أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - ميثم الجنابي - أثر المرجعيات الثقافية في المصير التاريخي للأمم















المزيد.....


أثر المرجعيات الثقافية في المصير التاريخي للأمم


ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)


الحوار المتمدن-العدد: 6033 - 2018 / 10 / 24 - 14:28
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


إن القلوب تفزع للمفاجآت وتهدأ في مجراها، كما أن العيون تبحث لهفا في الظلام وتغفو فيه. وهي المفارقة التي تكشف في رمزيتها عن أن الانقلاب المفاجئ في الإحساس والرؤية يمرّ كما لو انه الطور الضروري للوجود. وليس ذلك إلا لأن الانقلاب المفاجئ في الإحساس والرؤية له قيمة ومعنى وأثر في الروح والجسد. وانه الشرط الملازم لتجدد الشعور المباشر والمتسامي، والخزين الهائج في "نظام" الخيال المبدع. كما أنها القوة القائمة وراء تضافر العقل والوجدان في بحثهما عن تناسق أمثل أو تجانس أفضل أو مثال أسمى أو منطق اسلم في كل ما جرّد ويجرّد التعرجات والانكسارات والالتواءات الحادة للوجود في صور الاستقامة.
فالتعرجات والانكسارات والالتواءات أو الانقلابات المؤلمة والمثيرة والمفزعة والمحببة هي التي أبدعت قيمة ومعنى الاستقامة وأعطت لها تلك الصورة الجليلة والمبّجلة في "الصراط المستقيم" للسلوك والوعي على السواء. وهو تصور له قيمته ومعناه وأثره في حالة رؤيته في تعرجات وانكسارات الوجود نفسه كما قال ابن عربي مرة عن أن الاعوجاج في القوس هو عين الاستقامة فيه.
بهذا المعنى يمكن القول، بأن الانقلابات الكبرى في التاريخ هي عين الاستقامة فيه. وليس لأنها تعكس مساعي الخيال المبدع في بناء نظام أفضل فحسب، بل وبفعل تمثيلها للاستعدادات القائمة فينا. أما الحصيلة الواقعية فإنها عادة ما تتجلى في فرح طاغ للانتصار والتقدم أو في حزن عميق للسقوط والهزيمة. وفي كليهما تهذيب للرؤية وترسيخ لليقين بحقيقة الاستقامة. ولا معنى للاستقامة هنا سوى التوازن أو الاعتدال أو الاستقرار. من هنا تباين واختلاف تحديد ماهية الانقلاب وحقيقته. فهو ثورة عند البعض وثورة مضادة عند البعض الآخر، عدالة عند بعضهم جور عند الآخرين، بناء عند البعض هدم عند البعض الآخر. كما أن الاستقرار(التوازن أو الاعتدال) جمود عند البعض وانتظام عند الآخر، مستنقع عند البعض وروضة عند الآخر، خنوع عند البعض ورضاء عند البعض الآخر.
إن كافة هذه التقييمات والأحكام معقولة للأذهان والأذواق سواء بمعايير التمايز الاجتماعي أو السياسي أو العقائدي. إلا أنها جميعا تصب في منحى النمو الواقعي لصراعها حول تحديد ماهية وحقيقة الانقلاب والاستقرار باعتبارها أقطابا جوهرية متمحورة في القضايا التاريخية للوجود الاجتماعي (للأفراد والأحزاب والأمم)، والوعي النظري والعملي في تنويعاته واختلافاته.
