أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - حقوق الانسان - حازم نهار - حقوق الإنسان والسياسة















المزيد.....


حقوق الإنسان والسياسة


حازم نهار

الحوار المتمدن-العدد: 432 - 2003 / 3 / 22 - 03:25
المحور: حقوق الانسان
    


إشكالات حركة حقوق الإنسان في المنطقة العربية
(حقوق الإنسان والسياسة)
الخميس 20 مارس 2003 01:25
د.حازم نهار
 

أولاً: أهمية العمل النظري في حركة حقوق الإنسان:
لقد استطاعت حركات حقوق الإنسان في المنطقة العربية أن تؤكد وجودها كأحد المعالم الرئيسة في الحياة السياسية والثقافية العربية، فقد تجاوزت لحظة التأسيس والتكوين إلى مراحل أكثر تطوراً وتعقيداً في نشاطها وعملها، كما أن الفكر السياسي العربي تبنى العديد من مبادئ حقوق الإنسان، ولا زال في تطور مستمر على الرغم من الجدالات غير المثمرة بين «السياسي» و«الحقوقي»، لكن على أقل تقدير باتت المعارضة الجذرية إزاء مبادئ وقيم حقوق الإنسان ضعيفة.
حركة حقوق الإنسان اليوم في ظل الظروف العربية والعالمية الجديدة، وفي ظل المتاعب العديدة التي تعانيها  بعض منظمات هذه الحركة (الداخلية والخارجية)، بحاجة إلى قوة دفع جديدة تستند إلى العمل في اتجاهين متلازمين، أولهما على الصعيد النظري الذي يتمثل بضرورة إيضاح وتثبيت رؤى متوازنة بخصوص العديد من القضايا الحيوية، كعلاقة حقوق الإنسان بالسياسة، وجدل العالمية والخصوصية في مجال حقوق الإنسان، وغيرها. وثانيهما: على الصعيد العملي الذي يتمثل بأهمية إبداع وسائل وأساليب عمل جديدة ومتسقة مع مبادئ حقوق الإنسان، ومتناغمة مع تغيرات الواقع المحلي والعالمي.
من المهم لمنظمات حقوق الإنسان أن تمعن التفكير على الدوام في الإطار المفاهيمي الذي تستند إليه في عملها ونشاطها لكي يمكنها الاستجابة لعالم دائم التغيير، خاصة وأن المفاهيم النظرية المختلفة، لا بد وأن تؤدي إلى اختلاف وسائل وأساليب العمل وتصادمها، فضلاً عن أن فاعلية حركة حقوق الإنسان تعتمد أساساً على خطابها وقدرتها على توصيل المبادئ و القناعات بأسلوب مقنع للحكومات والحركة السياسية والمجتمع المدني والرأي العام في مجمله.
تعتبر قضية العلاقة بين «السياسة» و«حقوق الإنسان» على الصعيد النظري، وما يرتبط بها على الصعيد العملي من محاولات لتسييس حركات حقوق الإنسان أو عزلها عن التدخل في الشأن السياسي، إحدى اكبر المشاكل التي تواجه هذه الحركات في المنطقة العربية، وتعود جذور هذه المشكلة إلى ظروف نشأة هذه الحركات التي اعتمدت أساسا على العاملين في الحقل السياسي العام (الأحزاب السياسية)، بسبب ضعف العمل المدني في المجتمعات العربية، كما تعود إلى الاختلاف البيِّن في طبيعة المجتمعات العربية عن المجتمعات الغربية . هذه المشكلة تعود للظهور دائماً بحكم مستجدات الظرف السياسي في معظم الدول العربية، فالأحداث السياسية والمواقف المختلفة إزاءها تصعّد التوتر مابين السياسي – الحقوقي، ولا شك أن ذلك يكمن أساساً في الاختلاف على الصعيد النظري إزاء العلاقة ما بين «السياسة» و«حقوق الإنسان»، والذي أدى، أو قد يؤدي، في بعض اللحظات السياسية لآثار مدمرة على حركات حقوق الإنسان.
 
