أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - حقوق الاطفال والشبيبة - وليد المسعودي - في التربية والعولمة - نحو تربية حداثية جديدة















المزيد.....



في التربية والعولمة - نحو تربية حداثية جديدة


وليد المسعودي

الحوار المتمدن-العدد: 1518 - 2006 / 4 / 12 - 11:17
المحور: حقوق الاطفال والشبيبة
    


في التربية والعولمة
(نحو تربية حداثية جديدة )
** التربية **
- تحديد المفهوم
- اشكال التربية
- التربية العسكرية وأثرها على المجتمع
-

** العولمة **
- تحديد المفهوم
- العولمة والهوية الثقافية
- أثر العولمة على التربية
- نحو تربية حداثية جديدة

***************************************************************************


تحديد المفهوم
لاتوجد التربية في المجتمع إلا وهي ذات علاقة تكاملية بين الحقول السياسية والاجتماعية والثقافية التي تحكمها ، ومن ثم تشكل علائقية السلطة المتعددة التي تضفي التماثل والقبول والضبط ، هذا ما اعلنته الحداثة ، التي هي ثمنا باهضا بالنسبة للمجتمعات التي لم تنخرط فيها ، فالتربية هي عملية التواصل بين الاجيال الاجتماعية الراشدة التي تعمل على ترسيخ قيمها لدى الاجيال اللاحقة ، بحيث تغدو جميع المدركات خاضعة لقوانين صارمة تبررها الانساق الثقافية السائدة لدى المجتمع ، وهنا الانساق الثقافية تشمل الافكار والعادات والتقاليد الراسخة والمكتسبة ، فالحرية تتحقق من خلال التربية الحره المؤسسة على وعي الحرية المحايث للجديد والغريب الذي يضفي قيمة الانسان ، ومن ثم يؤصل تجارب انسانية تحقق السعادة والاستقلال والتوازن والشعور بأن العالم ملك للارادة البشرية وهذا التحقق لايتم إلا من خلال الاندماج والتعاون مع بقية الكائنات الاجتماعية لان الانسان في النهاية هو كائن اجتماعي .
هناك عدة تعاريف للتربية ، حيث يعرف ليتري على انها" ذلك العمل الذي يؤدي الى تنشئة الطفل او الشاب عن طريق مجموعة من العادات الفكرية التي تكتسب ومجموعة من الصفات الخلقية التي تنمو " وهنا يقسم ليتري التربية الى شكليها الاجتماعي والطبيعي من حيث الاكتساب والنمو وتكوين الاطار او النموذج المقبول من قبل الاجيال الاجتماعية السائدة ، اما هربارت فيعرفها من خلال كونها " تكوين الفرد من اجل ذاته ، بأن نوقظ فيه ضروب الميول الفكرية " وهنا مايعنيه هو العمل على خلق ذوات بشرية قادرة على التحكم والسيطرة على جميع مكامن الابداع والخلق ، ومن ثم إحداث اليقظة الفكرية الدائبة ، ويعرفها دوركهايم بأنها " تكوين الافراد تكوينا اجتماعيا " من خلال انخراطهم في المجال او الفضاء الاجتماعي من اجل عوالم لاتصدر العزلة ومن ثم سيادة عدم الحركة والتغيير والنمو والتطور ..الخ فالكائن الاجتماعي هو كائن حركي قابل الى التأثير والاخذ والعطاء ، اما وليم جيمس فيعرف التربية " ذلك التكوين الذي يجعل الفرد اداة سعادة لنفسه ولغيره " وذلك الشعور بالسعادة لايتم إلا من خلال عملية التوازن القيمي والوجودي بلا محددات او متناقضات تقود الى سيادة الفوضى والتردد القيمي نحو العنف ، ومن ثم الابتعاد عن جوهر السعادة ذاتها ، ويعرفها ايضا هنري جوفر على انها " مجموعة من الجهود التي تهدف الى ان تسير للفرد الامتلاك الكامل لمختلف ملكاته وحسن استخدامها " (1) .
يقول دوركهايم " ان الانسان الذي تود التربية ان تحققه فينا ماهو الانسان كما خلقته الطبيعة ، وانما هو الانسان كما يريد المجتمع ان يكون " ، وهنا التربية لدى دوركهايم تسير بمنحى انضباطي من قبل المجتمع الذي يريد ان يربي افراده وفق المبادئ والعادات والتقاليد المكتسبة ، ومن ثم تغدو التربية في بدايتها ترويضا واستثمارا للجسد الانساني عبر اشكال وطقوس وتعاليم واحتفالات وشعائر وامكانيات معرفية ثقافية تقليدية او غير تقليدية يضفيها المجتمع ومؤسساته ، وهنا نقول ان التربية من الممكن ان تجعل الافراد او الاجيال القادمة بلا تماثل يؤدي الى التكلس واجترار القيم التقليدية التي لاتعمل على شحذ الروح النقدية لدى الانسان ومن ثم تؤسس له التراكم المعرفي وبناء منظومة من القيم الجديدة القابلة الى ولادة كل ماهو غير نسقي او مرتبط بثقافة الاطلاق القيمي والوجودي من خلال تمثل وعي الانسان غير المنضبط بعلاقات متشعبة من السلط التي تحد من إمكاناته والتي تساهم في بلورة الكثير من بؤر ومراكز المنع والحضر وهكذا ضمن حلقة مفرغة من الاهمال والنسيان للجسد الانساني وتطلعاته ورغباته التي تعمل جميع السلط التقليدية على الحد منها وايجاد الكثير من مراكز التبرير والقبول اللذان يؤديان الى الترويض والتدجين بشكل حقيقي يبتعد عن مقومات التربية الحره .

