أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود الصباغ - القارئ The Reader :سردية الضحية و تمثل الغائب















المزيد.....

القارئ The Reader :سردية الضحية و تمثل الغائب


محمود الصباغ
كاتب ومترجم

(Mahmoud Al Sabbagh)


الحوار المتمدن-العدد: 6028 - 2018 / 10 / 19 - 08:41
المحور: الادب والفن
    


لكنه قبلاً فيلم المشاعر العميقة و الأحاسيس المرهفة.
كيف لسردية الحرب بمستوياتها المركبة ؛أي سردية المجرم و سردية الضحية و سردية المذنب/الضحية أن تساهم في تعميق رؤيتنا لمشاعرنا وردود أفعالنا وسلوكنا ؟فحكمنا على المذنب،مثلاً،على أنه ضحية الضعف البشري قد يفسر ما أراد الفيلم قوله عن جرائم الحرب حين تختلط مشاعرنا اتجاه الضحية و المجرم عند مستوى معين من التصعيد .
لعل هذا ما يفسر قول صديقي السويدي أثناء حوار عام عن فلسطين "أنتم العرب-واعذرني في ذلك- في منتهى السوء .هم يريدون بناء "سنغافورة" و أنتم تريدون أن تحيلوها إلى صومال جديدة" .ورغم معرفتي بأنه ليس من ذلك النوع العنصري إلا أن ما قاله أثار عندي مشاعر متباينة ما بين الغضب و الوجوم ,و الحزن و التحدي أيضاً. فقلت له "كيف وصلت إلى هذه النتيجة؟أجابني ببروده السويدي المشهود لهم فيه "لست أنا من يقول، بل قالها لي أحد الإسرائيليين ذات يوم".
هذه المقولة في الحقيقة،والتي يرددها الإسرائيليون، وردت في رواية "الحاج" للكاتب الأمريكي #ليون_يوريس الذي يوصف عادة بأنه من أكبر المدافعين عن إسرئيل و من أكثر المحرضين على خطاب الكراهية.
وحيث أن صناعة السينما تسعى لإحاطة جمهورها بسوية معرفية تتوافق مع تقنيتها ومنطوقها الداخلي ؛أي الصورة و الحركة و الحوار ؛بمعنى ضمن إطار السردية البصرية .وحيث أن عقولنا مبنية بطريقة معقدة و عصية على المراقبة المستمرة؛وحيث أني شاهدت بالصدفة فيلم #القارىء ,فقد تابعته غريب و عبارة العرب السيئين ترن في راسي و كان هنا أيضاً أن الفيلم لم يقنعني هذه المرة-مثل المرات السابقة- لجهة مجرم الحرب و الضحية/المذنب بالتبعية ففي بناء الفيلم الدرامي تعترينا الدهشة حين نرى هذا البؤس السري لحنة "على اعتبار أنهاضحية" أو كنوع من ضحيةلم تستطع أن تكون معادلا موضوعيا للسجناء الضحايا وهو أمر له وزنه في معمار الفيلم وجاذبيته ، وهو ما يبرهن على قدرة المتلقي في مط رؤيته لتلك الأدوات السينمائية و شدها نحو مطارح تأويليه تتجاوز ربما الحدود النقدية لتخدم رؤيته هو و ليس رؤية أصحاب هذه الصنعة ؛بصرف النظر عن الإبداع التمثيلي أو قوة الفعل الحقيقية للإخراج و السيناريو و الموسيقا و غيرها من مقومات السردية البصرية.فإذا كان الفيلم يسائل المجتمع عن ذنب الضحية و الجاني "أفراداً و جماعات"وعن العدالة و التسامح و الفداء و العار؛فهو في المقابل يحرضنا للسؤال عن سلوكنا في الحرب أكثر من سلوكنا في السلم , ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد،بل هو أكثر تعقيدا فلا يطالبنا المخرج بالغوص كثيراً في طبيعتنا ونحن نخوض حرباً ما؛ بل أن ننظر لأنفسنا بعد الحرب وتداعياتها , فكما يقال:الحرب قذرة؛في منتهى القذارة ,حتى لو قامت من أجل غايات نبيلة.الحرب أكثر اللحظات قلقاً ودهشة في التاريخ رغم تكرارها واعتيادنا عليها وعلى مظاهرها ,ويعرض الفيلم تلك التداعيات بدفق هائل من الجنس و الفاجعة, على نحو تبدو فيها هذه التداعيات قريبة أو تكاد تلامس قصصنا اليومية "الحقيقية" حيث تكون أخلاقياتنا و إسقاطاتها الناتجة عن عن أفعالنا على المحك.وحتى تلك السلسلة من الأخلاقيات الإشكالية تبدو في الفيلم وكأنها مفتعلة في جزء منها ,(هذا لا ينفي أن جزء منها محق حين يركز على بناءات عاشها المجتمع الأوروربي لقرون طويلة و عانى منها أخيرا في حربين شرستين).
