أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعد سوسه - مسرح التمرد لدى البير كامو ج 1















المزيد.....


مسرح التمرد لدى البير كامو ج 1


سعد سوسه

الحوار المتمدن-العدد: 6004 - 2018 / 9 / 25 - 09:51
المحور: الادب والفن
    


ثانياً: العادلون 1949
إذا كانت مسرحية كامو ( الحصار ) قد إتهمها النقاد بالاخفاق وعدم تادية الدور المطلوب ففشلت في تمثيل فكرة كامو الفلسفية بشكل درامي منسجم ، فأن هناك مسرحية أخرى تعد من أفضل ما أنتج كامو من أعمال درامية على الاطلاق وهي (العادلون) 0 ففي هذه المسرحية بالذات كان الموضوع ملائماً كل الملائمة لموقف كامو العام من الحياة ،’ ولارائه عن طبيعة المسرح وأهدافه ، والواقع أن الامر لم يقتصر على وجود علاقة متسقة بين أفكار كامو وموهبته المسرحية ، بل ساعدت في امتزاج هذين العنصرين وتفاعلهما بحيث ينتجان مسرحية قومية 0
وبالفعل فقد نقلت مسرحيته الاخيرة هذه فكرته عن التمرد ، أو بالاحرى عن قيمة التضامن التي يجسدها المتمردون ( جماعة الارهابيين) أو ما أسماهم في (الانسان المتمرد) بالقتلة الودعاء ، فمن خلال هذه المسرحية بالذات تظهر لنا القيمة الرئيسة للتمرد تلك القيمة التي يعدها كامو أعلى القيم وأسماها ، والتي لايستطيع أي تمرد أن يحققها إلا أذا كان تمرداً بمعناه الحقيقي وهو ما سوف يجسده لنا هؤلاء " العادلون" مثلما يعتقد كامو0
وقد أقتبس كامو قصة ( العادلون ) من كتاب ( سافنكوف ) ( مذكرات أرهابي) الذي يذكر فيه أحداث مقتل الدوق الكبير سيرجي الكساندروفتش عام 1905 في روسيا، إذ يأخذ كامو أحداث ذلك الكتاب وينسجها بما يتلاءم مع فلسفته 0 وقد كانت تلك الاحداث قريبة الشبه بأفكار كامو في التمرد والمتمرد ، بل هي افكاره نفسها ، حتى ولو كان ما ورد في كتاب ( سافينكوف ) مجرد وقائع وأحداث وليس أفكاراً بالمعنى الصحيح 0 إذ يعود الفضل لكامو في صياغة تلك الاحداث واخراجها بشكلها المسرحي الملائم 0 ولكنه مع هذا يؤكد بأنه قد أستمد موضوع المسرحية من التاريخ فهو يقول في البرنامج المسرحي الذي يوزع عند عرضها " بالرغم من غرابة مواقف المسرحية وبعدها عن المالوف ، فأنها لاتعدو أن تكون تاريخية ، فجميع أشخاصها قد وجدوا في الواقع ، وتصرفوا كما تصورتهم في مسرحيتي بل أنا قد احتفظت باسم كاليايف على حقيقته 0
وتدور أحداث المسرحية عن عصبة من الارهابيين الذين ينتمون الى الحزب الاشتراكي الثوري ، يقررون اغتيال الدوق الكبير في روسيا فيوكل الحزب تلك المهمة الى أحد اعضاء المجموعة ( كاليايف يانيك ) فيبدأون بتهيئة كل شيء لإنجاح المؤامرة فيحددون الزمان والمكان والكيفية التي سيجري فيها التنفيذ 0وعندما تحين تلك اللحظة وتمر عربة الدوق التي تقله الى المسرح ، يتراجع ( كاليايف ) عن تنفيذ مهمته ، لأنه يجد طفلين صغيرين بصحبة الدوق في تلك العربة0 ولا ينفذ تلك المهمة لأنه يستنكر قتل الاطفال ولان مثل هذا الفعل يتنافى مع مبادئه وعقيدته0
