أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - ياسين الحاج صالح - التلفزيون والسجن: صندوقا السلطة















المزيد.....

التلفزيون والسجن: صندوقا السلطة


ياسين الحاج صالح

الحوار المتمدن-العدد: 1510 - 2006 / 4 / 4 - 10:22
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
    


إلى علي العبد الله في محبسه المتجدد
في عام 1988 انضمت إلى الإعلام السوري قناة تلفزيونية ثانية، تقدم أخبارا وبرامج وأفلاما ومسلسلات أجنبية. كان الإصغاء إلى نشرة أخبار اللغة الانكليزية المترجمة عن اللغة العربية وهي تتحدث عن "القيادة التاريخية الحكيمة" و"المسيرات الشعبية العفوية" و"إنجازات الحركة التصحيحية" و"الانتصارات الوطنية والقومية" مسليا ومثيرا لاكتئاب عميق في الوقت نفسه. مسليا لأن ما ألفناه في اللغة العربية كان يتجرد من الإلفة في اللغة الإنكليزية وينكشف على حقيقته: خطابا غثا، فقيرا، منفصلا عن الواقع. ومثيرا للاكتئاب لأنه كان يكشف درجة الإذلال والتجويف الذي أصاب اللغة العربية، ومدى ترويضها لحاجة السلطة إلى استعراض ذاتها وتسويق ذاتها وإطراء ذاتها.
كانت القناة تلك هي الخيار الوحيد المتاح للسوريين بعد القناة الأولى. وهذه بالطبع عربية خالصة. وفي صدارة أخبارها دوما أخبار الرئيس، وهذه قد تكون مديحا أزجاه صحفي نكرة من لبنان أو مصر..، أو مهاجر يزور البلد لأيام قبل العودة إلى مهجره. كان خبرا، على سبيل المثال، ما كتبه كريم بقرادوني في كتابه "السلام المفقود" من تنويه بحدة ذكاء الرئيس وعمقه؛ هذا بينما منع الكتاب ذاته من التداول في سوريا لأنه كان يحمل في ثناياه حسا إشكاليا غير مألوف في أدبيات المديح السورية، التي لا يرتاح لها ضمير إن لم تشارف التأليه.
في المقام الثاني تأتي أخبار حزب البعث و"المنظمات الشعبية" والحكومة. وبعدها أخبار الدنيا. وهي مصاغة جميعا بلغة تقتل الخبر قبل أن تبثه، وأعني ذلك حرفيا: ذلك أنها تعرض الحدث السياسي على عقيدة رسمية ثابتة في يقينها، راسخة في علمها أحوال العالم، بريئة من كل حيرة والتباس، متربعة على عرش الحقيقة. وكانت تلك الميتافيزيقا السياسية البعثية عقيدة "قديمة"، "غير مخلوقة"، تجد سلامها في تصفية الحدث من حدثيّته، أي مما يجعل منه خبرا. وكان كل جديد تأكيدا لثوابت هذه العقيدة القديمة: صمود سوريا، حكمة القيادة، التفاف الشعب حولها، مؤامرات الخارج، تواطؤ أو خيانة أنظمة وقوى عربية متعددة..إلخ. أما برامج "المنظمات الشعبية" من طلائع شبيبة وطلبة وعمال وفلاحين ونساء، فكانت نوعا من التعذيب الخالص، يفوق في قسوته قراءة الصحف الرسمية، التي قررت نكتة رائجة في سوريا أن الله سيعاقب عباده البعثيين بقراءتها يوم القيامة.
كان موعد نشرة الأخبار الرئيسية في القناة الأولى هو الثامنة والنصف مساء. وموعد نشرة أخبار اللغة الانكليزية في القناة الثانية هي الثامنة مساء. ولما كانت هذه تستغرق قرابة ربع ساعة، فقد وفرت القناة الثانية لمن يرغب فرصة في النجاة من سماع أخبار القناة الأولى. إنما "على مين"؟ بعد شهور قليلة من تدشين القناة الثانية أُلهِم وزير الإعلام السوري الأسبق محمد سلمان بأن يوحد بث القناتين في موعد نشرة الأخبار الرئيسية في القناة الأولى. واقترن هذا الإلهام الرهيب مع وضع مقدمتين موسيقيتين للنشرة، واحدة تثير الرعب وأخرى تثيره أكثر.
