أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - جواد بشارة - العراق : بعد ثلاث سنوات من السقوط هل حان وقت تقديم الحسابات؟















المزيد.....



العراق : بعد ثلاث سنوات من السقوط هل حان وقت تقديم الحسابات؟


جواد بشارة
كاتب ومحلل سياسي وباحث علمي في مجال الكوسمولوجيا وناقد سينمائي وإعلامي

(Bashara Jawad)


الحوار المتمدن-العدد: 1516 - 2006 / 4 / 10 - 09:04
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


العراق : بعد ثلاث سنوات من السقوط
هل حان وقت تقديم الحسابات؟
كنت شاهداً مباشراً من منفاي القسري في باريس منذ أكثر من ثلاث عقود، من على شاشات التلفزة الفرنسية وعلى البث المباشر في التاسع من نيسان 2003 يوم سقوط تمثال الطاغية حيث كنت أشاهد وأعلق وأبكي بدموع الفرح، وأبكيت معي ضيوف البرامج الإخبارية في الأستديو، وأنا أشهد سقوط تمثال الطاغية ونهاية الحقبة الديكتاتورية السوداء التي أخمدت أنفاس العراق والعراقيين لمدة زادت على الخمسة وثلاثين عاماً. وبعد عودتي للعراق ومواجهة المحن والأهوال والمخاطر لفترة سنتين ونصف رأيت فيها تدحرج العراق نحو الهاوية ، واليوم وبعد مرور ثلاثة أعوام على ذلك الحدث التاريخي مازلت أبكي ولكن بدموع الحزن والأسى والخوف من الغد والخشية من ضياع الوطن الجريح الذي ناضلنا من أجله وخاطرنا سنوات طوال من الحرمان وخطر الاغتيال والذي نراه اليوم ينزلق تدريجياً نحو النهاية المأساوية التي تنتظره يوماً بعد يوم فما هي الحصيلة وماذا سيجري في الغد المنظور؟ مما لا يقبل الشك أن الولايات المتحدة الأمريكية عاجزة عن جلب الأمن والاستقرار وحدها إلى العراق ولا يوجد أي أفق إيجابي لنهاية دوامة العنف بعد مرور ثلاث سنوات على الغزو العسكري. تشير الأحداث الأخيرة من تفجيرات للمزارات والمراكز والقبور والمساجد المقدسة لدى الشيعة والسنة، وعمليات التهجير والترحيل القسري للطائفتين من أماكن سكناهم لكونهم يعيشون وسط أغلبية مخالفة لمذهبهم ، وانتشار حالة التشرذم والانقسام والاستقطاب الطائفي والقتل العشوائي على الهوية وعمليات الانتقام والتصفيات الجسدية وفرق الموت وغيرها من الأحداث إلى أن العراق يقترب رغماً عنه وبخطوات أكيدة نحو حرب أهلية دامية شعواء إن لم يكن قد دخل فيها بالفعل دون أن يعلن عن ذلك رسمياً أمام عجز قوات الاحتلال والقوات العراقية العسكرية والأمنية الوليدة عن السيطرة على الأوضاع. قد لا نكون قد دخلنا في خضم حرب متاريس وصدامات بين الأحياء والمناطق والمدن كما حدث في لبنان لكننا لسنا بعيدين عن ذلك ولو انسحب الأمريكيون اليوم فجأة وبصورة كاملة تاركين البلد يواجه مصيره لوحده فإننا سندخل في جحيم يحرق الجميع رغم أن مطلب خروج قوات الاحتلال هو أمل وهدف ورغبة الجميع تقريباً ولكن يجب أن يتم ذلك تدريجياً وعلى نحو مخطط ومبرمج له وفق جدول زمني دقيق ومحدد سلفاً وإلا سوف تدخل دول الجوار والقوى الإرهابية العالمية إلى العراق بقوة وتحوله إلى ساحة معركة لتصفية الحسابات بينها سيما تركيا وإيران وسوريا والسعودية والكويت والأردن .
يتعرض الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش إلى ضغوط شديدة داخل الكونغرس ومن جانب الرأي العام الأمريكي والعالمي لسحب قواته من العراق بأسرع وقت ممكن بل أن حلفاؤه البريطانيون أعلنوا من جانبهم سحب 10 بالمائة من قواتهم بحلول شهر آيار القادم بينما ينبغي أن يحصل العكس لتعزيز الأمن والاستقرار حسب قول الخبراء العسكريين العالميين وقد قدر بعض الخبراء الأمريكيون أن العراق بحاجة إلى 380000 عسكري لكسب الحرب ومرحلة مابعد الحرب في العراق إلاُ أن الحكومة الأمريكية لم تقتنع بذلك.
الوضع الاجتماعي والاقتصادي في العراق متردي على نحو مهول وهناك تبذير مذهل للموارد والثروات الوطنية هناك بين 15 و 20 بالمائة من مصادر الثروة مرتبط بمشاريع لإعادة البناء والإعمار حوُلت للأغراض الأمنية البحتة وأغلب سكان العراق محرومون إلى اليوم من الكهرباء والماء الصالح للشرب والوقود ويعيش ربع سكان العراق تحت عتبة الفقر وهو البلد الأغنى في إحتياطاته النفطية . لقد أساء الأمريكيون التقدير وارتكبوا آلاف الأخطاء الفادحة باعترافهم هم وكانوا مغفلين عندما اعتقدوا أن إيران خائفة ولن تتدخل في الشأن الداخلي العراقي وسوف تبقى مكتوفة الأيدي إزاء المناورات الأمريكية العسكرية والدبلوماسية لتطويقها وإخضاعها وتطويعها ومنعها من تطوير برنامجها النووي والحقيقة الماثلة للعيان هي أن حربي 1991 و 2003 الأمريكيتين على العراق قد عززا التأثير الإيراني في هذا البلد شئنا ذلك أم أبيناه. والدليل على ذلك هو اضطرار أمريكا للقبول بالأمر الواقع والموافقة على إجراء حوار مع إيران بشأن العراق. أمريكا تتفرد بالقرار العراقي ولا تريد بل ولا تسمح للعالم ولا لأوروبا على وجه التحديد بالتدخل بأي شكل من الأشكال رغم التكلفة الهائلة للاحتلال الأمريكي للعراق والتي تصل إلى 200 مليار دولار سنوياً وهو مبلغ كبير مقارنة بمبلغ ال 80 مليار دولار المخصص سنوياً للمساعدة على التنمية والتطوير للدول الفقيرة والأمور ستزداد سوءاً من الناحية المالية لو استمرت الأزمة تستنزف كافة الإمكانات المالية للعراق وأمريكا على السواء سيما إزاء عجز كارثي في الميزانية الحكومية الأمريكية ورفض دافع الضرائب الإستمرار في تمويل المغامرات العسكرية الأمريكية في الخارج.
