حكاية المولودة مارى روزنتال

أمينة النقاش

الحوار المتمدن-العدد: 6035 - 2018 / 10 / 26 - 09:57
المحور: الادب والفن
    

..وهى حكاية مثيرة للتأمل والإعجاب واستخلاص الدروس، روتها الصحفية المصرية نائلة كامل، لابنتها المخرجة التسجيلية نادية كامل، لتصدر فى كتاب، عن دار الكرمة للنشر قبل أسابيع تحت عنوان «المولودة».
والكتاب هو تسجيل غير حرفى لفيلم «سلطة بلدي» الذي أخرجته «نادية كامل» قبل أحد عشر عاماً وتستعيد فيه الأم، بالحكي لحفيدها الفلسطيني، ماضي أسرتها ذات الأصول الإيطالية، والديانتين اليهودية والمسيحية، وجانباً من تاريخ الحركة الشيوعية االمصرية، التي تعددت منظماتها فى مصر بعد الحرب العالمية الثانية، وكانت الأم قد بدأت حياتها السياسية فى مقتبل العمر، عضواً فى إحداها.
وهي تصف دون أقنعة، أو ادعاء زائف بالبطولة، الطرق المعقدة التي اعترضت حياتها داخل أسرة أوروبية لأب يهودي مصري، وأم إيطالية مسيحية، تنصر والدها للزواج منها، امتثالا للتقاليد الدينية التى تمنع اليهودى من الزواج من غير اليهودية، وكيف واجهت تحدي منظومة التأطير الاجتماعي فى النظر للجاليات الأوروبية بشكل عام، لاسيما بعد الهزيمة العربية فى حرب فلسطين عام 1948، برغم أنها ولدت وعاشت فى مصر، وتزوجت مصرياً مسلماً، وابنتاها مصريتان بطبيعة الحال.
فضلاً عن المعركة الشرسة التي خاضتها مع قيم اجتماعية راسخة لتهميش المرأة وتأبيد دونيتها، فما بالك بامرأة اختارت أن تعمل فى صفوف الحركة اليسارية المصرية، وتعتقل فى العهدين الملكي والجمهوري لتمضي فى السجن سبع سنوات كاملة.
أصبحت «ماري روزنتال» الاسم الأصلي للأم هي نائلة كامل الصحفية صاحبة الباب الأسبوعي فى مجلة «حواء» تتابع من خلاله تطورات الحركة النسائية العالمية، ومدى تأثر النساء العربيات وحركتهن بها. وقد اكتسبت ماري اسمها بالزواج من الكاتب اليساري «سعد كامل» وأعلنت إسلامها.
يكشف الكتاب الجهد الجبار الذي بذلته ماري مع نفسها لمواجهة العزلة التي فرضتها عليها ظروف السجن القاسية التي حملت أسرتها أعباء غير متوقعة من ناحية، ومع الإحساس بالذنب تجاه جانب من أسرتها أجبر على المغادرة من مصر بعد حرب 1956، وعودة والدها ووالدتها وشقيقها للعيش فى إيطاليا من ناحية أخرى، والتكيف من ناحية ثالثة مع ظروف أسرتها الصغيرة الصعبة ومساندتها لها أثناء فترات الاعتقال المتكرر لزوجها.
والعيش فى ظل رقابة يومية أمنية مكثفة، وفصل الزوج، لأسباب غير معلومة من مؤسسة الثقافة الجماهيرية.
وكانت مؤسسة الثقافة الجماهيرية هي الصرح الذي أسسه سعد كامل فى بداية الستينيات من القرن الماضي، وانتشرت مراكزه فى كل القرى المصرية، تزرع التنوير، وتنقب عن المواهب وتدفع بها إلى ساحات الضوء والتحقق، وقد سطت التيارات الدينية المتطرفة بعد موت جمال عبدالناصر، على تلك المراكز، لتغزو المجتمع من خلالها ويجري التدريب بداخلها على القتل وتصنيع أدواته.
ولأن المولودة ماري روزنتال تروي الحكاية فى شيخوختها قبل رحيلها، فكان من المتوقع التداخل الذي جرى أثناء السرد بين التواريخ وبين الأشخاص، وبين الوقائع، وبين الخيال، كالخلط الذى جرى بين الأمينين العامين لهيئة الأمم المتحدة فقد كان كورت فالدهايم من شارك فى أعمال المؤتمر الدولى للمرأة فى سبعينيات القرن الماضى، وليس داج همرشلد كما ورد فى الكتاب..
ولأن الحكاية تروى بالعامية المصرية التي لم تكن الراوية تتقن سواها، فقد تجاوزت صدمة ذلك بالمعاني الثرية الأخرى التي حفل بها الكتاب، وفى القلب منها، أن سردها قد خلا من أية مرارة، برغم صروف الدهر وأهواله فى مسيرة حياتها.
امتلكت نائلة كامل النضج الثقافى والفكري لتلتقط عيوب التحزب الإيديولوجي الذي يمنعها فى بداية حياتها من استكمال دراستها الجامعية لأنها كما قالوا لها «نمط حياة برجوازي»، ويجبرها على الزواج وهي شابة صغيرة من زميل لتتمكن من الاختفاء فى بيته لملاحقة الشرطة لها، والترخص فى الأسباب التي تسوقها إليها لفصل الأعضاء وحدوث الانشقاقات داخل الأحزاب اليسارية، لتضع أمام الأجيال الجديدة التاريخ المأساوي للتعصب والأدلجة أياً كان مصدرهما.كما جاءت ملاحظاتها الثاقبة عن التغير فى العادات والسلوك والأذواق وحتى مفردات اللغة التى طالت الحياة الاجتماعية المصرية على امتداد أكثر من خمسين عامًا شديدة الذكاء، تعكس قدرة فائقة على تجميع التفاصيل الصغيرة البسيطة، وربطها ببعضها البعض، للتوصل إلى نتائج مبهرة، وربما تلمستها وهى تحكى، وليس فى زمن حدوثها..
يعكس الكتاب شخصية امرأة قوية غير قابلة للانكسار، شكلت بداخلها قوة نفسية غير عادية، لتختار حياتها من الأول للمنتهى، ولتصبح كما تريد،لا كما يريد لها الآخرون أن تكون، غير عابئة بأشكال مضنية من الضغوط، وامتلكت القوة والشجاعة على نقد الفصائل السياسية التي انتمت إليها، لتكشف بجسارة أحد مآزقها، وممارساتها الصبيانية والمريضة، وبات يحق لها أن تقول أنها ليست نادمة على شيء، وأنها عاشت مرفوعة الرأس موفورة الكرامة.

#أمينة_النقاش (هاشتاغ)      

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين	حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات