "الروافض" والغلاة بشكل عام، قد ارجعوا شخصية النبي محمد إلى مجرد صاحب الوصية الأولية، وأعاروا اهتمامهم الأساسي بأحفاده، فإن المعتزلة اقتصروا في جدلهم حول ما إذا كانت النبوة ابتداء أم جزاء. ولا يغير من ذلك شيئا اختلافاتهم مثل أن ينظر عباد بن سليمان إليها باعتبارها جزاء على عمل الأنبياء، بينما يعتبرها أبو علي الجبائي ابتداء رغم إقراره بكونها جزاء على عملهم. أو فيما إذا كانت الملائكة أفضل من الأنبياء أو الأنبياء أفضل من الملائكة وغيرها من المسائل، فان الحصيلة الفكرية تكشف عن عدم تحول النبوة إلى معضلة فكرية قائمة بحد ذاتها.

النبي محمد في علم الكلام
لقد تمايزت فرق الكلام بنوعية ومستوى وحجم اهتمامها النظري والفكري بشخصية النبي محمد. إذ لم يتحول، على سبيل المثال، إلى قضية فكرية أو عقائدية أو سياسية مستقلة في تقاليد الاعتزال والمعتزلة. بل جرى تذويبه، كما كان الحال عند من سبقهم كالمرجئة والقدرية والجبرية الاولى، في قضايا الروح الاخلاقي، وقضايا حرية الإرادة والطابع العقلي للأخلاق والقيم وغيرها من المسائل والقضايا. بينما تحولت النبوة إلى ضرورة جدلية في منظومات الكلام السنيّة. وعليها بنت صرح مقالاتها لدحض "فضائح" الفرق الأخرى. فعندما يتكلم البغدادي عن آراء أهل "السنّة والجماعة" وأركانهم الخمسة عشر، فانه يفرد الركن السابع لقولهم في النبوة والرسالة لإظهار قيمة النبوة المحمدية ورسالتها. فهو يسير في الطريق المعبدة للقناعة الإسلامية التقليدية عن فكرة انتهاء النبوة بالرسالة المحمدية، باعتبارها نسخا للشرائح السابقة. فقد اعترفت الشريعة الإسلامية عموما بشرعة موسى وعيسى ونفتهما في نفس الوقت. وبهذا يكون الأنبياء والرسل السابقون مجرد مقدمة للإسلام وتوابعه. فأهل "السنّة والجماعة" لا ينفون على سبيل المثال فكرة رجوع المسيح، إلا أنهم ينظرون إليه نظرتهم إلى عودة في "الصراط المستقيم" والعمل بشريعة الإسلام. وهي صيغة شاركتها اغلب فرق الإسلام. وفيها نعثر على تذويب الشخصية الواقعية لمحمد في آيات القرآن. بينما تحول القرآن إلى معجزته النبوية والدليل الحياتي للرسالة المطلقة، كما نعثر عليها عند ابن حزم الأندلسي. غبر انه وضع هذه الأفكار في مقولات الإمكان والواجب. فالفكرة القائلة بوجوب النبوة انطلاقا من وجوب الإنذار في الحكمة قبل مجيء الرسل، تظل بنظر ابن حزم مجرد إمكانية قائمة بذاتها. وتتحول حالما يبعث الله النبي إلى وجوب. غير أن هذه البراهين تفقد المقولات الفلسفية طابعها العقلاني وتحولها إلى مجرد صيغة "منطقية" للبنى اللاهوتية.
فالمقدمة الأولى التي ينطلق منها ابن حزم، في البرهنة على النبوة وضرورتها تقوم في الاعتراف بالقدرة المطلقة لله، التي يتطابق مضمونها مع فكرة "بلا كيف" الأشعرية. فالله لا يفعل شيئا لعلة، أي بخلاف كل ما هو موجود من أفعال الخلق. فالله اخرج العالم كله إلى الوجود بعد أن لم يكن بلا كلفة ولا معاناة ولا استعانة ولا مثال سلف ولا علة موجبة ولا حكم سابق قبل الخلق. بصيغة أخرى، إن القدرة الإلهية تتحول إلى كيان لا يستطيع العقل البشري الإحاطة التامة بها. وليس أمام البشر سوى مهمة التعامل مع واقع تحولها من الإمكان الإلهي إلى الوجوب الإنساني المباشر المتجسد في النبوة كما استعرضت نفسها مرارا في التاريخ لتستكمل ذروتها في النبي محمد. ولكنها إمكانية تختلف عن التصورات العقلانية عن الإمكانية الواقعية. فهو يرسم لنا جملة من الصور الواقعية عن النبوة حالما ينزل من سماء اللاهوت المجرد إلى أرضية الدراسة المقارنة (الواقعية والنقدية). فهو يقر بأن