وليس اعتباطا أن تصل الثقافات الأصيلة بأشكالها المتنوعة، وكل بطريقته الخاصة، إلى ادراك وإعلاء شأن "القانون". فالثقافة العربية الإسلامية، على سبيل المثال، أدركت ذلك بمعايير تطورها الخاص في مجرى صراعاتها الاجتماعية السياسية والدينية العقائدية لتصل إلى محورة الانقلاب – الاستقرار في قضايا وجودها الاجتماعي (كالخلافة والإمامة، والجماعة والأمة، والإسلام والإيمان وغيرها) ووعيها النظري والعملي (في مفهوم المعقول والمنقول، والرواية والدراية، والتقليد والاجتهاد). وأن تبدع لذلك مفهوم السنّة في أبعاده الطبيعية والماوراطبيعية. لهذا تكلمت عن سنّة للرسول والأمة في جهادها واجتهادها، أو أصولها المتيقنة في ثمارها واجتهاد ظنونها باعتبارها بحثا عن اليقين (أو الاستقرار)، و"سنّة الله في الوجود". وأن تضع في هذا المفهوم وحدة التبدل والثبات، والاتفاق والاختلاف، وأن تجد في ذلك نعمة أيضا، بمعنى بلوغها الحكمة من خلال الظنون العقلية. وربطت الحكمة والاجتهاد بثمار الشريعة باعتبارها شريعة تجاربها التاريخية، أي كل ما أوحى لها في هواجس العقل والوجدان العميقة بأن الفتنة شرّ والوفاق خير، وأن الإمام الجائر خير من فتنة تدوم. وليس ذلك لقناعة الثقافة بالفتنة، بل لإدراكها قيمة النظام والوحدة مقارنة بالتهشم الدائم للقوى الخيرة. أما مثالها فيبقى مثال الخير الأسمى. وربطت هذا الخير الأسمى بقواعد ملزمة للجميع (الشريعة) ومحددة بمعايير إدراكها الذاتي للمصلحة والضرورة. وهي ذات النتيجة التي توصلت اليها الثقافة الصينية في حكمتها القائلة "اللهم جنبنا العيش في مراحل الانتقال". دون ان يعني ذلك رفض الاستعداد للعيش فيها إذا نزلت، كما كان المسلمون على استعداد لخوض غمار الفتنة حال نشوبها. بصيغة أخرى، إن الجوهري هنا هو الرؤية الحكيمة وليس إلزامية القواعد، أي ادراك قيمة الوحدة والاستقرار والنظام والتوازن وليس تفضيل الجور على الفتنة، أو كراهية الحياة على عيشها زمن الانقلابات. إذ لا قواعد ملزمة هنا سوى الرؤية الواقعية والاجتهاد في تجاوز مراحل الانقلاب من اجل بلوغ اليقين.
ولليقين تجليات لا تحصى. فهو ليس شيئا ثابتا لا يتغير، مثل اليقين القائل بأن العرب في تفرقهم لاشيء وفي وحدتهم كل شئ، أو اليقين القائل بأن روسيا في إدراكها لروحها الجماعي (المشاعي) ووجودها الأوروآسيوي وتاريخها الشرقي- السلافي ضمانة بناء كيانها الثقافي السياسي (المستقل). ذلك يعني، أن ضرورة اليقين نابعة من لزومه التاريخي للروح والجسد (الفردي والاجتماعي والقومي)، ومعنويته للمسائل والغايات. اذ المقصود هنا هو اليقين الثقافي المرتكز إلى مرجعياته التاريخية الخاصة المتمثل في كل ما يحرر الاجتهاد (والظن العقلي) من مخاطرة الانغماس فيما لا تاريخ له في الذات. وعموما يمكننا القول، بأن هذه المخاطرة ليست من مغامرات الروح المبدع، بل ومن جهل التقليد المتبجح بذاته. وهو الأمر الجلي في البلدان التي خضعت بصورة مباشرة فيما مضى للسيطرة الاستعمارية والتابعة حاليا للأقطاب الإمبريالية. حيث يجري الانهماك في تناول كل ما تنتجه الأقطاب الإمبريالية في الفكر والدوران في معضلاته (من ديكارتية ووضعية وماركسية ووجودية وفرويدية وتفكيكية وغيرها من المدارس) دون إدراك عبث هذه "المساهمة" ولا جدواها وهامشيتها سواء في التاريخ أم الجغرافيا أم الروح. وذلك لأن انهماكا كهذا لا يبدع فلسفة، بل ذيولا لها لأنه عمل واستذهان يدور في أفضل الأحوال في أفلاك غير أفلاكه. من هنا اندثاره دون أثر جدي في بناء الذات المعرفية. ومن هنا أيضا تهديمه الدائم للكيان المعرفي القادر على بناء أيديولوجية سياسية ورؤية تاريخية قادرة على المواجهة والتحدي والمساهمة الإيجابية في توحيد العالم المعاصر.