أخيراً اعترفت الإدارة الأمريكية بما كانت ترفض حتى مجرد التفكير فيه ألا وهو فشلها في إدارة ملف مابعد الحرب في العراق لوحدها وقد جاء على لسان وزيرة الخارجية الأمريكية كونداليزا رايس عندما صرحت لوسائل الإعلام العالمية قائلة : " لقد ارتكبنا آلاف الأخطاء التكتيكية في العراق إلا أن خيارنا الاستراتيجي بإطاحة نظام صدام حسين كان صائباً" ولكن هل يمكن أن يشكل هدف إسقاط النظام العراقي السابق فقط خيارا استراتيجياً للولايات المتحدة الأمريكية؟لايمكن الإجابة على هذا السؤال دون العودة إلى الوراء ومعرفة حيثيات الخطط الأمريكية وآلية إدارة الأزمة العراقية.إن عدم التحضير والاستعداد الجدي لفترة مابعد الحرب وتخلخل تماسك التحالف الدولي الهش أساساً،وارتكاب الأخطاء الاستراتيجية والتكتيكية معاً قد أوجد في العراق هاجس كابوس في نفوس العراقيين بشأن إنعدام الأمن وهيمنة الإحباط والخوف لدى العراقيين والإرادات العراقية مما حدُ من إمكانيات إعادة البناء والإعمار الحقيقية في حين ابتعدت العملية السياسية الجارية عن هموم المواطنين وحاجاتهم الحقيقية وماينتظرونه من عملية التغيير التي تمنوها قبل سقوط نظام الحزب الواحد. إلى جانب غياب المنظمات الدولية الإنسانية والإعلامية عن الساحة العراقية بعد تفاقم عمليات القتل والخطف وأخذ الرهائن الأجانب والعرب والعراقيين والإعدامات الجماعية والتفجيرات اليومية في حين تقف القوات العراقية العسكرية والأمنية عاجزة عن فرض الأمن وحماية المواطنين بل هي عاجزة حتى عن حماية نفسها بعد اختراقها من قبل العناصر الصدامية والإرهابية. يضاف إلى ذلك افتقاد المشاريع الاستثمارية وغياب المستثمرين الدوليين وعدم وجود مشاريع استثمارية حقيقية منتجة توفر فرص العمل وتساهم في إعادة الإعمار بل أن المستثمرين الدوليين أهملوا حتى قطاع النفط العراقي المربح والمضمون مما وضع العراق أمام مفترق طرق ومنعطف خطير، فإما أن يخطوا الخطوة الأولى الصحيحة نحو الخروج من النفق المظلم الذي يتخبط فيه أو يغرق في هوة عميقة مليئة بالمخاطر والدماء والدمار ولسنوات طويلة قد لاتنتهي قبل عدة عقود لاسمح الله.
مالذي حصل حقاً بين خطاب البدء الذي سبق الغزو الأمريكي وخطاب اليوم؟ أوحت الولايات المتحدة الأمريكية تلميحاً أو صراحة، بأن عهداً جديداً سيبدأ في العراق ليكون إنمودجاً يحتذى في التنمية والديموقراطية والحرية والازدهار والاستقرار والتقدم بعد إطاحة نظام الطغيان والاستبداد الفردي وتنظيم الانتخابات الديموقراطية الحرة لانتخاب قيادات عراقية جديدة نظيفة ووطنية ستكرس حياتها وجهودها لإنقاذ البلد مما عاناه من تخلف وتراجع وتقهقر على كافة الصعد. سيما بعد انتخابات 30 يناير كانون الثاني 2005 التي أعقبت الاستفتاء على الدستور الدائم لتشكيل حكومة عراقية انتقالية ومن ثم إنتخابات 15 ديسمبر 2005 الماضية لتشكيل حكومة عراقية منتخبة ومستقلة لمدة أربع سنوات تقوم بأعباء العراق الحقيقية وتسير بها نحو شاطيء الأمان، وتشكيل حكومة وحدة وطنية تتمثل فيها على نحو منصف وعادل كافة القوى السياسية العراقية المشاركة وغير المشاركة في العملية السياسية القائمة حالياً في أرض الرافدين. كما اعتبرت واشنطن الإقبال الكثيف للعراقيين على صناديق الاقتراع والمشاركة في تلك الاستحقاقات الانتخابية، بمثابة علامة على نجاح مشروعها التغييري في العراق وانتصاراً لسياستها ورؤيتها لواقع هذا البلد والمنطقة برمتها. بيد أن هذا التفاؤل المبالغ به لايخفي حقيقة الطابع المصطنع لمختلف المراحل الانتقالية السياسية التي مرت على العراق منذ انهيار النظام السابق وارتكاب أول خطأ استراتيجي فادح المتمثل بتشكيلة مجلس الحكم السيء الصيت ولغاية تشكيل الحكومة الوطنية الأخيرة التي سلبت الإرادة والسيادة الحقيقية خاصة فيما يتعلق بالملف الأمني. فالتحكم والإشراف والسيطرة الشديدة التي يمارسها الأمريكيون على العملية السياسية والاقتصادية، والإجراءات الأمنية المشددة وقطع الطرق أعاقت كسب ود الشعب وتأييده تجاه قوات الاحتلال والمتعاونين معه من القوى السياسية العراقية المتعاقبة على حكم العراق. فطرق وشروط وآليات التدخل والتوجيه الأمريكي في فترة مابعد الحرب أعاقت حتى تشكيل تحالف دولي حقيقي وانضمام دول ذات ثقل اقتصادي وسياسي ودبلوماسي عالمي كبير وبالتالي فإن القوات المتعددة الجنسيات بالإسم فقط، عانت من عدم حضور ومساهمة دول ذات تأثير حقيقي على مجريات الأمور في الكوكب كالاتحاد الأوروبي مثلا الذي فضل الانتظار والتفرج بلا مبالاة على المستنقع الذي غرق فيه الأمريكيون بينما أعلنت معظم الدول المشاركة شكلياً في التحالف الدولي عن نيتها ورغبتها في سحب قواتها الرمزية أساساً من العراق أو تخفيض حضورها العسكري، وفي نفس الوقت لم تصبح القوات العراقية العسكرية والأمنية قادرة بعد على ملأ الفراغ لكي تحل محل الوجود العسكري والأمني الأجنبي وضمان الأمن وتطبيق النظام والقانون. علاوة على أن المساعدات الدولية لإعادة الإعمار لاتزال محدودة ولا تتجاوز الوعود. إن هذه العوائق تطرح مشاكل تمس شكل ووحدة الوجود العسكري والأمني في العراق وتعكس مدى قدرة العراقيين على عدم استيعاب المرحلة الانتقالية وغياب المساعدات الاقتصادية والسياسية والأمنية التي من المفترض أن تقدمها المجموعة الدولية وبالتالي فإن هذا الإحجام عن المساهمة الحقيقية والفعالة يعرقل جهود إعادة الإعمار لو وجدت فعلاً.