الرعب حقا. كنت وقتها في السجن. كان عقد الثمانينات من القرن العشرين هو العصر الذهبي للاعتقال السياسي في سوريا. وكنا نحن "الموقوفين العرفيين" أو "الاحترازيين" محرومين مما يمكن تسميته الحق في معرفة المصير، فلا نعلم ما سيجري لنا، ولا إن كان سيفرج عنا ومتى. كانت حياتنا وأعمارنا ومصائرنا ملك السلطة، وكانت هذه نفسها أسيرة لحريتها المطلقة، بقدر ما كنا نحن أسرى توقيفنا العرفي الذي يتمدد تلقائيا كل ستة أشهر، مراعاة لخاطر حالة الطوارئ والأحكام العرفية، توأم الحكم البعثي (ولدت بعده بساعات) وملاكه الحارس. وكانت قد انقضت سنوات ستة قبل أن يسمح لنا بجهاز تلفزيون واحد لثمانية مهاجع، أودع فيها قرابة 120 سجينا، وأكثر من ثلاث سنوات إضافية قبل أن يستقر التلفزيون الذي سحب منا أكثر من مرة بعد أن كنا دفعنا ثمنه.
كان توحيد بث القناتين، وقد دام عاما أو عامين، يحاصر خياراتنا (كنا نغتنمه من أجل إعداد وجبة العشاء)، لكنه كان يعطينا انطباعا مفيدا عن مزاج النظام. فكلما ازدادت نضالية التلفزيون وطالت نشرات أخباره وتعددت مرات بث الخطب والاحتفالات الرسمية، زكلما زاد الإلحاح على أن "الأخطار داهمة" و"المؤامرات متربصة" و"الوطن صامد" و"القيادة استثنائية"، وكلما اقتربت الأخبار من الثوابت أو انحلت فيها، عنى ذلك لنا أن سلسلة أيامنا في السجن، المفتوحة على المجهول، ستطول. لذلك كان توحيد بث القناتين مخيفا، كحال أي حصار. ومكمن الخوف هو ما كان ينطوي عليه فرض ذاك الطقس المضجر حتى الموت من كم ضخم من الاحتقار والكراهية لحرية المتفرجين وتنوع خياراتهم.
ترى، كيف اجتمعت حقيقة ثابتة لا تتغير ولا تكف عن الاحتفاء بذاتها مع حالة طوارئ تفترض أن كل لحظة تحمل خطرا جديدا طارئا؟ تجمعهما الوظيفة التي يقومان بها. إن وظيفة جهاز الحقائق الخالدة وجهاز الطوارئ المتغيرة واحدة: حراسة سلطة تعشق ذاتها. لقد اعتدنا أن نقول إن وظيفة الجهاز الأول هي تسمية الأشياء بغير أسمائها، فيما وظيفة الثاني منع تسمية الأشياء بأسمائها. ومعرفة الأسماء، منذ آدم، حيازة للسلطة. لكن، منذ آدم أيضا، كان ثمن تلك السلطة هو خسارة الخلود والدخول في العالم الزمني، عالم الآجال المحتومة. فكل ما نعرفه ميت، وخالد فقط ما لا سبيل إلى معرفته وما لا نملك له اسماً. السلطة تعرفنا معرفة مميتة، وتسيج نفسها وراء جهلنا لها وعجزنا عن تسميتها وإدراجها في العالم الزمني. ربما لذلك كان ينتصب أمام معرفة الأسماء حاجزان: السجن والتلفزيون، أو الأمن والإعلام.
وكم يتشابه الجهازان: أليس التلفزيون في الواقع زنزانة لمستهلكيه، قد تكون مؤبدة عند بعض من يعيشون متفرجين على التلفزيون؟ أليس السجن، بالمقابل، التوقيف العرفي المديد تحديدا، دراما مسلسلة لا تنتهي، معزولة عن العالم الواقعي، تتواجه فيها إرادات متصارعة، وكثيرا ما تنتهي بصورة تراجيدية؟
على أن التقاء الصندوقين يحد من مفاعيلهما معا. في السجن، أي في مختبر السلطة السري، يغدو التلفزيون، وجه السلطة العلني، عامل تنويع، مهما يكن فقيرا وغثا كحال التلفزيون السوري. اللقاء المعاكس غير متصور اليوم: لا مجال لعرض المختبر السري في جهاز "بيع" السلطة واستعراضاتها العشقية لذاتها الخالدة. وحين يغدو العرض ممكنا فلا ريب أن ما سيكون قد لحق به التغير ليس صندوقي السلطة وحدهما، بل ما وراء الصناديق.