ثانياً- مشكلة «الثنائيات»، والعلاقة بين حقوق الإنسان والسياسة:
يُصرُّ العديد من دعاة حقوق الإنسان في المنطقة العربية على الفصل المطلق والحدي بين «حقوق الإنسان» و«السياسة»، وبالمقابل تتوجه أحزاب سياسية عديدة (سواء في السلطات أو المعارضة) نحو محاولات إلحاق الأحزاب السياسية بها، وفي اعتقادي أن الرؤيتين تعبران عن ضيق أفق، وعن خلل في فهم تلك العلاقة على المستوى النظري.
من جديد تبرز مشكلة «الثنائيات» في فهم العلاقة بين «السياسة» و«حقوق الإنسان»، إنها المشكلة ذاتها التي حكمت الفكر العربي الإسلامي بدءاً من عصر النهضة، والذي يزخر بالعديد منها، كثنائية الأصالة – المعاصرة، وثنائية العلم – الإيمان، والعقل – النقل، وغيرها.
لقد تحولت تلك الثنائيات إلى معيق حقيقي لتقدم فكرنا، بحكم الرؤى والتصورات التي يتم طرحها حولها، والتي تستند إلى المنهج ذاته على الرغم من اختلاف الرؤية والتوجه والهدف، فهذه الرؤى إما أن تتطرف في أحد طرفي العلاقة منكرة وجود الطرف الآخر، أو تتجه نحو «التوفيق» بأسلوب انتقائي يكتنفه الغموض ولا يمكن تحقيق استفادة عملية حقيقية منه.
الأمر نفسه يتكرر في فهم العلاقة بين «السياسة» و«حقوق الإنسان» بما يدلل على أننا ما زلنا ننظر للعالم والأشياء والبشر من خلال المنهج التقليدي ذاته، ولم نتملك بعد عقلاً جديداً، على الرغم من التباين الظاهري.
نكاد نبصر مثلاً، عبر ملامح العديد من دعاة حقوق الإنسان، نفورهم الشديد من «السياسة» لمجرد لفظ الكلمة، بما يوحي لنا بتواصل فاعلية وتأثير ثنائية ( المقدس – المدنس ) في العقول والخيارات، فالسياسة توازي المدنّس، وحقوق الإنسان توازي المقدس في هذه الثنائية . هذا يوضح لنا أن «العقل التقليدي» سواء كان ضمن حركة حقوق الإنسان أم في الأحزاب السياسية، فإنه سينتج الكوارث والمهازل ذاتها على صعيد الخطاب والممارسة العملية.
«السياسة» بما هي مجمل ما يتعلق تفكيراً وممارسة بالشأن العام،  كالهواء الذي يحيط بنا ونتحرك داخله، فهي عامل ملتحم ووثيق الصلة بكل مظاهر وتجليات وأشكال الفعل الإنساني، سواء أحببنا ذلك أم كرهناه.
«حقوق الإنسان» بما هي مقاومة لكل ظواهر الاستبداد في جميع المستويات والأماكن (الحقوق المدنية والسياسية) ومقاومة لكل أشكال الظلم الاجتماعية (الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية)، هي شكل جديد من أشكال الممارسة السياسية . وبالتالي فإن تباين حركة حقوق الإنسان عن الأحزاب السياسية، ليس في كون هذه الأخيرة تمارس السياسة بينما تترفع حركة حقوق الإنسان على هذا «الدنس»، وإنما في تفاعلها بأشكال جديدة مع الشأن السياسي، فالهدف الجوهري لأية حركة حقوقية هو تقييد أداء «القوة السياسية» بكافة مستوياتها و مصادرها , بإلزامها بالاعتبارات والمعايير الإنسانية، وهذا النشاط هو فعل سياسي . لكن تختلف هذه الحركة عن الأحزاب السياسية في هذه النقطة، بأنها تضع نفسها خارج السلطة السياسية ولا تسعى إليها، بينما مبرر وجود «الحزب السياسي» هو امتلاكه لبرنامج سياسي، يسعى لتطبيقه من خلال ممارسة «السلطة السياسية» أو المشاركة فيها.
 