وعموما حين تغيب الذكريات عن المعاناة الحقيقية للسجناء و المعتقلين فإنه لا يمكننا أن نحكم على الوقائع الأساسية لحياة و سلوك حنة شميدت ،ربما هذا ما يفسر الخوف الشديد من الاقتراب من هذه الجزئية, فالرعب الذي تثيره مشاعر معاداة السامية لا تسمح للعقل السليم بالتروي كي يتعامل مع الحدث كما هو ،أي الآن وهنا، ولهذا استمر و سيستمر الصمت عن حقيقة الهولوكوست برمتها ,هذا إذا وضعنا جانبا الرؤية الرسمية لها.ورغم أن الفيلم لا يبدو سياسياً من الطراز الأول .لكنه كذلك عندما يحاول أن يجبرنا على التساؤل عن مصير عظام أولئك الذين ماتوا في معسكرات الاعتقال النازية؛ كأنه يحاول استثارة عواطفنا تضامنا( هل هذا السبب في حصول بطلة الفيلم على الأوسكار ؟).
نفي المؤامرة و مقولاتها -هنا-لا يعني أنها غير موجودة, فالمؤامرة و نظريتها تعيش بيننا؛ تسير معنا أينما حللنا.وقد تكون تفسيراً مقنعاً-للبعض –لهذا السلوك العنيف و المدمر الذي يختاره بعض البشر ضد بعض البشر وهو الأمر ذاته الذي يجعلها غير مفهومة أيضا في نهاية المطاف،فهل تضامن الفيلم مع الضحية؟ هل رأى المخرج الضحية؟ هل حنة ضحية؟ هل هي مجرمة؟ ونعود للسؤال الافتتاحي هل نحن على هذا القدرمن السوء البشع الذي وصفه يوريس في روايته؟ من يرى؟ من هو قادر على الرؤية ، ومن أين؟ ومن الذي يؤذن له بالرؤية؟وكيف هذا الإذن؟ أهو ممنوح أم مكتسب ؟ باسم من نرى؟ ما هي بنية الرؤية؟وأين تقع السرديات القومية في هذا السياق ؟
الفيلم يتكلم عن ألمانيا النازية؟بسياقات اعتادت هوليوود على تقديمها. وبالعودة إلى صديقي السويدي. ترى كيف لم يخطر له أن يرانا ضحية؟ كيف لم يخطر له أن يستذكر كيف بنى مجتمع المستعمرين اليهود رؤيتهم عن الفلسطينيين؟
ففي التمثلات المبكرة من القرن العشرين لفلسطين ، يظهر الفلسطينيون كشعب بالوكالة "فهم غالبا ما يوصفون بهم :"العرب" أو ا"لمسلمون" أو "السكان المحليون". و الحاضر منهم (إن حضر فعلا) هو غالبا غائب عن هذا التمثيل المبكر.ومقارنه هذه بتلك فمن الصعب علينا أن ننسى سؤال مايكل لحنا " قضيت الكثير من الوقت في التفكير في الماضي ؟ليأتي جوابها حزينا (ليس مهمّا ما أعتقده , ليس مهمّا ما اشعر به ,فالموتى مازالوا موتى")
ييتخضرني هنا فيلم من ثمان دقائق بعنوان " تفاصيل" للمخرج الإسرائيلي آفي مغربي(إنتاج 2004) ، تسير مجموعة من الفلسطينيين نحو نقطة تفتيش ويحاولون التفاوض مع الجنود الاسرائيليين للعبور بسيارة اسعاف. جنود جيش الدفاع الإسرائيلي في دبابة ، لم يترجلوا منه قط . صوت الجندي الإسرائيلي، مكتوما في دروع الدبابة التي هو بداخلها يأتي عبر مكبر الصوت لوقف حركة المجموعة التي تمشي على الطريق المغبر . الموقع ليس محددا- نقطة تفتيش إسرائيلية في مكان ما في الأراضي المحتلة. الجندي، المجهول، المحمي ، وقوته النابعة من تشغيل الدبابة ، ويقول"قفوا ... عودوا لدياركم " سيارة الإسعاف، عند وصولها، ردها الجنود مرة أخرى . فتاة صغيرة خائفة ، تبكي . الفلسطينيين، المحميين فقط بملابسهم، هم أجساد من لحم دم ، أجساد مكشوفة وضعيفة، وجودهم غير مستقر على الأرض حيث لاحول لهم ولاقوة..