أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - بدر الدين شنن - جنرالات الأرصفة















المزيد.....

جنرالات الأرصفة


بدر الدين شنن

الحوار المتمدن-العدد: 1513 - 2006 / 4 / 7 - 10:33
المحور: الادب والفن
    


إنها المرة الأولى التي يقف فيها ابو فداء في الشارع أثناء العمل رافعاً رأ سه .. ينظر إلى الناس مباشرة .. وجهاً لوجه .. دون إحراج وانكسار . قبلها كان ، وهو يحمل كيس النايلون الأحمر الكبير بيد والملقط الطويل بيده الأخرى ، يطرق رأسه إلى الأرض عنما يقترب منه أحد . كان عمله جمع الأوراق المتناثرة غلى الأرصفة والطرقات يشعره بالدونية العاصرة إزاء المارة ، ويحول بينه وبين قبوله أن يعتاد على هذه الحال . وكان يفكر أن هؤلاء المارة .. أو معظمهم على الأقل يشعرون تجاهه بهذا التمايز .. أما أقلهم فهم ينظرون إليه بعيون ملؤها الشفقة ، وذلك إما لحقارة العمل الذي يقوم به ، أو لغبائه الذي لم يتح له فرصة الحصول على عمل أفضل . أما الآن .. وبعد أشهر من العمل ال" ... " فقد قبل التعود على هذه المهانة ، كي يحصل على مقومات المعيشة في هذه الغربة اللعينة .. التي لم يكن أمامه سواه كبديل للتعود على مهانة القهر في بلده الأصلي

ووجد نفسه تلقائياً يقف تحت رذاذ المطر ، إلى جانب زميله ، إزاء الجدار في ساحة الحي ، سانداً إلى جسمه كيس النايلون الأحمر والملقط الطويل . . ثم ا ستل سيجارة من جيبه وأشعلها ، وراح وهو ينفث الدخان من فمه وأنفه يتأمل أمامه حركة الناس والسيارات والتراموات المتواصلة في إتجاهين متعاكسين .. تلاحق وتستدرج بعضها البعض إلى أماكن ومواعيد ونهايات لاتعد ولاتحصى . وبيمنا كان مستغرقاً في التطلع إلى هذا المشهد ، سأله زميله بإنكليزية ركيكة ، ماذا في الأمر ؟ .. ألا تنتهي من الشرود والصمت ؟ .. إنه أمر يجعل العمل برفقتك مملاً ومتعباً .. أنظر إلى ما حولك وا ستمتع ياصديقي ، لاتجعل الوقت يقتلنا .. أنظر .. إنهن ملكات جمال بحق .. إن ..
وهل تجرؤ على النظر إليهن وأنت بهذا اللباس الفوسفوري .. وتقوم بهذا العمل؟ ..
هكذا رد عليه أبو فداء على السؤال بسؤال .. وعاد إلى صمته . وقال في نفسه لاشك أنه مجروح مثلي لكنه يتحايل على حاله . وا ستفزه إحساس بالتوتر لاسع عندما تذكر كيف تنافخ لما قدم طلب اللجوء السياسي وقال أنا " الجنرال " أيهم الجابر ، ولما أجاب على أسئلة المحقق ليثبت " عسكريته الرفيعة المستوى " مستخدماً ذكرياته أثناء خدمته الإلزامية في الجيش قبل ثلاثين عاماً ، ليحصل على إقامة فورية وراتب جيد ، حسب نصيحة طالبي اللجوء قبله " الخبراء " بقصص اللجوء في المخيم .. وتذكر ردة فعل المحقق الباسمة عندما نطق هو كلمة " جنرال " لم يفهم في حينه كنه تلك الإبتسامة ، لكنه منذ أن إلتقط أول ورقة ووضعها في الكيس فهمها .. كما فهم حال زميله جامع القمامة معه ، الذي قال له أنه قدم نفسه في التحقيق بأنه طيار حربي .. وذاك الذي ادعى أنه خبير مجوهرات

باق كما أنا .. سنوات تتلوها سنوات ، حتى حصلت على الإقامة .. لكنني لم أحصل على عمل
هكذا لخص وضعه لما سأله صديق .. كيف الحال ؟
إنهم لاينقصهم جنرالات .. إنهم بحاجة إلى خدم وعمال للأعمال الحقيرة .. وعلى إفترض أنهم صدقوا أنك كنت في بلدك جنرالاً .. فهم يعرفون كيف يصير المرء في بلداننا جنرالاً
وهكذا يمنتهى الصراحة أجابه الصديق .. لكنه لم يصدق أنهم رغم كل المعلومات التي قدمها في التحقيق ، سيعاملونه مثل أي شخص عادي .. عديم المستوى والخبرة .. حتى جاءه الطلب من مكتب العمل في البلدية بالإلتحاق بالعمل المبين في الرسالة ، وإلاّ ستقطع عنه المساعدة الاجتماعية الشهرية