ثالثاً- النشاط الحقوقي والعمل الحزبي:
إن جوهر فكرتي، في هذا المجال، يتمثل في أن النشاطين المدني (ومن ضمنه الحقوقي) والسياسي (الحزبي) مترابطان ويعتمدان على بعضهما بعضاً، على الرغم بالطبع من كونهما قابلين للفصل أو التمييز إلى مجالين مختلفين بدرجة معينة، أي أن ثمة ربطاً وفصلاً بين الحيزين المدني والسياسي، وبدون هذا الفهم لا أعتقد أن العلاقة بينهما يمكن أن تستقيم.
لكن لنأخذ أولاً الرؤية السائدة لدى غالبية نشطاء حقوق الإنسان إزاء العلاقة بين الحيزين:
لا شك أن النفور الشديد من «السياسة» داخل الحيز المدني (ومن ضمنه حركة حقوق الإنسان) ناجم عن خلط دائم بين السياسي والحزبي، بما يؤدي آلياً إلى إضفاء صبغة سلبية على كل ما هو سياسي بالمفهوم العام، نظراً لما يعاب على العمل الحزبي من ميكيافيلية وانهماك بـ «الحرتقات» الحزبية.
على الرغم من «الصحة» النسبية لعيوب العمل الحزبي، إلا أن ذلك لا يشكل مبرراً للتطرف وتصدير رؤى اختزالية تكثف «السياسة» في «الحزب السياسي» من جهة، ومن جهة أخرى لا يمكن طرح عيوب العمل الحزبي بطريقة توحي بتبرئة الذات (أي الحركة الحقوقية) من العيوب ذاتها، فالمشكلة الأساسية في «العقل» الذي يرى ويسمع ويتصرف، سواء وجد ضمن الأحزاب السياسية أم داخل حركة حقوق الإنسان.
من سمات هذا «العقل» المعيق: «الانغلاق» في مقابل «الانفتاح»، و«المرونة» مقابل «النظام الصارم والحدية والتطرف»، و«الفردية» في مقابل «العمل الجماعي والمؤسسات»، والتطرف في أحد اتجاهي أسلوب العمل، أي بين المركزية والديمقراطية، والتطرف في إعلاء شأن الجماعة لصالح إلغاء التمايزات الفردية.. إلخ .
 في الحقيقة يمكن أن نعد الكثير من العيوب في العمل المؤسساتي للأحزاب والجمعيات المدنية وغيرها، إلا أنه من الجدير بنا تثبيت هذه العيوب بوصفها تلامس الجميع، وليس طرفاً دون آخر، فهي ابنة «العقل» التقليدي عموماً وليست بنتاً لشكل محدد من العمل المؤسساتي . بالتالي يصدق هنا التمييز بين عقول الأفراد (سواء كانوا ضمن الأحزاب أم الجمعيات المدنية) أكثر من التمييز بين رؤية ونواظم عمل المؤسسات . من جانب آخر فإن «الانتماء» ليس المحدد الوحيد في طبيعة العقل، فانتماء فرد ما لحزب أو جمعية مدنية ما، لا يعني اكتسابه نمطاً في التفكير منسجماً أو موازياًُ لما هو موجود في المؤسسة أو في شعاراتها، أي أن هذا «الانتماء» ليس مجالاً للتفاخر والذم، أو لاكتساب إيجابيات المؤسسة أو سلبياتها. فقد يكون المرء منتمياً لطائفة معينة، لكنه ليس طائفياً، وقد ينتمي لحركة حقوقية (لكن ذلك لا يعني البراءة سلفاً)، وقد ينتمي لحزب سياسي (وهذا لا يعني الدناسة سلفاً)، وقد ينتمي لقومية معينة (لكن لا يجوز رميه بالتعصب مباشرة). باختصار، إنها مشكلة «العقل» التقليدي وطبيعة «الثقافة السائدة» قبل أن تكون شيئاً آخر.