فهم –أي الفلسطينيون –مستثنون من أنطولوجيا الواقع. وباعتبارهم أكبر و أقدم مجتمع لاجىء في العالم بأسره ، فهم ليسوا سوى طيف يتناهى أو يسعى لنهايته , ومن خلال هذا يتم تأطير التأويل التاريخي لهم بحيث يتم نزع الصبغة الواقعية عنهم "ليصبحوا ليسوا أحياء و ليسوا أموات" .هذا الشكل/الصورة لمن هو "ليس حياً وليس ميتاً" هو ذاته نراه في حنة. وستبقى برودتها و لامبالاتها تدهشنا،وسيبقى صمتها المضجر القاتل يهزنا, ومع ذلك سنتذكر على الدوام شهوانيتها وشغفها السريع و الأمومي بالفتى المراهق مايكل مع ما يترافق ذلك مع طقوس بالكاد تكون مثيرة ,فهي تحبه أن يقرأ لها بصوت عالٍ("تقرأ لي، أولاً، يا ولد. ثمّ نمارس الحبّ" ) ,ولكن ليس أي قراءة , بل تلك الكلاسيكيات الخالدة لبعض عظماء الكتاب و الشعراء مثل تشيخوف وهوميروس و ريلكه ,تقوم حنة -بحكم خبرتها-باستخدام "لعبة" القراءة لتؤدي بها وعبرها دوراً فاعلاً في اسكشاف بواطن هرمونات اللذة الثائرة في جسد الشاب المراهق بطريقة تلقط الانفاس.ستبقى سطوتها ورغبتها في امتلاك مايكل بحس امومي مختلط بالجنس الصريح طاغية على مساحة عريضة من شخصيتها ,سوف نتساءل كلما شاهدنا حنا عن مصير إنسان محكوم باختياراته الخاطئة ويقودنا هذا بدوره للتساؤل-باستغراب ربما-كيف أن "العقاب" يتجاوز المجرم الحقيقي ويقتصر فقط على الفرد الذي ربما لم يشعر أنه قام بهذا الخيار الخاطىء عمدا،وهكذا يستمر الفيلم بطريقة ما في الحفاظ على توازنه بطريقة مدهشة وهو أمر نادر الحدوث في السينما بما يؤكد على قوة تعقيد العلاقات بين شخوص الفيلم وتفاعلاتها التي لاغنى لنا عنها لفهمهم .. التعلم. الاستماع للقراءة, استكشاف الدوافع بعناية و تحليلها. المتعة التي يتركها المخرج للمشاهد هنا هي الغموض الذي يعطينا فسحة لاستكشافه ,بمعنى هناك خيارات كبيرة وهناك ثمة خيارات أخرى أقل شأنا .وينوس المشاهد بين متعة الخيارات وتفكيكها و تحليلها ,إنه أمر معقد لاشك.
عموما قد لا يكون الأمر كذلك، هذه قراءتي للقارىء المستندة على المشاهدة و متعة الفرجة، فأحيانا كثيرة تظهر "حنة" باردة و منفصلة يعتريها بعض الارتباك و اللامنطق ,سلوكها غير مفهوم و عشوائي أحياناً فضلا عن تاريخها السابق الغامض والمنسي ولكن ليس طويلاً (والذي يبدو غير مبرر بطريقة يرثى لها) .ولكن عندما نتعمق أكثر سنرى بعض من الأسرار داخل روحها و ربما هذا ما جعلها تستمر في الحياة على الرغم من تغاير مساراتها وتباعدها تلبية لغرض المخرج (مثل ذلك المنعطف الدرامي الذي يجعلها تلتقي بمايكل مرة ثانية) وهنا يضعنا المخرج أمام أسئلةعلى درجة عالية من الخطورة و نجدنا ملزمين للإجابة عليها ..ترى ما هو الأخلاقي و اللاأخلاقي في اللقاء؟ أين يكمن المنطق و أين تكمن العاطفة؟ ما هو البسيط و المعقد في نسيج العلاقة هذه؟ التي هي أحد ارتكازات الفيلم الرئيسية و بصورة تكاد تكون عكس السرديات الشهرزادية،حنا شميت هي المستمتع و المستلذ بالإصغاء ومايكل هو الراوي وتظهر العلاقة بينهما كعلاقة سطوة و تسيّد و حب أيضاً،ولا شك أن المشاهد سيستنتج ببساطة أن حنا هي الآمرة وهي المالكة لأسرار فنّ الحب تقود فتاها بيد خبيرة إلى مكامن اللذة عبر جغرافية بديعة لجسد متمرّس بالعمل والواجب والجنس.