إلا أن هذا الموقف يسبب صراعاً فكرياً عنيفاً بينه وبين ( ستبان ) أحد أعضاء ألمجموعة الذي لايجد تبريراً لمثل هذا الموقف فيعده تهرباً وتخاذلاً في أداء الواجب فلا مجال للرقة والمشاعر في مثل هذه الامور طالما أنها تعطل العمل وتقضي على الهدف المنشود0 إلا أن رفاقهم أعضاء المنظمة الاخرين ( دورا ، وفوانوف ، وانينكوف ) يساندون ( كاليايف ) في موقفه هذا ، ويدبرون محاولة ثانية ينفذها
( كاليايف) أيضاً ألا أنه ينجح هذه المرة على الرغم من أن هذا النجاح يكلفه حياته ، فيلقى القبض عليه ويعدم 0
تحيلنا مسرحية كامو ( العادلون ) الى مسارين مختلفين ، على الرغم من انتمائهما لنقطه واحدة ، يتمثل الاول بدور ( سيتبان )أحد أعضاء المجموعة الارهابية ، شخص خارج لتوه من السجن لايحمل في داخله سوى الالم والمهانة والظلم ، ولايعرف سوى الحقد بسبب معاناته ألاليمة هناك ، مما يسم طابعه بالشدة والتعصب ، فلا يرى أمامه الا تنفيذ أهدافه مهما كانت طرائقها ووسائلها وعلى رأس تلك الاهداف قتل الدوق الكبير0 أما الثاني فيتمثل بدور ( كاليايف ) أو الشاعر كما يدعوه رفاقه وهو أنسان ثوري ، ولكن من طراز يختلف عن ( سيتبان ) فهو متمسك بمبادئه في الثورة حتى ولو كلفته تلك المبادئ حياته ، فالشخصيتان مختلفتان على الرغم من أنتمائهما للمنظمة الارهابية نفسها0
ويؤدي بنا هذا الاختلاف الى الوقوف على أول مفاهيم التمرد وهو التوتر القائم بين الـ (نعم) والـ (لا) الذي ذكره كامو في ( الانسان المتمرد) 0 الـ (لا) التي تعني أن الاشياء قد تجاوزت الحد وأنه لم يعد باستطاعة الفرد الاحتمال ، لذا فأنه يرفض كل شيء ، والـ (نعم) التي تعني التمسك بالرفض لانقاذ قيمة هي أغلى من كل شيء ، لذا فمن اجلها قام التمرد0 وفي ( العادلون ) نجد الـ (لا ) متمثلة بـ(ستيبان) الفوضوي الذي يعارض ، ونجد الـ(نعم ) متمثلة بـ(كالياييف) الحزبي الذي ينتصب لينقذ قيمته 0
إذن ( العادلون ) صراع قائم بين الحفاظ على ذلك التوتر وعدم تجاوز الحد ، أو فعل العكس من ذلك والانتهاء الى احد الطرفين والقضاء على التمرد الحقيقي وأصوله0 وكل ذلك يتناوله كامو من خلال عرضه لمشكلة الارهاب والثورة والتضحية والحرية والعدالة عبر عمله المسرحي هذا0
كل أعضاء المنظمة متفقون على الثورة والخلاص من أجل تحقيق العدل ونيل الحرية حتى لو كلفهم ذلك حياتهم ، مثلما هم متفقون أيضاً على خلاص وحرية الجميع وليس أنفسهم فقط ، لذا فأنهم يدبرون مقتل الدوق الكبير من أجل خلاص الملايين من أبناء روسيا الذين يرزحون تحت وطأة الظلم والاستعباد ، يقول (أنينكوف) قائد المنظمة " ستعرف الروسيا كلها أن الفدائيين من الحزب الاشتراكي الثوري قد قذفوا الدوق الكبير سيرج بقنبلة ليعجلوا بتحرير شعب روسيا0 وسيعلم البلاط الامبراطوري كذلك أننا قررنا الاستمرار في الارهاب حتى تعود الارض الى أصحابها" إلا أن تلك التدابير التي عهد الى ( كاليايف ) بتنفيذها تبوء بالفشل ، بعد كل الجهود التي بذلت لانجاحها ، لان هناك شيئاً جديداً قد طرأ ، لم يكن ضمن الخطة الموضوعة ، وهو ظهور الطفلين بصحبة الدوق الكبير في اللحظة التي كان يراد فيها تنفيذ المهمة 0