هذا التوضيح لا يمنع كون حركة حقوق الإنسان تسعى إلى «التباين» عن الأحزاب السياسية، بل هو فضلاً عن كونه حقاً لها، فإنه أحد واجباتها الأساسية، لكن من الضروري أن تبدع في التقاط وتفعيل تمايزاتها عن الأحزاب بشكل إيجابي ومثمر. أي أن «الأمراض الواحدة» المصابة بها جميع أحزابنا ومؤسساتنا وجمعياتنا الأهلية، لا يعني الركون إليها والتسليم بها، إذ من حق الجميع و واجبهم البحث عن تمايزاتهم ووسائلهم في التخلص من تلك الأمراض . لكن من المهم انطلاق الجميع من إدراك سليم للعلاقة الجدلية بين «المدني» و«السياسي – الحزبي»، وهو أمر يحتم إحداث تراكم في أي منهما من أجل تنمية التراكم في المجال الآخر، أي الانطلاق من ضرورة وجود كلا الحيزين على أرض الواقع، فحركة حقوق الإنسان (والنشاط المدني عموماً) لا يمكن أن تحل محل الفعاليات الحزبية، وفي الوقت ذاته يستحيل أن تحقق وثبات كبيرة إلى الأمام في أي من مجالات الحقوق إلا من خلال تنشيط هذه الفعاليات، وبالمقابل فإن الأحزاب السياسية لا تتفعّل وتغتني وتتطور إلا بوجود مجتمع مدني فاعل ونشط.
لنأخذ ثانياً: ما هو سائد من ممارسات سياسية وحزبية إزاء حركة حقوق الإنسان في المنطقة العربية: لقد جرت محاولات عديدة في المنطقة العربية لتسييس (أو بالأحرى لتحزيب) حركات حقوق الإنسان، وكانت محصلة هذه المحاولات في المآل الخير، تفجير هذه الحركات من داخلها، بسبب حتمية اصطدام مناهج عمل سياسية متباينة. وقد حدث في أكثر من بلد عربي تنافس بين التيارات السياسية على السيطرة على منظمة حقوقية ما، عن طريق حشد أنصارها بين عضوية المنظمة، وهو توجه يعبّر فيما يعبِّر عن ضيق الأفق وعدم إدراك أهمية دعم حركة حقوق الإنسان في المحافظة على الحيدة السياسية . ما يضر أيضاً بهذه الحركة هو اتجاهها بمحض إرادتها أو بسبب الضغوط عليها، نحو الانقسامية والحسابات السياسية التكتيكية والمؤقتة، كأن تتم تشكيلاتها (كما حدث في بعض المنظمات العربية) على أساس «المحاصصة»، أي بناء على نظام لاقتسام المقاعد في الهيئات القيادية بين الاتجاهات السياسية الحزبية المختلفة، لتكون المنظمة الحقوقية بالتالي في حالة من الحيطة الدائمة والتوجس المستمر والحسابات والتوازنات السياسية، وهو ما يؤدي بالضرورة إلى اختلال نشاط المنظمة وإضعاف استقلاليتها، ففي بعض البلدان (كلبنان مثلاً) وصلت الأمور إلى حد الانقسامات على أسس طائفية، إلى جانب الانقسامات السياسية كمبرر لتعدد منظمات حقوق الإنسان، الأمر الذي نعتقد أنه سيشرذم الحركة الحقوقية في أي بلد ويلغي فاعليتها.
على الحركة الحقوقية أن تتنبه جيداً لهذا الأمر، لكن دون أن تتطرف في فهم «الاستقلالية»، أي لا بد لها أن تبدع في ابتكار آليات عمل وقائية تجاه عمليات التسييس الممكن حدوثها، لكن دون الإفراط في التوجس.
ثمة تأثير سلبي آخر لانتماء الأعضاء الحزبيين لمنظمات حقوقية، يتمثل في المستوى المنخفض نسبياً لالتزامهم بالعمل الحقوقي مقارنة بقوة التزامهم السياسي، وهنا نقول، على العموم، لن يكون مجدياً من أجل كسب «العزوة» من قبل المنظمات الحقوقية، الاكتفاء بأعضاء متعاطفين بوجه عام (سواء أكانوا من داخل الأحزاب أو خارجها) مع فكرة حقوق الإنسان مهما كانت ضبابية وغائمة في أذهانهم، وبالمقابل يصعب القول بضرورة أو حتى بإمكانية التحكم الصارم في العضوية، لذلك تبقى مهمة البحث عن آليات ونواظم عمل وقائية، تجاه الأزمات المحتملة، على جدول أعمال حركة حقوق الإنسان.
 