أهداف معلنة وأخرى خفية:
شنت عملية" الحرية للعراق" العسكرية من دون أية قاعدة قانونية أو أية شرعية دولية في 20 مارس آذار 2003 بحجة منع التهديد العراقي الذي بات وشيكاً مابعد 11 أيلول سبتمبر 2001وذلك من خلال الوجود المفترض لأسلحة التدمير الشامل وبكثافة مخيفة، وبسبب طبيعة نظام صدام حسين الإجرامية والعدوانية الذي لم يتردد في شن حربين على جيرانه واستخدام الأسلحة الكيميائية المحظورة دولياً، وكذلك بذريعة إرتباطات نظام صدام حسين المفترضة بشبكة القاعدة الإرهابية الدولية. هذه هي السمة المعلنة للخطاب الأمريكي الإعلامي والدبلوماسي الذي سمح له بإدراج العراق في قائمة دول " محور الشر". وفيما يتعدى هذه الأهداف المعلنة، هناك أهداف خفية لكنها معروفة للمراقبين والمحللين، وهي تشمل إحكام السيطرة التامة على النفط العراقي وإعادة ترتيب الأوضاع في الشرق الأوسط الكبير والتحكم في السوق النفطية العالمية من خلال السيطرة على نفط الشرق الأوسط بكامله وعرضه بشروط أمريكية وإعادة تحديد وتعريف التوازنات الاستراتيجية في الخليج وجعل العراق أنموذج جديد للمنطقة كما تريده الولايات المتحدة.
الخطوط العريضة لعراق مابعد صدام قد رسمت نظرياً قبل الغزو العسكري بفترة طويلة ولكن داخل أروقة وصالات مراكز الأبحاث والدراسات الاستراتيجية والوكالات الكبرى لتقديم الرأي والمشورة التي يديرها مسئولون وقادة سابقون . فمن وجهة نظر الإدارة الأمريكية الحالية المطلوب هو إنشاء نظام فيدرالي إتحادي يمنح ضمانات خاصة للحليف الكردي في الشمال وتقاسم السلطات وفق تقسيم قومي ومذهبي في آن واحد حسب نظام المحاصصة تبعاً للتعداد السكاني الديموغرافي لكل جماعة إثنية أو عرقية أو دينية أو طائفية وتصفية آثار البعث، وإتباع اقتصاد السوق والليبرالية والخصخصة. إن هذه التوجهات المفروضة يفترض منها إعادة تشكيل وبناء الدولة العراقية على أسس جديدة وليس فقط مجرد عملية إعادة إعمار ما دمرته أو خربته الحرب، إلا أنه لم تنفذ أو تتبنى أية خطط وإجراءات ، حتى تاريخ وقوع الغزو العسكري، ولم توضع خطط ومشاريع لتنظيم وتأمين عملية تنفيذ الأهداف بشقيها المعلن والمخفي. فأولوية الغزو والعمل العسكري كممت الأفواه وأخمدت أية نقاشات في هذا المجال. فلو كانت هناك فعلاً برامج وخطط ومشاريع مفصلة لكشفت عن مدى ضخامة المهمة واستحالة تحقيقها بالسهولة والسذاجة التي تصورتها الإدارة الأمريكية، وأن الثقة العمياء والغرور المبالغ به بالتفوق العسكري والتكنولوجي الساحق لأمريكا وطغيان الرؤية الأيديولوجية للمحافظين الجدد حول واقع العراق والتي تأثرت بما رسمه لها بعض الوجوه العراقية المعارضة المعروفة التي كانت تعيش في المنفى خاصة رئيس المؤتمر الوطني العراقي الدكتور أحمد الجلبي ورئيس الوفاق الوطني العراقي الدكتور إياد علاوي حيث كان الأول مقرباً من البنتاغون أو وزارة الدفاع الأمريكية وبعض أعضاء الكونغرس الأمريكي والثاني كان قريباً من المخابرات الأمريكية والبريطانية ولكليهما أصدقاء داخل وزارتي الخارجية الأمريكية والبريطانية . لقد نجح الدكتور الجلبي على سبيل المثال في إقناع بعض الزعماء المدنيين في وزارة الدفاع الأمريكية، وعلى رأسهم وزير الدفاع الأمريكي نفسه دونالد رامسفيلد ونائبة السابق بول وولفوفيتز، وبعض نشطاء وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية بإعطاء صورة وردية متفائلة لواقع العراق ولموقف العراقيين المفترض من عملية تحريرهم من حكم الطغاة. لقد قدم المنفيون العراقيون، المنقطعون عن الوطن منذ فترة طويلة، صورة مهزوزة وغير دقيقة عن النظام العراقي باعتباره سلطة هشة تسيطر عليها عصبة عائلية تحكم وفق عقلية عشائرية باسم أقلية عربية سنية مغلوب على أمرها تقود العراق بموجب سلطة دولتية شديدة المركزية ذات ملامح قومية ـ اشتراكية فاشية المنحى تحكم بأسلوب نظام الحزب الواحد القائد بصورة مطلقة. ويتبع ذلك النظام صيغة الاقتصاد الموجه المركٌز بيد الدولة وأعوانها وبأدوات سيطرة ومراقبة وتجسس شديدة القسوة والعنف يتكفل بها أعضاء حزب البعث الحاكم والجيش ومختلف القوى الأمنية والاستخباراتية والميليشيات الحزبية العسكرية الموازية للجيش النظامي وشعب مقموع ينتظر بفارغ الصبر من يحرره من هذا الكابوس حتى لو كان الشيطان نفسه. إلا أن عملية " تحرير العراق" العسكرية الأمريكية كشفت زيف هذه الصورة الجامدة والبليدة لبلد مستنزف ومازال ينزف جراء حربين مع إيران والكويت وحصار وعقوبات اقتصادية وعزل دام أثنتي عشر عاماً. والجدير بالذر أن الدكتور أحمد الجلبي استطاع إقناع المخابرات الأمريكية سنة 1995 إطلاق عمليات مغامرة لزعزعة النظام العراقي القائم آنذاك إنطلاقاً من شمال العراق لقلب نظام بغداد وكانت مغامرة محفوفة بالأخطار أدت إلى فشلها مما حول العراق إلى حالة غامضة ومضببة في نظر الأمريكيين وفي نظر المعارضين العراقيين الذين لم يتحسسوا طبيعة الواقع العراقي وآلامه ومشكلاته الحقيقية ومخاوفه وتطلعاته.