الممكن ليس واقعا في العالم وقوعا واحدا، أي انه لا يتجسد بصورة واحدة متماثلة. فالإمكانية قائمة ومعها الامتناع أيضا. فما هو مميز للرجال من ظهور اللحى في عمر 18 ـ 20 سنة ممتنع على الأطفال والصبيان في أعمار 12 ـ 14 سنة. وما هو ممكن للذكي من حل المشكلات الفكرية المعقدة ممتنع على البليد. غير أن هذه المقدمة السليمة تصبح جزءا ثانويا في "المنطق اللاهوتي"، انطلاقا من أن الله يختلف عنا اختلافا كليا (ليس كمثله شيء). لذا فإن ما هو ممتنع علينا غير ممتنع عليه. وتتجلى إحدى صيغ هذه الحالة في ظهور الأنبياء وتحولهم من حدّ الإمكان إلى حد الوجوب وكذلك في معجزاتهم. غير أن معجزاتهم في نهاية المطاف هي نتيجة لفعل الله، أي أن الله هو الذي رتّب كل شيء وأجراه على مجاريه بما ركّبه فيه من الطبائع. بهذا المعنى، فإنه لا فاعل على الحقيقة غير الله. وذلك لأن طبائع الموجودات قائمة بحد ذاتها لا يمكن للإنسان التلاعب فيها. وحالما تظهر هذه الإمكانية في حيز الوجود، كانقلاب الحجرة إلى ناقة أو إحياء الموتى وما شابه ذلك فانه دليل المعجزة. إلا انه هنا أيضا لا فاعل على الحقيقة إلا الله. وإذا كانت القضية بهذا الشكل وانه لا فاعل ولا خالق سوى الله، فينبغي أذن الإقرار بما هو منه، أي كل الحصيلة التي تلزم المرء بضرورة الاعتراف بأنه لا نبوة بعد محمد.


النبي محمد في الفلسفة الإسلامية

قد تكون الفلسفة الإسلامية هي الوحيدة من بين تيارات الفكر النظري والعقلي الإسلامي، التي لم يفرد أي من شخصياتها الكبرى ابحاث متخصصة بالنبي محمد سواء بهيئة كتاب أو رسالة أو مقال. وبالتالي، لم تدخل ميدان الصراع الديني العقائدي والمذهبي. وهي حالة مترتبة على خصوصية الفلسفة بشكل عام والاسلامية بشكل خاص آنذاك. وذلك لأنها تطرقت الى هذه القضية من خلال تناول إشكاليات العقل الايمان، وانماط ومستويات المعرفة. وحتى حالما تطرقت الى قضية النبوة كما هي، فإنها حاولت اختزالها في تصوراتها وتأملاتها وأحكامها الخاصة، أي البعيدة عن هموم العقائد اللاهوت. فالفكرة الجوهرية في علم الكلام التقليدي تستند إلى الإقرار بالمعجزات وخرق العادة. بينما نقلت الفلسفة تصوراتها عن النبوة إلى ميدان التحليل "الطبيعي" وبراهينه "المنطقية"، أي الإقرار "بالمعجزات" الطبيعية مثل سقوط المطر وهبوب العواصف ونزول الصواعق والزلازل وما شابه ذلك من "الخوارق"، باعتبارها نماذج حسية عن النبوة. ذلك يعني، إن معجزة النبوة لا ينبغي أن تتعارض مع قوانين الطبيعة ولا مع معطيات العقل السليم. وهي أفكار رفضها الغزالي في (تهافت الفلاسفة) وما قبله، لكنه اقرها بصورة مبطنة في مرحلته الصوفية.
فقد شغلت هذه القضية ذهن الغزالي لاعتبارات عقائدية، كما هو الحال في كتابه (تهافت الفلاسفة)، وليس لاعتبارات فكرية أخلاقية كما هو الحال في مرحلته الصوفية. لقد وضع أمام نفسه مهمة إعادة اللحمة العقائدية (الأيديولوجية) لكينونة الأمة الروحية الممزقة بالصراعات المذهبية والسياسية، والذي نعثر عليه في صياغته لمهمة الإصلاح كما بلور معالمها الأولى ومبادئها الأساسية في كتابه (إحياء علوم الدين). حينذاك وجد نفسه مضطرا للرجوع إلى المثال المحمدي بروحه الصوفي. فقد كان محمد (الإحياء) النموذج الأخلاقي للتخلق بأخلاق الله. حيث نراه في نموذج الشخصية المتضرعة والمبتهلة والمتزينة بمحاسن الأخلاق، بعث ليتمم مكارم الأخلاق، وهو رحمة للعالمين وصاحب الأسماء العشرة (محمد، واحمد، والماحي، والعاقب، والحاشر، ورسول الرحمة، والتوبة، والملاحم، والمقفي، وقثم)، أي الإنسان الكامل الجامع أو قطب الصوفية.

