أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عيبان محمد السامعي - الفيدرالية في اليمن.. ماضياً وحاضراً (الحلقة الثانية) (ورقة بحثية)















المزيد.....


الفيدرالية في اليمن.. ماضياً وحاضراً (الحلقة الثانية) (ورقة بحثية)


عيبان محمد السامعي

الحوار المتمدن-العدد: 6008 - 2018 / 9 / 29 - 11:13
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


الفيدرالية راهناً:
أقرّت الوثيقة المنبثقة عن مؤتمر الحوار الوطني الشامل الذي عُقد في الفترة (18 مارس 2013م – 25 يناير 2014م) الانتقال من شكل الدولة البسيطة إلى الدولة الاتحادية.
ووفقاً لذلك, فقد قُسمّت اليمن إدارياً إلى ثلاثة مستويات حكم, هي: المستوى الاتحادي, والأقاليم, والولايات. وقد تضمنّت الوثيقة محددات عامة للصلاحيات والمسؤوليات المنوطة بكل مستوى من المستويات الثلاث.
لم يأتِ هذا الإجماع الوطني صدفةً, بل كان نتاج شروط موضوعية وسيرورة عاشتها اليمن بُعيد قيام الوحدة اليمنية في 22 مايو 1990م بين جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية (اليمن الجنوبي) التي حكمها الحزب الاشتراكي اليمني, والجمهورية العربية اليمنية (اليمن الشمالي) والتي حكمها المؤتمر الشعبي العام وهو حزب ذو توجه ليبرالي.
قامتْ الوحدة الاندماجية بين الدولتين السالفتين بصورة مُستعجلة ومرتجلة, لم يُراعَ فيها التباينات والاختلافات في طبيعة وتوّجهات كلا النظامين, وهو ما ألقى بظلال قاتمة على عملية إدارة دولة الوحدة.
بدأت نُذر الأزمة تطلّ بقرونها بين طرفيّ الائتلاف الحاكم, وتصاعدت أكثر إثر قيام المؤتمر الشعبي العام ورئيس الجمهورية آنذاك ـــ علي عبدالله صالح ـــ بإعاقة تطبيق دستور1991م الذي أقر اللامركزية الإدارية والمالية في إطار الدولة البسيطة، وإخضاع المجالس المحليّة للانتخاب بكامل هيئاتها، ويشمل ذلك انتخاب المحافظين ومدراء المديريات، ومنح هذه المجالس صلاحية إدارة الشأن المحلي كسلطة مستقلّة, فردّ الطرف الآخر في الائتلاف ــــ الحزب الاشتراكي اليمني ــــ بتبني تعديل الدستور باتجاه تعميق لامركزية الحكم وتقديم رؤية لاعتماد الفيدرالية كحل للأزمة.[19]
وفي حقيقة الأمر فإنّ تبنّي الاشتراكي لهذا الخيار, كان ردة فعل لسياسة الضم والإلحاق التي مورست ضده وضد الجنوب منذ أول يوم من أيام دولة الوحدة. فقد اعتبرت نخب الشمال تحقيق الوحدة بمثابة "عودة الفرع (أي الجنوب) إلى الأصل (الشمال)"!, وليست وحدة قائمة بين دولتين مُعترفٌ بهما دولياً, ولهما شخصيتان دوليتان..!
على أساس هذا التصور تصرّفت نخب "الشمال", وعمدت إلى تعميق الصراع والذهاب بالأمور إلى المواجهة؛ بهدف إخراج الحزب الاشتراكي اليمني من المعادلة والانفراد بالسلطة. وفي سياق ذلك نُفذّت عمليات اغتيالات ذهب ضحيتها ما يزيد عن (150) قيادي اشتراكي في الفترة ما بين عامي (1991 - 1993م).
إثر ذلك تدخلت بعض الدول الإقليمية في محاولة منها لإيجاد حل للأزمة, وقد أسفرت هذه المساعي عن "توقيع ما سميّ "وثيقة العهد والاتفاق" وقّعته كل الأحزاب السياسية.
بموجب الاتفاق المذكور، حُسِم الخلاف بإقرار نظام حكم يقوم على اللامركزية الإدارية والمالية، ومُنِحت المجالس المحليّة المنتخبة صلاحيات واسعة، وتوسّعت المشاركة في اتخاذ القرار التنموي، كما عزّز الاتفاق السلطة التشريعية باستحداث "مجلس شورى منتخب"، وهو غرفة برلمانية ثانية، وحَدّدت الوثيقةُ المهامَّ والصلاحيّات العامّة لمجالس الحكم المحليّ التنمويّة والخدميّة والإداريّة والماليّة."[20]
وقبل أن يجفّ حبر التوقيع على الوثيقة, كان المؤتمر الشعبي وحلفائه من أطراف سياسية ومشائخ قبلية ودينية يعدّون العدّة للانقضاض على الطرف الآخر, وأعلنوا عليه الحرب, مستخدمين شعارات سياسية مضللة وفتاوى دينية آثمة تتهم الجنوبيين بالانفصال والاشتراكيين بالإلحاد.
لقد أحدثتْ تلك الحرب الغاشمة جروحاً غائرة في جسد الوحدة الوطنية لا تزال مفتوحة إلى اليوم. فقد قضتْ الحرب على الوحدة الطوعية واستبدلتها بـ"الوحدة المعمدة بالدم", واستبيح الجنوب في 7/7/1994م, وعومل كأرض فيد وغنيمة, جرى اقتسامها بين الغزاة "الوحدويين" و"المجاهدين".
أخذت سلطة 7/7 وتحت وهم "النصر" تتنمّر على المجتمع, وتُخرِج ما في جعبتِها من مطامع الاستحواذ. فشرعتْ بإجراء تعديلات واسعة على دستور دولة الوحدة, شددت بموجبها القبضة على السلطة والثروة. إذ تم إلغاء المجلس الرئاسي, واُختزلت السلطة بالحاكم الفرد, وأُفرغ الحكم المحلي من مضمونه لصالح هيمنة المركز (عاصمة الدولة).