أشكال التربية
هناك شكلان من التربية الاولى قائمة على الطبيعة اي التربية الطبيعة والثانية التربية من وجهة نظر الحياة الاجتماعية ، فالاولى تتحددمن خلال الطبيعة وما تحوي من قدرة مستمرة للحياة والوعي والحركة والاستمرار والتواصل ..الخ حيث نستطيع ان نجد آثار هذه التربية القائمة على الطبيعة في الحياة اليونانية القديمة وما كان يتمثلها من تقابل جوهري لكل ما يشمل الكون لانه موطن المقدسات لدى اليونان، حيث كان هناك امتزاجا بين الطبيعي والاجتماعي في الحياة اليونانية بإعتباركل مافي الوجود حافلا بالالهة كما يرى دوركهايم (2) ، ومن ثم لم تكن الطبيعة في نظر اليونانيين سوى تلك القدسية الهائلة وما تحوي من اكوان ومتعاليات ، بحيث يصبح الوجود الانساني التجريبي ماهو إلا شبحا او مثالا غير مؤسس له الواقعية والجاهزية الاجتماعية بمنظورها المعاش ، هذه التربية القائمة على الطبيعة وجدت كإنعكاس للواقع المديني اليوناني ، وهي فيما تعنيه التخلي الكامل عن جوهر المسائل الاجتماعية المرتبطة بالعادات والتقاليد المكتسبة ، ومن ثم لايوجد هناك انخراط في المجتمع عن طريق التربية كتلقين او ترويض اجتماعي حيث يترك كل ذلك الى الطبيعة وما تحمل في طياتها من متناقضات تقود بجوهرها الكائن الانساني ، ان ذلك النوع وجد نتيجة شعور الانسان بأنه يعيش سلسلة من السلط التي تقيد نموذج حياته ، ومن ثم يعد الانخراط في الحياة الاجتماعية ماهو إلا زيادة في الوهم والتظاهر الاجتماعي .
ان رفض الحياة الاجتماعية القائمة ماهو إلا دليل على عجز الذات البشرية عن الاصلاح بإعتبار العالم المادي الاجتماعي يسوده الكثير من الفساد ، ومن ثم هو مكون من عدة طبائع تخل بجوهر الوجود الانساني وهذه الطبائع مرتبطة بالانانية او الرغبة في الاستحواذ والامتلاك اظافة الى سلطة الاستبداد والطغيان وسلطة الديماغوجيا التي تمارسها الطبقة المالكة لجوهر الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية ..الخ حيث يقول اوبير ان التربية الطبيعية كانت موجودة لدى " آنتيستين antisthene " والكلبيين وكذلك لدى اصحاب المذهب الطبيعي القائم على فلسفة الاحتمال " ابيقور " هو موقف اناس جعلهم التنظيم الاداري الجديد للامبراطوريات وبصورة خاصة الامبراطورية الرومانية لايؤمنون بطبيعة الحياة المدنية الجديدة ، ومن ثم ادى بهم الامر الى اعتزال العالم المادي المعاش لان المدنية وجدت في عالم يتسع بإستمرار (3) .
ان المذهب الطبيعي وجد كذلك في عصر النهضة حيث اتخذ سبيلا للتربية ، وذلك من اجل الفرار من الحياة الروحية التي كانت تضفيها الكنيسة وسلطتها ومن ثم عاود الظهور في القرن الثامن عشر مع التطورات المنجزة في مجال العلوم والصناعة ومجمل التطورات التي قادتها وانجزتها الحداثة من نزعة علمية صارمة ومن عقلانية في التنظيم الاداري والسياسي ومن تعقيد هائل وكبير ضمن فضاء المدن حيث سيادة النزعة العلموية فيما بعد كل ذلك جعل المذهب الطبيعي في التربية اكثر حضورا ورائد هذا التفكير او المذهب هو جان جاك روسو الذي كان لايدعو الى تربية الاجيال الصغيرة عن طريق تعليم الفضيلة والحق ،وانما يتركوا بلا اية تعاليم او تقاليد من الممكن ان تتمثلها هذه الاجيال الى سن الثانية عشر ، بحيث يمكنها ان تتجنب الاثم ومن ثم تستطيع الحصول على عصمة الفكر من الخطأ ، ومن ثم يؤدي ذلك فيما بعد الى تفتح البصيرة بشكل متحرر من كافة الكليشيهات الجاهزة التي تضفيها علية ثقافة الجاهز الاجتماعي السائد (4) ومن هنا لايوجدهناك مايسمى تربية عن طريق اللغة الاجتماعية المكتوبة او اضافات معينة تمليها عليه تعقيدات الحياة وتطورها من صناعة وفنون وعلوم ..الخ
ان التربية الطبيعية اذا تجردت من مكتسباتها المرتبطة بكونها جعلت التربية تعتمد على الطبيعة من حيث القدرة على الحركة والتطور والديناميكية الدائبة التي تقود الحياة بشكل عام إضافة الى استخدام معطيات العلوم الوضعية الحديثة والمرتبطة بمنطقية التفكير العلمي ووضوحة فأنها تغدو اي التربية الطبيعية ضربا من الوهم ، إذ ان الانسان منذ فطرته في قوانين ومؤسسات واشكال اجتماعية تحكمه لايمكن الفرار منها ، ومن ثم تعد التربية الطبيعية لاتأتي بثمارها بشكل ايجابي إلا اذا ارتبطت بالتربية الاجتماعية على حد سواء من حيث الاتحاد الجوهري بين الاثنين الطبيعي والاجتماعي ، ومن ثم تصبح ارادة الانسان افراد ومجتمعات اكثر سيرورة وسيادة لارادتها وهنا يندرج ذلك بشكل نسبي وليس بالمعنى المطلق والنهائي ، حيث حاول جان جاك روسو ان يوفق بين التربية القائمة على اساس الطبيعة وبين التربية الاجتماعية من خلال فهمه الى انه من الصعب على التربية ان تصبح اجتماعية إن هي ظلت طبيعية تماما حيث ارتأى الى ايجاد حلا لهذه الهوة التي تفصل فيما بينهما عن طريق العقد الاجتماعي (5)
ان التربية الاجتماعية تعمل على ضمان وصول الافراد الى مكانتهم الطبيعية المحددة سلفا ضمن المجتمع ذاته وفقا لطبيعة التشاكل السياسي والاجتماعي الذي يسود ويسيطر بحيث تغدو التربية خاضعة لهذا التشكيل ليس إلا فالمجتمع الديني على سبيل المثال يعمل على حفظ وضمان وصول الافراد الى مستويات تؤهلهم الى التمثل الجسدي والوجودي للنسق الفكري والثقافي الذي يستند اليه المجتمع الديني ومن ثم مايهدف اليه هو سيادة التوازن الروحي والاخلاقي المؤسس وفقا لطبيعة الجهاز الثقافي السائد ، فالمجتمع اليوناني كان مجتمعا اسريا مدنيا يعلم افرادة مايسميه دوركهايم التمثيلات الجمعية من خلال التحكم بسلوك المجتمع من خلال انظمة الدلالة المرتبطة بالطقوس والاحتفالات والاعياد والازياء وكذلك اللغة المشتركة والسائدة كتعامل اجتماعي ثقافي اقتصادي ..الخ ، وهكذا هو الحال حسب طبيعة المجتمع وما يحتوي من تمثيلات جمعية ، فالمجتمعات الحديثة استطاعت الحصول على ذلك التنظيم والترتيب والفهم الحديث للاشياء والحياة بشكل عام عن طريق تلك الثقافة القائمة على التفكير والتأمل بوضوح ومنطقية لم تكن تعرفها المجتمعات القديمة والبدائية ، انها ظهرت مؤخرا مع تاريخ ظهور الحضارة الحديثة (6) ، والتربية الاجتماعية قد توجد ضمن اطارها المحافظ ، ومن ثم تستخدم الالزام السلطوي والفرض القسري للقيم والافكار ولاتتغير هذه التربية إلا من خلال حدوث قطيعة معها تجلبها الثورات في كثير من الاحيان او تجلبها القوى التي تملك السيادة دون غيرها او تدفع بها للتغيير قوى المجتمع المدني ضمن التطور الهادئ والتدريجي ، وهنا نقول ان اكثر النماذج الاجتماعية السائدة والمنتصرة تاريخيا وسياسيا تنزع الى المحافظة على قيمها ومن ثم تصدر اطارها وشكلها وطقوسها واساطيرها فيما بعد الى الذوات البشرية الاخرى من اجل تمثل اكثر ورسوخ اكبر،من اجل ضمان بقاءها كقوة مهيمنة ومدركة للعالم اجمع من خلال لغة النموذج المنتصر ليس إلا ، حتى وان كان هذا الاخير يحمل في داخله الكثير من الاستلاب والنفي لقيمة الانسان ووجوده .
ان التربية الناجعة هي تربية الحرية هذه التربية لاتضفي النموذج غير خاضعة الى الايديولوجيا ، انها تربية ناشطة وناهضة تقود الى التحرر من الكيليشهات الجاهزة ، بحيث يغدو وعي الحرية اساس وسند للتربية ذاتها ، ومن ثم لايكون لدينا هناك ادوات للضبط والقسر ، هذه الادوات تؤدي الى خلق مجاميع بشرية متماثلة مع بعضها ومن ثم هناك الاستنساخ والتكرار للافكار والاجيال والاعمال والازمنة .
التربية العسكرية واثرها على المجتمع
ان الثكنة العسكرية تعد في حد ذاتها مصدرا للالغاء الاجتماعي والثقافي والمعرفي خصوصا إذا جرى عملية تعميمها على نطاق المجتمع ككل من خلال فرض قيم وثقافة العسكر وعنفيتها من اناشيد واساطير واحتفالات وتبجيل مطلق لصفات القادة والزعماء الابطال محرري الامة الطوبى ، بحيث تغدو هرمية السلطة او تداولية الاوامر العسكرية نسقا ثقافيا سائدا ، ومن ثم كل مافي الحياة من خلايا اجتماعية زمكانية ترتبط بروح وقوة العنف التي تبثها لغة الضبط والقسر والتماثل العسكري والانصهار في بوتقة الواحد الكلياني ، ومن هنا تتكون فكرة السجن الاولي ليشمل المجتمع بأكمله فيما بعد عن طريق قيم وثقافة العسكر .
ان المجتمع عندما يتمثل ضمن جسد غاطس في حقل من تعددية السلطات المستبدة المراقبة والمعاقبة ، فأن التربية ضمن هذا المجتمع لا تعد ضمانه ناجعة للاستمرار والتطور ومن ثم لايوجد هناك سوى ذلك القذف اليومي لكل مايشكل لدى الجاهز الاجتماعي السائد من غلو وتطرف ومن ثم ترسيخ للعنف وايثار الجانب السلبي للمعرفة والافكار حيث يقول كورنو " ان كل جيل ينقل عن طريق التربية ، ثروة من الافكار الى الجيل الذي يليه مباشرة ، وبينما تجري هذه التربية وذلك النقل يخضع الجيل التربوي لاثر جميع الاحياء من الجيل السابق الذين مازالوا يسهمون بحظ من النشاط في الدولة والمجتمع وفي حركة الافكار والاعمال " (7) وهنا تبدو حركة الاجيال التربوية لاتسير في نسق واحد او في منظومة افكار معينة لديها الثبات بشكل دائم بل هي قابلة الى التغيير من حيث الصعود والنزول ، الايجاب والسلب ، كل ذلك مرتبط بماهو سياسي وثقافي مجتمعي مضاف اليه طبيعة التراكمات والمعارف والنماذج السياسية التي تؤدي الى ظهور نوعية الاجيال الاجتماعية وطبيعة تكوينها ، فمجتمعاتنا العربية الاسلامية لم تحمل في داخلها تلك الاجيال الرائدة في رفد التقدم والتغيير وممارسة الانسنة سلوكا ومنهجا وفي مختلف المجالات والاصعدة ،وان كانت هناك ، فأن القدرة على ثلمها واجهاض طموحاتها كان سهلا ومباشرا من قبل السلطة المؤسسة مابعد الاستقلال لتؤسس الانظمة العسكرية المعبئة بالايديولوجيا المحاربة والعسكرية داخل البلدان فحسب ، ومن تحارب او على من تؤسس خطابها العنفي والسلطوي ، لايوجد سوى الاجيال الطافحة بالحلم والرغبة في حياة افضل بلا تبعية ثقافية او تمثل الذات عن طريق التكلس الثقافي والوجودي للماضي القديم والقيم الغابرة فحسب ، هكذا ولدت الاجيال العسكرية لتفرض على القادم ذلك الهوس القومي المحارب بشكل زائف وتضليلي الى حد بعيد ، وذلك تماثلا واستنساخا للتجارب العسكرية النازية التي تفرض هيمنة الحزب والنظام الواحد والوحيد على جميع مفاصل ومجالات الحياة ، فهاهو وزير المعارف في زمن هتلر يقول " ان العرق والدفاع ومبدأ السلطة والتدين هي الاسس الضرورية للعمل التربوي فلنشح بوجهنا إذن عن الموضوعية السائدة حتى الان "(8) ان الاجيال العسكرية لم تكن تحمل في داخلها تراتبية وهرمية الافكار وثرواتها التي تؤدي الى التواصل وبناء ذوات غير ممارس عليها عنصري التغبية الاجتماعية والتضليل الاعلامي الجماهيري عن طريق فرض ظروف اقتصادية واوضاع لا انسانية دائمة تعانيها المجتمعات ، ومن ثم يغدو الحديث عن التدجين والترويض والاستثمار السياسي للجسد الانساني في الحروب والامتثال الاعمى لقيم العسكر وعنفيتها الدائمة امرا له واقعيته السائدة ، ففي العراق مثالا ساطعا لذلك النسيان السلطوي ومثالا ساطعا لتربية دائمة على الفقر والجوع والحرمان لملايين من البشر ، وذلك ليس من خلال التربية على الفقر المادي فحسب بل التربية على الجهل والتخلف والعنف وادراك العالم من خلال نسق الثقافة والتربية العسكرية التي دجنت الكثير من الاجيال الاجتماعية في العراق، وهكذا نقول ان التربية العسكرية عندما وزعت قيمها على المجتمع لم تكن مؤسسة داخل طبقة اجتماعية ثقافية مدركة ومستوعبة لطبيعة الذات العربية وما يحيطها من تغيرات وتطورات على مختلف الاصعدة بل هي جاءت كنتيجة حتمية من مجتمعات غير قادرة على انتاج النشوء المديني المتسامح ومن ثم انتاج لحظة الحداثة المرافقة لتطور الذات التي يتخللها القدرة على الفهم والاستيعاب للذوات المتقدمة والمنجزة تاريخيا لقيمة الحداثة ، وذلك لانها غارقة تاريخيا بعدة ازمات ومشاكل لم تستطع ان تجد لها الحلول والمنافذ التي تستطيع من خلالها التوفيق بين القيم الجديدة وما تملك الذات العربية الاسلامية من قيم وعادات مؤصل لديها قيمة الانسان ذاته ، ومن ثم ممارسة الانتشار الذاتي العربي الاسلامي كنموذج ثقافي مقدم الى الحضارات الاخرى بشكل مدني ومتسامح يعكس الجذور الثقافية المؤسسة وفق الارادة المجتمعية بلا تبعثر وتشظ قيمي واخلاقي وحداثي ..الخ ، هذا ما لم تستطع ان تقوم به جميع النخب العسكرية التي شوهت المجتمعات العربية الاسلامية وانتجت وعي العنف كمحصلة نهائية بسبب فشل مشاريع التحديث لانها في الاساس لم تكن قائمة على وعي الحرية ذاتها ولم تكن قائمة على ارادة هذه المجتمعات .