التدخل العسكري أمام امتحان الواقع العراقي المعقد:

كان النصر العسكري الأمريكي سريعاً حيث سقط النظام الصدامي في 9 نيسان 2003 بعد أقل من ثلاثة أسابيع من بدء العمليات العسكرية تبع ذلك الإعلان الرسمي لنهاية المعارك على لسان الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش في الأول من آيار مايو 2003، والحال أن مرحلة ما بعد الحرب لم تكن على مستوى التمنيات وماينتظره منها الشعب العراقي بكامل تكويناته العرقية والقومية والطائفية والدينية، فصدمة التدخل العسكري قد قادت إلى تحلل وتفكك الدولة العراقية ومؤسساتها وزعزعة تماسك النسيج الاجتماعي واختفاء سيطرة الحزب الحاكم على البنى الإدارية ، وهذا ما يفسر استسلام واختفاء مختلف القوى العسكرية والهيئات الأمنية والمخابراتية والميليشيات الحزبية المسلحة التي لم تقاوم وسرعان ما انهارت وانحلت بنفسها وعاد أغلب أفرادها ومنتسبوها إلى عائلاتهم وعشائرهم ومناطق مسقط رأسهم وذابوا بين أفراد المجتمع وفئاته المختلفة التي ينتمون إليها حيث تفرقوا داخل الطبيعة العراقية جغرافيا واجتماعياً ولم تحدث أزمة إنسانية أو نزوح جماعي على غرار ما حدث في أعقاب حرب 1991 التي توقعتها المنظمات الإنسانية الدولية ووكالات الأمم المتحدة واقتصرت على بضعة تنقلات لعائلات تقطن بالأساس قرب الحدود العراقية للبحث عن ملجأ. وعلى الفور غرقت معظم المدن الرئيسية في العراق ، وعلى رأسها العاصمة بغداد، في بحر من الفوضى والانفلات الأمني لم تستعد له أو تتوقعه قوات الاحتلال الأجنبية وربما تكون قد تمنته لتبرر وجودها وبقاءها أطول فترة ممكنة في العراق، واكتشفت القوات الأمريكية المحتلة فضاءاً فارغاً بعد اختفاء الدولة وانسحاب كوادرها الإدارية والقيادية ورموزها ومؤسساتها الأمنية والعسكرية والإدارية. فتعرضت رموز الدولة وممتلكاتها للسطو والتدمير والحرق بل حتى تلك التي لم تتأثر أو تصب بالقصف تركت فريسة للنهب والسرقة لمدة ثلاث أسابيع وتحت أنظار وتواطؤ قوات الاحتلال التي بدت عاجزة عن وضع حد وتوقف هذا الطوفان البشري إن لم تكن قد شجعته وساعدته على الإجهاز على ما تبقى من مخلفات النظام ومؤسساته الحكومية ماعدا وزارتي النفط والدفاع ذات الأهمية الاستراتيجية لأمريكا ولم يكن بوسع قوات الاحتلال البالغ تعدادها آنذاك 140000 عسكري تأطير شعب بلغ عدد سكانه 25 مليون نسمة والسيطرة على آلاف منهم اندفعوا للانتقام من النظام السابق والاستفادة من سقوطه هذا إذا افترضنا وجود إرادة حقيقية لدى قوات الاحتلال لمنع هؤلاء من أعمال النهب والسرقة فما بالك بعدم وجود مثل هذه النية بحجة أن قوات الاحتلال لم تكن معدة للقيام بمهمات حفظ الأمن والنظام فليس بوسع قوات الاحتلال مليء فراغ السلطة. ومما أثار غضب وحفيظ الدوائر الأوروبية والرأي العام العالمي هو قيام أمريكا بحماية مؤسسات ذات أهمية استراتيجية واقتصادية وحيوية لها فقط كالنفط والدفاع مما أثار الشكوك حول النوايا الحقيقية لمشروع الاحتلال الذي لايهمه التاريخ والتراث والحضارة والمجتمع والسكان ومعاناتهم وخراب البنى التحتية التي سيستفيدون منها عبر مشاريع إعادة بنائها وترميمها وكان لذلك تأثير سلبي كبير على مجريات الأمور لاحقاً .