جناية الدولة البسيطة على اليمن:
أثبتت التجربة الملموسة أنّ الحكم المحليّ في ظروف بلدٍ كاليمن لم يكن سوى أكذوبة كبرى.
فقد عجزت "اللامركزية الإدارية" عجزاً بيّناً عن منع تغوُّل السلطة المركزية عليها؛ لأنها تفتقد للآليات المؤسسية والتشريعية الكفيلة بذلك, وفاقد الشيء لا يعطيه!
لقد آلَ الحكم المحلي المنصوص عليه في الدستور السابق إلى تمركُّز شديد للسلطة والثروة بيد الحاكم وعائلته, وقد أدى ذلك إلى نتائج اجتماعية واقتصادية وسياسية بالغة السوء, نبيّنها على النحو الآتي:
على المستوى الاجتماعي:
1- ولّد احتكار السلطة والثروة احتقاناً اجتماعياً, اتخذ مساراً تصاعدياً مع مرور الوقت, وبدأت رقعة الاحتجاجات الشعبية تتسع كل يوم حتى بلغت ذروتها باندلاع شرارة الحراك الجنوبي السلمي في 7/7/2007م, وتفجُّر الثورة الشعبية عشية 11 فبراير 2011م.
2- تعاملت السلطة الاحتكارية مع الشعب كمُلحق بها, لا باعتباره كياناً مستقلاً عنها, يمتلك هوية ولديه مطالب وتطلعات.
وقامت بتكريس العلاقات الرعوية في المجتمع, شيخ مقابل رعية, وحاكم مقابل جماهير تابعة.
3- استحوذ المركز على المشروعات التنموية ــــ على رثاثتها ــــ, وحُرمت المحافظات الأخرى منها, وهو ما ولّد ردة فعل اجتماعية, تمثلت في انتشار الدعوات الجهوية والنزعات المناطقية في طول البلاد وعرضها.
4- وعليه, بدأ المجتمع اليمني يفقد ــــ بالتدريج ــــ شروط التماسك الاجتماعي والاندماج الوطني, في حين بدأ الانقسام والتشظي يتعزز بصورة أكبر.
5- انبعثت مشاريع ماضوية كنا نعتقد أن الزمن قد طواها وإلى الأبد, مثل: "مشروع الجنوب العربي" الذي تتبناه بعض فصائل الحراك في الجنوب, و"المشروع الطائفي السلالي" الذي يقوده تحالف الانقلاب في الشمال, والدعوات المناطقية التي تتنامى في الوسط.