مفهوم العولمة
ظهرت العولمة كنسق شمولي ، يمتلك صفات النفوذ المطلق لثقافة واحدة ولنمط متجانس من السلع والاعمال والنماذج الثقافية عندما استطاعت قوى الانتاج الرأسمالي ان تعمم هيمنتها على العالم من خلال تعددية بقاءها كقوة لديها الحضور والنفوذ والسيطرة ، خصوصا بعد ان سقطت جميع الاقنعة الشمولية هي ايضا ، من خلال تصديرها للعالم نموذجا احاديا يسعى الى تأسيس قيم الفرض والقسر والالغاء الكلي للتعددية الانسانية والاختلاف غير المتماثل في نموذج ثقافي او اطار فكري او نظام اقتصادي معين ، فالعولمة هي نتيجة الاحادية والشمولية التي هيمنت على المجتمعات البشرية طيلة القرن العشرين سواء حملت صبغة اشتراكية او رأسمالية ، ومن ثم كان نتيجتها تلك الظاهرة التي مايزال مفعولها يسير في غموض وتحديات جديدة تواجهها البشرية جميعا وخصوصا لدى المجتمعات التي لم تستطع ان تواكب التطور وتؤسس نموذجها الثقافي من الحداثة والتجديد وممارسة المراجعة الدائمة لثقافتها من خلال اساليب متعددة من المقارنة والتطابق الثقافي مع الحضارات والامم الاخرى ، ومن خلال تأسيس مفاهيم النقد والابتكار والتراكم من اجل ترشيح ذوات مجتمعية قادرة على تشكيل فايروسات مضادة وحيوية لاتؤسس الانقسام والتشظي والتراجع عن مكتسبات الجديد والغريب عن نموذجنا الثقافي المجتمعي الجاهز .
هناك من يجعل العولمة وكأنها تحمل السيرورة التاريخية من ولادة ونشوء وصراع ونضوج ، حيث بدأت في اطارها الاولي من خلال الرأسمالية التجارية التي حاولت ان تؤسس امبراطوريات متصارعة كل واحدة تريد ان تفرض نموذجها وفقا لمنطق الصراع والتنافس التجاري السائد فيما بينها وهنا شمل تطور الرأسمالية التجارية الصاعدة لدى بلدان مثل البرتغال وهولندا واسبانيا ، ومن ثم تطورت الى صيغة الصراع بمرحلته الثانية بين فرنسا وبريطانيا إبان الرأسمالية الصناعية ومن ثم اخير ذلك التوحد النهائي لقوى العالم الرأسمالي بصيغته الاكثر تطورا وشمولا (9) ولاننس هنا ان العولمة ضمن اطارها التوحيدي للقيم والافكار وجدت قديما لدى الحضارات الاخرى من خلال انتصار الامبراطوريات وايديولوجياتها ومارافقها من استغلال واستثمار دائمين مثل الامبراطورية الرومانية ، ولانستثي هنا الاسلام وحضارته من فكرة العالمية والانتشار والشمول ، ومن ثم تأكيد النسقية وعدم التماثل او الاختلاف في ذلك إبان انتشار سيادته مركزية الحضارة العربية الاسلامية . حيث يعرفها صادق جلال العظم بأنها " حقبة التحول الرأسمالي العميق للانسانية جمعاء في ظل هيمنة دول المركز وبقيادتها وتحت سيطرتها وفي ظل سيادة نظام عالمي للتبادل غير المتكافؤ" (10) وهنا تتمثل العولمة من خلال مركزية صارمة تؤسس الترابط بين جميع الاقتصادات والبلدان والمجتمعات عبر شبكات الاتصال العالمية ، ومن ثم تضيع الحدود لدى المراكز الاكثر تأثيرا ونفوذا بحيث يغدو من هو مركزي اكثر سيادة وحضورا على مستوى التداول الثقافي والاقتصادي والسياسي ..الخ ، وبذلك استطاعت العولمة التأثير على الزمان والمكان من خلال حضورها المتعدد كظاهرة مؤثرة عبر ثلاث منظومات تشكل حركتها وسيرورتها الدائبة والتي تشمل المنظومة المالية والمنظومة الاعلامية الاتصالية واخيرا منظومة المعلومات شبكة الانترنيت ، هكذا تغدو العولمة حاضرة وضاغطة ومتجاوزة جميع الاطر والتشكيلات والحدود المادية والمعنوية .
هل تمثل العولمة علاقة تبادل ومشاركة ثقافية واقتصادية بين المركز والمحيط من حوله من مراكز واطراف اخرى ام هي مجرد مركز يؤسس ما يملك من وضعية جاهزة من السلع ولاعمال والافكار الى المحيط والاطراف من حوله ، ومن ثم لايوجد شيئا سوى علاقة بين اصل وجوهر ثابت يملك الجاهزية المطلقة وبين توابع كثيرة تدور في حلقة ذلك الاصل المهيمن الذي يملك نسقية التطور والسيطرة ؟ هل فعلا ان العولمة تعمل على تحرر البلدان التي لم تستطع ان تخرج من اطرها التقليدية ، ومن ثم تغدو العولمة فرصة تاريخية للتغيير وممارسة دورها الحضاري مع الشعوب والبلدان الاخرى الاكثر تقدما ام هي اسلوبا جديدا انتجته الدولة التقنية العالمية بعد ان تجاوزت خطابها القومي داخل مجتمعاتها لتؤسس فيما بعد عولمة الكيانات والحدود الاخرى من اجل تذويبها في بوتقة المنتصر تاريخيا واقتصاديا وسياسيا وعسكريا ومن ثم لاتستطع هذه البلدان الفقيرة ان تشتغل على ذواتها المجتمعية بشكل متحرر لتأسيس تعامل جديد مع التطورات الحديثة ومع التقنية ذاتها ؟ اسئلة كثيرة نطرحها حول اسلوب تعاملنا مع هذه الظاهرة التي دخلت الينا من خلال لافاعلية ذواتنا ومن خلال إخفاق السياسي والاقتصادي والمجتمعي من إعادة انتاج الجديد والحديث داخل مجتمعاتنا العربية الاسلامية ، التي هي اكثر استهلاكا للقيم الجديدة بشكلها العابر من خلال لاتمثلها بشكل واقعي وعلمي موضوعي بعيدا عن تأسيس قيم الرفض الاعمى او تأسيس قيم القبول المرحب ، وكأننا وعاءا فارغا من اي محتوى بلا صور واطر للدراسة والنقد والكشف العلمي .
ان العولمة تحمل في داخلها نسقية التقدم وإيثار الجديد والغريب ومن ثم هي ظاهرة ديناميكية مستمرة لديها منطقها الخاص ، والذي تفرضه القوى الاكثر حضورا وسيطرة ، ومن ثم تغدو عملية رفضها يعني انها سوف تتأصل بعيدا عن مشاركة ذواتنا المجتمعية ، ومن ثم يصبح الاخر البراغماتي هو من يضفي قيمه المؤبدة على جوهر الاعمال والانجازات القادمة ، ومن ثم تصبح ذواتنا عاطلة مستهلكة وتابعة بشكل دائم ومستمر ، ومن ثم سيادة الدولة التقنية بشكل كلياني كما عبر عنها الفيلسوف الالماني مارتن هيدغر ، وذلك بأعتبار الفلسفة البراغماتية التي تقود العولمة في ازمنتنا الحاضرة هي سجينة وضعيتها ليس إلا ومن ثم لاتوجد تصورات متحررة حول طبيعة العلاقة بين الانسان والتقنية ، وبما ان العلم هو من يسيطر من خلال قدرة التوجية التقني ( علم السيبارنتيقا ) على جميع مجالات العولمة ، فأنه من الممكن ان يوجد من خلال ذلك الانسان التقني المبرمج وفق نسق ونموذج واحدين (11) ، كذلك هو الحال مع عملية قبولها بشكل استسهالي بسيط لايعبر عن ذوات مجتمعية تسعى الى الاختلاف والفرادة ، وذلك مرتبط اي صيغ الرفض والقبول او الوقوف امام هذه الظاهرة بشكل علمي محايد وفقا لطبيعة السياسي والاقتصادي ومدى تطوره او اخفاقه ، فما دامت الدولة الوطنية لم تتأسس في مجتمعاتنا العربية الاسلامية بشكلها الحقيقي القائم على ترسيخ قيم المواطنة واعتبار الكائن الانساني اثمن راس مال ، فأن خطر العولمة بجانبة السلبي كبيروهائل من الممكن ان يقود مجتمعاتنا الى الالغاء الكلي مادامت هناك ثقافتين مسيطرتين على اكثر مجتمعاتنا العربية الاسلامية الاولى ثقافة الايديولوجية المخدرة للوعي والحقيقة ، التي تبثها اكثر التيارات الاصولية ، والثانية تمارس نفس عملية التخدير ولكن بشكل دنيوي استهلاكي غير واع ومدرك على اكثر مجتمعاتنا .