إن اليقين الثقافي المرتكز إلى مرجعياته التاريخية الخاصة يعطي لكل نماذج ومستويات الاجتهاد الحر إمكانية تأمل تجاربه وتحليلها بالمعايير المتراكمة في مجرى إدراكه الذاتي. وبالتالي تأديته إلى الشك بالقناعة التي تجزم بأن كل حركة إلى الأمام هي تقدم، وكل رجوع إلى الوراء هو تخلّف، وتخفف حدة الانطباعات السطحية القائلة بأن كل انقلاب هو خيانة، أو كل انقلاب هو تعبير عن مساعي البشر نحو الحرية، لأنها قناعات وانطباعات تعكس أجزاء الحقيقة لا كلها. بينما الحقيقة تقوم فيما وراء الخلافات والمتضادات. فللحقيقة منطقها الشائك وراء الظنون والخيال، أما كليتها فتكمن في إدراك قيمة الوحدة الحية للانقلاب والاستقامة في خلقهما عناصر النظام العقلاني الأخلاقي أو العدل (أو التوازن).
هذا الإدراك يؤسس للاستنتاج القائل بأنه لا موازاة ولا تكافؤ بين الانقلاب والفتنة، أي ليس كل انقلاب فتنة ولا كل فتنة انقلاب. أما المشترك الوحيد بينهما فهو القدرة على خلخلة اليقين والقناعة والوداعة والهدوء والاطمئنان والاستقرار (وهي قيم ليست عديمة الجدوى). وهو التناقض المميز للوجود التاريخي نفسه. بمعنى أن للتاريخ "منطقه" الخاص في بحثه عن قواعد اليقين في التوازن من خلال الانقلابات. فالانقلابات هي أيضا خلخلة اليقين في التوازن القائم وإعادة تأسيسه من خلالها، باعتباره أسلوب البحث عن توازن أفضل وأتم. أما البحث عن توازن فقد حصل في مجرى تطور الوعي الإنساني عبر صيغ ومستويات عديدة. وحصل في الوعي الأسطوري على نهاية جميلة بالبحث عن ساحرية القوة الخيرة في إحلال السلام والاطمئنان، وفي الوعي القانوني على جوهرية الموازين والقسط والحق، وفي الوعي الديني على المطهر والصراط، وفي الوعي الفلسفي على المنطق، وفي الوعي السياسي على الحرية وفصل السلطات (أو توازنها). وينعكس حدس التجانس في النهاية الجميلة والحق والصراط والمنطق والحرية. ومن ثم ليس هذا التوازن في أبعاده الاجتماعية الاخلاقية إلا الصيغة المجردة والواقعية معا لجوهرية التوازن في الوجود.
إن إدراك قيمة التوازن ينبع أساسا من سيادة العقل الأخلاقي في الرؤية الفلسفية. وليس مصادفة ألا نعثر على ملامح مدركة لقيمة التوازن في الفلسفة الطبيعية اليونانية، والتي ما أن تجاوزتها إلى توليف العناصر الأساسية في رؤيتها للوجود، حتى بدأ ادراك التوازن يشق الطريق لنفسه من خلال عناصر البحث عن الوحدة (كما هو جلي عند بارمينيدس). وقد اكتسب هذا البحث عناصره الجزئية في قيمة المبدأ العقلي المجرد في الماء أو الهواء أو التراب أو النار. اذ ان لكل من هذه العناصر تجل متجانس في الوجود. بل ليس الوجود سوى تجل لفاعليته (العنصر) أو تجانسه (هرمونيته). ولعل نار هيراقليط النموذج الأرقى والأدق. ثم ان تطور الفكر الفلسفي كله يعكس مساعي البحث عن توازن معقول. بل يمكننا القول، بأن الفلسفة الإسلامية والتصوف بشكل خاص هي المحاولة الجليلة لتأسيس قيمة النسب العقلانية والأخلاقية في الوجود وموقف الإنسان منها. ويمكن ان نعثر في الفلسفة الإسماعيلية وفي منظومة ابن عربي على واحدة من أجمل وأدق وأسمى الرؤى الفلسفية في هذا المجال. ولا تشذ الفلسفة الأوربية الحديثة عن ذلك رغم سيادة العقلانية النفعية فيها.