فالاستقبال بالورود والعناق الذي كانت تنتظره قوات الاحتلال باعتبارها قوات تحرير لم يحدث إلا في مناطق قليلة ومن قبل فئة معينة من الأكراد فحسب، فأغلبية السكان كانوا يريدون فقط من هذا التدخل العسكري أن يخلصهم من النظام الدكتاتوري وأجهزته القمعية وسقوط صدام وطغمته المجرمة. فالارتياح من نهاية القمع والاضطهاد سرعان ما تحول إلى انتظار براغماتي ذرائعي وواقعي سرعان ما تحول إلى إحباط ومشاعر كبت وغضب كامن والشعور بالمهانة جراء هذا الوجود العسكري الأجنبي القمعي الذي أفرط في استخدام القوة والإذلال والإهانة وتصرف بعنجهية وعجرفة واستعلاء واحتقار للمواطن ولم يكن هناك من بإمكانه محاسبة التجاوزات التي ترتكبها قوات الاحتلال مهما كانت فظيعة. ولم يعد السكان في العراق ينظرون لهؤلاء الغرباء سوى أنهم قوات احتلال غاشمة سيما بعد تنامي حالات الفوضى وتفاقم العنف المسلح وانعدام الأمن وغياب الخدمات الأساسية وتردي الأوضاع المعيشية التي اعتبرت قوات الاحتلال المسؤولة الأولى عما آلت إليه الأوضاع، التي كانت أساساً سيئة جداً في زمن النظام السابق بسبب الحصار والمقاطعة الاقتصادية والعقوبات التي كانت وراءها أمريكا والمجتمع الدولي مما عرض العراق وشعبه لسنوات طويلة من القمع والحرمان وتفاقم المشاكل اليومية والصعبات المعيشية وتدهور القدرات الشرائية وتفاقم الفقر وغياب الخدمات العامة كالكهرباء والوقود والمواد الغذائية .
الاحتلال في مواجهة الدولة الشبح:
إتسمت الأشهر الأولى للاحتلال بمحاولات يائسة لاستعادة زمام الأمور واستعادة هيبة الدولة الغائبة وإدخال إصلاحات جذرية في بنية الدولة التي تحولت إلى هيكل فارغ وأسماء لعناوين رسمية فارغة المحتوى مما أتاح المجال لقوى شعبية وتيارات دينية لتمتد وتتوسع وتشغل الفراغ الذي تركته الدولة وتمتد داخل جسم المجتمع المدني وفرضت نفسها كأمر واقع على قوات الاحتلال غير المعدة لمواجهة هذا الواقع الجديد مما أدى إلى قبولها بالأمر الواقع على مضض والتكيف مع المستجدات الواقعية مع بعض المصادمات هنا وهناك سيما مع جيش المهدي بزعامة مقتدى الصدر ومنظمة بدر التابعة للمجلس الأعلى للثورة الإسلامية علاوة على العناصر المسلحة السنية المتمردة والمتحصنة في المناطق الواقعة غرب العراق والتي قررت تقويض العملية السياسية بالوسائل المسلحة , إلى جانب نية القوى التكفيرية والإرهابية العراقية والعربية والأجنبية لإذكاء التصادم المذهبي والصراع الطائفي وتهيئة الأرضية والسبل الكفيلة بنشوب حرب أهلية طائفية في العراق.

الانطلاقة الخاطئة:
كانت طريقة اختيار وتشكيل السلطات التي كلفت من قبل الاحتلال بتصريف الأمور قد رسخت وعمقت الشعور بالارتجال والتجريب والإيغال في الخطأ. فكانت أول محاولة هي تأسيس مكتب إعادة البناء والمساعدة الإنسانية الأمريكي بقيادة الجنرال الأمريكي المتقاعد جي غارنر الصديق المقرب لشارون والليكود اليميني الحاكم في إسرائيل لكنه سرعان ما أعفي من منصبه تجنباً للإحراج في آيار 2003 وأستبدل بسلطة التحالف المؤقتة بقيادة خبير مكافحة الإرهاب بول بريمر وكانت هذه الهيئة تعاني من خلل ومشاكل ونزاعات داخلية وازدواجية في السلطة بين القيادة العسكرية التابعة مباشرة لوزارة الدفاع والإدارة المدنية التابعة للبيت الأبيض على غرار التنافس والصراع بين وزارة الدفاع ووزارة الخارجية ووكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية لقد تفاقم التنافس وانعدام التنسيق بين الجهتين الحاكمتين في العراق، أي السلطة العسكرية والسلطة المدنية، ولمسنا ذلك من خلال التنقلات المستمرة للموظفين والمسئولين المنتدبين من واشنطن ولندن وعدم خبرة وكفاءة الكثيرين منهم الذي اكتشفوا هذا البلد لأول مرة دون أن يعرفوا عنه أي شيء مسبق وكانوا غرباء ومعزولين وعاجزين عن الفعل المؤثر ، فعدم التحضير والإعداد الصحيح وتهيئة الكوادر الخبيرة والكفوءة مع تفاقم الفوضى والعنف وعدم التنظيم، جعل وجود استراتيجية شاملة للخروج من المأزق العراقي شبه مستحيلة. إن اقتصاد مجتمع مستنزف ومقطوع عن العالم منذ خمسة وثلاثون عاماً هي فترة حكم البعث، جعلت خطط إعادة الإعمار ، التي تهدف إلى إدخال أدوات ومناهج سياسية واقتصادية ليبرالية تبدو غير واقعية وغير ملائمة من منظور الاحتياجات الآنية العاجلة للمجتمع المعتمد كلياً على الدولة . كانت سلطة التحالف المؤقتة منعزلة عن الشعب ومتقوقعة في المنطقة الخضراء وقصور صدام حسين وأزلامه وأركان حكومته وتعتمد كلياً على رؤية ومشورة المعارضين السابقين الذين احتلوا جل مواقع تشكيلة مجلس الحكم الانتقالي الذي عينه بول بريمر في تموز 2003 مما قادهم لارتكاب أخطاء فادحة ومميتة وبالآلاف اعترفت بها الإدارة الأمريكية مؤخرا على لسنان الرئيس الأمريكي نفسه ووزيرة خارجيته كونداليزا رايس مما كان لها انعكاسات وتداعيات سيئة وكارثية على المجتمع العراقي. وكانت تبحث عن امتدادات مدنية ووجوه متنفذة ذات جذور اجتماعية وعشائرية ودينية داخل المجتمع المدني الذي سحقه صدام حسين ، وأدخلت العديد من الشخصيات غير المعروفة وغير مضمونة الولاء ضمن لجان الأحياء والمجالس البلدية والمنظمات المحلية والنقابية وهي نفس الشخصيات التي كان بعتمد عليها نظام صدام حسين المنهار . كما كان لقرارات بول بريمر لاستئصال واجتثاث البعث عملاً بنصيحة أحمد الجلبي بغية حصر السلطة بيد قوات الاحتلال فقط والمتعاونين معها، نتائج وانعكاسات وعواقب سيئة لأنها شملت الكثير من الأبرياء كان كل ذنبهم أنهم اضطروا أو أجبروا على الانتماء لحزب البعث للحفاظ على مناصبهم والحصول على الترقيات.