#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- لماذا يخسر الديمقراطيون العرب لعبتهم الديمقراطية، دائما؟
- عيد الكراهية الوطني الثالث والأربعون
- القوميون الجدد وسياسة الهوية
- -إعلانُ دمشق- واكتشاف سوريّا!
- طاقة الرمزي والعقلانية الرثة
- الطغيان والواقعية النفسانية
- حداثتنا الفكرية: قومية ألمانية، علمانية فرنسية، اشتراكية روس ...
- إلى المثقفين اللبنانيين: تعالوا زوروا سوريا!
- الأقليات غير موجودة في سوريا، لكن إحصاء الطوائف ممكن!
- حوار حول السياسة والثقافة في سوريا
- تقويم نقاش أزور: من صراع القيم إلى نقد السياق المؤسسي
- ضد التكريس
- فلسطين وإسرائيل: اختيار شراكة مفروضة!
- صورتان لمفهوم الأمن الوطني السوري: مقاربة نقدية
- سوريا ولبنان: تاريخ هويتين أم هوية تاريخين؟
- تخطيط لمراحل العلاقة العربية الغربية بعد الحرب العالمية الثا ...
- الامبريالية، الشمولية، السلفية؛ وماذا بعد؟
- غياث حبّاب
- عام سوري قصير ومليء!
- ريجيم، نظام، سلطة: تعليق لغوي سياسي


المزيد.....




- القوات الإيرانية تستهدف -عنصرين إرهابيين- على متن سيارة بطائ ...
- الكرملين: دعم واشنطن لن يؤثر على عمليتنا
- فريق RT بغزة يرصد وضع مشفى شهداء الأقصى
- إسرائيل مصدومة.. احتجاجات مؤيدة للفلسطينيين بجامعات أمريكية ...
- مئات المستوطنين يقتحمون الأقصى المبارك
- مقتل فتى برصاص إسرائيلي في رام الله
- أوروبا.. جرائم غزة وإرسال أسلحة لإسرائيل
- لقطات حصرية لصهاريج تهرب النفط السوري المسروق إلى العراق بحر ...
- واشنطن.. انتقادات لقانون مساعدة أوكرانيا
- الحوثيون: استهدفنا سفينة إسرائيلية في خليج عدن وأطلقنا صواري ...


المزيد.....

- اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية / ياسين الحاج صالح
- جدل ألوطنية والشيوعية في العراق / لبيب سلطان
- حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة / لبيب سلطان
- موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي / لبيب سلطان
- الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق ... / علي أسعد وطفة
- في نقد العقلية العربية / علي أسعد وطفة
- نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار / ياسين الحاج صالح
- في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد / ياسين الحاج صالح
- حزب العمل الشيوعي في سوريا: تاريخ سياسي حافل (1 من 2) / جوزيف ضاهر
- بوصلة الصراع في سورية السلطة- الشارع- المعارضة القسم الأول / محمد شيخ أحمد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - ياسين الحاج صالح - التلفزيون والسجن: صندوقا السلطة