إن التوازن من حيث الجوهر هو العدل. وللعدل صيغ ومستويات لا تتناهى كالحقيقة والإبداع، بفعل سريانه الدائم في مساعي الإنسان صوب الأجمل والأفضل والأحسن. وإذا كان التطور التاريخي قد "اختار" لهذا العدل وصف الاستقامة، فليس ذلك إلا لأنها تحتوي في ذاتها على تقويم تجارب الانحراف والانكسار والابتعاد عن الحق والمبادئ والسنّة. اذ ليس التاريخ في نهاية المطاف إلا سلسلة الانقلابات التي يتراكم فيها ومن خلالها إدراك فضيلة الاستقامة أو العدل أو الجمال أو الحقيقة أو الحرية أو الحق. وهذه كلها صور متنوعة للبحث عن توازن. فهي توازنات متغلغلة بصورة واعية وغير واعية في كل إبداع ثقافي أصيل. بل يمكننا العثور عليها في مسلة حمورابي وحكمة كونفوشيوس وأهرامات مصر ومنطق الإغريق وبراهما الهند وصليب المسيح وهجرة محمد. ففي كل منها فعل يرمز إلى ادراك قيمة العدل (أو التوازن).
بعبارة اخرى، ان التوازن ليس جمودا ولا استسلاما، بل هو فاعلية دائمة، لأنه يفترض في صيرورته التاريخية وكينونته المثالية صراع المتضادات والسعي نحو الكمال. وبهذا المعنى يمكننا القول بأن الانقلابات الأصيلة تعكس في كلّها متضادات الوجود والوعي في بحثهما عن نظام (أو توازن) أمثل باعتباره تجليا للحقيقة والعدالة والحرية والجمال والحق. وهي الحصيلة التي يمكن وضعها في الاستنتاج القائل بان ديناميكية كل وجود في توازنه. بينما تفترض ديناميكية التوازن في آن واحد الإدراك العقلاني للمبادئ، والوجدان الأخلاقي للغايات، واللذين تتوقف عليهما كيفية التوازن وعمقه ومحتواه. فديناميكية التوازن رهن بمنظومة المرجعيات الثقافية. إذ لكل انقلاب مرجعياته الثقافية. الأمر الذي يحدد عند الأفراد والأحزاب والأمم قيمته في التاريخ (والصيرورة) ومعناه في الروح (والثقافة) وأثره في المصير (الفردي والاجتماعي والقومي).
فالانقلابات التاريخية الكبرى في أوربا، على سبيل المثال، أو كيفيتها في نقل الأمم الأوربية للحالة المعاصرة انما ارتبطت تاريخيا بالإدراك العقلاني لمبادئ الرؤية الكونية والاجتماعية والسياسية المستمدة من تراثها (اليوناني – الروماني) أو مرجعياتها الثقافية. حقيقة، أن التراث اليوناني ليس أوربيا (بالمعنى المعاصر للكلمة) لا من حيث مصادره ولا من حيث محتواه ولا حتى قيمه. فأوربية التراث اليوناني هي مصادرة محلية له وأسطورة. إلا أن فاعليتها بالنسبة للحالة المعنية تقوم في قدرة الأمم الأوربية على تطويع الإبداع اليوناني (سليل التراث السومري – البابلي – المصري – الفينيقي – الآشوري) في فلك مرجعياتها. وهو تطويع له مقدماته وأسسه أيضا في ثقافات الأمم الأوربية. لقد اسهم هذا التطويع من خلال الأخذ الحر بإنجازات الثقافة العربية – الإسلامية في بناء الكيان الثقافي الأوربي. وقد أبدع ذلك في مجرى الصراع الاجتماعي السياسي والثقافي والتطور العلمي في مراحل النهضة والإصلاح والتنوير والتصنيع والتحديث، سبيكة "الروح الأوربي" في مختلف نواحي الحياة. لقد استطاعت اوربا ان تقدم نموذجا فريدا ومتجانسا في كيفية التطويع الحر والعقلاني للمرجعيات الثقافية. وعلي هذا الاساس جرى بناء الوجدان الأخلاقي في