رابعاً: الخطاب الحقوقي والخطاب السياسي – الحزبي:
لكل من المجالين الحقوقي والحزبي، على العموم، خصائص مختلفة (لا تشكل بطبيعة الحال ميزات لأي منهما على الآخر)، وذلك على الرغم كما أسلفنا من الروابط العميقة بينهما.
هذه الخصائص المختلفة للحركة الحقوقية نتمنى أن تتجسد واقعياً بشكل إيجابي وخلاق . فالحقوقي مثلاً لا يفاضل بين الحقوق ولا يضحي بإحداها لحساب الأخرى، كما لا يضحي بحقوق فئة ما من البشر لصالح أخرى، بينما السياسي – الحزبي (كما هو سائد) قد يقوم أحياناً بدور لا يتسق مع المثل الحقوقية والديمقراطية، إما بسبب تكتيكات سياسية أو أحياناً لطبيعة الأيديولوجية المحمولة.
كذلك فالخطاب الحقوقي السوي يختلف عن الخطاب السياسي الحزبي، في أنه ليس دعوة خاصة بمصالح معينة أو سياسات محددة، أو اختيارات خاصة في مجال النظم الاقتصادية والاجتماعية، وإنما هو دعوة تنظم وتؤنسن حقل الممارسة السياسية والاجتماعية بغض النظر عن الخيارات، ويضع حدوداً صارمة (بناء على الحدود التي اتفقت عليها البشرية في الشرعة الدولية) على كيفية ممارسة الصراع الاجتماعي (بشقيه السياسي والاقتصادي)، كما أنه لا يدعو لمصلحة حزب أو طبقة ما دون أخرى، لكنه يُلزم نفسه بالخيارات والمصالح الوطنية العليا. ولهذا يصعب القول أو التصور بأن تصبح «حقوق الإنسان» و«المبادئ الديمقراطية» أيديولوجيا لطبقة أو حزب أو فئة ما، وإنما هي إطار عقلاني في آن معاً لكل الممارسات والنضالات والأيديولوجيات على اختلاف تلاوينها وتوجهاتها.
هنا يجب الإشارة إلى أنه من الضروري عدم تقويض خطاب حقوق الإنسان، عن طريق تبني خطاب يستند إلى «موقف سياسي» ما في لحظة ما. فالأساسي هو الاستناد إلى مبادئ وقيم حقوق الإنسان لدى ملامسة القضايا السياسية، دون الاندراج في موقف سياسي مباشر. كذلك من المهم عدم قيام «المسيَّسين» في حركة حقوق الإنسان بصبغ مبادئ وقيم حقوق الإنسان بأفكارهم وتراثهم الحزبي الخاص.
للتأكيد على الشمولية (بمعناها الإيجابي) الضرورية لخطاب حقوق الإنسان، يكفي أن نستذكر ما حدث في أزمة الخليج 1990-1991 والتباينات المدهشة في مواقف منظمات حقوق الإنسان، إذ كان من الأساسي التعامل مع هذه الأزمة من منظور شامل لحقوق الإنسان، بوصفها أزمة انتهاكات متعددة ومتداخلة، ليتم في الوقت ذاته، وبالوضوح ذاته، إدانة انتهاكات النظام العراقي لحق الشعب الكويتي ولحقوق الإنسان داخل العراق، وانتهاكات