أخطاء مابعد الحرب:
قامت هيئة اجتثاث البعث ، رغم ضرورة ما تهدف له وهو إبعاد العناصر الصدامية المجرمة من مواقع القرار والتأثير، بعمليات تطهير عشوائية في الوزارات والإدارات الحكومية المختلفة لأتباع حزب البعث الحاكم سابقاً حتى وإن كانوا غير متورطين في جرائم النظام البائد. كما قامت إدارة بول بريمر بحل الجيش العراقي ومختلف القوى الأمنية والشرطة والمخابرات المدنية والعسكرية التي كانت تمثل دعائم النظام السابق ثم ألغت عدداً من الوزارات وأحالت العاملين فيها إلى البطالة كوزارة الإعلام دون أن يرافق ذلك إجراءات أو خطوات مواكبة بغية إيجاد حلول بديلة لآلاف العاملين وعائلاتهم والذين وجدوا أنفسهم بين ليلة وضحاها بلا أي دخل أو معاش أو أفق حياتي ومهني مضمون. وقد تأثر بتلك الإجراءات أكثر من نصف مليون شخص يضاف إليهم أفراد عائلاتهم أي أكثر من مليوني متضرر أصبحوا على هامش المجتمع رغماً عنهم وقد حدث هذا الفعل بذريعة الجرائم التي ارتكبها النظام السابق ضد المجتمع بكل مكوناته والجميع يعرف أن الانتماء لحزب البعث كان إلزامياً للحصول على وظيفة أو ترقية أو دخول للجامعة أو الحصول على بعثة أو مساعدة أو زمالة دراسية أو الانتساب للمؤسسات التعليمية والجامعات والمدارس والمعاهد المهنية لذلك نظر إلى تلك الإجراءات وكأنها عقاب جماعي غير مشروع أصاب فئات واسعة من المجتمع العراقي ودفع البعض منهم للانخراط في صفوف المعارضة المسلحة والوقوع في أحبال الإرهابيين.
وبما أن المجتمع العراقي كان منظُماً حول نظام شديد المركزية ومعتمداً عليه كلياً في استمراريته وحياته، فإن اختفاء حزب البعث ومنظماته التي كانت تؤطر المجتمع كان كما لو أن العمود الفقري للمجتمع قد تفسخ ومعه انهار نظام توزيع الحصص التموينية التي أقرت بموجب قرار النفط مقابل الغذاء الصادر عن مجلس الأمن الدولي والذي يعتمد عليه أكثر من 60 بالمائة من سكان العراق إلى جانب تجميد أو توقف المعامل والدوائر والمؤسسات التابعة للدولة والتي تستخدم الآلاف من أبناء الشعب العراقي من بينهم العديد من الكفاءات والخبرات والكوادر التقنية التابعة لحزب البعث مما أدى إلى شللها وتوقف الماكنة الإنتاجية وخلق حالة من القحط في المواد المستهلكة والعمل على استيرادها من الخارج وما يترتب على ذلك من أضرار اقتصادية.
البطالة آفة المجتمع:
بلغ معدل البطالة في الأشهر الأولى بعد سقوط النظام أكثر من 30 بالمائة من مجموع السكان و 60 بالمائة من الشباب مادون سن الـ 25 سنة فقد حصل توقف شبه تام للنشاط الاقتصادي مما غذى حالة من الاستياء العام وهيمنة شعور بأن البلد بيع للشركات الدولية المتعددة الجنسيات ولم يعد أما الشباب أية سبل أخرى لكسب عيشهم سوى الانخراط والتطوع في سلكي الجيش والشرطة رغم ما يحيط بذلك من مخاطر التعرض للقتل والتصفية الجسدية. وكان هناك كم هائل من الأسلحة التي وقعت بين أيدي السكان المدنيين حيث تركت القوات العراقية الهاربة أكداس كبيرة من مختلف أنواع الأسلحة الخفيفة والثقيلة تركت في الشوارع والساحات والمدارس والمستشفيات والجوامع والبيوت والأحياء والأزقة وصارت تباع والأسواق علناً وبأسعار زهيدة كأنها بضاعة عادية شأنها شأن الفواكه والخضروات مما شجع على شيوع نزعة العنف وتصفية الخلافات بقوة السلاح وتفاقم عمليات الخطف والسرقة والتصفيات الجسدية وانتعاش أعمال ونشاطات العصابات والجريمة المنظُمة وعمليات التمرد المسلحة وتشكيل الميليشيات المسلحة من مختلف الانتماءات. وفي خضم التوترات والتحولات المتتالية في سياق الفوضى وعدم الانتظام وفقدان المواد الأساسية والخدمات الضرورية لحياة كريمة، لم تحدث قفزة نوعية حقيقية في البنى التحتية ولا في عودة الآلة الإنتاجية ولا الدورة الاقتصادية السليمة.
