أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبدالرزاق دحنون - طائر سوريَّة السَّكران














المزيد.....

طائر سوريَّة السَّكران


عبدالرزاق دحنون
كاتب وباحث سوري


الحوار المتمدن-العدد: 6035 - 2018 / 10 / 26 - 12:52
المحور: الادب والفن
    


ما زال المزارعون السوريون يدّعون أن طائراً أسطورياً لا تعرف أشجارهم و سفوح جبالهم أروع منه حلَّة ولا أبهى رونقاً، يصدح، فتُصغي البساتين والغابات بغبطة لما يقول، وتُصفّق أوراق الأشجار بخفّة، وترقص رقصتها الأزليَّة، للواكف المنهمر، وتهتف: إنه السَّكران. هل هو نوع من الحساسين الصغيرة الملونة؟ كما وَثَّقه كاتبنا السوري المحبوب سعيد حورانيَّة في واحدة من أجمل قصصه التي حملت اسم «عاد المُدمن» تجدها منشورة ضمن مجموعته القصصية شتاء قاسٍ آخر. أو هل هو طائر المكَّاء؟ كما وثَّقه الصديق الباحث الشاعر الفلسطيني زكريا محمد في كتابه الجميل: عبادة إيزيس و أوزيريس في مكة الجاهلية.
تقول حكاية طائر سوريَّة السَّكران كما سمعتها من جدي عثمان دحنون-رحمه الله- والذي ظلَّ فلاحاً مرابعاً بلا أرض، حيث رفض أخذ حصته أيام التأميم والإصلاح الزراعي في ستينات القرن العشرين مُدعياً بأن هذه الأرض مَكْس، فهي حرام، في الحديث "لا يدخل صاحب مَكْسٍ الجنَّة":
في أوائل أيام الخريف من كلِّ عام يحطُّ طائر السَّكران على شجرة الرمان الحلو, ثم يدور حولها متفحصاً، حتى يختار إحدى أكبر رماناتها الناضجة، ويروح ينقرها حتى يسيل دمها، فيمص السائل الحلو اللذيذ، ويظلُّ يُتابع طيرانه ورشفه حتى يفرغ رمانته من لُبِّها تماماً، عندئذ يمسك منقاره غصنها فيقصفه، تسقط الرمانة على الأرض، يُدحرجها إلى وهدة قريبة، ثمَّ يتركها تيبس في الشمس. وبعد حين من الزمن تبدأ عملية هذا الخمَّار المدهشة، ينسى شدوه وينصرف إلى العمل بهمّة، عليه أن يملأ دنان الرمان اليابس بحبات العنب ويختم فمها بالقش والطين، ثمَّ يدفنها في التراب. فإذا تمت مؤونته مع قدوم الشتاء، ضرب بجناحيه الأجواء، مغنياً أغنية الوداع، مختفياً في الآفاق، في هجرة معتادة صوب شمس الجزيرة العربية. تظلُّ دِنان الرمان مدفونة في الأرض، تُخمّر نبيذها على مهل.
وتمرّ أربعة أشهر قبل أن تهبَّ أول نُسيمات الربيع، فتجد تلك الطيور نفسها محلِّقة في الآفاق البعيدة من جديد، متجهة صوب منازلها التي لها في القلوب منازل، يدفعها الشوق والحنين فتطير في عصائب يتلو بعضها بعضاً. وحين تصل بلاد الشام، تنزل بثقة لا حدَّ لها إلى دِنان النبيذ المعتق المطمورة في التراب، تنبش كنزها، وتفتح الختم المرصود، وتمدّ مناقيرها بوجل، وتذوق نبيذها مرة ومرتين، ثمَّ تعبّ منه عبَّاً، تدفعها النشوة صوب الأشجار، فتصدح البساتين بالغناء من جديد.
وكنتُ أقول: ولكن يا جدي هل حكاية طائر سوريَّة السَّكران حقيقية؟ وهل يُدرك ما يفعله، أم هي خبيئة, زوادة, يطمرها لفصل الربيع, حيث لا قوت في تلك البساتين التي تنهض من رُقادها؟ كان يُعقِّب: من لا يعرف العُقاب يشويه. رحمك الله يا جدي, فقد تعلمت منك الكثير وغاب عني الكثير.
لو تأملنا حياة الفلاح السوري في أواخر العقد السادس من القرن العشرين من خلال شخصية جدي الذي عاش ومات فلاحاً مرابعاً، وقد كنتُ قريباً منه في تلك الأيام قبل سنّ المدرسة أذهب في أول فصل الصيف لمعاونته في شتل البندورة. هذه المساحة من الوطن السوري كانت تُنتج دورتين زراعيتين في السنة، دورة بعلية صيفية ودورة شتوية. حيث يُزرع الشعير والقمح والحمُّص والعدس والجلبان، تشرب هذه المحاصيل من ماء الشتاء، وتُحْصَد أول فصل الصيف، ثمَّ تُفلح الأرض من جديد وتُزرع فيها خضار الصيف.
كان الفلاح السوري يعيش ويحرص أن لا تتجاوز مطالبه ما يمكن تحقيقه. يأكل خبزاً من حنطته وسمناً وجبناً ولبناً من بقراته وعنزاته الشامية، أو نعاجه العواس، ويأكل زيتوناً ودبساً وعسلاً إن توفر، ويحرص على مؤونة الشتاء من تين وزبيب وجوز ولوز وقمر الدين وملبن ودبس العنب و يخفي عن أعين الثقلاء عرقه ونبيذه.
فما الذي تغيَّر هكذا فجأة؟ ماذا حدث بين ليلة وضُحاها؟ كان البلد يتسع لمن يُغني كما يتسع لمن يُصلي. كيف انقلب المناخ السوري؟ كيف بدأ هذا القحط الذي ضرب مساحة الوطن سبع سنين عجاف؟ خربت الأرض وتغيرت معالمها، أرض مكفهرة مغطاة برماد المجزرة. حين عدتُ استفهم الخبر من سعيد حورانية، ومن بقيَّة قصته «عاد المُدمن». وبعد استكمال القراءة، فزعتُ، بل قُل شلَّني الرعبُ، ورحتُ أسأل: بماذا كنتَ تفكر يا سعيد حين كتبتكَ قصتك تلك في خمسينيات القرن العشرين؟ وماذا كانت تفعل زرقاء اليمامة في قصتك؟
تحت شجرة سنديان عمرها مئات السنين تعالت أصوات حاقدة هادرة, كانت جماعة من أصحاب البساتين ترتجف من الغضب وهي تستمع إلى الطائر السوري يُصلى في محراب الكون. نعم عاد المدن من جديد, لا بد من نتف ريشه ودق عنقه, جاء الصوت من تحت شجر السنديان, لنتحد جميعاً ضدَّ هذا السكير المعربد الوقح الذي يُفسد علينا هدوء حياتنا, إن طريقتنا القديمة في مكافحته أصبحت غير مجدية وها هو يتكاثر حتى يكاد يسدُّ الآفاق, وأرى أن يقودنا دم جديد, شاب لا تعرف الرحمة إلى قلبه سبيلا. وصاح الجمع بقوة: نعم, قُدنا أنتَ وحدك القادر على افنائهم! هتف: لا معارضة, هتفوا: لا معارضة.
وبدأت المجزرة, أُخرجت البنادق, استلت الخناجر من أغمادها, بدأ الرعب الأكبر, واجتاح البلاد طاعون أصفر, امتلأت الأجواء الساكنة بأصوات الرصاص وصيحات الحقد. نكَّست الأزهار تيجانها بذلِّ تاركة لرائحة الموت والحرائق الخانقة تلوين المدى. سمعت الغربان وعصائب البوم بهذا الخراب فتوافدت جماعات تتلوى جماعات, وأخذت تنعق وتنعب مُمجدة المذبحة. حتى إذا طلع النهار, لم يبق في البلد سوى جثث سود محترقة وأرض مكفهرة مغطاة برماد المجزر, وبدا أن كل شيء قد انتهى إلى الفناء, لكن هسهسة, وشوشة رقيقة ناعمة, سُمعت قادمة من بين دخان المجزرة الذي يحجب الآفاق ... عاد طائر سورية السَّكران.