التحالف الغربي لحق الشعب العراقي (والتي لا تزال متواصلة إلى اليوم)، وانتهاكات الحكومات الخليجية لحقوق الفلسطينيين والعمال المصريين وغيرهم، والرفض الحازم لوضع حقوق الإنسان في مواجهة مع حقوق الشعوب، وهذا كله ممكن دون التورط في موقف مباشر تجاه الحكومات، أو الاندراج في خطاب يطالب الحكومات بأكثر مما يفترض بالخطاب الحقوقي أن يطالب به من رفع للانتهاكات ضد الأفراد والجماعات.
من خصائص الخطاب الحقوقي اتسامه بالاستقلالية التي يجب الحرص عليها من قبل حركة حقوق الإنسان والأحزاب السياسية معاً. لكن من الضروري ألا تتبنى حركة حقوق الإنسان فهماً سلبياً للاستقلالية، بحيث تغدو معها مساوية للانعزالية، أو تهيمن عليها مشاعر التوجس الدائمة تجاه الأحزاب السياسية، لتغدو هذه المشاعر آلية عمل ثابتة، وعلى طول الخط، لحركة حقوق الإنسان.
«الاستقلالية» بمعناها الإيجابي تعني «الحيدة السياسية»، والتي لا تتوجس من وجود ما يمكن تسميته «تقاطعات» أو قواسم مشتركة، مع الحركة السياسية بعمومها سواء داخل السلطات أو المعارضات. وهذا أمر منطقي، إذ لا يمكن فهم الخصائص المختلفة أو الاختلافات دون وجود حد أدنى من «التوافقات»، فهناك قواسم مشتركة بين الإنسان والحجر والحيوان (وهناك بالطبع اختلافات)، فكيف لا يكون هناك توافقات أو قواسم مشتركة بين حيزات (سلطة ومعارضة ومجتمعاً مدنياً) تنتمي جميعها إلى الحقل العام والمساحة الوطنية ذاتها، وليس لطرف أو حيز من هذه الحيزات أن يحزن لوجود تلك القواسم المشتركة أو التوافقات. هذه القواسم أو التوافقات تزداد مساحتها أو تتناقص تبعاً للحظة السياسية التي يمر بها مجتمع من المجتمعات. ففي المجتمعات العربية، بحكم الظروف السياسية والاقتصادية السائدة، وبنتيجة «العراك» السياسي الطويل، تكوَّنت مجموعة من «التوافقات» بين الحيز السياسي المعارض والحيز الإصلاحي في الحكومات والحيز المدني، ويكفي أن نراجع «أولويات» برامج هذه الحيزات للتدليل على هذه الحقيقة، وبالتالي فإن هذه «التوافقات» يصنعها الواقع السياسي الاقتصادي، ولا تصنعها الرغبات.
من الضروري لجميع الأطراف (سلطة ومعارضة ومجتمعا مدنيا) التعامل مع هذه الحقيقة الواقعية بمرونة، وعدم استخدامها للتدليل على تبعية طرف إلى آخر. أما من ناحية التبلور التنظيمي لهذه التوافقات فإنه مرهون بالوقائع السياسية والمستجدات، وليس رهناً بالقرارات أو الرغبات.
 