النبي محمد في التصوف
إن فكرة الغزالي المذكرة أعلاه هي الصورة الأخلاقية للنبي محمد في نموذجها الصوفي الإنساني، التي جعلت منه دليلا على عدم "اكتسابه بحيلة تقوم بها القوة البشرية، بل لا يتصور ذلك إلا بالاستمداد من تأييد سماوي وقوة إلهية". ولم تعد المعجزة النبوية أسيرة التصورات والانطباعات والبراهين الحسية. عند هذا الحد بتشابه الغزالي مع ابن حزم. فالقدرة الإلهية ليست عاجزة عن خرق العادة مثل أن تخلق "في الحصاة حياة وقدرة"، إلا أن لخرق العادة مستويات ثلاثة، المستوى الحسي هو أولها وأدناها. فالشمس تؤثر بالمائعات تدريجيا بينما التسخين رأسا. من هنا استنتاج الغزالي عن أن المقصود بإمكانية تأثير الأنبياء شبيه بنسبة التسخين إلى الشمس. إلا أن هذه المقارنة هي حصيلة حاصل، لا علاقة سببية جوهرية لها بالبرهان. أما المستوى الثاني (العقلي) والذي يدعوه المتكلمون بدلالة الدليل على المدلول فهو الصيغة الوجودية واللاهوتية للمستوى الحسي. أما المستوى الثالث (الخيالي) فهو "لسان الحال" الذي يصير شاهدا محسوسا على سبيل التمثيل كرؤية النائم في النوم. غير أن ما يميز الأنبياء هو رؤيتهم ذلك في اليقظة. وقد بلور الغزالي المعالم الظاهرية لهذه الحالة في كتابه (المنقذ من الضلال) عندما أكد على أن خاصية النبوة لا تدرك كليا إلا بطريقة الصوفية، أي في مجرى العملية المعرفية الأخلاقية التي يقف أمامها الحس والعقل عاجزين عن رؤية كيانها الخاص، باعتباره موضوع ما وراء العقل أو المعرفة القلبية. وعندما حاول الغزالي البرهنة على النبوة فانه لم يستعمل مفهوم المعجزة بشكل عام والقرآن بشكل خاص، ولا المفاهيم المباشرة عن أهمية النبوة العملية، رغم أهميتها في منظومته الفكرية. وذلك لأنه نظر إلى هذه القضايا باعتبارها موضوعات الاحتكام المباشر للعقل، بينما العقل هو طور في أطوار إدراك الإنسان. والنبوة أيضا هي "طور يحصل منه عين لها نور يظهر في نورها الغيب وأمور لا يدركها العقل"، كما يقول الغزالي.
ذلك يعني، إن الغزالي لم يضع مفهوم النبوة بالضد من إنجازات الحس ومدركات العقول، بقدر ما يضعها في ميدان أرقى له أسسه الخاصة، ونماذجه المتميزة في عوالم الإنسان الحسية والعقلية. فالحس والعقل يستندان إلى الموجود المباشر ودليل البرهان والتجربة. في حين لا يخضع كل شيء للتجربة. وبالتالي، فإن هناك طرق أخرى غير الحسية والعقلية لإدراك النبوة. إضافة لذلك إن النبوة بالنسبة للغزالي ليست قضية فكرية مجردة. لاسيما وأن الجنس الخارج عن مدركات العقل في النبوة، هو أحد خواص النبوة كما يقول الغزالي. إذ تحتوي النبوة على خواص عديدة. كل ذلك يجعل منها كيانا هائلا لا يمكن فهم حقيقة إلا عن طريق الذوق الصوفي. في حين يكشف تدقيق معنى النبوة على القرآن والأخبار شخصية محمد باعتبارها التجسيد الفعلي الأسمى لدرجات النبوة. ذلك يعني، إن الغزالي يسير هنا ضمن تقاليد الصوفية في البرهنة على النبوة، أي انه سعى لليقين الذي يستحيل بلوغه بالأخبار والمعجزات التقليدية مثل قلب العصا ثعبانا وما شابه ذلك، لأنه قد يؤدي إلى مطابقة السحر مع بالنبوة.
إن لهذه الفكرة أساسها "المنهجي" في الطريق الصوفي. بمعنى تطابقها مع إلهام المعرفة الصوفية. بينما تتحول في الجانب العملي إلى مصدر ملموس للمثال المطلق في السلوك الصوفي، الذي ينبغي للمريد سلوك مقاماته من اجل بلوغ "مشكاة النبوة". حينذاك يصبح النظر إلى النبوة بعين النبوة الأسلوب الأمثل والأكثر يقينا للبرهنة عليها. ولا يمكن إغفال ما في هذه الفكرة المنهجية من قيمة عملية كبرى ومعنى متسام. وذك لتأسيسها إمكانية التأمل الدائم لمصدرها الحق (المشكاة النبوية)، باعتباره النبع التلقائي للمعرفة الصوفية في الذوق والمشاهدة. كل ذلك يجعل الشخصية المحمدية نموذجا يتآلف فيه الواقع والمثال، والتاريخ والمطلق في منظومة البدائل.
