علي حسين المزوري
الحوار المتمدن-العدد: 1512 - 2006 / 4 / 6 - 01:00
المحور:
الادب والفن
في تلكَ الساعة المتأخرة من ذلكَ الليل الداجي و على صوت زغّات المطر التي كانت تنهمر وكأنّ السماءَ تفرغُ ماء ألف سنة لم تَجُدْ فيها بماءٍ أفكارهُ الشاردة كانت تسير به من شارع الى شارع دونما أن يدري ما هي وجهتُهُ, تشبَّع بالماء كأنهُ قطعة اسفنجٍ وهو غيرُ مُبالٍ للبرد الذي ينخُر عظامهُ, غيرُ سامعٍ لصوت أسنانه التي تصطكُّ من البرد, جسدهُ النحيل ليس ضعيفا كما يبدو عليه الوهن فرُوحُهُ عنيدة وهي التي قد أتعبت ذهنه الذي يَشُعُّ شررا من الذكاء المتقد.
ظلَّ ينتقل من شارع إلى شارع ورأسه منخفض لا يكاد يرى أبعدَ من أطراف أصابع قدميه لكنهُ فجأة استدار إلى اليسار وما أشدَّها الدهشةُ التي تملَّكته حينَ وقعت عيناهُ على شابٍّ يجلسُ على طرف الشارع واضعا رأسه بين ركبتيه المنقبضتين, بدأت التساؤلات تغزو مواقعَ الشرود في رأسه وبدأت نفسه تحدثه: ماذا يفعل هذا الشاب وفي هذه الساعة وتحت هذا المطر؟ ظننت أنني بلا أدنى شكٍّ الشخص الوحيد الذي لا يأبه إلى هذا البلَلِ وهذا البرد القارص, يا ترى ما الذي أخرجَهُ من منـزله؟ أ أذهب لأكمل مسيري الشارد أم أتقدم و أتحدث معه ؟
قرر أن يُنهي توقفه وأن يترك هذا الشاب الذي هو من سِنٍّ تقارب سِنَّهُ , فهو دائما ما كان يكرهُ المتطفليَن أيّما كُره, بدأت ساقاهُ تخطوانِ بهِ خطوات ثابتة مُبتعدا عن ذلكَ الغريب, لكنّ رغبة شديدة وفضولا أشد عصفا به فأدار اتجاهَ مسيرهِ إلى حيث يقعد غريب الأطوار ذاك, اقترب منه وبكلماتٍ ولدت من رَحَمِ الترددِ قال مرحبا.
رفع الجالس رأسه ناظرا اليه لثواني ولم ينطق بحرف واحد.
لم يردعه هذا الصمت عن متابعة ما جاء إليه فاستردَّ قائلا : أنا اسمي كريم أوَدُّ التحدث إليك فهل تسمح؟
فأجابهُ الجالسُ بكلماتٍ تلفظها بنَسَقٍ بطيئ: وعن ماذا تريد أن تتحدث معي ؟
-أتسمح لي أولا أن أجلس إلى جانبك؟
فهز الجالسُ رأسه إيماءا بالقبول.
جلس كريم وبدأ متحدثا : لماذا أنتَ جالسٌ هنا وفي هذهِ الساعة وتحتَ هذا المطر الغزير؟
- و أنت ما الذي تفعله؟
- لا عليك مني , أخبرني ما اسمك وما الذي أخرجك من منـزك ؟ ظننت أنه يستحيل أن أرى شخصاً في هذا المطر خارج داره.
خَيَّمَ السكوت للحظات قبل أن ينطقَ الجليس مجيبا:
اسمي أحمد, أعتقد أنكَ شخصٌ فضولي لن تتركني وشأني لذلك سأخبرك عن الذي يقعدني هنا ولا أنكر أنَّ فيَّ رغبة عارمة في التحدثِ عما يجول في نفسي, على أن تذهب لحال سبيلك بعدها.
- حسنا.
- إني أشعر بـهَمٍّ يقَبَعُ فوقَ صدري كأنهُ جبل, أنا لا أصلح لشئ, أنا عالةٌ على الآخرين, لا أجيدُ القيام بأي شئ, فاشل في الدراسة و لا أتقن أي صنعة, لم يوهبني الله أي موهبة أستطيع من خلالها أن أكلِّلَ حياتي بالنجاح, أي عمل أجدُهُ لا أستمر فيه لأكثر من يومين كأنني الشخصُ الوحيد الذي يريد الله أن يمتحنَ صبره, إني لا أجد معنى لحياتي.
سكت أحمد عن الكلام لبرهة ثم قال: هل أرضيتَ فضولك؟
لكن كريم لم يُجِب, فقد كان قد ذهبَ في شرودهِ من جديد واستمر الصمتُ بينهما حتى قطعَهُ أحمد : قلت لي أن اسمك كريم, أ ليس كذلك؟ حسنا يا كريم عليَّ أن أعترفَ أن عدوى فضولكَ قد أصابتني فأخربني لما هذا الحزن يلمع من عينيك مع أنه لا يبدوا لي أنك شخصٌ فاشلٌ مثلي , ما أمرك ؟
هذه الكلماتُ كان كالصاعقةِ وقعُهَا على كريم, هذه الكلماتُ أيقظتهُ من سباتِ شروده فرمت بهِ ألى زوبعةِ الذهول, فلكم هو نادر أن يسأله أحد ما أمرك؟ ما الذي يشغلك؟
أحسَّ برغبة شديدة بالبكاء وترقرقت عيناهُ بالدموع لكن كربيائهُ منعَهُ من أن يعطي الدموع فرصةً لتشُقَّ لها مجرى في وجهه فمسحَ كلتا عينيهِ بسبَّابـتَيه, تردَّدَ للحظة هل يتكلم أم يكبت ما في صدره كما تعوَّد؟ لكن أحزانه غلبت تردده وألزمته الحديث,
-يا صديقَ المطر أنا مثلُك أحس بالضياع ولا أجد معنى لحياتي لكني على النقيض منك أشعر بالبؤسِ لا لأني لا أصلح لأي شئ بل لأني أصلح لكلِّ شئ, حزني شديدٌ وكآبتي مَدَّت جذراً عميقاً في ذاتي, إني أشعر بالوحدة, نجاحٌ أُتبعُهُ بنجاحٍ لكني لا أجد أيَّ طعم له, لا أحسُّ أنَّ أحدا حولي يعنيهِ أمري, لا أحد يفرح من أجلي, لا أحدَ يُقَدِّرُ قدراتي, كل نجاحٍ أصنعُهُ يزيد من كآبتي وشعوري بالوحدة.
يا صديق المطر إننا في الكآبة والعزلة سِيَّان وإن اختلفت الدروبُ التي قادتنا إلى هذه النهاية المظلمة, يا صديق المطر أنا مثلك لا أجد معنى لحياتي.
#علي_حسين_المزوري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