مايكل الفتى، مشدوه، مدهوش، أمام جمالها وسحرها المشع عليه بقسوة وغموض، كأم وحبيبة في نفس الوقت. التقته في لحظة تعاطف حسّاسة،تقدم له الحب الجنسي بسخاء لتهرب هي عبر بوابة القراءة ،،تهرب من سرها،حيث أن"فكرة السرية تحتل مكاناً مركزياً في الأدب الغربي" (هكذا يقول المدرس لتلاميذه ومن بينهم مايكل) . فكرة السرية تتجلى بمثابة بوابة للهروب، مثلما هي القراءة كممارسة سردية تتمظهر أيضا كبوابة هروب، وينوس مايكل تحت عبء هذه البوابة و ما تظهره من تأثير على حنا و انفعالات تبدو ظاهرياً متباينة وتشكل بوابة الدخول إلى فضاء الجسد و عوالمه.
من النادر أن يبهرنا نص بمشهديته السينمائية هكذا،إذ نجد أنفسنا ننساق إلى الدخول إلى ملحمية الجسد من بوابة المرويات السردية التي تبثها آلية القراءة ،تمنح حنا جسدها تحت وطأة الإصغاء.وهذا الجسد سيكون بدوره قنطرة يتأسس عليها الهروب،والموت
علينا أن لانضيع كثيراً في متاهة التأويلات ،فمعقولية الطرح تقنعنا بما فيه الكفاية أن حنا أميّة لا تقرأ، وهو ما سيكتشفه مايكل لاحقاً،ليس هذا فحسب بل سيكتشف أنها كانت عميلة لاستخبارات النازية .
ولعل ما قاله مؤلف الرواية يلخص هذا "الفيلم هو بالفعل شيء آخر. إنّها صور أخرى لكنها صور ومشاهد اقتبست من مادّتي. وعندما يستحدث مخرج جيّد شخصيّة جيّدة أجد هذا شيئاً جميلاً".وهنا تكمن الإشكالية..هل من واجب المخرج "أن لا يخرج عن النص"؟ أم من حقه أن يقوم بتوليفة تتماشى مع رؤيته هو لا رؤية النص؟.قد نتفق على أن الفيلم لم يستطع أن يولد لدينا انطباعاًً بأنه احتوى كل المشاهد الروائية.ومع ذلك سنخرج بانطباع آخر هو أن الفيلم جميلاً ويحاذي بدرجة أو بأخرى فضاء الرواية الأصلية، مع أن الجزء الأول المتضمن التوصيفات الجنسية لم يصل إلى عمق التفاصيل التي أضاءها الفلم، ويبدو هذا ما حاول المؤلف قوله أعلاه،وهو ما استنفذ جهداً كبيراً من المخرج علماً بأن الرواية تركز على الجزء الثاني أكثر، أي على محاكمة حنا بتهمة قتل يهوديات وهي الجزئية المركزية التي تعمقت الرواية في تصويرها وربما يعود ذلك إلى كون المؤلف بروفسوراً في القانون وعمل محامياً وقاضياً ومدرساً جامعياً للقانون.ولذلك حتى علاقة الحب بين حنّة ومايكل حكمتها عقدة الذنب كما فهمها المؤلف و المخرج ،وما اخفاء حنّة لماضيها طيلة تلك الفترة إلا تمهيد للصدفة التي ستكشف الحقيقة.
على عكس الكثير من الأفلام التي تناولت المحرقة وتاريخ النازية لم يكن الفيلم بأطروحته جزءًا حميماً مما بات يعرف بصناعة الهولوكست، التي تحضر فيها الشخصية اليهودية الخيّرة مقابل الشخصية النازيّة الشرّيرة في تبسيط مريب ومكشوف لقضية أعقد من ذلك بكثير.