العولمة والهوية الثقافية
في البدء كانت الكلمة وفي النهاية هل ستصبح الصورة هي المشهد والنموذج ، بأعتبارها خطابا ناجزا بشكل تلقائي ومدركا بشكل اولي لدى المتلقي العالمي ، انها ثقافة العولمة تتحرك من خلال سرعة البث الصوري الذي يشمل ويغطي الوعي البشري الجديد بعد ان كانت الكلمة اصلا ومعيارا ساهم في خلق الكثير من التصورات والايديولوجيات التي تعبر عن عالم مخلوق وكون له الجاهزية والحضور والتطور الدائم والمستمر ، انها العولمة عبارة عن نص مفتوح الدلالة من حيث غموضة وتعددية آثاره المستقبلية على المجتمعات البشرية بشكل عام وعلى المجتمعات " النائمة " والمغيب عنها مظاهر التطور والابداع والخلق ، وانها نص مغلق الدلالة من حيث جاهزية القيم التي يبثها ، وذلك لسهولة المصدر وسرعته في الايصال والحركة ، وسهولة المادة الثقافية المستوعبة من قبل المتلقي الزمكاني ، الذي يندرج كفضاء مرئي ومعروف من الاخبار والسلع والثقافات متجاوزا الاطر والحدود والامكنة .
هذه الثقافة المعولمة تحاول ان تندرج ضمن فضاءات العالم بأكمله ، ومن ثم يراد لها ان تغدو عالمية من حيث السيادة والانتشار والرسوخ ، وبذلك نقول ان الثقافة المعولمة في ازمنتنا الحالية بدأت بالفعل تكتسح العالم ، انها ثقافة المنتصر والمدعوم والمسلح تقنيا ، وهذه الثقافة هي نزعة بشرية محمومة للتوحد والشمول منذ ظهر اولى الايديولوجيات المنتصرة والمسلحة في العالم كل واحدر تريد لنفسها السيادة والبقاء وتأبيد نموذجها ، ولكن الذي حدث مع الثقافة المعاصرة انها منتصرة منذ اكثر من خمسة قرون ، وبذلك عززت انتصاراتها نهائيا بفعل امتلاكها سلطة التقنية ، ومن ثم تغدو بقية الثقافات الاخرى تعاني الصراع إزاء هذه الثقافة المنتصرة ، ومن هنا نقول ان التعددية الثقافية السائدة في عالمنا لاتحمل ذلك التكافؤ في المشاركة والتبادل والحوار ، ومن ثم تأسيس قيم لاتعمل على تأبيد الفرض والقسر لافكار معينة وانظمة معينة على غيرها وعلى المجتمعات الاخرى ، فالمركز اليوم يحتوي العالم من خلال جاهزية انتشاره عسكريا واقتصاديا وسياسيا وثقافيا .. الخ بحيث تغدو اللغة الانكليزية على سبيل المثال لغة المركز هذا فدرجة الاستهلاك لهذه اللغة بلغ 88% من خدمات الانترنيت تليها اللغة الالمانية بنسبة 9% ومن ثم الفرنسية بنسبة 2% والباقي 1% لكل بقاع العالم (12) ، وهكذا تغدو مجتمعاتنا العربية الاسلامية تعاني من سطوة ثقافة القادم الجديد الاكثر حضوة وسيطرة ، والذ لايمثل قيم العقلنة والتسامح وممارسة الاصول العلمية للفكر والحقيقة بقدر ما يساهم في بلورة وعي بدائي سطحي غير مؤصل في داخله المعنى والاصل الحضاري المنجز ، وبين سطوة ثقافتنا المتكلسة بفعل عوامل اخفاق الدولة الوطنية والقومية الامر الذي أدى الى سيادة الوعي الاصولي الشمولي المؤسس على وعي الاقصاء للاخر الانسان سلوكا وتصورا ونموذجا مجتمعيا لديه الخصوصية والاستقلال الذاتي والانساني وهكذا تغدو العملية معقدة للغاية بين مقومات ثقافية اصابها التكلس وبين اخرى تريد ان تباشر سلعيتها وتفعل وجودها من خلال لغة الفرض والسيطرة لا من خلال لغة التطور الارادوي الذاتي لدى هذه المجتمعات وما يشملها من صراع وتجديد وشمول جديد لعقل لايعاني من الاقصاء والهيمنة سواء من قبل الذات او من قبل الاخر ، فأذا كانت العولمة تستهدف الجذور الثقافية التي رسخت الاستبداد والتسلط المعرفي والثقافي والاطرالضيقة للحياة والمجتمع و جميع القيم التي تؤبد الاتكال والنظرة العجزية الى العالم من خلال أعتبار الانسان ماهو إلا غشاوة او اداة لاتوجد لديه القدرة على التغيير ، فأن ذلك يغدو امرا ايجابيا من اجل خروج مجتمعاتنا من هيمنة التاريخ المظلم الذي يعمل على تعطيل مكامن الابداع والخلق ومن ثم تصورها وكأنها آتية من نسق شمولي لايدركه الانسان او المجتمعات .
يقول المفكر محمد عابد الجابري ان الهوية الثقافية لاتكتمل إلا اذا كانت مرجعيتها جماع الوطن والامة والدولة (13) فالوطن كما يقول الجابري هو ( الارض والاموات ) ، وهنا نقول هل الاتحاد مع الميث ممكن ،خصوصا إذا كان هذا الميت يفصلنا عنه الزمن الثقافي المتكلس والمحافظ ، والذي لم يستطع ان يغير صورته طيلة هذه الازمنة التاريخية ، ومن ثم اصبح ذلك الميت ، وكأنه يحمل صفة الخلود من حيث تمركزه كذات قادرة على تأسيس قيم البقاء بشكل لاعقلاني الى حد بعيد خصوصا بعد نفاذ عملية بقاءه ، وذلك لانه لايعمرتاريخا جديدا من التسامح وقبول الاخر الانسان بقدر مايؤسس الواحدية والشمول ، ومن ثم إلغاء لكينونة الانسان الحي والمدرك لواقعية الوجود العياني المعاش ، وهنا الميت ليس بمعطياته الثقافية التنويرية التي استطاعت الذاكرة العربية الاسلامية اجتراحها في فترة نهوضها الحضاري ، وكذلك الحال مع الامة التي لم تستطع ان تؤكد عبر ذاكرتها التاريخية سوى ثقافة المركز الشمولي ومن ثم يغدو الحاضر والمستقبل صورة واحدة لماض قاتم ومن ثم ممارسة التكرار والاجترار لذاكرة غير منتجة بشكل آني معاش بفعل عوامل الاخفاق السياسي والاقتصادي لدى اكثر الانظمة العربية ، وهذه الامة مرة اخرى لم يوجد فيها قابلية الاعتراف بالارادة الجماعية لافرادها ، ومن ثم لايوجد هناك حقول متعددة من النفي والاستلاب والاغتراب بدءا من قبل اجهزة الدولة الحديثة وانتهاءا بهرمية الحزب الشمولي الاستبدادي ، كذلك الحال مع الدولة ، والتي ارتبطت طيلة التاريخ العربي الاسلامي بشخص الحاكم ، وما يعزز ذلك الاخير من انساق سلطوية ثقافية تشمل الذوات والكيانات البشرية الاخرى ، ومن ثم اي مساس يطال الحاكم فأنه مساسا بالامة والمجتمع ككل ، ومن ثم لم تكن تمثل الدولة ذلك الكيان الاشمل للتطور والانجاز والاختلاف والتعدد والقبول بصور مختلفة للفكر والحياة بشكل عام
لماذا تدرك المجتمعات العربية الاسلامية العولمة على انها قمع واقصاء ونهاية للخصوصي المجتمعي ، ومن ثم يتم طرح البديل وهو العالمية ؟ من الطبيعي لابد ان تعمل اكثر المجتمعات التي جعلتها الشروط التاريخية سواء تلك المتعلقة بالذات وتراجعها الطويل او تلك المتعلقة بالاخر الذي استطاع ان يتجاوز حداثته ذاتها من خلال تأبيد عناصر الهيمنة على الشعوب المستضعفه ، ومن ثم لم يكن وفيا لهذه الحداثة وما حملت من مبادئ انسانية تتمثل بالعدالة والرفاه والتحرر وتحقيق التقدم البشري كل ذلك لم يتحقق إلافي سياق المجتمعات المتقدمة ذاتها ، ومن هنا اصبحت مجتمعاتنا في خانة التراجع والضعف ، ومن ثم امرا طبيعيا ان يتخللها التوجس من ثقافة العولمة لانها لاتملك اية مركزية معينة ولا اية اطراف قوية بل هي تقع في صف الهوامش الضئيلة والتابعة الى المراكز الاقوى ، كل ذلك ناتج عن شروط تاريخية قديمة وحاضرة شكلت وجودها الحالي المتردي على جميع المستويات الثقافية والاقتصادية والسياسية ..الخ
ان العولمة في نظر الجابري تعمل على ترسيخ خمسة اوهام ، وذلك من اجل ان تضمن القوى المهيمنة سيطرتها ، ومن ثم تكرس الاستتباع الحضاري من خلال ثقافة الاختراق (14) ، وهذه الاوهام تشمل 1- وهم الفردية 2- وهم الخيار الشخصي 3- وهم الحياد 3- وهم الاعتقاد في الطبيعة البشرية التي لاتتغير 5- وهم الاعتقاد بغياب الصراع الاجتماعي حيث يعتبر الجابري ان المجتمعات الغربية يوجد فيها الفرد بشكل مستقل عن الاخرين بلا تفاعل عضوي وانساني ، ومن ثم كل ماحوله يعد اجنبي ، ومن ثم لايوجد هناك فرد مندمج في امة او طبقة اوحزب وان وجد ذلك فأنه يندرج ضمن وعي الشعور العالمي ، ومنثم يهدف ذلك الوهم الى الغاء الهوية الجمعوية والطبقية والوطنية القومية ، وهنا نقول ان نقول ان وهم الفردية ذلك مرتبط بجهاز ثقافي جديد ذو نسق سلطوي يغيب الافراد من حيث قدرتهم على التغيير ومن ثم لايوجد سوى ذلك النموذج الاشمل الذي تبثه العولمة وجهازها الثقافي الهائل ، ولكن اذا كانت الفردية وهما لدى المجتمعات المتقدمة ، فهل يعد لدى الافراد اية قيمة يذكر لدى مجتمعاتنا ؟ من المعروف ان قيمة الفرد في البمجتمعات المتقدمة اكثر حركة وديناميكية من حي القدرة على الاستقلال بشكل نسبي ومن ثم لاتوجد هناك شروط تجترحها قيم بعيدة عن المدنية والتطور المديني الحديث كتلك السائدة لدى مجتمعاتنا ، فالافراد في مجتمعاتنا منخرطون ضمن نسقية الجماعة الشمولية ، وهذه الاخيرة يتحكم بها الفرد الكاريزمي الذي يملك التأثير والحضوة اكثر من غيره ، ومن ثم يغرق الجميع في شخصه بأعتباره كائن شمولي كاريزمي ، ومن ثم هناك غياب كلي لقدرة الافراد بشكل مستقل ومن ثم لاتوجد تلك الجاهزية الثقافية لحرية الافراد بشكل حقيقي لدى مجتمعاتنا إلا من خلال انخراطهم ضمن وعي الطائفة او العشيرة بحكم التكوين القبلي المناطقي لدى اكثر المجتمعات العربية الاسلامية كذلك هو الحال مع الاوهام الاخرى حيث يقول الجابري ان وهم الخيار الشخصي يكرس الانانية ويعمل على طمس الروح الجماعية سواء كانت على صورة الوعي الطبقي او الوعي القومي او الشعورالانساني ، وهنا يبدو ان هذا الوهم الثاني مرتبط بالاول من حيث قدرة الفرد ومدى استقلاله الشخصي وهنا نرى ان الخيار الشخصي يندرج ضمن خيار (الدولة - الفرد) لدى مجتمعاتنا ومن ثم لاتتحقق الفردية والخيار الشخصي بشكل حقيقي إلا من خلال عملية الدمج بين روح الجماعة التي تقدس الفرد واستقلاله الشخصي وبين روح الفرد الذي ينصهر مع الجماعة من اجل خيارات اكثر تطورا ونهوض في مجتمعات غيبت عنها جميع الخيارات الفردية والجماعية بشكل عام