ومن هنا تبدأ الاحداث بالتصاعد ويبدأ الانفصال الفكري بين مواقف أعضائها ، بين موقف ( ستيبان ) الرافض ونظرته الخاطئة ، وموقف ( كاليايف ) وباقي رفاقه ، فهو صراع بين القيم الاخلاقية التي يتبناها كلا الطرفين، ( ستيبان) الثوري المندفع الذي يجد أن " كل شيء جائز ما دام يخدم قضيتنا" ويبرر كل فعل على هذا الاساس حتى لو كان ذلك الفعل قتل الاطفال طالما لزم الامر ، يؤمن بأن الثورة لاتعرف الحدود أو الاعتدال ، وبأن لاشيء يقف أمام مخططاتها طالما أنها تسعى لتحرير الاخرين والقضاء على الشر ، وطالما أنها تحاول أن تقيم وطناً آمناً للاجيال القادمة يمنحهم الحرية والعدالة بغض النظر عن الوسائل التي تفضي الى ذلك ، إذن كل شيء مبرر " مادامت العدالة تأخذ مجراها ، حتى لو أقامها قتلة" 0
فسلبية القيم الاخلاقية التي يعبر عنها ( ستيبان ) هي التي تبعده عن نطاق (العادلون ) وتجعله بعيداً عن مسار ( القتلة الودعاء) الذين يصفهم كامو في المسرحية ، فالنقطة المهمة في نجاح كل تمرد – وفقاً لما جاء في الانسان المتمرد- هو المحافظة على خلق القيم بعدم تجاوز الحد والحفاظ على التوتر القائم بين الانكار والقبول بوصفه القيمة الاولى لكل القيم اللاحقة 0
وموقف ( ستيبان ) المستقبلي من الثورة موقف لا يقره كامو ، فالمراهنة بالارواح وبالحياة الحاضرة من أجل حياة أخرى مجردة ، فوق الحياة البشرية هو أمر مرفوض بالتأكيد " وحينئذِ لا تعود مشكلة التمرد تحل بالرياضيات ، بل بحساب الاحتمالات ، فإزاء تحقق الفكرة في المستقبل يجوز أن تكون الحياة كل شيء أو لا شيء ، وكلما تعاظم الايمان بتحقق هذه الفكرة ، تناقصت قيمة الحياة الانسانية 0 وفي النهاية لا يعود لها أية قيمة" 0
ورفض كامو لتلك الحياة غير المضمونة ، مرتبط من دون شك بفكرة سابقة من أفكاره وهي تأكيده اللحظة الراهنة دائماً وأبداً دونما أهتمام بالماضي أو المستقبل، فالحاضر وحده هو الجدير بالعيش ولا أهمية لكل ما عداه وقد طالعنا تلك الفكرة ووقفنا عليها بصورة واضحة في مقالاته الاولى ولاسيما في اعراس 0 وتلك نقطة اخرى تؤكد لنا الترابط بين افكار كامو الفلسفية والادبية وتداخلها بصورة أو بأخرى في كل أعماله0