خامساً- الآليات الوقائية في عمل حركة حقوق الإنسان:
إن مجمل آليات عمل حركة حقوق الإنسان في المنطقة العربية هي آليات «منفعلة»، بمعنى أنها تتحرك بعد وقوع الانتهاكات، أما آليات «الوقاية» فهي ما زالت بسيطة، كالتعليم والترويج والعمل الثقافي وغيرها، أي أنها تتخذ موقفاً دفاعياً . إذ تركز معظم حركات حقوق الإنسان في البلاد العربية على «الانتهاكات» الواقعة بحق الأفراد أكثر من العمل على جبهة تغيير أو تطوير الآليات الناظمة للدولة والمجتمع والمولِّدة لتلك الانتهاكات، وهو ما يمكن تسميته بالدور «الوقائي». وربما يكون أحد أسباب هذه الآلية الدفاعية، حساسيتها تجاه المسائل السياسية، ومبالغتها المفرطة في تأكيد نفسها كحركة غير حزبية، بمعنى أنها لا تعمل في المجال السياسي المباشر. وهذا بالطبع أمر ضروري شريطة ألا يؤدي بها خارج الحقل العام .
جوهر فكرتي في هذا المجال هو تأكيد وجود دور سياسي (بالمعنى العام للسياسة وليس بالمعنى الحزبي) وضرورة تفعيل هذا الدور، وباعتقادي الأرضية المناسبة لهذا الدور هي في التأكيد على مطلب الانتقال الديمقراطي، فحركة حقوق الإنسان من الناحية النظرية هي الأكثر تأهيلاً لتقديم تصور حول «الديمقراطية» المتناسبة مع واقع مجتمعاتنا العربية وبالانسجام مع قيم ومبادئ حقوق الإنسان العالمية.
باعتقادي هناك جدول أعمال عريض من الناحية النظرية أمام حركة حقوق الإنسان في البلاد العربية، يتضمن فيما يتضمن تقديم مشاريع مقترحة من وجهة نظر حقوق الإنسان للإصلاح الديمقراطي إلى السلطات والمعارضات معاً، وتقديم رؤية مقترحة عن عملية «الانتخابات» التشريعية والبلدية , مستندة في ذلك إلى مبادئ حقوق الإنسان والشرعة الدولية، كذلك تقديم مشاريع مقترحة لقوانين ديمقراطية وعصرية تتعلق بالصحافة والمطبوعات والعمل المدني والأهلي . كما يمكن لها أن تقدِّم رؤيتها للقوانين والأفكار الناظمة للأحزاب السياسية القائمة، الحاكمة منها والمعارضة، بما يدفع هذه الأحزاب لتجديد فكرها وآلياتها بما ينسجم مع حقوق الإنسان والعمل الديمقراطي واقتناعها بالقيم الإنسانية الديمقراطية، وقد يرتقي دورها، في حال نجحت في تثبيت مصداقيتها واستقلاليتها ومهنيتها العالية، إلى دور «رقابي» معترف به من الجميع في الحد من انتهاكات حقوق الإنسان .
هذه المشاريع والآليات المقترحة لا تشكل قفزة من الناحية النظرية في مطالب حركة حقوق الإنسان، لأنها تنسجم مع ما تطالب به هذه الحركة من ضرورة إصلاح قانوني وتشريعي لضمان الانسجام بين القوانين الوطنية المحلية والقانون الدولي لحقوق الإنسان، لكنها ستحقق قفزة حقيقية في نشاط الحركة الحقوقية فيما لو وضعت هذه المهام على جدول أعمالها .
 ثمة مبررات أخرى لقيام الحركة الحقوقية بهذه المشاريع " الاقتراحية "، منها أن الحركة الحقوقية ذاتها يصعب أن تزدهر إلا في بيئة سياسية ديمقراطية، إذ إن بناء سمعة معنوية عالية للحركة الحقوقية يقتضي وجود مجتمع مدني وسياسي فاعل، وهذا بدوره يستلزم وجود مشاريع ممكنة التطبيق على الصعيد التشريعي والسياسي . كذلك فإن حركة حقوق الإنسان ذاتها في بلدان عربية عديدة قد وقعت ضحية لممارسات غير ديمقراطية بهدف تقييدها أو إخضاعها أو تهميشها، وبالتالي فإن الضمان الأساسي لاستمرارية هذه الحركة هو في حدوث تحول ديمقراطي في البلد الذي تعمل ضمنه . وهذا التحول لا يلغي، كما يرى البعض، الحاجة للحركة الحقوقية التي يمكن أن تقوم وقتها بدور رقابي لضمان تطبيق الآليات الديمقراطية المعتمدة على نحو سليم، أما في ظل البيئة السائدة حالياً فإن ما يمكن للحركة أن تقوم به من إنجاز، قد لا يكون كبيراً.
 