نقف هنا أمام ذوبان الشخصية النبوية في مختلف مدارس التصوف وشيوخه. حيث يتحول النبي محمد في آراء عبد القادر الجيلاني، على سبيل المثال، إلى الصوفي العملي "المحترف" الذي تقدّر معجزاته بألف معجزة، أكبرها القرآن. إلا أن الذوبان الفعلي لشخصية محمد التاريخية جرت فقط في المنظومات الصوفية التي حولته إلى ملح بحارها، كما هو الحال عند ابن عربي ومدرسته. إذ لم يعد محمد شخصية تاريخية ملموسة. حيث تفقد سيرته طابعها التاريخي المباشر، وتتحول ممارسته إلى رموز، وكلماته إلى مستودع للتأويل الدائم. انه يتحول إلى كيان ما فوق تاريخي بحيث يصبح كل ما في الوجود جزءا منه وتجليا له، كما يتطابق في نفس الوقت مع كل وجود. فهو العالم والمثال في مسيرتهما الدائمة، والنفس الناطقة من الإنسان عند مقارنته بالعالم، وغاية الوجود والروح. ومن ثم ليس محمد التاريخي إلا لحظة اللقاء الخاطفة بين المثال المطلق والوجود، التي لا تفقد أهميتها أبدا أمام عرش الحقيقة. انه الروح الذائبة في جسد الوجود النائم. كما انه إنسان الصوفية الكامل، الذي حاز درجة الكمال بتمام الصورة الإلهية في البقاء والتنوع في الصور وفي بقاء العالم. وهو الإنسان الذي سيشغل بؤرة الاستقطاب الجاذبة في تقاليد مدرسة ابن عربي، كما نعثر عليها عند عبد الكريم الجيلاني في "الإنسان الكامل"، بوصفها الصيغة المنظمة والمعقلنة لآراء أين عربي.
إذ ليس النبي محمد عند عبد الكريم الجيلي سوى قطب الزمان الصوفي، والقطب الواحد المتجلي بملابس عديدة في مراحل التاريخ المختلفة. انه اسم المثال المطلق ومسمى النبي التاريخي. انه النقطة التي يلتقي بها عالم المثال المطلق والوجود الفعلي للشخصية في لمحة تاريخية عمرها امتداد الزمن بين نهاية وبداية العدم الصوفي، أو بين الوجود الأزلي والحق السرمدي. حيث يتحول محمد إلى القوة الفاعلة للروح المطلق والمتجلية في ذرات التاريخ (الصوفي). كما أنه الحقيقة الباطنة لمظاهر التجلي الدائم للشيوخ. بهذا لم تعد ضرورة الشخصية المحمدية محصورة بالمعجزة والنبوة، بل بضرورة الوجود نفسه. انطلاقا من أن العالم لا يمكنه أن يكون "إنسانا كبيرا" دون التجلي الدائم للروح المحمدي.
ولم تقف هذه المفاهيم الصوفية عند حدود الأفكار المذكورة أعلاه، بل وتعدتها إلى نماذج غاية في التباين تأثر اغلبها بآراء الشيخ الأكبر (ابن عربي). ومن الممكن القول بأن الصفة المميزة للمدارس الصوفية اللاحقة تقوم في تحويلها المتزايد للشخصية المحمدية إلى مصاف النورانية المجردة. ولعل آراء ابن سبعين عن الشخصية المحمدية بوصفها كتلة نورانية مطلقة متعددة الجوانب تعكس النور الإلهي، مثال ساطع في هذا المجال. حيث تتحول النورانية المحمدية إلى حزمة أشعة لا تقبل التجزئة. فهي لا تحتاج في ذوق الصوفي إلى برهنة تاريخية عقلية. وذلك لأن "بيان البين هو تحرك في سلسلة الجنون الشخصي"، التي يسعى الحدس والذوق الصوفي لتذليلها كما يقول ابن سبعين. وتمسك ضمن هذا السياق، شأن الصوفية ككل، بالحديث المنسوب للنبي محمد: "كنت نبيا وآدم بين الماء والطين". بمعنى انطلاقه من المطلق للمطلق. فالأزل المحمدي هو الأزل الإلهي. وبغض النظر عن التجريد الكامل هنا لشخصية محمد التاريخية، فإنها تعبّر في لغة التصوف عن واقعية مثالها المطلق باعتباره مثال الشخصية الصوفية.
أما الكتابات الصوفية المتأخرة عن النبي محمد، فقد كانت في اغلبها ابتذالا للمفاهيم الصوفية الأولية واجترارا فارغا خصوصا في كتابات المواليد النبوية، التي تخضع للسجع المفرط "لحبيب ربها العظيم". ومع ذلك لم يعن انتشار التصورات والنظم الصوفية سيادتها الكاملة في هذا الميدان. لقد شغلت دون شك حيزا كبيرا في الوعي الاجتماعي العادي، واختلف تأثيرها عن تأثير المدارس التقليدية السلفية في الموقف من الشخصية النبوية والتاريخية لمحمد. وتعرضت في نفس الوقت إلى هجوم تتراوح آثاره عليها من وقت لآخر. والتاريخ (بما في ذلك المعاصر) يكشف عن التوجه الدائم لاستعادة الصورة التاريخية للشخصية المحمدية من خلال محاولاتها الربط "الصحيح" للمعقول والمنقول، والسلف والمعاصرة في النظر إلى النبي محمد. ومن الممكن اعتبار ابن تيمية الحراني نموذجا جليا في هذا المجال.