مواقفه تجاه مختلف قضايا الوجود الاجتماعي والإنسان والدولة. أما مداها في التاريخ الأوربي فهو نهضتها، وإصلاحها، وتنويرها، وتصنيعها، وحداثتها الشاملة بما في ذلك فتح قناة "ما بعد الحداثة" . أما قيمتها في صيرورة التاريخ الأوربي فتظهر في كينونة الأمم الأوربية نفسها. أما معناها فيقوم في بناء الأنا الأوربية لأممها، أو إدراكها الذاتي في العلوم والفنون والآداب والسلوك. أما أثرها في المصير التاريخي لأوربا فيقوم في استتباب واستقلال أممها ودولها، ولحد ما تكافؤها صوب توحيدها الجديد. وبهذا تكون أوربا قد قطعت الشوط الضروري الأول في الإدراك العقلاني لمبادئها، والوجدان الأخلاقي المناسب لغاياتها. وقدمت في نموذجها أحد البراهين الكبرى على أهمية بل وجوهرية المرجعيات الثقافية في بناء الكيان القومي الثقافي السياسي، أي برهنت عما في التمسك والتطبيق المبدع لمنظومة المرجعيات الثقافية من فعل جوهري في الإبداع الديناميكي للتوازن. ومن ثم تقييد انقلاباتها الدائمة بمرجعياتها الثقافية الخاصة. بحيث جعل من مسارها المعقد وحدة أو توازنا أو اعتدالا معقولا بمعاييرها الخاصة.
وتكشف هذه الحالة عما للمرجعيات الثقافية من قيمة ومعنى وأثر في التاريخ والروح والمصير. إذ لكل مرجعية قيمتها النسبية بالنسبة للتاريخ، وقيمتها المطلقة بالنسبة للأمة. من هنا إمكانية "سلبيتها" للآخرين و"إيجابيتها" للأمة (أو الأنا). فإذا كان "منطق" التاريخ يتجسد عبر الصراع والتحدي الشائك، فان الحكمة الممكنة فيه تتمثل في بناء النفس بالاستناد إلى مرجعياتها، بوصفه الأسلوب الوحيد القادر على صنع تكافؤ في الرؤية المتبادلة. وعلى هذا الإدراك تتوقف إمكانية ونوعية المساهمة في تيار "العولمة" المعاصرة. وبالتالي المساهمة في إرساء أسس التوازن العالمي و"أقطابه". فالأقطاب المعاصرة هي إقطاعيات عصرية بما في ذلك تمثيلها في "جمعية الأمم" "المتحدة". إذ أن وحدتها في الأغلب قهرية وتصويتها لعبة تحددها القوة لا العقل ولا الأخلاق وتتنافى مع مبدأ الديمقراطية المعلن. كل ذلك يجعل من الأقطاب الثقافية الصيغة الممكنة والعقلانية كبديل لواقع التوازن المبني على القوة. فالقوة لا تصتع غير وهم التوازن، لأن الجميع منهمك في سباق خفي تحدده القوى البهيمية لا الإنسانية. من هنا فان لتوازن "الأقطاب الثقافية" شرعيته في تاريخ الأمم ويعطي لوحدتها واتفاقها تلقائية المعنى المتراكم في تجاربها ككل. وهي أقطاب يمكن حصرها حاليا بالثقافة الأوربية-النصرانية، والآسيوية– البوذية– الهندوسية، والإسلامية (الآسيوية – الأفريقية) والأمريكية (الانكلوسكسونية) والأمريكية (اللاتينية– "الهندية") والسلافية الأوروآسيوية الارثودوكسية. فتلك هي الأقطاب القادرة على توحيد ذواتها في كيانات ثقافية سياسية (بما في ذلك صنع جمعياتها الأممية) باعتباره أسلوب تأسيس العولمة الحقيقية المتوازنة بمعايير ثقافية إنسانية.ومن ثم صنع ديناميكية قادرة على بناء توازن عالمي عقلاني وأخلاقي. بمعنى نفي معالم القوة بقوة المعالم المتراكمة في التجارب الروحية للأمم في مرجعياتها. إذ للأمم مرجعيات روحية كبرى قادرة على التلاقي والتفاهم.