أما العادلون الحقيقيون فهم اولئك الذين أمنوا بالثورة أيضاً ولكنهم أمنوا قبل كل شيء بمبادئها وقيمها فـ ( دورا ، وأنينكوف ، وسكوراتوف ) وباقي الرفاق في المنظمة قد رفضوا موقف ( ستيبان) السلبي ، وأقروا ما فعله ( كاليايف) 0 فالثورة في نظرهم شرف قبلوا من أجله بالموت ، وهذا الشرف يمنعهم من دون شك من قتل الاطفال لانه عمل يتنافى والشرف ، إذ يقول (كاليايف ) :" لو حدث يوماً وكنت على قيد الحياة ، أن كان لابد أن تنعزل الثورة عن الشرف ، فأنني ساوليها ظهري، ولو قررتم أن أقتلهما ( أي الطفلين) لذهبت فوراً الى باب المسرح ، لكنني سالقي بنفسي تحت سنابك الخيل" فـ (كاليايف ) ومعه رفاقه يحكمون على أنفسهم بالموت أذا ما قتلوا نفساً ، لانهم مؤمنون بقيم التمرد الحقيقي ، الذي يعد القتل خروجاً عن الحد ، وهم بفعلهم هذا يقاضون أنفسهم بانفسهم جزاءً لما يفعلون ولما يعلمون أنه غير صحيح " فبالنسبة لهؤلاء توحد القتل توحداً ذاتياً مع الانتحار0 إذ ذاك تقدم حياة مقابل حياة أخرى ومن هاتين التضحيتين ينبع الوعد بقيمه" 0 وتلك القيمة تكمن بالقضاء على الظلم وإعلان العدالة للجميع ، إلا أن تلك العدالة غير كافية إذا لم تتصل بالبراءة ، وهنا تتحقق قيمة أخرى من قيم التمرد الحقيقي فالانسانية في نظر (العادلون ) لاتحيا بالعدالة فقط وانما " بالعدالة والبراءة معاً" وهذا الامر يفسر رفض ( كاليايف ) قتل الاطفال بوصفهم رمزاً للحياة ولتلك البراءة ، كما يفسر حواراته هو ، أو ( دورا) عن الطفولة ونقائها الاول 0
ويعيد الينا موقف ( كاليايف ) ورفاقه فكرة اللحظة الراهنة التي قال بها كامو وذلك من خلال ايمانهم بالثورة التي تبني نظاماً جديداً حاضراً وليس مستقبليا، كما كان ( ستيبان) يرى ، فهم لايعقدون الامل على شيء غير محدد بعد ، فيمارسون القتل أو يضحون بأنفسهم من أجل عدالة غير مضمونة ، قد تتحقق أو لاتتحقق ، إذ يقول ( كاليايف ) " أحب الذين يحيون اليوم على نفس الارض التي أحيا أنا عليها ، وهؤلاء هم من أحييهم 0 من أجل هؤلاء أقتل وارضى بالموت0 ومن اجل مدينة بعيدة لست واثقاً من وجودها ، لن أضرب وجه إخوتي ، لن أستبدل الظلم الحي بعدالة ميتة" 0 فالثورة حق – مثلما يقول كاليايف – ولكن لتكن الثورة من أجل الحياة حتى نعطي الحياة فرصتها 0
وكامو هنا يسيء الظن بالايديولوجيات جميعاً ، ويعدها نظاماً فكرياً يستحل دماء الملايين بأسم الثورة والحرية والعدالة ، ويضحي بحياة الانسان الحاضرة في سبيل مستقبل بعيد غامض يلفه ضباب التصوف والوهم 0
إن رايه هذا سلاح ذو حدين ، فقد يمكننا عده رأياً صحيحاً إذا كانت الغاية من ورائه عدم القتل والتضحية بارواح الالاف من الناس بأسم العدالة والحرية التي قد تتحقق أو لاتتحقق ، وقد نجده من ناحية اخرى رأياً مغلوطاً لأن ذلك الحاضر الذي يؤمن به كامو ويريده قد يحجب نضال الشعوب وتطلعاتهم المستقبلية لحياة أفضل ، وطالما أن كامو يتحدث هنا عن ( قتلته الودعاء) هؤلاء فيجب أن لايعمم رأيه ويسيء الظن بالنظم الاخرى ، لان النضال أساس كل ثورة ، وليس بالضرورة أن يكون النضال خالياً من القيم 0 وبعد ذلك فأننا نلمس من خلال هذا الرأي موقفاً شخصياً لكامو هو موقفه السياسي الرافض لكل الايديولوجيات والاحزاب ، كما نلمس أفكاره الاساسية عن حقيقة الثورة التي جسدها ( كاليايف) ورفاقه خير تجسيد0