في اللقاء الأول كان وقع المفاجأة بالنسبة إليه صاعقاً .. كانت هناك مفارقة شاسعة بين الحلم بعمل يتناسب ووزن " جنرال " وبين عمل جامع قمامة متناثرة على الأرصفة .. إنها مهزلة .. إنها مذلة .. مصيبة .. قال في نفسه .. ونظر بوجوه زملائه فوجدهم قلقين مستغربين مثلة .. لكنهم جميعاً ارتدوا لباسهم الفوسفوري صامتين مستسلمين ، وحملوا الأكياس والملاقط وتوزعوا على الأرصفة ، لإلتقاط الأوراق المبعثرة ووضعها في الأكياس

في الأيام الأولى كان الطقس بارداً قليلاً وجافاً .. كان مقبولاً إلى حد ما . لكنه بعد أسبوع وآخر تحول إلى طقس بارد قارس مصحوباً بأمطار سخية متواصلة أو متقطعة ، وصار العمل في العراء بالغ السوء معنوياً وعملياً .. والاستمرار فيه سيئاً صحياً ، وليس هناك أي أمل في التغيير . فقط عندما يصبح المطر شلالاً سماوياً ، أو عندما يتهاوى الثلج عاصفاً ، يمكنهم اللجوء إلى المكان المخصص لهم في المنطقة للاستراحة وتناول الطعام واحتساء الشاي والقهوة . إلاّ أن لسان السيدة المغربية المكلفة بالعمل هناك ، الذي يتقن ، على سبيل المزاح ، عبارات الاستهزاء والشماته أحياناً وعبارات المودة الشفوقة أحياناً أخرى يثقل عليهم أكثر من الطقس في الخارج .. إذ ما أن يدلفوا إلى الداخل حتى ترحب بهم قائلة ، أهلاً بالرجال .. أهلاً بالأساتذة .. يلعن أبو البلدية التي لم تقدركم .. لم تعرف قيمتكم . وبعد أن عرفت بقصة " الجنرال " أ سمتهم كلهم " جنرالات " وراحت كلما دخلوا المكان ، تلحن لهم العبارة الوحيدة التي باتت تركز عليها في استقبالهم .. أهلاً بالجنرالات .. وتكررها أمامهم مغلفة بالمزاح تارة وبالشفقة تارة أخرى

ويجلس " الجنرالات " إلى الطاولات ليحتسوا الشاي أو القهوة ، أو يمضغوا بضع لقيمات ، ويسرحون مع ذكريات سنوات مضت كانوا فيها حقاً أساتذة .. ورجال .. و" جنرالات " في أوساطهم

وينغص عليهم ا ستراحتهم ومضغ الذكريات مع الطعام قدوم " الشيف " ليحثهم على العودة إلى الخارج .. حتى لو لم هناك بفعل الريح والمطر والثلج أية أوراق بانتظار ملاقطهم وأكياسهم .. إذ أن العمل في هذه البلدان هو العمل ، وهي لاتعطي المرء قرشاً إلاّ بعد أن تأخذ ما يعادله من لحم جسده .. مثلما لاتعطي تلك البلدان القادمين منها القرش إلاّ بعد أن تأخذ أضعاف مايعادله من لحم الإنسان وكرامته

ويسير أبو فداء على الرصيف بصحبة زملائه " جنرالات " الأرصفة ، يطاردون الأوراق المتطايرة .. ويطاردون معها قهرهم المتجددة أرديته وألوانه .. معظم الأوراق يتمكنون من قنصها ووضعها في الأكياس الحمراء .. لكنهم يفشلون إزاء قهرهم ، الذي يبقى عصياً على القنص ، طالما السمت .. الذي اختاروه لإنهاء زمانهم الأسود .. ظل بوعيهم ملتبساً



#بدر_الدين_شنن (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- من أجل الحرية .. والرغيف معاً
- النصر لجماهير فرنسا الشجاعة
- أما آن لليسار أن يتوحد .. ؟
- ضد حالة العار السياسي .. حالة الطوارئ
- مع المرأة .. الأم .. والحبيبة .. في عيدها العالمي
- أزمة الأزمة في الاقتصاد السوري
- حول قانون الأحزاب في سوريا
- في ذكرى الزعيم عبد الكريم قاسم
- الطبقة العاملة السورية تبحث عن حزبها .. 3
- الطبقة العاملة السورية تبحث عن حزبها .. 2
- الطبقة العاملة السورية تبحث عن حزبها .. 1
- العدالة أولاً .. الآن وغداً
- راية أخرى لليسار ترتفع
- هل من حوار ديمقراطي .. مع - الحزب القائد - !! ؟
- من يخدم خدام .. ؟
- شمعة ضوء على درب الحلم
- لابد للقيد أن ينكسر
- العودة إلى الوطنية الديمقراطية
- الحوار المتمدن في عيده الرابع
- الاستبداد والاحتلال .. والانسان المستباح في العراق


المزيد.....




- وفاة الفنان المصري المعروف صلاح السعدني عن عمر ناهز 81 عاما ...
- تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
- انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - بدر الدين شنن - جنرالات الأرصفة