أثر العولمة على التربية
تحمل ظاهرة العولمة من حيث تمثلها كظاهرة حاضرة وضاغطة لدى المجتمعات المغيبة عنها عناصر التأقلم والاندماج مع الشكل الخصوصي للحداثة مجموعة من القيم التي انتجتها الحداثة الغربية ، منها تلك التي تعمل وان كانت وفق منهج دعائي سياسي على سيادة انتشار قيم حقوق الانسان والديمقراطية والحداثة المعقلنة لجميع مؤسسات المجتمع وهيكلية تراتبة الاجتماعي بحيث تغدو هذه المؤسسات خاضعة لسيطرة تلك الامتثالية العقلانية التكنلوجية التي تحملها الحداثة وقيمها ، ومنها ماهو مرتبط بطبيعة المجتمعات الغربية من قيم وثقافات استهلاكية لديها التأثير على مجتمعاتنا الى حد كبير ، ومن ثم يغدو امر انتشار هذه القيم قائما وفق نسق سلطوي ، وذلك بسبب تميع الحدود وذوبان الكثير من الدول " الوطنية " في بوتقة وجاهزية المركز ومصالحه الستراتيجية في المنطقة العربية خصوصا بعد ان فشلت مشاريع التحديث في المنطقة ، وهكذا تضعف اهمية وقيمة المؤسسات الاعلامية الحاملة الى ولادة وعي حداثي غير مرتبط بطابع التربية الضاغطة للعولمة وقيمها بسبب فقدان الاستقلال السياسي ، الذي يؤدي الى سيطرة الاسواق الرأسمالية على اكثرقنوات البث والاتصال الاعلامي من حيث كونه واقعا تحت تأثير الشركات عبر الوطنية والتي تملك اسهما كبيرة في هذه المؤسسات الاعلامية ومن ثم يحدث لدينا ما يسمى بنظرية التبعية الثقافية او التسطيح الثقافي لمجتمعات بأكملها ، وهنا يشبه التأثيرذلك ضمن نفس السياق الذي كانت تمارسه الامبراطورية في شكلها الاستعماري القديم على الشعوب الواقفة الى جانب الانحناء كأدوات مستغلة ، لكن الاختلاف بين الامس واليوم يتمثل من خلال قدرة البندقية في الماضي على احتلال الجسم البشري وامتثاله امام سطوة المنتصر والقوي ، واليوم فأن المدرسة تسحر العقل وهنا الاشارة الى التعليم على الطريقة الغربية (15)، ولكن منطق البندقية مايزال ساري المفعول مع الاخذ يعين الاعتبار تلك القدرة الهائلة لتحولة وتطوره الى آلة حربية كبيرة ومدمرة .
يقول هربرت ماركوز "ان العقل هو السلطة الهدامة في المعادلة ( العقل- الحقيقة - الواقع ) التي تجمع بين العالم الذاتي والعالم الموضوعي في وحدة متناحرة ،فهو يمثل بوصفه عقلا نظريا وعقلا عمليا في آن واحد "سلطة النفي " التي تقرر الحقيقة بالنسبة الى البشر والاشياء ، اي تقرر الشروط التي يمكن للبشر والاشياء ان يصبحوا ماهم كائنون عليه فعلا " (16) من هنا يتبين منطق العولمة الكلياني ، والذي يعتمد من العقل المسلح بالتقانة من اجل خلق مجتمعا مغلقا ينتج عبودية واحدة تضمنها التكنلوجيا من حيث قدرة النسق على إضفاء طابع التشيؤ التكنلوجي ومن ثم هناك العبودية التي لاتتحدد بالطاعة ولابقوة الكدح وانما بالانسان المحول الى أداة او شئ ( 17 ) هذا ما تريد ان تنجزه الحضاره الغربية التي أفل نجمها من حيث قدرتها على انتاج التغيير اي تغيير ادوات النظام واساليبه ومؤسساته المشيئة للانسان ووجوده ، ومن ثم بدأت تصدر للعالم افكار نهاية التاريخ والايديولوجيا والانسان والافكار والطموحات والاحلام ..الخ انها حضارة منتهية إلا من خلال درجة سطوتها وهيمنتها الكليانية على العالم بفعل تفوقها التقني والاقتصادي والعسكري ، ومن هنا يجب ان يبدأ دورنا نحن مجتمعات الجنوب الواقعة تحت سطوة الهيمنة والاستغلال ، في تكملة الحضارة واعطاءها الجانب الانساني عبر مراجعة ذواتنا وما اصابها من هيمنة معادلة العقل الذي يلغي الآخرين ومن خلال مراجعة الذات الحديثة ومنجزاتها واسباب تكلسها وتأخرها وتراجعها ، وهنا التراجع لايعني من خلال التطور التقني والعلمي بقدر ما هو راجع الى التراجع عن بناء عالم انساني افضل .
لقد تراجعت اولى المؤسستين المنتجتين للتربية التي يتخللها العقل النافذ الى مساحات كبيرة من المدينية والتسامح وبناء عالم غير اطلاقي في صوره واشكاله وتعامله مع المحيط الاجتماعي في العالم العربي بسبب مجموعة من الاخفاقات السياسية والاقتصادية والثقافية ، هذه المؤسستين هما الاسرة والمدرسة فالاولى هي " اهم المصانع الاجتماعية التي تنتج الوجدان الثقافي الوطني ، بواسطة شبكة من القيم التي توزعها من خلال التربية على سائر افرادها او تلقنهم إياها بوصفها الاداب العامة الواجب احترامها " ( 18) هذه الاسرة اصابها فعل التراجع عن انتاج التربية المؤسسة على القيم الهادفة ، وذلك بفعل تشضيها وتفككها ، بسبب الازمات المعيشية والوجودية للاسرة المجتمعية ، ومن ثم تم تعطيل قدرة الممارسة والجزل في العطاء التربوي الاسروي ، ومن ثم النبذ الى دائرة الجهل والخرافة والتطرف والامية وسيطرة مؤسسات الهامش الاجتماعي التي تتلقى الشباب النشئ الذين انعدم لديهم البيت الاسروي الجيد إضافة الى الاخفاق في الحصول على التعليم المناسب ، وهنا يأتي الاخفاق الثاني للمؤسسة الاخرى الاكثر حيوية في انتاج الوعي المديني التربوي ، هذه المدرسة " تستأنف عمل الاولى وتنتقل بأهدافه الى مدى ابعد من حيث التوجيه ،والتي تعد اسرة ثانية للناشئة تمارس الوظائف التربوية عينها " (19)ان الاسرة في مجتمعاتنا ( العراق خصوصا ) طيلة هذه الازمنة المظلمة من تاريخه انتجت "الطفولة المسلحة " وهنا تعني بالطفولة التي لايوجد لديها سوى التربية القائمة على تمجيد وتأليه ثقافة العسكر وعنفيتها من حيث ضمان طفولة مؤصل فيها وعي العنف متمثلا بالهدايا والالعاب والالفاظ والممارسة الطفولية للوقت كل ذلك يجري من خلال منطق السلاح والعنف ، وذلك يمثل اجترارا طبيعيا لعنفية الكبار القادة الذين يسجلون حروبهم واساطيرهم الوهمية على الاخرين سواء من الداخل ( الوطن ) او الخارج من الاعداء الوهمين ايضا ، كذلك الحال مع المدرسة التي توقفت عن تكملة المنهاج التربوي ، حيث يرجع ذلك الاخفاق الى مؤشرين في نظر الدكتور عبد الاله بلقزيز الاول يتمثل بالعجز عن امكانية تحويل التعليم في المجتمعات العربية الى حق عام يشمل الاكثرية المجتمعية ، ومن ثم لايتكون لدينا جيشا من الامية ،حيث اقتصر التعليم على المجال المديني ومن ثم كانت درجة الاهتمام في الارياف تكاد ضئيلة في اكثر البلدان العربية ، اما المؤشر الثاني فيكمن في فقر محتوى برنامج التكوين التعليمي وقصوره عن الاجابه عن الحاجات المعرفية والعلمية ، ومن ثم ادى ذلك الى تخريج الكثير من انصاف المتعلمين الذين لايمكن الاستفادة من طاقاتهم المتواضعة ضمن مؤسسات الانتاج المادي والرمزي (20)، ومن هنا فأن تأثير العولمة بشكله السلبي سوف يكون اكثر ايغالا لدى المجتمعات المغيب عنها وعي الحداثة ، اي تلك التي تحاول ان لاتؤسس تبعية اقتصادية وثقافية تتمثل بالقدرة على التغييركوعي مؤنسن ومدرك بلا إرادة فرض من قوى اكثر إمكانية وتطورا وجاهزية سلطوية ، حيث ماتزال البنيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية ضعيفة الامر الذي من الممكن ان يؤدي الى نهاية الاختلاف الثقافي ، ومن ثم الاندماج في بوتقة الاخر المستهلك والعابر ليس إلا، وذلك لان العولمة الرأسمالية لاتؤدي الى تثوير الوعي والبنى التقليدية في الهوامش بقدر ماتؤدي الى تقويضها دون ان تنشأ البنى الحديثة البديلة القادرة على استيعاب العولمة الاقتصادية كقوة داخلية (21)ومن ثم يؤدي ذلك الى عدم دراسة الحضارة الغربية ومنجزاتها بشكل مستقل وعقلاني تساهم في تحقيقة الذات المجتمعية السائدة كمنجز داخلي له الجاهزية والتشكل الارادوي الذاتي مع ماتملك من قيم وثقافات غير مؤصل لديها طابع الغاء قيمة وعي الانسان وحريته .