وفي حال تطبيق ذلك على العالم العربي، فاننا نرى احد النماذج المعكوسة والفاشلة لحد الان بهذا الصدد. فالانقلابات الكبرى، سواء في مرحلة محمد علي باشا أو ما بعد الحرب الإمبريالية الأولى، لم ترتبط تاريخيا بالإدراك العقلاني المستمد من تراثه الخاص ومرجعياته الثقافية. لهذا ظلت سطحية وتقليدية (للغرب الأوربي خصوصا). مما افقدها إمكانية التخطيط البعيد المدى، وجعل من "النهضة" و"الإصلاح" و"التنوير" حركات جزئية متقطعة في عالم لا هوية له وهامشي في قواه ورؤياه. من هنا عدم استطاعة الانقلابات التي حدثت فيه صياغة منظومة مبادئ وغايات، لأنها لم ترتكز إلى مرجعياتها الثقافية في تاريخها الذاتي (العربي) . لذا ظل التاريخ العربي اللاحق مجرد زمن خارج كينونته السياسية الثقافية. من هنا ضحالة قيمتها بالنسبة للوجود (والتاريخ) العربي وسطحيتها في الروح (والثقافة) وأثرها في المصير (القومي). صحيح أن العوامل الخارجية التي أثرت سلبا على تلقائية التطور الذاتي في العالم العربي، بما في ذلك تجزئته ومن ثم اضعاف كيانه الاجتماعي بعد خروجه الكسيح من رحم العثمانية المتهرئ. غير أن مقارنة مصر القرن الثامن عشر والنصف الأول من القرن التاسع عشر مع اليابان حينذاك يكشف عن جوهر الخلل في تباين طرق التطور الاجتماعي والسياسي والعلمي والتكنولوجي. فقد كانت مصر انذاك ارقى بما لا يقاس باليابان. الأمر الذي يشير إلى تباين جوهري مرتبط بطبيعة الرؤية الاستراتيجية وبكيفية بنائها بما يتوافق مع حوافز وهواجس المرجعيات الثقافية الخاصة.
كل ذلك يبرهن، إلى جانب التجارب الناجحة والفاشلة لعشرات المناطق والدول والثقافات، على أن قيمة الانقلابات ومعناها وأثرها مرتهن بكيفية وعمق المرجعيات الثقافية الخاصة وكيفية تأسيسها الذاتي. فهي المقدمة الضرورية التي تكشف عن الأثر الحاسم للتأسيس الثقافي للعقائد (الأيديولوجيات)، وعن جوهرية العقائد بالنسبة لتشخيص الرؤية القومية واستراتيجيتها المرئية وغير المرئية. من هنا قيمة الانقلابات الفكرية (كالتجديد والإصلاح والثورة) في حالة استخراجها من كيان التجارب التاريخية للأمم نفسها. فليس للانقلابات الفكرية قيمة حقيقية وأثر جوهري فعال في التاريخ السياسي للأمم ما لم تتكامل في ترسيخ التقاليد التاريخية نفسها وتتصير في منظومات واعية لذاتها. فهو الأسلوب الوحيد الفاعل في تثويرها الدائم والإيجابي في السلوك الاجتماعي السياسي، وفي الوعي الثقافي القومي بمختلف ميادينه ومستوياته، وإلا فإنها تصبح مجرد تجريبية تندثر بموت أصحابها.
إن غياب المرجعيات الثقافية الخاصة، أو عدم إدراك الواقع بمعايير التجربة التاريخية ومقولات الثقافة للأمة يجعل من الوعي السياسي للأفراد والنخب والأحزاب والمجتمعات تعاليم مدرسية قابلة للتبخر والنسيان نتيجة لافتقادها تاريخها الخاص. اذ تتحول إلى حلقات سائبة،مهما غلا ثمنها، لأنها نتاج لتجارب الآخرين. غير أن ذلك لا يقلل من تجارب الآخرين، على العكس. ان هذا الموقف يؤكد على أهمية القيمة المطلقة لإنجازات الثقافة بالنسبة لمبدعيها سواء في إيجابياتها أو سلبياتها لأنها تساهم بتعميق وعي الذات، وعلى قيمتها النسبية للآخرين. وهذه القيمة النسبية هي التي تتكون من تضافرها القيمة المعقولة "للتاريخ العالمي".