بالرغم من تقديم منحة أمريكية بلغت 18.4 مليار دولار وافق عليها الكونغرس الأمريكي في أكتوبر 2003 من أجل تحسين وإعادة ترميم وإعمار البنى التحتية سيما الطاقة الكهربائية وإنتاج وتوفير الوقود المنزلي والماء الصالح للشرب والنقل والاتصالات ، إلا أن إعلان المراحل الانتقالية السياسية في نوفمبر 2003 غيُر من ترتيب الأولويات خاصة عند تحديد تاريخ 30 حزيران 2004 لتسليم السيادة للعراقيين ولكن لحكومة عراقية معيُنة وغير منتخبة كانت بالضرورة ذات سيادة شكلية ، ومنع وصول أو تجميد المساعدات الدولية سيما بعد حل سلطة التحالف المؤقتة ورحيل بول بريمر وبحوزته ملايين الدولارات المختلسة بعد أن أمضى عاماً كاملاً حكم فيه العراق بطريقة فردية كأي دكتاتور مستبد وخلفه مكتب إعادة الإعمار والمساعدات الذي صار مقره هو السفارة الأمريكية في بغداد. والحال أن هذه الهيئة الجديدة قررت استخدام مبلغ الـ 18.4 مليار دولار للأغراض الأمنية والعسكرية وتأهيل الجيش والشرطة العراقيين وتمويل نفقات العملية الديموقراطية وتنظيم الانتخابات والاستفتاء على الدستور لأن لها وقعاً إعلامياً تستفيد منه الإدارة الأمريكية للدلالة على نجاح مساعيها في العراق وبالذات انتخابات 30 يناير و 15 ديسمبر 2005 . إن عدم الإعداد والتخطيط الجدي لمرحلة مابعد الحرب ، وارتكاب الأخطاء الجسيمة قد أعاقت آفاق إعادة البناء، كما أن إنعدام الأمن وتفاقم العنف ركزُ الجهود على إنجاح العملية السياسية والانتخابية كخطوة لابد منها لفرض الأمن والنظام عل يد سلطة عراقية شرعية منتخبة . بيد أن الولايات المتحدة تعرف في داخلها أنها لن تكون قادرة وحدها على تحقيق هذا الهدف وكسب معركة ما بعد الحرب أي تأمين السيرورة الانتقالية وبالتالي يتعين عليها اللجوء إلى تأمين مشاركة دولية ومساهمة الأمم المتحدة وحلفاء يمتلكون إمكانات مادية واقتصادية وتقنية هائلة بغية إضفاء الشرعية الدولية على وجود القوات الأجنبية في العراق وموجودة لحماية العراق من الاعتداءات الخارجية فحسب وليست قوات احتلال ولا تتدخل في الشؤون الداخلية .
نهاية الاحتلال ومهزلة تسليم السيادة:
أشار القرار الدولي رقم 1546 الصادر عن مجلس الأمن في 8 حزيران 2004 إلى نهاية الاحتلال رسمياً في 30 حزيران 2004 ودعا إلى ضرورة تشكيل حكومة عراقية انتقالية تقوم بتصريف الأمور ولكن لايمكنها أن تبرم معاهدات أو اتخاذ قرارات جوهرية تمس مستقبل أو مصير العراق في ما بعد المرحلة الانتقالية والإعداد لانتخابات عراقية دستورية في 15 ديسمبر 2005 تفرز بدورها حكومة دائمة ودستور دائم يعاد انتخابها أو تبديلها كل أربع سنوات تكون ذات سيادة حقيقية تتحمل أعباء السلطة وتحظى باعتراف المجموعة الدولية والدول الإقليمية وتأييد الرأي العام العالمي والعربي والعراقي.
سمح القرار 1511 الصادر عن مجلس الأمن الدولي في 11 أكتوبر 2003 بإنشاء قوات متعددة الجنسيات سميت بقوات التحالف الدولية دون الإشارة إلى وجود قوات إحتلال حيث أتاح القرار الدولي المذكور إمكانية إدماجها في القوات المتعددة الجنسيات إذ أن التشكيلة العسكرية الجديدة المسماة قوات التحالف الدولي هي في الحقيقة نفس قوات الاحتلال الأمريكية ـ البريطانية مع وجود رمزي لبضعة مئات من الجنود الإكسسوار من دول أخرى تابعة أو معتمدة في اقتصادها على الولايات المتحدة الأمريكية، ثم وضعت قوات التحالف بالطبع تحت قيادة أمريكية بات عليها أن تقدم شكليا تقريراً للأمم المتحدة كل ستة أشهر عن التطورات والإنجازات التي حققتها على أرض الواقع. ضمت قوات التحالف في صفوفها 138000 عسكري أمريكي لغاية نيسان 2005 و 8000 عسكري بريطاني وبضعة مئات أو عشرات من دول أخرى منهم 3700 من كوريا الجنوبية و 3200 من إيطاليا ز 1800 من بولونيا وبضعة عشرات من اليابان والفلبين وغيرها والتي كلفت بمهمات ثانوية بعيداً عن العمليات العسكرية الميدانية وبالتالي أعتبرت كافة قوات التحالف الدولية بمثابة قوات احتلال في نظر الغالبية الساحقة من العراقيين وواقعة تحت قبضة القوات الأمريكية والبريطانية المحتلة. كما أن الحكومات العراقية المتعاقبة على السلطة كانت وماتزال تحت وصاية المحتل بالرغم من قرار نقل السيادة الذي ظل حبراً على ورق. الحكومة العراقية المؤقتة خرجت من رحم مجلس الحكم وبنفس الوجوه والشخصيات التي جاء بها الاحتلال أو التي ارتضت لنفسها التعامل معه كأمر واقع وكان رئيس الوزراء العراقي السابق إياد علاوي في حكومتيه المؤقتة والانتقالية رمزاً لتلك الوصاية الأجنبية وامتداداً للإرادة الأمريكية ـ البريطانية للسيطرة على القوى المسلحة المتمردة عليها تحت لافتة مكافحة الإرهاب وتسلل الإرهابيين من خارج العراق وهو كلام حق يراد به باطل حيث اختلط الحابل بالنابل وضاعت الحقيقة في متاهة الاتهامات والاتهامات المتبادلة . ركزت حكومة علاوي على هدف فرض الأمن بالقوة العسكرية وإهمال باقي الأهداف الحيوية والضرورية للمواطن العراقي لكنها فشلت في تحقيق هذا الهدف الوحيد الذي أوكل إليها. ولم تفلح في منع تسلل العاصر الإرهابية العربية وغير العربية من خارج الحدود العراقية وعناصر مخابرات دول الجوار والمرتزقة المحترفين في مجال التخريب وإشعال الفتن والحروب الأهلية الذين تزدحم بهم الأراضي العراقية اليوم.