نحو تربية حداثية جديدة
لاتمثل العولمة سوى حداثة لديها الجاهزية في بث قيمها بشكل سلطوي وذي نسق واحد ورؤية واحدة متمثلة بثقافة المنتصر والمهيمن على جميع ادوات التعدد والاختلاف والانتقال من قابلية بشرية منتجة الى أخرى اكثر تطورا واستيعابا لطبيعة الانسان الاختلافية ، التي لايمكن ان تجمع في قالب وإطار واحدين ، ومن ثم لابد من المجتمعات التي تختلف عن جاهزية المركز وثقافته ان تؤصل حداثتها وفقا لطبيعتها المجتمعية وما يحيط ذاكرتها من قيم وثقافات ، وذلك بعد تصفيتها من آثار وانساق الشمولي الغارق في تراتبية الالغاء وممارسة الهيمنة وتحجيم المجتمع الانساني وإعطائة صفة الدولة المهيمنة ، التي ترجع في اصولها الى ذاكرة الفرد المستبد ، فالحداثة تحمل في داخلها آنية الزمن المعاش وواقعية المجتمعات المؤصل فيها وعي التجديد والاستمرار وترسيخ كل ما من شأنه ان يعزز الجانب الايجابي النسبي للافكار والقيم بعيدا عن لغة الهيمنة او ممارسة معادلة ( الحقيقة - العقل) كمصدر لالغاء الاخرين ، فمجعاتنا غير مدرك بالنسبة لديها جميع التصورات الحاملة لفكرة الحقيقة التي تستطيع ان تصحح ذاتها بشكل مستمر ، اي انها حقيقة معرضة للخطأ والصواب ، ومن ثم لاتوجد هناك الحدود والثوابت والاطر المشكلة للوعي من حيث الكمال والاطلاق النهائي ، انها حقيقة غير مشكلة بعد لدى الذات العربية رغم وجود عدة ترددات حاولت ان تؤصل الجانب الايجابي للافكار والقيم مرتبطة بمدراس فكرية ومجموعة من الاجيال الادبية والثقافية التي حاولت ان تحدث تراتبا نسقيا معينا يضفي طابع الحرية ويعمل على تمثل حقول واسعة ومنفتحة من الثقافات غير المتصارعة فيما بينها بشكل عنفي داخل وعي المجتمع ، ومن ثم غير متأصل لديها قيمة الاقصاء والعنف وتماثل الاخر في ذاتنا ، وكأنه يحمل صفة الاختلاف الذي يدعو الى النبذ والخطأ بل الخطيئة في كثير من الاحيان ، وذلك راجع الى تأصيل ثقافة مدرسية تقليدية تعتصم بالصواب والحقيقة النهائيتين ، هذه الثقافة رسخت تاريخيا طيلة الزمن العربي الاسلامي منذ ذلك الزمان الذي انتصر فيه القلب والعاطفة على العقل والسؤال ، وما دعوة الغزالي الى الجام العوام في علم الكلام إلا دعوة الى تفريغ المجتمع من قيمة العقل والسؤال والدهشة التي تمثل بداية دينامية التغيير والشعور بالزمن الآني المعاش ، ومن ثم لا يوجد هناك طبقة نخبوية من القائمين على الثقافة تحلل وتعطي الحقيقة والصواب وفقا لمنظورها الخاص والذي من المؤكد له صلة كبيرة بالسلطة وثقافتها وما تبثه من قيم معينة كي تستمر وتؤصل وجودها داخل نسق المجتمع