لكن قتل الدوق الكبير يبقى أملاً يرافق الارهابيين ، فيتهيئون لمحاولة ثانية لاغتياله يقوم بتنفيذها ( كاليايف) ايضاً 0 وفي هذا الفصل تبدأ الاحداث الجديدة للمسرحية0 كما تزداد الصفات الانسانية الكامنة خلف مختلف الادوار التي تؤديها شخصيات المسرحية ، تزداد وضوحاً بتطور الاحداث 0 كما إن الصراع الذي كابده كل من ( دورا) و ( كاليايف ) 0 بين حبهما وبين ما يحملان من تبعات ثورية يتجسد في محاورة مؤثرة تبعث في هذه الشخصيات قدراً اخر من الحياة ، فالمحادثات التي تجري بين أعضاء المنظمة تزيد من معرفتنا بتلك الشخصيات كونها شخصيات أدمية وذلك قبل تكريس حياتهم لعمليات الاغتيال 0 كما إنها تبين لنا موقفهم اللاحق من الثورة والاسباب التي أثرت في تشكيل تلك المواقف ، سواء من حيث التمسك بقيم الثورة والحفاظ عليها ، ومن حيث النزوع عنها 0 فـ ( فوانوف ) أحد الاعضاء ، يقرر الانسحاب من المنظمة والانضمام الى عمل أخر في الحزب حيث يقول " أنني لم أخلق بذهنية الارهابي ، عرفت ذلك ألان ومن الخير أن أترككم " أومن خلال حديث
( دورا) و ( كاليايف ) المؤمن بالحياة ، المحب للخير والجمال والسعادة :-
كاليايف : 000 كنت أعتقد أن الاغتيال أمر سهل ، وأن الفكرة تكفي والشجاعة، لكني لم اكن على صواب ، وأعرف الان أن الذي يمارس الحقد والكراهية لايحس أي سعادة ، أنهما الشر ، الشر في وفي الاخرين القتل ، الجبن ، الظلم ، آه لابد من القضاء عليهم ، لكنني سأذهب حتى النهاية الى أبعد من الحقد والكراهية0
دورا : أبعد ، لن تجد شيئاً أبعد من ذلك 0
كاليايف : هناك الحب 000 نحن نحب شعبنا 00 هذا هو الحب ، العطاء الكامل ، البذل بلا أمل في معاملة بالمثل0
دورا : ربما هذا هو الحب المطلق ، الفرحة الوحيدة النقية التي تبهرني حقيقة ومع ذلك ، ففي ساعات معينة أتساءل ما إذا كان الحب ليس شيئاً مختلفاً ، ما إذا كان من الممكن ألا يكون مجرد حوار نفسي ، وما أذا كان هناك جواب ما0 في بعض الاحيان 000 أتخيل الشمس مشرقه ، والرؤوس محنية في تواضع ، والقلب قد نبذ كبرياءه ، والاذرع وقد فتحت ، آه يابانيك ، لو كان الانسان يستطيع أن ينسى ولو لساعة واحدة بؤس هذا العالم الوضيع ، ويترك الامور تسير سيرها الطبيعي أخيراً 0 ساعة واحدة صغيرة يهتم فيها الانسان بحقيقته 0
ولكن يبدو أن بؤس هذا العالم لايريد أن ينساهم ، وأن قدرهم يدفعهم ليكونوا هكذا دائما في مواجهة العبث والياس المتمثلين في حكم الدوق الكبير ، فتأخذهم الثورة بمبادئها وانشغالاتها بعيداً عن الحب والحياة0
دورا : الصيف يايانك ، أتذكر ؟ لكن كلا ، نحن في شتاء ابدي ، أننا لسنا من هذا العالم ، إننا العادلون ، إن حرارته لم تخلق لنا 00 آه يالبؤس العادلين0
كاليايف : نعم ، هذا هو قدرنا ، الحب المستحيل 0