على المستوى الاقتصادي:
1- تراجعت مؤشرات النمو الاقتصادي بشكل مستمر, في مقابل ارتفاع تصاعدي مخيف لنسب الفقر والبطالة, وتضخّم أسعار السلع والخدمات.
2- باتت الدولة تعاني من العجز الشامل: عجز في الميزانية العامة (Government Budget) وهو عجز يتكرر كل سنة, وعجز في ميزان المدفوعات(Balance of Payments), وعجز عن خلق فرص عمل جديدة للعاطلين.
3- ارتهنت الدولة وبشكل كليّ لمؤسسات الإقراض الإمبريالية: صندوق النقد والبنك الدوليين (IMF & WB), وبموجب ذلك أُلزمت بتنفيذ ما سُميّ "برنامج الاصلاح الاقتصادي والتكيف الهيكلي"(Economic Reform and Structural Adjustement Program). الذي كان له مآلات كارثية على الاقتصاد الوطني, فقد دُمّر القطاع العام بفعل الخصخصة (privatization), وانتُهجت سياسات التجويع والإفقار (أو سياسة الجرعة كما هي متداولة شعبياً) وذلك برفع الدعم الحكومي عن السلع الغذائية والمشتقات النفطية وتعويم قيمة العملة الوطنية, وقد أفضى كل ذلك إلى تآكل الطبقة الوسطى وتزايد أعداد الفقراء.
فضلاً عن ذلك, انجرفت اليمن في سياسة "الإقراض والمديونية" و"الاستثمار الأجنبي غير المنضبط", وبالتالي أصبح الاقتصاد الوطني تحت رحمة المتروبولات العالمية, وفقدت اليمن استقلالية قرارها الوطني, وأصبحت دولة تابعة كلياً, فالتبعية الاقتصادية مقدمة للتبعية السياسية.
4- استفحال الفساد بصورة مهولة, وصار مُمأسساً ومقنناً, في ظل تحكّم سلطة غنائمية, وتزاوج بين ممارسة المسؤولية الحكومية وممارسة النشاط التجاري والاستثماري. وتشكّلت شبكة مصالح انتفاعية, شملت: مسؤولين حكوميين, وقادة عسكريين, ومشائخ قبائل, ورجال دين, ورجال أعمال, وسياسيين موالين, سعوا إلى مراكمة الثروة والذهاب بها إلى خارج البلاد لبناء مشاريع استثمارية وشركات عقارية خاصة.
5- ساهم هذا الوضع في تعميق الفوارق الطبقية في المجتمع اليمني, فصارت أقلية بسيطة تعيش في ثراء فاحش, وأغلبية كاسحة تعاني من فقر وعوز.
على المستوى السياسي:
1- شهدت اليمن طوال الـ25 عاماً الماضية أزمات وحروب متناسلة ومتسلسلة, فكانت تخرج من أزمةٍ إلى أزمة, ومن حربٍ إلى حرب.
لم تكن هذه الحالة محض صدفة, بل سياسة ممنهجة لجأت إليها الطبقة المسيطرة للتنصّل عن القيام بالتزاماتها الدستورية والتنموية تجاه المجتمع.
2- عانت الحياة السياسية في اليمن من حالة تجريف وتضييق للمجال العام, وجرى تدجين المجتمع المدني, وتقييد الحريات العامة وانتهاك حقوق الإنسان, وقوبلَ حراك الشارع بقمعٍ مفرط, وتعمقت سيطرة الأجهزة الأمنية على الحياة المدنية, وانتشر العسس والمخبرين في كلّ شارع وزقاق لإحصاء أنفاس الناس.
3- اُختزلت السلطة في شخص الحاكم وعائلته, وأُفرغت الديمقراطية من مضمونها الحقيقي, وأُلغيَ مبدأ التداول السلمي للسلطة "بتصفير العداد" مراتٍ عديدة, وانتهاءً بقلعه تماماً. وأُضفيَ على شخص الحاكم طابع القداسة فهو الرجل الضرورة الذي يرتبط مصير اليمن به.
4- وأبعد من ذلك, بَدتْ اليمن تتجه إلى أن تصبح دولة جملوكية وراثية, بقيام أجهزة السلطة الترويج لمشروع التوريث.
5- كل هذا وغيره, وضع اليمن في فوهة بركان, فكان أن انفجر البركان ولا تزال حممه تتطاير في كل اتجاه..!