ان التربية التي عملت على ممارستها المانيا القرن التاسع عشرمتأثرة بخطابات فيخته القومية كانت قائمة على
1- العمل على خلق نوع من البشرمختلف عن البشر العاديين اي تأكيد التربية على ممارسة الاطلاق والتضخيم الكلياني للذات ومن ثم جعلها ، وكأنها مفارقة لطابعها البشري ومن ثم تأسيس التجانس والتشابه والتماثل داخل المجتمع
2- رفع المواطن الالماني الى درجة الانسان الكامل ، وهنا ممارسة النهائية والجمود من خلال الكمال ذاته لان الكمال ينهي عملية التطور والصيرورة والتغيير كصفة لازمة من صفات الطبيعة والمجتمع ومن ثم تعد الدعوة الى الكمال دعوة الى نهاية التاريخ والحياة والافكار والمجتمعات
3- الاحتياط ضد احتمال دفع الطالب الى ان يفكر بأنه غير قادر على التفكير . ( 22)
ان هذه الشروط تنتمي الى دائرة المركزية المطلقة في تأكيد التربية ، ومن ثم تكوين حقول متعددة من الاستبداد ، هذه الشروط وجدت كإنعكاس ضعف قومي وعنصري تمثل بحروب نابليون وسيطرته على الكثير من مقاطعات المانيا واراضيها الامر الذي ادى في النهاية الى وصول هتلر الى سدة الحكم كنتيجة طبيعية لثقافة قوموية سلطوية قادت البلاد الى حروب وويلات مدمرة
عملت الدولة " الوطنية " في المجتمعات العربية بعد الاستقلال على تمثل هذا النموذج من اجل ان تضيف الى مركزيتها المطلقة بفعل التاريخ الشمولي الاستبدادي العربي مراكز سلطوية أخرى ، والنتيجة ذلك التأصيل المستمر لسلطة دائمة الحضور ودائمة العلم بشكل زائف شعاري مؤدلج بحيث استطاعت هذه السلطة ان تعمم نموذجها على الحياة والمجتمع وتربية الاجيال الناشئة ضمن إطارها الشمولي المركزي ، ومن ثم لم يتأسس هناك فضاءا غير مغلقا ومنقطعا عن كل ما من شأنه ان يمارس التحديث والتجاوز ، لقد كانت هذه السلطة تتفرع بذاتها بشكل منتظم وغير منقطع حتى يتم الحصر النهائي للفرد والمجتمع في آن واحد كما يقول ميشيل فوكو في كتابة ولادة السجن واصفا السلطة التي تضبط المجتمع عبر ميكانزمات وعلاقات سلطوية خفية تارة ومدركة تارة اخرى (23)
لايمكن ان تتحق الحداثة في مجتمعاتنا العربية الاسلامية إلا من خلال تجاوز عدة ازمات يحددها الدكتور محمد جواد رضا تتمثل من خلال
1- تقاليد القهر وغياب الابداع
2- تربية المبدعين
3- القصور الابستيمولوجي في فهم الطفل
4- الطفل ومعضلة القصور اللغوي في المجتمع العربي المعاصر
5- تجديد الوعي بطبيعة اللغة وأكتسابها
6- الطفولة العربية بين التغابن الاجتماعي وقصور الرؤية التربوية
ان تجاوز الازمة الاولى المتمثلة بتقاليد القهر وغياب الابداع من شأنه ان يقود الى تجاوز بقية الازمات الاخرى
حيث ان الابداع سمة بشرية تجترحها المجتمعات التي تمارس ملكة النقد وجدلية التطور والتغيير الدائمين ، ومن ثم لايوجد هناك مركزية معينة لاتستند الى الانسان بأعتباره مصدرا للقيم والافكار والحقيقة ، وهنا المركزية معطى اولي لايتعلق بالاطلاق النهائي بقدر مايتعلق بشكله النسبي المحايث لكل ماهو آني معرض للتحول والتبديل بشكل مستمر ، فالابداع لايوجد ضمن فضاء مغلق او ضمن ثقافة لايوجد فيها حرية للرأي والفكرو ممارسة التغيير على مختلف الاطر والانظمة المجتمعية خصوصا بعد ان غيب طيلة التاريخ العربي الاسلامي ، دور العقل وقدرته على الابداع منذ ان انتصر اهل النقل الذين يستندون على رؤية غياب السببية المباشرة وذلك لانها تقود الى انكارية المعجزة وحدوثها ضمن تصورهم ، ومن ثم كانت رؤية العقلانيون اكثر اكثر تماسكا وارتباطا بحركة الواقع والمجتمع وتطوره إذ كانوا يقولون بلسان ابن رشد " ان من يرفع السببية يرفع العقل ويبطل العلم " (24)
فالاسلام عندما حل كنسق سياسي ثقافي اجتماعي احدث تغييرا بشكله النسبي في بنية المجتمع العربي ، ومن ثم عمل على إحداث تواصلا جديدا مع قيما مختلفة عن الماقبل الجاهلي ، حيث بدأت مؤسسة المدينة تجترح قيما جديدة وتؤسس الدولة القائمة على صياغة مجمل التطورات المتعلقة بها من خلال قدرة التعاون بين الافراد انفسهم اي بين الجماعة المؤمنة التي احدثت النسق الثقافي والسياسي الجديد ، ومن ثم وجد هناك قانونا او عهدا سياسيا ودينيا يشمل هذه الجماعة ومرتبط بإرادتها بلا سيطرة شاملة لفرد قائد يحتكر مصادر السلطة والثروة لصالحة ومن ثم يجعلها ملك عضوض تابع الى العائلة او الاقربون ، كانت هنالك دولة وليدة ناشئة تريد ان تؤسس سلطة القانون او الشرع ، ومن هنا نقول ان الاسلام حاول ان ينقل المجتمع من بنية القبيلة - البداوة الى بنية المدينة رغم الكثير من المعوقات التي واجهها ولكن سرعان ماتعود هذه الحمية اي حمية القبيلة ونصرة القريب وان كان ظالما ، اي بلا وازع يؤكد الاهتمام بسلطة القانون او الشرع ، فالخليفة تحول الى رجل مطلق الصلاحية واهل الحل والعقد تحولوا الى جهاز ثقافي دعائي يتبنى جاهزية الخليفة ومصالحه ، ومن ثم انعدم التطور المؤسساتي الذي يقود الى الدولة ، ومن ثم الى الاستقرار والازدهار، فحرية الرأي كانت سائدة في زمن الرسول الاعظم بلا إرادة معينة للاقصاء او نهاية التعددية السائدة ضمن نسق الثقافة الجديدة التي أرسى دعائمها الاسلام وقيمة ، وهكذا بدلا من ان تتأسس فكرة الحكومة القابلة الى ولادة مؤسسات كثيرة تشحذ من قيمة الابداع والخلق تأسست فكرة الملك السلالي المؤ بد على أرادة المجتمعات العربية الاسلامية ، ومن ثم تأكيد مطلق للطاعة والولاء المطلقين تلاه انعدام الثقة بالشعب وبداية عملية خلق تكوينات طبقية ثقافية بين مدركة وقابلة الى الايمان والولاء وبين اخرى ضعيفة الايمان منعدمة البصيرة والمعرفة بحكم ارتباطها ضمن وضع هامشي لا انساني ، ومن ثم رسوخ مطلق لجاهزية قيم لاتحث على التغيير والانتقال من شكل سياسي ثقافي الى آخرمختلف عن تجلياته ما فبله ويشكل تواصلا مستمرا نحو قيم لاتؤصل وعي النكوص كمعطى جاهز لدى الافراد عموما .
ان الحداثة ليس من شأنها ان تحدث نسق الحريات والتسامح وبناء منظومة من السلوك العقلاني المرن والمتغير فحسب بل هي دعامة اكيدة لقدرة الانسان في السيطرة على الزمن والشعور به وتمثله كقيمة لاتخرج من إطاره وابداعه وهنا الحداثة تملك القابلية الى اجتراح الجديد والمغاير وممارسة جدلية نفي الداخل والخارج في آن واحد اي انها تعمل على هضم جميع المكتسبات التي تنتجها الذات ومن ثم تحدث عملية مراجعتها وممارسة عملية الانسنة عليها من خلال تجديها واعطائها الطابع الايجابي المرتبط بالزمن المعاش بلا تأبيدات معينة للافكار والقيم ، هذه الحداثة منبثقة من الذات وقدرتها على تكوين صور واطر معرفية جديدة غير قابلة الى التكلس والتراجع تتحقق من خلال وجود دولة متسامحة مع الجميع يعنيها بالدرجة الاساس انتشار الجانب الايجابي للقيم والافكار المرتبطة والمؤسسة على التعايش السلمي والتطور الهادئ التدريجي الذي يقود المجتمعات الى التغيير من دون عوامل اكراه معينة او فرض قيم معينة دون اخرى على وعي المجتمع ، هذه الدولة لاتمثل شركة تجارية او مؤسسة قابلة الى استلاب وارهاق المجتمع عبر فرض الكثير من الظروف والاوضاع اللانسانية التي تساهم في شحذ قيم التطرف والعنف داخل وعي المجتمع بشكل مستمر .