ولم تجتذب مسرحية تسليم السلطة للعراقيين ولم تشجع على تدفق رؤوس الأموال والاستثمارات الأجنبية والعربية ، كما لم تستطع الأمم المتحدة أن تلعب الدور المنتظر والمرجو منها بموجب قرارات مجلس الأمن بها الصدد وذلك بسبب سوء الظروف والأوضاع الأمنية المتفاقمة والتي تزداد سوءاً يوماً بعد يوم. فمنذ التفجيرات التي طالت السفارات الأجنبية والدبلوماسيين والإعلاميين وتفجير مقر الأمم المتحدة في بغداد ومقتل ممثل الأمين العام للأمم المتحدة في العراق سيرجيو فييرا دي ميللو في 19 آب 2003 أصبح الأمين العام للمنظمة الدولية أكثر حذراً في زج منظمته في الشأن العراقي ودعم الأمريكيين الذين تجاهلوه هو ومنظمته وشنوا حربهم رغماً عنهما. فاقتصرت مهمة الأمم المتحدة في العراق على الأمور الشكلية والسطحية وتقديم المساعدات الإنسانية المحدودة جداً والإشراف على الانتخابات عبر الحدود من عمان أو الكويت وأما بعثة الأمم المتحدة المختصرة في العراق فأصبحت هي الأخرى سجينة المنطقة الخضراء مقر الحكومة العراقية والسفارتين الأمريكية والبريطانية ولم تفعل المنظمة الدولية شيئا لمساعدة العراق وإخراجه من النفق المظلم الذي أدخله فيه الاحتلال الأجنبي وأكتفت كغيرها بالدعوة للحوار الوطني العراقي ـ العراقي والتفاهم بين القوى السياسية العراقية ولم يكن بوسعها التدقيق بموضوع أسلحة التدمير الشامل العراقية المختفية والتي كانت الذريعة التي شنت الولايات المتحدة بسببها حربها على العراق ونفس العجز أصاب حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي في لعب دورهما في نجدة العراق ومساعدته واقتصرت مساهمتهما على التأهيل والتدريب المهني والتمويل المحدود لبعض المشاريع الإنسانية من هنا يمكننا القول أن أمريكا ماتزال معزولة وسجينة رؤيتها الأحادية لملف مابعد الحرب في العراق واحتكارها وحدها كل شاردة وواردة وإشرافها وسيطرتها على كل شيء لكنها لم تنجح في كبح التدخلات والتسللات الخارجية من دول الجوار التي عزمت على مواجهة التدخلات الأمريكية في شؤونها ولكن على الساحة العراقية. ومع تفاقم الخطر الأمني تناست الإدارة الأمريكية إعادة البناء الاقتصادي والخدمي ولم تنجح في استئصال الفساد المتفشي في الجسد الإداري العراقي وفي كل المرافق ولم تنفذ من مشاريعها التي أعدتها للعراق والبالغة 2390 مشروعاً لغاية 2008 سوى 200 مشروع تركزت جلها في إعادة صبغ وترميم بعض المدارس والمستوصفات الصحية والمستشفيات وصرفت 10 بالمائة فقط من مبلغ الـ 18.4 مليار لمشاريع إعادة الإعمار سرقت أغلبها في مشاريع وهمية أو دفع فواتير مضخمة وتسللت الملايين إلى جيوب الوسطاء والمحتالين بينما أنفقت الباقي على الشؤون والمشاريع الأمنية والشركات الأمنية الخاصة التي تعج بالمرتزقة المحترفين لمهنة القتل وهذه المبالغ لاتعد شيئاً بالمقارنة مع ما قدره البنك الدولي وصندوق النقد الدولي اللذين قدرا مبلغ إعادة الإعمار بـ 55.3 مليار دولار وهو المبلغ الضروري للتنمية وإعادة الإعمال الحقيقية خارج السرقات منها 7.5 مليار لاستعادة المستوى الذي كانت عليه البنى التحتية قبل الحرب وعودة الخدمات العامة لما كانت عليه قبل سقوط النظام والتي كانت أساساً متردية جداً .
وهكذا يبدو عراق مابعد الحرب سجين حلقة مفرغة ويدور في دوامة بلا مخرج ووضع انغلاق خطير سيقود إلى انفجار مهول يجر إلى الكثير من الأهوال والكوارث إذا استمر اللاعبون السياسيون يلقون بكل شيء على شماعة تدهور الأوضاع الأمنية التي اقتربت من الخطوط الحمراء في الآونة الأخيرة بينما يمارس السياسيون سياسة النعامة التي تدفن رأسها بالرمل معتقدة أنها تفادت الخطر والخطر الأكبر على العراق هو الحرب الأهلية الطائفية التي سوف تأكل الأخضر واليابس فهل من يسمع؟



#جواد_بشارة (هاشتاغ)       Bashara_Jawad#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ماذا يخبيء لنا الغد في العراق؟
- العراق: تشاؤم أم تفاؤل؟
- العراق وأمريكا: إنعطافة تاريخية؟
- حكومة وحدة وطنية أم حكومة إستحقاقات انتخابية رسالة إلى رئيس ...
- من سيحكم العراق؟
- إلى أين يسير العراق... نحو الهاوية أم باتجاه نهاية النفق؟
- التهميش الاجتماعي أبعاد الظاهرة ودلالالتها
- العراق: تحديات الأيام المقبلة الدستور،المحاكمة،الانتخابات، و ...
- قراءة في كتاب: المذبحة تحت المجهر «الهولوكوست
- جورج دبليو بوش رئيس مسكون بلعنة العراق
- أمريكا ومعضلة دول محور الشر
- الاستقطابات المميتة في العراق
- المعلن والمخفي في السياسة العراقية
- كتاب العراق وأمريكا وحافة الهاوية
- آفاق الحرب العالمية لمكافحة الإرهاب
- المفارقة العراقية
- دروس في الإخراج السينمائي
- العراق بين الآمال والقلق
- نشاط اللوبي الصدامي ـ الفرنسي في باريس ودمشق
- الإسلام والغرب وفن صناعة العدو


المزيد.....




- مكالمة هاتفية حدثت خلال لقاء محمد بن سلمان والسيناتور غراهام ...
- السعودية توقف المالكي لتحرشه بمواطن في مكة وتشهّر باسمه كامل ...
- دراسة: كل ذكرى جديدة نكوّنها تسبب ضررا لخلايا أدمغتنا
- كلب آلي أمريكي مزود بقاذف لهب (فيديو)
- -شياطين الغبار- تثير الفزع في المدينة المنورة (فيديو)
- مصادر فرنسية تكشف عن صفقة أسلحة لتجهيز عدد من الكتائب في الج ...
- ضابط استخبارات سابق يكشف عن آثار تورط فرنسي في معارك ماريوبو ...
- بولندا تنوي إعادة الأوكرانيين المتهربين من الخدمة العسكرية إ ...
- سوية الاستقبال في الولايات المتحدة لا تناسب أردوغان
- الغرب يثير هستيريا عسكرية ونووية


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - جواد بشارة - العراق : بعد ثلاث سنوات من السقوط هل حان وقت تقديم الحسابات؟