الضرورة الملحة للفيدرالية في اليمن:
رأينا فيما سبق ذكره, كيف فشلت تجربة الدولة البسيطة في اليمن, وأنها لم تنتج سوى تركّز أكبر في السلطة واحتكار أعمق للثروة.
وقد اتخذتْ عملية مركزة السلطة والثروة في اليمن شكلاً معقداً يمكن وصفها بـ"مركزية عنقودية انشطارية". قُسمّت البلاد بموجبها إلى: مركز (عاصمة الدولة) وأطراف تابعة (بقية محافظات البلاد), حيث المركز يستأثر بالسلطة والثروة ويحرم الأطراف منهما.
وفي كل قسم من هذين القسمين الرئيسيين, وجدنا تقسيمات فرعية انشطارية: فالعاصمة تنشطر إلى مناطق نفوذ "مركز" ومناطق تخوم "أطراف", ففي الأولى تتركز مؤسسات الدولة والأحياء الراقية ومنازل كبار قيادات الدولة والسفارات, مثل: منطقة حدة, ومنطقة السبعين, ومنطقة الحصبة, ومنطقة التحرير, فيما بقية المناطق تعيش على الهامش, وتزدحم فيها العشوائيات, وينتشر فيها الفقر والجريمة.
وعلى ذات المنوال تنشطر مناطق الأطراف (المحافظات) إلى قسمين: مراكز الأطراف وتتمثل بعواصم المحافظات, وتخوم الأطراف وتتمثل بالبلدات والأرياف. حيث تستحوذ عواصم المحافظات على القرار المحلي والمشاريع ويتكدس فيها السكان, في حين تُهمَّش البلدات والمناطق الريفية وتبقى تابعة لعاصمة المحافظة.
وقد أفضى هذا الوضع إلى ترييف المدن بفعل هجرة أبناء الريف إلى المدينة بحثاً عن فرص للحياة, وتكدّس هؤلاء في الأحياء الشعبية التي تفتقر إلى الخدمات وينتشر فيها الفقر والجريمة.
ولم تقف المركزية عند هذا المستوى, بل أضحتْ حالة بنيوية شاملة, تجلّت في صور مختلفة في السياسة والاجتماع والاقتصاد وكافة مناحي الحياة.
فجماعة السلطة "مركز" والمجتمع "طرف", والحزب الحاكم "مركز" الحياة السياسية وأحزاب المعارضة "أطراف", والطبقة الطفيلية الكمبرادورية "مركز" الحياة الاقتصادية وبقية المنخرطين في النشاط الاقتصادي من عمال وعاملين وملاك صغار "أطراف", ومسؤول مؤسسة حكومية "مركز" المؤسسة والعاملين فيها "أطراف", وشيخ القبيلة "مركز" وبقية أبناء القبيلة "أطراف", وزعيم الحزب "مركز" وبقية أعضاء الحزب "أطراف", والرجل "مركز" والمرأة "طرف", والأب "مركز" العائلة وبقية أفراد العائلة "أطراف"... وهكذا.
يُضاف إلى كل ما سبق, التحديات الجسيمة التي أفرزها انقلاب 21 سبتمبر 2014م ونشوب حرب أهلية وتدخل اقليمي في مارس 2015م.
لقد أحدث هذا المسار تصدُّعاً كبيراً في جسم الوحدة الوطنية والنسيج الاجتماعي, وتعزز الخطاب المناطقي وتكرست الدعاوى الطائفية بصورة غير مسبوقة. فقد بات الخطاب التقسيمي: شمال وجنوب, زيدية وشافعية, يمن أعلى ويمن أسفل, روافض ونواصب, قحطانية وهاشمية, هو الخطاب السائد.
أمام هذا الوضع المتفاقم الذي يهدد سلامة الكيان الوطني, ليس بإمكان العقل السياسي اليمني إلا أن يبحث عن حل حقيقي جاد, ولن يكون هذا الأمر مواتياً إلا بتغيير شكل الدولة البسيطة إلى الدولة الفيدرالية.
إنّ الخيار الفيدرالي علاج وقائي ضروري لتفادي تشظي اليمن إلى دويلات. وهو الحل الواقعي الموضوعي المطروح في مقابل المشاريع التطرفية الأخرى التي تتمثل بـ: التمسك بالدولة البسيطة, والمشروع الطائفي, ومشروع فك الارتباط.
خيار الدولة الفيدرالية يمثل المدخل الموضوعي لحل القضية الجنوبية ومعالجة النتائج الكارثية لحرب 1994م. ويمثل آلية ناجعة لمواجهة المشروع الطائفي الذي يدّعي بالحق الإلهي في الحكم وحصره في ولاية البطنين, كما يمثل مصداً وطنياً أمام تنامي الدعوات الجهوية وسط البلاد.