النبي محمد في مراحل الانحطاط والسقوط الثقافي

استطاع ابن تيمية الدخول من جديد معترك الحياة السياسية في القرن الثامن عشر على يد الحركة الوهابية. وفي نفس الوقت استطاعت التقاليد الصوفية والشيعية توليد تيارات جديدة مثل البابية في القرن التاسع عشر. واستمدت الوهابية والبابية "حقيقة" الشخصية المحمدية من حصيلة التقاليد الإسلامية الفكرية السياسية السابقة. الأولى من خلال التوظيف المباشر للتقاليد الحنبلية، والثانية من خلال مزج التقاليد الصوفية والشيعية. لهذا جرى استعادة مظهر النبي محمد في الوهابية، وصورته المتخيلة في البابية.
وبغض النظر عن انعزال تقاليد هذين التيارين عن بعضهما البعض آنذاك، بل واحترابهما النسبي (بما في ذلك ما قبل ابن تيمية واستمراره ما بعد محمد بن عبد الوهاب)، فان الوهابية استطاعت أن تؤثر بصورة غير مباشرة على الحركة البابية. ولكنه تأثير خارجي لا علاقة له بتقاليد التشيع ونموه وتطوره وصراعاته الداخلية الفكرية الحديثة والمعاصرة. لهذا واجه كل منهما مصيره الخاص بما في ذلك في تنظيره وتجسيده لمثال الشخصية المحمدية.
انطلق محمد بن عبد الوهاب من الفكرة القائلة بأن محمد رسول الله وأن القرآن كتاب الله، وبالتالي لا شفاعة ولا واسطة بين الله والإنسان. وهو موقف حاول استعادت النموذج التاريخي العملي المباشر للنبي محمد عبر تحويله إلى معيار مباشر في ممارسات الوهابية الأولى. واتخذ ذلك مظهر ربط الإيمان المباشر به وبنبوته والعمل به والدعوة إليه والصبر على الأذى، أي استعادت الوسائل نفسها التي مارسها النبي محمد في صراعه ضد العرب الوثنية. ذلك يعني، إن المثال المحمدي يكتسب صيغته الشرعية الفعلية حالما يصبح مثالا للعمل من اجل التوحيد. ويصبح الصراع كما كان قبل ألف عام، صراع المسلمين ضد الكفار. لهذا طالب محمد بن عبد الوهاب أتباعه بالهجرة من بلد الشرك إلى بلد الإسلام. ولهذا السبب أيضا وجّه مساعيه، متتبعا ابن تيمية، في محاربته زيارة القبور والأضرحة. رغم أن ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب، لم يعارضا زيارة قبر النبي محمد وحج الكعبة، كما سيتهمهما به النقد المتحزب. لقد وقفا ضد زيارة الشفاعة والترجي والتوسل والتبرك. ولم يفعلا في الواقع، سوى أنهما تتبعا الصيغة التقليدية المباشرة لبعض أعمال النبي محمد. فقد سبق للنبي محمد وإن أدان بناء القبور الضخمة وزيارتها. واستند محمد بن عبد الوهاب إلى هذه الممارسة، وإلى الفكرة القرآنية القائلة بأن "المساجد لله فلا تدعو مع الله أحدا". وكتب في (كشف الشبهات في التوحيد) على أن التقّرب والاعتقاد لله فقط، لا يصح منه شيء لا لملك مقرب ولا لنبي مرسل فضلا عن غيرهما. وليس من الصعب إدراك المضمون الاجتماعي الفعال آنذاك لهذه الفكرة، التي كانت موجهة ضد صوفية العوام وضد الاستبداد البشري. فقد كانت ترمي هذه الفكرة موضوعيا إلى استعادت نموذج الاعتدال المحمدي. فدين الله، هو "وسط بين طرفين وهدى بين ضلالتين وحق بين باطلين"، كما يقول محمد بن عبد الوهاب. فالتقرب من الأنبياء والأولياء والملائكة أو من الحجارة والعصا أفعال يكمل أحدهما الآخر. أما أهل زمانه "فيدعون مع الله اناسا من افسق الناس". لهذا السبب وجد نفسه مضطرا لمحاربة التقية، ومن ثم تطويع الشخصية المحمدية للدرجة التي تصبح شبيهة بمثال الخوارج. فهو لم يستشهد بفكرة "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه…"، بل عمل بفكرة إن التوحيد لا بد أن يكون بالقلب واللسان والعمل. فإن اختل شيء من هذا لم يكن الرجل مسلما. إذ لم يبحث محمد بن عبد الوهاب عن ترتيب في الفعل، ولا عن ثغرة للتقية، بل عن وحدة الشخصية في العمل، التي وجد في النبي محمد مثالها الأول (الإسلامي). لذا بدت هذه الفكرة في أعين التقليديين المتحجرين آنذاك جديدة. وليس مصادفة أن يتهم زورا في الانتقادات الموجهة ضده حينذاك بتلفيق حكايات عن ولعه بتاريخ من ادعى النبوة كمسيلمة الكذاب والأسود العنسي وطليحة وغيرهم. ووضعوا بينه وبين مسيلمة علامة المساواة بل لم يتورعوا من وضع حديث يقول: "سيخرج في ثاني عشر قرنا في وادي بني حنيفة رجل كهيئة الثور ولا يزال يلعق براطمه… يستحلون أموال المسلمين".