إلا أنهم مع كل هذا يقفون في وجه ( ستيبان) ، الذي لايملك أي قدرِ من ذلك الحب ويعده مجرد سخافات وسذاجات لايحق للثوري التمتع بها ، وستشهد بذلك مواقفهم ، فـ (دورا) – على الرغم من أنها تعد القنابل – ستؤكد باسم الحب ، بأن هناك نظاما وهناك حدوداً حتى في التدمير 0 وسنراها أيضاً تتمزق عند قتل الدوق الكبير ، فهي تعتقد أن كل هذا ينبغي أن لاتسمح به روح تستهويها الحقيقة ، تلك هي نظريتها العميقة ، وحتى كاليايف نفسه سيظل يشعر بالندم الى أن يخلصه الموت 0
لكن الندم الذي يشعر به ( كاليايف ) بعد أن يقتل الدوق ويودع السجن ليس هو الندم على مقتل الطاغية ، لأن ( كاليايف ) كان مؤمناً بما يفعل ، وكذلك ليس هو الندم الذي من أجله يبغي العفو والخلاص ، لأنه قد رفض ذلك العفو على الرغم من كل وسائل الاقناع والمغريات بخلاصه من ألاعدام0 وأنما كان ندمه على ما سيلحق به من عار لو لم يعدم ولم تذهب نفسه ضحية لفعلته تلك ولم يحقق بعد ذلك ما عاهد نفسه على تحقيقه من " أن الموت في سبيل الفكرة هو الطريقة الوحيدة التي تجعل الانسان يكون في مستوى عظمة الفكرة" ، ولذلك فهو يرفض الاعتراف بالذنب عندما تزوره الدوقة الكبيرة في السجن وتحاول اقناعه بالاعتراف بذنبه وخطيئته والتوبة الى الله0
الدوقة الكبيرة : ألا تريد أن تصلي معي ، أن تستغفر وتندم ، لن تحس الوحدة بعدها0
كاليايف : أتركيني أعد نفسي للموت ، إذ لم أمت ساكون قاتلاً في هذه الحالة فقط ساكون قاتلاً 0
الدوقة الكبيرة : ساتركك لكنني قدمت الى هنا كي أعيدك الى الله ، هذا ما بينته ألان ، غير أنك تريد أن تحاكم نفسك وان تنفرد بانقاذ نفسك دون الله ، لكنك لن تستطيع 0 لو عشت فأعلم أن هذه مشيئة الله وثق أني سأطلب العفو عنك0
كاليايف : أستحلفك الا تفعلي 000 دعيني أموت والا كرهتك كراهية الموت 0
لكن ( كاليايف ) – الذي يرفض تقبيل الصليب عند اعدامه ويجهر بالحاده وعدم أيمانه بالرب ولا بالكنيسة – لايتراجع أبداً ويبقى مؤمناً بفكرته فقط متمسكاً بها حتى لحظة اعدامه ، وهو يقول في اثناء محاكمته " سيكون الموت هو صرخة أحتجاجي الذي أعلنه في وجه عالم صنعته الدموع والدماء " 0
كذلك تؤكد لنا ( العادلون ) قيمة أخرى من قيم التمرد التي تعد من الافكار الرئيسة التي حاول كامو أن يعرضها في هذه المسرحية ، تلك القيمة هي التضامن ،أعلى قيم التمرد وأهمها 0 وتظهر هذه القيمة في صورتين الاولى هي تضامن الارهابين مع بعضهم بوصفهم جماعة متكاملة وكتلة واحدة في تنفيذ العمل ، وكذلك تضامنهم مع الشعب من خلال أيمانهم المطلق بالاخرين وحريتهم وسعادتهم ، واستعدادهم التام للتضحية بالنفس في سبيلهم0اما الصورة الثاني فتظهر من خلال سجن ( كاليايف ) الذي نجد فيه تأكيداً لهذه القيمة وتنفيذاً عمليا لما كان مؤمناً به ، فهو قد ضحى بنفسه وقتل الطغيان من أجل خير العامة ، كما إنه رفض الوشاية باصدقائه حتى لو كان في ذلك خلاصه من الموت ، فهو قد تضامن معهم حينما رفض التعريف بهم وبمكانهم 0