نقاش مع الممانعين للدولة الفيدرالية:
من المفارقات العجيبة في هذا البلد أن تجد فريقين يقفان على طرفي نقيض لكن يجمعهما موقف واحد!
ينطبق هذا الوصف على كلٍ من:
1- أنصار الدولة البسيطة, وهم لفيف من أطراف سياسية وطائفية ومثقفون وكُتّاب.
2- دعاة فك الارتباط: بعض فصائل الحراك الجنوبي.
يفترق الفريقان في النظرة إلى الوحدة القائمة, لكنهما يتفقان في الموقف الرافض للفيدرالية!
فالفريق الأول: ينظر إلى الوحدة القائمة كقيمة مقدسة "لاهوت", وينكر أنها تعاني من أزمة أو وصلت إلى فشل!
وعلى هذا الأساس يتمسك بخيار الدولة البسيطة, ويرفض الفيدرالية.
أما الفريق الثاني فيرفض من حيث المبدأ أي صيغة لإعادة بناء الوحدة في إطار اليمن, بل ويتنكر ليمنيته, ويتبنى خيار فك الارتباط ومشروع الجنوب العربي!
يبني الفريقان مواقفهما الحادة انطلاقاً من أرض الماضي, وليس بناءً على فهم جدلي للواقع وملابساته؛ لهذا يرفضون فكرة الفيدرالية حتى لمجرد طرحها للنقاش!
لقد عمدوا إلى تشويه النظام الفيدرالي وتعبئة الناس ضده, وأجزم أنه خلال الخمس سنوات الماضية لم تتعرّض فكرة للتضليل والتشويه مثلما تعرّضت فكرة الفيدرالية!
فقد لجأ قادة الفريق الأول إلى أَبْلَسة الفيدرالية وشيطنتها, وتصويرها للناس وكأنّها مروق عن الدين, أو مؤامرة كونية تهدف إلى تقسيم البلاد. واشتغلت ماكنة التحريض في وسائل الإعلام وفي منابر المساجد وفي الأماكن العامة ضد كلّ من يتبنّى خيار الفيدرالية.
لقد أصيب هؤلاء بفزعٍ كبير لأنهم يرون في الفيدرالية خطراً يهدد مصالحهم غير المشروعة.
أما من يتزعمّون الفريق الثاني فقد لجأوا إلى استثارة عواطف الناس ـــ لا سيما في الجنوب ـــ ضد الفيدرالية, واعتبروها محاولة للالتفاف على مطالب الجماهير في فك الارتباط والاستقلال!
والفيدرالية في لُحمتها وسداها ليست تقسيماً للبلاد, ولا هي مضادة للدين, ولا هي أيضاً حيلة لاحتواء المطالب المشروعة للجماهير.
الفيدرالية نظام إداري ـــ سياسي وصيغة من صيغ الوحدة, تكمن مزّيتها في أنّها تحدّ من احتكار السلطة والثروة في يد أقلية أو جهة, وتعيد توزيعهما بشكل عادل بين كافة المواطنين. والفيدرالية نظام معمول به في كثير من دول العالم بما فيها دول إسلامية حققت قفزة نوعية في النهوض الاقتصادي والاقتدار الوطني (ماليزيا مثالاً).
الفيدرالية منظومة تشريعية ومؤسسية تعيد ضبط العلاقة بين الدولة والمجتمع, وتضع كافة المكونات الاجتماعية ومن مختلف المناطق على قدم المساواة والتكافؤ الندي, فلا يوجد في الدولة الفيدرالية "مركز" و"أطراف تابعة", كما هو الحال في الدولة البسيطة.
الخيار الفيدرالي هو الخيار الأقل كُلفة والأكثر واقعية من بين الخيارات الأخرى المطروحة. فخيار التمسك بالدولة البسيطة لم يعد خياراً مقنعاً لقطاعات شعبية واسعة نظراً لما جَنَته تجربة الدولة البسيطة من وبال على اليمن, والحرب الأخيرة قد وسّعت دائرة الناقمين على الدولة البسيطة.
أما خيار فك الارتباط فهو قفزة في المجهول, وغير مأمونة عواقبُهُ على صعيد وحدة الجنوب؛ إذ أنه لا يلقى إجماعاً شاملاً من الجنوبيين أنفسهم, فهناك طيف واسع من أبناء المحافظات الشرقية يتوجسون منه خيفةً.