أفلحت الوهابية في بعث الشخصية السياسية للنبي محمد. وهو أيضا سبب سلوكها التقليدي "المحترف". وفي هذا التناقض كمنت إمكانية تحولها إلى حافز سياسي لحركات كثيرة حاولت استمداد مثال الشخصية المحمدية. لكنه استمداد حددت طابعه وأسلوبه أيضا التقاليد الفكرية الثقافية والاجتماعية السياسية. ولعل البابية أحد هذه النماذج الأصيلة في هذا الميدان. فقد حاول الباب (ميرزه علي محمد) تجسيد الفكرة العميقة التي أبدعها الفكر الصوفي، وبالأخص في مدرسة ابن عربي عن الكلمة المحمدية ومثالها المطلق. فتجلي الكلمة الإلهية المطلقة في الأنبياء لا يعرف نهاية ما زالت الصورة الجامعة لها قائمة في الإنسان الكامل. لذا حاول أن يجعل من "الباب" و"البيان" محمدا الشيعي وقرآنه المعاصر. فالشخصية المحمدية لا تنسخ هنا، بل تتجدد بثوب جديد، كما سبق لعبد الكريم الجيلي إن قال به في (الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل). بمعنى صيغة تجليه الروحي الحق وليس الجسدي.
دفعت البابية شخصية محمد الكفاحية بأسلوب يشابه شخصيته السنية الحنبلية في الوهابية. فالدرعية هي "مدينة" الوهابية، ومازندران هي "كربلاء" البابية. وعوضا عن قيادة النبي محمد تظهر قيادة الوهابية والبابية، وعوضا عن "أمة محمد" تظهر "أمة محمد الحقة" في الوهابية و"مملكة الفقراء" في البابية. إلا أن الهزيمة العسكرية التي منيت بها البابية قد أغلقت الباب برتاج البهائية! حينذاك جرى تذويب الشخصية المحمدية فأصبحت غائبة في وعي الروح المطلق. ولم تعد النبوة بنظر البهائية سوى "مرآة تنبئ عن الفيض الإلهي والتجلي الرحماني، التي انطبعت فيها أشعة ساطعة من شمس الحقيقة". أما النبي فهو "الفرد الكامل والفيض الشامل والنور الباهر، انه مرآة صافية لطيفة منطبعة فيها الصور العالية، تنبئ عن شمس الحقيقة وتفيض بها على سائر الأمم". أنها النبوة التي أراد مؤسس البهائية، بهاء الدين (ميرزا حسين علي بن ميرزا عباس) تنفيذها، ولكن في نموذج طوباوي كوسموبوليتي.


النبي محمد في التأليف الحديث
ومع تخوم القرنين التاسع عشر والعشرين، بعد أن تعرض العالم الإسلامي لهزيمة تاريخية حضارية أمام الغرب الأوربي، لم يعد النظر بالشخصية المحمدية قضية دينية خالصة أو تأمل لاهوتي أو تكرار عقائدي ممل. ولم يعد تأثيرها أسير "علماء الدين"، بل تعداه إلى الميدان الواقعي، ولحد ما الحقيقي لنشاط النبي محمد. وأخذ مثال النبي محمد يشمل بتأثيره مختلف المذاهب الفكرية السياسية. ولكنه تأثير يجري في ظروف معاصرة. مما حدد بدوره ظهور توليفات فكرية متنوعة تجمعها في الأغلب ميتافيزيقية الشخصية المحمدية. فإذا كانت نماذج القرون الخوالي هي الصياغات الفكرية العقائدية والدينية الأيديولوجية و"التاريخية" عن محمد، فإن مثيلاتها المعاصرة عادة ما تسبغ عليه روح الماضي بلباس الحاضر. وهو أمر لا يجعلها كبيرة الاختلاف عن سابقاتها من حيث تمثيلها واستمرارها بتقاليد الماضي الضيقة، أي أنها لم تتعلم ولم تتقن بعد تذويبه الحقيقي في الوعي المعاصر وإشكالاته الجوهرية ومهماته العملية الكبرى.

الأساس النظري لكتابي (محمد رسول الإرادة).