فـ ( كاليايف ) ورفاقه وحيدون أمام أنفسهم ، متضامنون أمام الموت ، ولقد اراد كامو عبرهم أن يحقق مقولته في (الانسان المتمرد) " أنا اتمرد ، أذن فنحن موجودون " لانه كان يعتقد أن التمرد ينتهي الى الحقيقة الموضوعية التي تثبت وجود المجموع وتدافع عن تضامن الانسان مع أخيه الانسان 0
وقد يكون هذا جل ما أراد كامو أن يعبر عنه في مسرحية ( العادلون ) حين حاول أن يعيد صياغة ( الانسان المتمرد) في شكل درامي0
وربما يكون النقاد قد وقفوا من هذه المسرحية موقف المدافع وعدوها من أفضل ما كتب كامو للمسرح ، وشبهوها بمسرحية سارتر ( الايدي القذرة) بل أن بعضهم فضلها على مسرحية سارتر التي كانت تشبهها من حيث الموضوع ، إذ إن المسرحيتين تدوران عن القتل السياسي وعدم جدواه 0
إلا أننا نرى ما يخالف وجهة نظر النقاد تلك ، إذ نجد أخفاق كامو في نقل أفكاره التي وردت في ( الانسان المتمرد) الى أرض الواقع ، كما إنه أقحم في (العادلون) وفرض الكثير من الافكار التي لم تأخذ موضعها الصحيح وربما يكون مرد ذلك الى سببين : -
الاول: هو أن كامو قد حاول تبرير فعل القتل المتعمد الذي قام به الارهابيون على الرغم من أنه رفض ذلك الامر رفضاً قاطعاً في ( الانسان المتمرد) وفي كل أعماله الاخرى ، وعده خروجاً عن حدود التمرد الحقيقي وعن قيمه ومبادئه ، فهو في هذه الناحية قد تناقض مع فكرته التي رددها طويلاً 0 فالقتل هو القتل ولا يحتمل أي مبررات0
والثاني: هو أن كامو قد اكد العبث هنا وذلك بتأكيده الانتحار ومن ثم فأنه قد اكد الفرار منه وعدم مواجهته ، وهذه الفكرة أيضا تسحق كل فلسفته عن العبث وضرورة مواجهته ، ففكرة " نفس مقابل نفس" التي أعتمدها الارهابيون لتبرير جرائمهم ما هي ألا فرار من العبث وهذا يؤدي بدوره الى انهيار التمرد وفشله وأذا كانت تلك هي النتيجة فما الفائدة التي جناها كامو من كل ذلك ،وما جدوى تلك الدورة الطويلة في العبث والتمرد ، إذا كانت النتيجة بعد ذلك مشابهة لما ذهب اليه (ستبان) وقد يؤكد رأينا هذا موقف كاليايف ومن بعده ( دورا) التي جعلها أعدامه اكثر أصراراً على السير في الطريق نفسه واكماله من بعده،فهي تقرر عند حديثها مع ( أنينكوف ) – بعد طول تردد وتشكك في جدوى عملهم وهدفه- :-
دورا : سابقى معكم حتى النهاية ، وأنني لامقت الطغيان ، لكنني أعلم أن لاسبيل أمامنا سوى هذا السبيل ، لقد اخترته بقلب فرح ، لكني سامضي فيه بقلب حزين ، هذا هو الفرق لقد صرنا سجناء0
إنينكوف : لكن الروسيا كلها في السجن ولسوف نقتحم جدرانه وندمره تدميراً 0
دورا : ما عليك ألا أن تعطيني القنبلة وسوف ترى ، إنه لا سهل ، اسهل كثيراً أن يموت الانسان متناقضاته من أن يعيشها0
ولذلك فأنها تمضي في طريق القتل والانتحار نفسه متبنية الفكرة نفسها التي عمل بها (كاليايف) قبلها0