مزايا أخرى للدولة الفيدرالية:
لا تقتصر مزايا الدولة الفيدرالية على الاعتبارات السياسية المباشرة فقط, بل تنطوي على مزايا أخرى عديدة, ومنها:
أولاً: تعيدُ الدولة الفيدرالية تشكيل السيكولوجيا الاجتماعية, فتعزّز من قيم المواطنة, وتعمّق الانتماء الوطني إذ يتأسس على مصالح مشتركة ملموسة ومحسوسة, وعلى التكامل والتكافؤ بين الأقاليم والمجتمعات المحلية. بينما في الدولة البسيطة يظل الانتماء مُفرغاً, إذ يُغلّف بأيديولوجيا فوقية ورطانة سلطوية تلّقن الناس دروساً في الوطنية, فتصيبهم بحالة اغتراب "في/ داخل" الوطن في مقابل حالة الغربة "عن/ خارج" الوطن. وقد أبلغ الشاعر عبدالله البردوني واصفاً هذا الوضع, إذ قال:
يمانيــونَ فـي المنفــــى ومنفيّــــــون فـي اليــمـــــنِ
ثانياً: تناسب الدولة الفيدرالية واقع اليمن وحقائق التنوع السياسي والاجتماعي والثقافي والايكولوجي. فالمجتمعات المحلية تمتلك خصوصيات ثقافية من ناحية اللهجات والعادات والتقاليد وأنماط العيش والملابس والبنى الاعتقادية والمذهبية.
وبيئة اليمن بيئة متنوعة, ففيها مناطق مرتفعة ومناطق منبسطة, مناطق جبلية ومناطق ساحلية ومناطق سهلية, وهذا ينعكس في اختلاف الطبائع والأمزجة وتباين العادات والتقاليد من منطقة إلى أخرى.
إن الدولة الفيدرالية هي البوتقة التي بإمكانها أن تستوعب جدلية التعدد في الوحدة, والتنوع في إطار الشمول, والخصوصيات المحلية في إطار الهوية الوطنية الجامعة.
ثالثاً: ينسجم خيار الدولة الفيدرالية مع معطيات التاريخ. بل ومثّل عاملاً في النهوض الحضاري, فكما رأينا سابقاً أن أزهى الفترات التي عاشتها اليمن طوال تاريخها كان يسودها نظام كثير الشبه بالنظام الفيدرالي المعاصر.
رابعاً: إن آلية توزيع السلطة في الدولة الفيدرالية تتم بين ثلاثة مستويات: الولايات, والأقاليم, والمستوى الاتحادي, وفي كل مستوى من هذه المستويات توجد مؤسسات تشريعية وتنفيذية يتم انتخابها من الشعب. وهذه آلية كفيلة بتفكيك عصبوية السلطة واحتكارها. وضمان بعدم قدرة حزب ما أن ينفرد بالسلطة أو يتحكّم بها مستقبلاً.
خامساً: الديمقراطية التوافقية التشاركية هي أساس النظام السياسي في الدولة الفيدرالية لا الديمقراطية البسيطة (ديمقراطية الأغلبية).
ونموذج الديمقراطية التوافقية التشاركية هو أرقى نموذج ديمقراطي توصّل إليه الإنسان المعاصر نظراً لما يتيح من وسائل التفاعل الخلاق بين المجتمع والدولة, ويصون حقوق الإنسان والحريات العامة.
سادساً: تمنع الدولة الفيدرالية بآلياتها التشريعية والمؤسسية من احتكار الثروة بيد أقلية أوليغارشية, وتعيد توزيعها بصورة عادلة بين الولايات والأقاليم والمستوى الاتحادي. وتخلق فرص متكافئة أمام المناطق وأقاليم البلاد للنهوض الذاتي والتنافس الحميد بينها. وتعمل على كسر البيروقراطية وإتاحة نظام إداري مرن يستوعب حاجات الناس المتجددة.
سابعاً: يوجد في الدولة الفيدرالية مؤسسات وآليات ضامنة لبقاء الكيان الوطني موحداً, ومن تلك: الدستور الاتحادي, الحكومة الاتحادية, مجلس الشعب الاتحادي بغرفتيه, الجنسية, المحكمة الدستورية الاتحادية, ومجلس القضاء الأعلى الاتحادي, الجيش, قانون الملكية الفردية والخاصة, وجود أحزاب سياسية وطنية منتشرة في كافة أرجاء الدولة... إلخ.
أخيراً: نؤكد على ما نوَّهنا إليه في بداية الورقة على أن الفيدرالية ليست عصى سحرية, لكنها مفتاح موضوعي لحل القضية الوطنية. ولضمان نجاح عملية تطبيق الفيدرالية لابد أن يمهد لها ويرافقها جملة من الاجراءات والسياسات والتوجهات.
ولكي لا نطيل أكثر على القارئ سنقصر الحديث حول قضية هامة تتمثل بضرورة التوجه الجاد نحو التنمية, ولاسيما التنمية الانسانية التي تركز على الإنسان, باعتباره منطلق التنمية ومحورها وغايتها.
ويقتضي هذا, أول ما يقتضي, تلبية الحاجات الأساسية للسكان, وإحداث ثورة تحديثية في قطاع التعليم لما له من تأثير حاسم في تحرير الفرد ونهوض المجتمع. وتطوير أنظمة الرعاية الطبية والصحية وجعلها متاحة لجميع المواطنين. ومحاربة الفقر والبطالة والتسول والتشرد بتحسين مستوى معيشة المواطن, وتأمين أجور عادلة, وخلق فرص العمل المنتج, وتوفير الرعاية الاجتماعية للفئات الضعيفة والأشد فقراً. وضمان الحريات العامة والخاصة, وتعزيز الممارسة الديمقراطية, ومحاربة الفساد, وتطبيق مبادئ الحكم الرشيد.