اما كتابي هذا فيختلف بدوره عما اشرت إليه، رغم انه ينتمي الى وحدة الرؤية النقدية والمنهج الفلسفي. انه يجمع بين الرؤية التاريخية الواقعية، والنقدية العقلية، والنظرية الفلسفية. وبالتالي، فهو الكتاب الأول في الثقافة العربية والإسلامية في كيفية تناوله لشخصية محمد، والشخصية المحمدية، والنبي محمد والنبوة المحمدية، والرسول والرسالة الإسلامية. أما لماذا يحمل عنوان (رسول الإرادة)، فلأنه يستند الى فلسفتي التاريخية الثقافية، وبالأخص ما له علاقة بفكرتي المنهجية عما ادعوه بالمسار التاريخي ومنطق الثقافة والاحتمال العقلاني للبدائل. والمقصود بالمسار التاريخي هنا هو مسار التاريخ الطبيعي الذي يمر ويتحقق بمراحل سبع أساسية، الثلاثة الأولى "طبيعية" صرف، والرابعة والخامسة بينية، بينما (السادسة والسابعة) "ماوراطبيعية". وهي كما يلي:
• المرحلة الاثنية – الثقافية؛
• المرحلة الثقافية – الدينية؛
• المرحلة الدينية – السياسية؛
• المرحلة السياسية – الاقتصادية؛
• المرحلة الاقتصادية- الحقوقية؛
• المرحلة الحقوقية – الأخلاقية؛
• المرحلة الأخلاقية - العلمية.....
إن جميع هذه المراحل انتقالية، بمعنى أن التاريخ عملية مستمرة تحتوي على احتمالات متنوعة من الصعود والهبوط، لكنها لا تنفي مضمون القانون الطبيعي للتاريخ، بل تؤكده بوصفه احتمالا عقليا وإرادة حرة.
فالتاريخ الانساني هو تاريخ وعيه الثقافي ومن ثم تاريخ البدائل المرتبطة به، أي تلك التي تتبلور في مجرى ما اسميته بقانون التاريخ ومنطق الثقافة. أما قانون الثقافة فيجري من خلال فعل ونتائج أربع ثنائيات كبرى هي كل من:
• التشاؤم والتفاؤل،
• والفعل والخمول،
• والنفي والإيجاب،
• والعقل والوجدان،
إن تحقيق الانتقال من مرحلة إلى أخرى يجري بأثر فعل هذه الثنائيات وكيفية حلها لإشكاليات الوجود الطبيعي والماوراطبيعي على مستوى الفرد والجماعة والأمة والدولة. ومن خلال هذه المكونات تجري رؤية الماضي والمستقبل. وبأثرها تتبلور معالم الرؤية النظرية والعملية عن الحاضر. ومن هذه المعالم تتولد بدايات الثقافة والحضارة المدركة بمعايير البدائل، أي كل ما يساهم في تكامل واكتمال التاريخ الذاتي. وذلك لان الرؤية المستندة إلى فكرة البديل، تفترض في تناقض التفاؤل والتشاؤم، والفعالية والخمول، والنفي والإيجاب، والعقل والوجدان، وحدتها بوصفها منظومة متكاملة للبدائل. ومن تعامل هذه المكونات (الثنائيات) النظرية والعملية مع الماضي والمستقبل يتبلور أسلوب وجود الحضارات وثقافاتها. وعادة ما يجري ذلك من خلال تحديد وتفاعل اتجاه التفاؤل، وفاعلية الإرادة، وكيفية النفي، ومضمون العقل.
أما المرحلة الدينية – السياسية (المرحلة الثالثة)، فهي المرحلة التي يجري فيها تحول الفكرة الدينية إلى الوعاء الأكبر للفكر ة الثقافية عبر دمجها بالفكرة السياسية. الأمر الذي يجعل من الفكرة السياسية فكرة شاملة لكل مرافق الوجود الطبيعي والماوراطبيعي للفرد والجماعة والأمة والدولة. ومن ثم إنزال الفكرة إلى ميدان الإحساس والمادة. بمعنى استكمال دورة الوجود الطبيعي – الماوراطبيعي- الطبيعي. بحيث يتحول الواحد إلى قطب الوجود، ومن ثم إبداع المرجعيات المتكاملة في وحدة الفرد والجماعة والأمة، والثقافة والقيم، والدولة ونظامها السياسي. وهي المرحلة الأكثر تعقيدا من حيث البناء والاستمرار، وذلك لأنها تتوج مسار التاريخ الطبيعي عبر ربطه الكامل والشامل بالوجود الماوراطبيعي. وفيها فقط تتراكم قيم المطلق والمقدس والأبدي وأولويته لتصهر فيه كل القيم والمبادئ النظرية والعملية. كما أنها مرحلة صنع الأمة الثقافية والحضارة "الكونية". ومثالها في صيرورة وبقاء الحضارة النصرانية، والحضارة الإسلامية. وهي حضارات لا تنفي وجود "الأمة المحورية"، بل تذّوبها في "الأمة الثقافية" الجامعة. ولكل حضارة من هذا النوع صيرورته الخاصة المترتبة على كيفية تراكم "منطقها الثقافي" في مجرى حل إشكاليات الوجود الطبيعي والماوراطبيعي وتحقيقها عبر نوعية اتجاه التفاؤل، وفاعلية الإرادة، وكيفية النفي، ومضمون العقل.