الهوامش
1- التربية العامة / رونيه اوبير / دار العلم للملايين / الطبعة الرابعة / 1979- ص 21-22
2- المصدر نفسه ص 51
3- المصدر نفسه ص 53
4- المصدر نفسه ص 55
5- المصدر نفسه ص 59
6- اتجاهات جديدة في علم الاجتماع / ميشيل هارا لامبوس / بغداد- بيت الحكمة 2001 / ص 583
7- التربية العامة / ص 71
8- المصدر نفسه ص 77
9- ثقافة العولمة عولمة الثقافة / برهان غليون / دار الفكر المعاصر / بيروت 2002 ص 12
10- العرب والعولمة / السيد يسين / مركز دراسات الوحدة العربية / بيروت 2000
11- مجلة العرب والفكر العالمي / العدد الرابع / بيروت - خريف 1988/ ص 13
12- عبد الله الخياري / التعليم وتحديات العولمة / مجلة فكر ونقد
13- محمد عابد الجابري / ندوة العرب والعولمة / مركز دراسات الوحدة العربية / بيروت 2000 / ص 299
14- المصدر نفسه ص 302
15- اتجاهات جديدة في علم الاجتماع / ميشيل هارالامبوس / بغداد 2002 ص 272
16- هربرت ماركوز / الانسان ذو البعد الواحد / منشورات دار الاداب - بيروت 1988/ ص 68
17- المصدر نفسه ص 68
18- الدكتور عبد الاله بلقزيز / العرب والعولمة / مركز دراسات الوحدة العربية / بيروت ص 311
19- المصدر نفسه / ص 311
20- المصدر نفسه ص 313
21- عزمي بشارة / العولمة واسرائيل / مركز دراسات الوحدة العربية / بيروت ص 282
22- الدكتور محمد جواد رضا / أزمات الحقيقة والحرية في التربية العربية المعاصرة / منشورات دار السلاسل / الكويت 1988/ ص 8
23- ميشيل فوكو / المراقبة والمعاقبة - ولادة السجن/ مركز الانماء القومي / بيروت 1990ص 208
24- محمد جواد رضا / أزمات الحقيقة والحرية ص 24



#وليد_المسعودي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الحداثة والتراث في مقاربة جديدة
- أسس الانتماء الى الثقافة والمثقف
- الحريات السياسية ضمن جدلية البناء والتغيير
- الارهاب والطائفية في العراق - نحو إعادة تشكيل الواقع السياسي ...
- المعرفة وأدوات البناء في المؤسسة التربوية العراقية
- أخلاقيات السجن - أخلاقيات العذاب
- الاعلام العربي .. الى اين
- مشروع الدولة في العراق بين الطائفة والعرق
- الفلسفة والدولة
- تخلف السياسي - تبعية الثقافي
- ماذا تريد الدولة من المجتمع؟
- وظيفة الرئيس .. نظرة مستقبلية
- المواطنة .. وعي مؤنسن داخل المجتمع
- نحو ستراتيجية عراقية لمواجهة الارهاب
- الدولة العراقية وآفاق المستقبل
- المثقف والمؤسسة .. جدلية الرفض والقبول
- العنف الذكوري ضد المرأة
- الذات العراقية بين احتلالين
- المرأة العراقية بين الواقع والمثال
- أدلجة الحقيقة - عنف المعنى


المزيد.....




- واشنطن تريد -رؤية تقدم ملموس- في -الأونروا- قبل استئناف تموي ...
- مبعوث أمريكي: خطر المجاعة شديد جدا في غزة خصوصا في الشمال
- بوريل يرحب بتقرير خبراء الأمم المتحدة حول الاتهامات الإسرائي ...
- صحيفة: سلطات فنلندا تؤجل إعداد مشروع القانون حول ترحيل المها ...
- إعادة اعتقال أحد أكثر المجرمين المطلوبين في الإكوادور
- اعتقال نائب وزير الدفاع الروسي للاشتباه في تقاضيه رشوة
- مفوض الأونروا يتحدث للجزيرة عن تقرير لجنة التحقيق وأسباب است ...
- الأردن يحذر من تراجع الدعم الدولي للاجئين السوريين على أراضي ...
- إعدام مُعلمة وابنها الطبيب.. تفاصيل حكاية كتبت برصاص إسرائيل ...
- الأونروا: ما الذي سيتغير بعد تقرير الأمم المتحدة؟


المزيد.....

- نحو استراتيجية للاستثمار في حقل تعليم الطفولة المبكرة / اسراء حميد عبد الشهيد
- حقوق الطفل في التشريع الدستوري العربي - تحليل قانوني مقارن ب ... / قائد محمد طربوش ردمان
- أطفال الشوارع في اليمن / محمد النعماني
- الطفل والتسلط التربوي في الاسرة والمدرسة / شمخي جبر
- أوضاع الأطفال الفلسطينيين في المعتقلات والسجون الإسرائيلية / دنيا الأمل إسماعيل
- دور منظمات المجتمع المدني في الحد من أسوأ أشكال عمل الاطفال / محمد الفاتح عبد الوهاب العتيبي
- ماذا يجب أن نقول للأطفال؟ أطفالنا بين الحاخامات والقساوسة وا ... / غازي مسعود
- بحث في بعض إشكاليات الشباب / معتز حيسو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - حقوق الاطفال والشبيبة - وليد المسعودي - في التربية والعولمة - نحو تربية حداثية جديدة