عوضاً عن الخاتمة.. ندااااء:
تقف اليمن اليوم أمام مفترق طرق. وباتت المخاطر التي تهدد بقاءها ككيان وطني موحد أكثر من أيّ وقتٍ مضى, في ظل صراع المصالح وحرب الوكالة التي تخوضها قوى محلية واقليمية على الأرض اليمنية منذ أربع سنوات, سحقت الملايين من اليمنيين معيشياً ونفسياً, وأحدثت دماراً هائلاً في البنى التحتية, وأضرّت بالنسيج الاجتماعي أفدح الضرر.
الأمر الذي يفرض على كل الوطنيين في داخل البلاد وخارجها أن يتداعوا, وأن يسارعوا إلى إنقاذ ما يمكن إنقاذه كخطوة أولى لبعث الحياة في جسد هذا البلد.
إنّ تفادي تشظي اليمن إلى دويلات والإبقاء عليه ككيان موحد هي المهمة التاريخية التي تنتصب أمام الجميع حالياً.
ولن يتحقق ذلك إلا بإنهاء الحرب وطيّ صفحة الانقلاب, والعودة إلى العملية السياسية التوافقية, والشروع في استكمال مهام المرحلة الانتقالية, وبناء الدولة الفيدرالية الديمقراطية المدنية, دولة المواطنة والشراكة والعدل الاجتماعي وفقاً لما قررته وثيقة مخرجات مؤتمر الحوار الوطني الشامل, وإعادة تصويب ما تم فرضه خارج التوافق الوطني, ولاسيما فرض الستة الأقاليم.