فالتاريخ الحق هو سلسلة وعي الذات في العقل والوجدان. وليس هذا الوعي بدوره سوى أسلوب ومظهر التاريخ السياسي نفسه. كما أن التجانس الدائم أو التوازن الديناميكي بين وعي الذات الثقافي والتاريخ السياسي هو مقدمة الاستمرار الدائم للإبداع في مختلف نواحي الحياة. وبعكس ذلك تصبح حياة الأفراد (القادة) أو الأحزاب أو العوائل أو العشائر معيارا للزمن (التاريخ). وهو اقبح أنواع الزمن لأنه لا حياة فيه. وذلك لأن حقيقة الزمن تكمن في معياره الثقافي الذي هو الكلّ المجرد للإبداع الحر والمرتبط في الوقت نفسه بمرجعياته الفكرية والروحية الكبرى.
فالانقلابات الحقيقية هي التي تعي أبعادها التاريخية الذاتية. إذ لكل انقلاب أبعاده المتنوعة في الوجود والوعي الاجتماعيين. انه يتبلور في الروح والجسد (الاجتماعي والقومي) من خلال الكيفية التي يجري بها أدراك قيمته ومعناه وأثره بالنسبة للمصير التاريخي للأمم نفسها.
***



#ميثم_الجنابي (هاشتاغ)       Maythem_Al-janabi#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نقد تقاليد الاستبداد في الثقافة السياسية العربية - على مثال ...
- نقد تقاليد الاستبداد في الثقافة السياسية العربية(3) على مثال ...
- نقد تقاليد الاستبداد في الثقافة السياسية العربية(2) على مثال ...
- نقد تقاليد الاستبداد في الثقافة السياسية العربية(1)
- داوود الطائي- شخصية ومصير
- سفيان الثوري- شخصية ومصير(3-3)
- سفيان الثوري- شخصية ومصير (2-3)
- سفيان الثوري – شخصية ومصير (1-3)
- الحركة الصدرية والمستقبل: من الطائفة إلى الأمة، ومن المدينة ...
- أيديولوجيا الحركة الصدرية – اللاهوت الشيعي والناسوت العراقي
- الحركة الصدرية - الأنا والتاريخ أو اليوطوبيا والمستقبل
- الحركة الصدرية – تيار الداخل وصعود الباطن العراقي
- مقدمات المعترك السياسي والأيديولوجي للحركة الصدرية
- الحركة الصدرية- غنيمة الزمن العابر وتضحية الانتقام التاريخي
- مقتدى الصدر: ميتافيزيقيا -الثورة- الصدرية
- تقييم تجربة بناء الدولة العراقية (2003-2018)
- غاندي وعقدة -القادة العرب-
- إبراهيم بن ادهم - شخصية ومصير
- آفاق الصراع الديني في المشرق العربي المعاصر
- تصوف ومتصوفة


المزيد.....




- شاهد تطورات المكياج وتسريحات الشعر على مدى الـ100 عام الماضي ...
- من دبي إلى تكساس.. السيارات المائية الفارهة تصل إلى أمريكا
- بعد الهجوم الإيراني على إسرائيل: ما هي الدول المنخرطة؟
- السفارة الروسية: طهران وعدت بإتاحة التواصل مع مواطن روسي في ...
- شجار في برلمان جورجيا بسبب مشروع قانون - العملاء الأجانب- (ف ...
- -بوليتيكو-: شولتس ونيهمر انتقدا بوريل بسبب تصريحاته المناهضة ...
- من بينها جسر غولدن غيت.. محتجون مؤيدون لفلسطين يعرقلون المرو ...
- عبر خمس طرق بسيطة - باحث يدعي أنه استطاع تجديد شبابه
- نتنياهو: هناك حاجة لرد إسرائيلي ذكي على الهجوم الإيراني
- هاري وميغان في منتجع ليلته بـ8 آلاف دولار


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - ميثم الجنابي - أثر المرجعيات الثقافية في المصير التاريخي للأمم