#عبدالرزاق_دحنون (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هُناك مكان لمن يُصلي
- غسَّان كنفاني ماركسياً
- كلمة حق عند سلطان جائر
- خطابٌ مفتوح إلى الأمين العام لهيئة الأمم المتحدة
- قناديل ماركس
- قضية الجورنالجي الشيخ علي يوسف يوم 25 تموز 1904
- كنز الأموال بين الانجيل و القرآن
- رحم الله إيفان شيرفاكوف
- كيف تعرف أن السمك سعيد؟
- الدين النصيحة
- حجارة رجم الزانية سوداء
- مروان بن محمد يمنع لعب الشطرنج في دولته
- خطابٌ إلى الأمةِ الأمريكية
- هامش على سيرة الروائي العراقي علي الشوك
- نصُّ وقصيدة للمفكر العراقي هادي العلوي
- عشرون عاماً على رحيل المفكر العراقي هادي العلوي ...سلامٌ علي ...
- إلى أين نحن ماضون؟
- تغريدات ناجي العلي القاتلة...أخي المواطن من ضربك على خدك الأ ...
- إنَّ الكلامَ معَاقِلُ الأَشْرافِ
- مكتبة -إبلا- في إدلب من أقدم مكتبات العالم


المزيد.....




- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...
- قيامة عثمان حلقة 157 مترجمة: تردد قناة الفجر الجزائرية الجدي ...
- رسميًا.. جدول امتحانات الدبلومات الفنية 2024 لجميع التخصصات ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبدالرزاق دحنون - طائر سوريَّة السَّكران