--------------------------------
الهوامش:
[19] بتصرف: د. محمد المخلافي, الخيار الفيدرالي في اليمن: طريق إلى سلام دائم؟, موقع الاشتراكي نت, 18 آيار 2018م.
[20] المصدر نفسه.



#عيبان_محمد_السامعي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الفيدرالية في اليمن.. ماضياً وحاضراً (ورقة بحثية) (الحلقة ال ...
- رياضة كرة القدم.. مقاربة سوسيولوجية
- أسس بناء الدولة المدنية الديمقراطية في وثيقة الحوار الوطني ف ...
- الشباب اليمني في سياق الثورة والتحول الديمقراطي
- في نقد الفكر الديني المُسيَّس
- إشكالية الدولة والمجتمع في اليمن .. مقاربة أولية
- الثورات العربية وإعادة الاعتبار للذات الجمعية
- تثاؤب في وجه السماء !!
- المزاح ذو العيار الثقيل !! قصة قصيرة
- الشباب والحالة الراهنة


المزيد.....




- من الحرب العالمية الثانية.. العثور على بقايا 7 من المحاربين ...
- ظهور الرهينة الإسرائيلي-الأمريكي غولدبرغ بولين في فيديو جديد ...
- بايدن بوقع قانون المساعدة العسكرية لأوكرانيا وإسرائيل ويتعهد ...
- -قبل عملية رفح-.. موقع عبري يتحدث عن سماح إسرائيل لوفدين دول ...
- إسرائيل تعلن تصفية -نصف- قادة حزب الله وتشن عملية هجومية في ...
- ماذا يدخن سوناك؟.. مجلة بريطانية تهاجم رئيس الوزراء وسط فوضى ...
- وزير الخارجية الأوكراني يقارن بين إنجازات روسيا والغرب في مج ...
- الحوثيون يؤكدون فشل تحالف البحر الأحمر
- النيجر تعرب عن رغبتها في شراء أسلحة من روسيا
- كيف يؤثر فقدان الوزن على الشعر والبشرة؟


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عيبان محمد السامعي - الفيدرالية في اليمن.. ماضياً وحاضراً (الحلقة الثانية) (ورقة بحثية)