أراد الفيلم أن يستدعي الشرّ النازيّ اللاّعقلانيّ من دائرة الكبت والقمع المنزرع في اللاوعي( الألماني خاصة و الأوروبي عموماً)، ويخرجه إلى نور الوعي حتى يتخلص من وطأة الإثميّة التي يرزح تحتها الضمير الأوروبي التي تعيق مواجهة نفسه. وهاهي حنة الفتاة الألمانية البسيطة تنتسب إلى النازية دون أن تدرك ما الذي تعنيه وتقوم بمهمّاتها بناء على فكرة الواجب والمسؤولية دون تذمر ودون أن تعي حدودها وإمكانية الرفض.
ولكنّها كائن إنساني من لحم ودم، تحبّ وتعشق، وأيضاً تتحول نفسياً وروحياً وتتطهّر بالحبّ لتصل إلى التصالح مع ذاتها على شكل ندم واعتراف بالذنب يستدعي ضمن نطاق إنسانيته تسامحاً وغفراناً لم تصل إليه المرأة اليهودية التي حافظت على صورتها في ذات الإطار.
رغم العديد من الأفكار المتشابكة، والعواطف المختلطة التي يطرحها الفيلم فهو أيضاً قصة حب استثنائية، وعلى الرغم من أن حكاية الجيل الألماني المحكوم بعقدة ذنب العيش في كنف النازية، أو المشاركة في بعض ما اقترفته من أفعال، وخاصة بالنسبة لإبادة اليهود، وأفعال الاقتصاص ومشاعر الندم والغفران، تأخذ حيزاً كبيراً في القسم الثاني من الفيلم، (الذي يشكل انعطافة غير متوقعة للمشاهد عن جزئه الأول)، إلاّ أن تلك الأفعال، ليست أكثر من خلفية يدور أمامها القسم الأكثر دراميةً وإثارةً لقصة الحب بين حنة شميث و مايكل بورغ.
وبحتاج المشاهد إلى سعة و قوة خيال كي يتصور أن العلاقة التي جمعت حنة بمايكل لشهور قليلة،( التي امتلكت زمامها حنة و اختلطت فيها مشاعر الحب والحرمان والأمومة والانعتاق من واقع حياة حنا، بمشاعر التعرف على جسد امرأة للمرة الأولى واكتشاف الرجولة بالتعلق الأمومي بالنسبة لمايكل)، ستنتهي فجأة باختفاء حنة، لتظهر بعد سنوات كمتهمة بالقتل ولتعترف على نفسها بمسؤلية كتابة تقرير( لم تكتبه في الواقع) أدانها بقتل 300 إمرأة يهودية، مفضلةً العقاب الطويل على اعترافها بأميتها، وفي حضور مايكل، والذي يظهر جبناً وخوفاً وتهرباً من مسؤولية الاعتراف بعلاقة بها، يمنعانه من الوقوف إلى جانبها، والشهادة لصالحها،مايكل الرجل الثري الذي يحيا حياة لامعة مهنياً،و زواج فاشل، وعلاقة متأزمة مع ابنته الوحيدة وأهله ومع النساء عموماً. تخطر له فكرة تسجيل أشرطة كاسيت بصوته، يقرأ فيها بعض الكتب والروايات الأدبية التي سحرت حنة إبّان علاقتهما السابقة ويرسلها لها إلى السجن. طبعاً، تكون المفاجأة رائعة ومذهلة بالنسبة لها فتربطها بالحياة من جديد وتعيد إليها لحظات الحبّ الدافئة التي عاشتها مع مايكل.
وكردة فعل، لا تكتف بالاستماع إلى الأشرطة والتمتع بوقعها عليها، بل تخطر لها فكرة أكثر جنوناً حين تقرر تعلم القراءة والكتابة من خلال المطابقة بين ما ينطقه مايكل من كلمات و بين النص الأصلي الذي كانت تستعيره من مكتبة السجن.
تستطيع حنة بإصرارها وإحساسها العميق بالواجب والمسؤولية، عدا عن شغفها بالتعلم أصلاً، إتقان القراءة والكتابة بشكل رائع وترسل لمايكل الرسالة تلو الأخرى تطلب لقاءه وهو يرفض إجابتها.