إن المرحلة الدينية السياسية هي المرحلة الأكثر ديناميكية والأكثر عصية بالنسبة للمسار التاريخي للأمم. وذلك لأنها تمثل المرحلة التاريخية الثقافية الأولية الكبرى للانتقال إلى فكرة الواحد والوحدة والاحدية في كافة مستويات وميادين الوجود الطبيعي والماوراطبيعي للفرد والجماعة والأمة والدولة والثقافة، مع ما يترتب عليه بالضرورة من بلورة مرجعيات قادرة على تذليل التفرقة والتشتت والشرذمة والوجود الساري بهيئة زمن الوجود والعدم. وخلافا لما قبلها، والتي عادة ما تربط بدايتها وصيرورتها بأساطير شتى، فان قيادة التحول التاريخي صوب المرحلة الدينية السياسية عادة ما يرتبط بشخصيات تحتوي على وحدة ومرجعية الطبيعي والماوراطبيعي، الإنساني و"الإلهي". من هنا بروز فكرة وشخصية النبي والنبوة، أي تلك القوة القادرة على صنع مرجعيات توحد فيها كل مكونات الوجود بوصفه منظومة "إلهية" و"مقدسة". وبالتالي تذلل تقاليد العنف والبطش في توحيد الأمم والاستعاضة عنه بقوة المثال والنموذج "المقدس". بمعنى أنها تنزع صوب التوحيد المتجانس بين الجسد والروح، الله والإنسان، العابر والأبدي، أي تحتوي على عناصر التقديس المبطن لما فيها، بوصفها القوة الظاهرة والباطنة لتوحيد الفرد والجماعة في أمة.
كل ذلك جعل من المرحلة الدينية السياسية (الثالثة) إبداعا هائلا بمعايير التوحيد والوحدة، ومن ثم صنع الهموم المشتركة والإبداع المشترك، بوصفه صراعا حادا أيضا. وشأنها شأن كل مرحلة تاريخية ثقافية كبرى تتسم بالتنوع. ومن ثم تتوقف خصوصيتها، التي تبلور لاحقا خصوصية الثقافة والحضارة، على كيفية صيرورة مرجعياتها المتسامية ونظامها العملي. فقد اتخذت في أوربا النصرانية هيئة الكنيسة الواحدة والوحدة، أي الصانعة للوحدة الروحية والجسدية والقيم. بينما اتخذت في الصيرورة الإسلامية وحضارتها قوة الله الواحد والجماعة والأمة والأصول الكبرى. (وشرح كل ذلك على نموذج النبي محمد في متن الكتاب نفسه....) (انتهى).
***







#ميثم_الجنابي (هاشتاغ)       Maythem_Al-janabi#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تحليل ونقد تجارب الثورة والإصلاح في روسيا(5)
- تحليل ونقد تجارب الثورة والإصلاح في روسيا (4)
- تحليل ونقد تجارب الثورة والإصلاح في روسيا (3)
- تحليل ونقد تجارب الثورة والإصلاح في روسيا (2)
- تحليل ونقد تجارب الإصلاح والثورة في روسيا (1)
- الهوية وإشكاليات المرجعية الثقافية في روسيا(3)
- الهوية وإشكاليات المرجعية الثقافية في روسيا (2)
- الهوية وإشكاليات المرجعية الثقافية في روسيا(1)
- أثر المرجعيات الثقافية في المصير التاريخي للأمم
- نقد تقاليد الاستبداد في الثقافة السياسية العربية - على مثال ...
- نقد تقاليد الاستبداد في الثقافة السياسية العربية(3) على مثال ...
- نقد تقاليد الاستبداد في الثقافة السياسية العربية(2) على مثال ...
- نقد تقاليد الاستبداد في الثقافة السياسية العربية(1)
- داوود الطائي- شخصية ومصير
- سفيان الثوري- شخصية ومصير(3-3)
- سفيان الثوري- شخصية ومصير (2-3)
- سفيان الثوري – شخصية ومصير (1-3)
- الحركة الصدرية والمستقبل: من الطائفة إلى الأمة، ومن المدينة ...
- أيديولوجيا الحركة الصدرية – اللاهوت الشيعي والناسوت العراقي
- الحركة الصدرية - الأنا والتاريخ أو اليوطوبيا والمستقبل


المزيد.....




- حادثة طعن دامية في حي سكني بأمريكا تسفر عن 4 قتلى و7 جرحى
- صواريخ -حزب الله- تضرب صباحا مستوطنتين إسرائيليتن وتسهتدف مس ...
- عباس يمنح الثقة للتشكيلة الجديدة للحكومة
- من شولا كوهين إلى إم كامل، كيف تجمع إسرائيل معلوماتها من لبن ...
- فيديو:البحرية الكولومبية تصادر 3 أطنان من الكوكايين في البحر ...
- شجار جماعي عنيف في مطار باريس إثر ترحيل ناشط كردي إلى تركيا ...
- شاهد: محققون على متن سفينة دالي التي أسقطت جسر بالتيمور
- لافروف: لن يكون من الضروري الاعتراف بشرعية زيلينسكي كرئيس بع ...
- القاهرة.. مائدة إفطار تضم آلاف المصريين
- زيلينسكي: قواتنا ليست جاهزة للدفاع عن نفسها ضد أي هجوم روسي ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - ميثم الجنابي - محمد رسول الإرادة