سادساً- كلمة أخيرة:
لا شك أن المشكلات التي تعاني منها حركة حقوق الإنسان هي محصلة التفاعل بين عدد كبير من العوامل المتنوعة وذات الجذور العميقة في الواقع الثقافي والسياسي والقانوني، ومن ثم فإن معالجة هذه المشكلات والتعامل مع أوجه القصور المختلفة التي تعاني منها هذه الحركة لن يتم بين يوم وليلة، وإنما يحتاج إلى جهد دؤوب ومستمر. فالأوضاع والأطر السياسية والاقتصادية والاجتماعية السائدة في أي بلد تؤثر على العمل في مجال حقوق الإنسان، إضافة لمستوى فاعلية المجتمع المدني ومدى تقبل الرأي العام لأفكار ومبادئ حقوق الإنسان، واستعداد الحكومات وقدرتها على معالجة قضايا حقوق الإنسان، وفي المركز من جميع هذه المؤثرات يقع مدى حيوية حركة حقوق الإنسان وطبيعة نشاطها وقدرتها على تقييم فاعلية أدواتها وأساليبها في العمل وإبداعها في تحديد استراتيجيتها وخلقها لآليات عمل جديدة ومتجددة على الدوام.
 
كاتب سوري دمشق
DR.HAZEM.N" <[email protected]>
إيلاف خاص

 



#حازم_نهار (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- إشكالات حركة حقوق الإنسان في المنطقة العربية


المزيد.....




- بعد حملة اعتقالات.. مظاهرات جامعة تكساس المؤيدة لفلسطين تستم ...
- طلاب يتظاهرون أمام جامعة السوربون بباريس ضد الحرب على غزة
- تعرف على أبرز مصادر تمويل الأونروا ومجالات إنفاقها في 2023
- مدون فرنسي: الغرب يسعى للحصول على رخصة لـ-تصدير المهاجرين-
- نادي الأسير الفلسطيني: الإفراج المحدود عن مجموعة من المعتقلي ...
- أمريكا.. اعتقال أستاذتين جامعيتين في احتجاجات مؤيدة للفلسطين ...
- التعاون الإسلامي ترحب بتقرير لجنة المراجعة المستقلة بشأن الأ ...
- العفو الدولية تطالب بتحقيقات دولية مستقلة حول المقابر الجما ...
- قصف موقع في غزة أثناء زيارة فريق من الأمم المتحدة
- زاهر جبارين عضو المكتب السياسى لحماس ومسئول الضفة وملف الأسر ...


المزيد.....

- مبدأ حق تقرير المصير والقانون الدولي / عبد الحسين شعبان
- حضور الإعلان العالمي لحقوق الانسان في الدساتير.. انحياز للقي ... / خليل إبراهيم كاظم الحمداني
- فلسفة حقوق الانسان بين الأصول التاريخية والأهمية المعاصرة / زهير الخويلدي
- المراة في الدساتير .. ثقافات مختلفة وضعيات متنوعة لحالة انسا ... / خليل إبراهيم كاظم الحمداني
- نجل الراحل يسار يروي قصة والده الدكتور محمد سلمان حسن في صرا ... / يسار محمد سلمان حسن
- الإستعراض الدوري الشامل بين مطرقة السياسة وسندان الحقوق .. ع ... / خليل إبراهيم كاظم الحمداني
- نطاق الشامل لحقوق الانسان / أشرف المجدول
- تضمين مفاهيم حقوق الإنسان في المناهج الدراسية / نزيهة التركى
- الكمائن الرمادية / مركز اريج لحقوق الانسان
- على هامش الدورة 38 الاعتيادية لمجلس حقوق الانسان .. قراءة في ... / خليل إبراهيم كاظم الحمداني


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - حقوق الانسان - حازم نهار - حقوق الإنسان والسياسة