قابلها بصمت بارد يذكرنا بصمت والده في المنزل أيام صباه. وقتها، كان يعيش حالة الخوف والكبت المزمن في العائلة تحت وصاية الأب الكئيب. وإن كان يحفظ لحنة تقدير ما فلأنها -بحبّها وجسدها- حرّرته وأطلقته لفترة وجيزة كطائر حر في سماء الحياة. ثمّ نكص الولد نفسياً وعاد إلى سيرته الأولى بعد اختفائها. في المرة اليتيمة التي التقاها في السجن قبل الإفراج عنها بأسبوع، وقف أمامها رجلاً مفعماً بالصمت والكآبة والكتمان بارداً اتجاهها، ومحاولته التملّص منها.


قد لا يكون الفيلم على تلك الدرجة من الأهمية بالنسبة للمشتغلين في النقد السينمائي , لكنه استطاع ان يصور- لنا نحن المشاهدين- تلك الكيمياء الغريبة التي تربط شابا في سن المراهقة بسيدة من منتصف العقد الرابع من عمرها في علاقة جريئة و حميمية بعيدا عن اعتبارات أخرى بحيث يعطينا وقتا كافيا للتأمل الذاتي اتجاه الحياة ذاتها و إدراكها .
تحرر حنة مايكل للمرة الأخيرة بموتها ،بمعنى أدق انتحارها ،وكانت الكتب التي قرأتها طوال السنوات الماضية بوحي حبها القديم وسيلتها وسلمها الذي ارتقت فيه نحو الخلاص النهائي وسط الزنزانة. وبحكمة العاشقة المسنّة خلعت حذاءها وكأنها تؤدي طقساً دينياً صوفياً تعبر فيه من حال إلى حال، من ولادة إلى ولادة وهي التي خبرت العالم وقرأت كلّ الكتب وجسدها ليس حزيناً كحال الشاعر الفرنسي مالارميه، "الجسد حزين واأسفاه وقد قرأت كلّ الكتب".



#محمود_الصباغ (هاشتاغ)       Mahmoud_Al_Sabbagh#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حكاية مخيم أوله حارة فدائية و آخره مقبرة شهداء
- اللص و الكلاب: طوبى لدنيا يقتصر أوغادها على من نعرفهم فقط
- سأحدثكم عن أيمن
- القدس أم أورشليم؟ إنها قسمة ضيزى
- النكبة:وعي الهزيمة والذاكرة المثقوبة
- Mulholland Drive: العقل؛ دعابته و لعنته
- عن فلسطين ..عنها ،بوصفها أكثر من تفصيل
- انحسار دور علم الآثار في بناء الهوية الإسرائيلية
- The Good ,The Bad ,and The gly : آخر الأوغاد المهذبين
- نقد النموذج الثقافي-التاريخي و سرديات التوطن في منهج علم الآ ...
- Good Will Hunting: اللحظة الفردية التي يمكن التنبؤ بها
- زقاق المدق: والحب بطل كل الأشياء
- من بسمارك إلى صلاح الدين , مسح الماضي القومي في إعادة تسمية ...
- العدو على الأبواب Enemy at the Gates الحب في زمن الحرب
- Gangs of New York: عصابات نيويورك
- -المكتوبجي- ..غول رقابة وذراع سلطان
- الخادم
- القدس في القرنين العاشر و التاسع ق.م :إعادة نظر على ضوء الحف ...
- يهودية الدولة: اليهودي الأبيض في مواجهة الفلسطيني آخر -السام ...
- فلسطين إسرائيل: الاستعمار الاستيطاني ودولة الاستثناء


المزيد.....




- فادي جودة شاعر فلسطيني أمريكي يفوز بجائزة جاكسون الشعرية لهذ ...
- انتهى قبل أن يبدأ.. كوينتن تارانتينو يتخلى عن فيلم -الناقد ا ...
- صورة فلسطينية تحتضن جثمان قريبتها في غزة تفوز بجائزة -مؤسسة ...
- الجزيرة للدراسات يخصص تقريره السنوي لرصد وتحليل تداعيات -طوف ...
- حصريا.. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 المبارك وجميع القنوات ال ...
- الجامعة الأمريكية بالقاهرة تطلق مهرجانها الثقافي الأول
- الأسبوع المقبل.. الجامعة العربية تستضيف الجلسة الافتتاحية لم ...
- الأربعاء الأحمر -عودة الروح وبث الحياة
- أرقامًا قياسية.. فيلم شباب البومب يحقق أقوى إفتتاحية لـ فيلم ...
- -جوابي متوقع-.. -المنتدى- يسأل جمال سليمان رأيه في اللهجة ال ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود الصباغ - القارئ The Reader :سردية الضحية و تمثل الغائب