ومهما يكن من أمر فأن هذه المسرحية مثلها مثل باقي أعمال كامو الاخرى قد نقلت لنا بعض القيم الانسانية النبيلة التي تستحق الاشادة والذكر ومنها قيم العدالة والتضامن والبراءة والتضحية واخيراً الحرية التي تعكس كل تلك القيم مجتمعة والتي توجها كامو بقوله " إن الحرية نفسها تصبح سجناً ما دام على وجه الارض انسان واحد مستعبد"
ومن ثم فأن كل المسرحيات التي كتبها كامو ، كانت خير تعبير عن موقفه الاخلاقي لأنها كانت تسعى لعكس صور جديرة بالاحترام لتلك الاخلاقيات التي تعبر عنها سواء تمثلت بالحب أو الخير أو السعادة أو الصدق أو التضامن ، وسواء كتب لها التحقيق على أرض الواقع ، أو ظلت مجرد أحلام في رأس الرجل الاخلاقي ، ويكفيها أيضاً ، انها في نهاية الامر ، قد قدمت لنا فكرة كامو عن المأساة الحديثة ومنحتنا شكلاً جديداً ومختلفاً للمسرح0

كامو ، ألبير ، الحصار ، ترجمة عبد المنعم الحفني ، مطبعة الدار المصرية ، القاهرة ، بدون سنة ، ص6 0
( ) كامو ، البير ، الحصار 0
( ) دولوبيه ، روبير ، كامو والتمرد ، ص 113 0
( ) تعني البيروقراطية ، التسلط الاداري وفرض الالتزام بالقوانين بحذافيرها0
( ) كروكشانك ، جون ، البير كامى وادب التمرد ، ص256 0
( ) بري ، جرمين ، البير كامو ، ص 174 0
( ) الحفني ، عبد المنعم ، البير كامى ، ص 342 0
( ) كروكشانك ، جون ، البير كامى وادب التمرد ، ص263 0
( ) ينظر: كامو ، البير ، الانسان المتمرد ، ص213 0
- الحفني ، البير كامى ، ص 343 و345 0
- دولوبيه ، روبير ، كامو والتمرد ، ص 115 0
- كامو ، البير ، العادلون ، ترجمة عبد المنعم الحفني ، مطبعة الدار المصرية ، القاهرة .
- كامو ، البير ، الانسان المتمرد ، ص23 0
- حبشي ، رينيه ، ثلا ثة رجال ازاء العبث ، ص15 0
- مكاوي ، عبد الغفار ، البلد البعيد ، ص244 0
- كروكشانك ، جون ، البير كامى وادب التمرد ، ص267 0
- دولوبيه ، روبير ، كامو والتمرد ، ص117 0
- حبشي ، رينيه ، ثلاثة رجال ازاء العبث ، ص15 0



#سعد_سوسه (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المسرح التمرد لدى البير كامو
- حياة البير كامو ج 1
- حياة البير كامو ج 2
- قصص قصيرة لأمرأة
- خذلته عندما ماتت ( قصة قصيرة )
- رسالة الى أمراة ما .
- الموت عند العرب قبل الإسلام
- النهاية ق . ق
- الموت في الحضارة اليونانية
- فكرة الموت في وادي الرافدين ووادي النيل
- حكايا فصيرة
- محاولات اخرى
- محاولات جديدة 2
- قصص قصيرة جدا مهداة
- قصص قصيرة جدا ( 5 )
- عطر ما ق . ق . جدا
- محاولات جديدة
- محاولات
- غيرة ق . ق .
- الكاذبة قصة قصيرة


المزيد.....




- NOW.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 154 مترجمة عبر فيديو لاروزا
- لماذا تجعلنا بعض أنواع الموسيقى نرغب في الرقص؟
- فنان سعودي شهير يعلق على مشهد قديم له في مسلسل باللهجة المصر ...
- هاجس البقاء.. المؤسسة العلمية الإسرائيلية تئن من المقاطعة وا ...
- فنانة لبنانية شهيرة تكشف عن خسارة منزلها وجميع أموالها التي ...
- الفنان السعودي حسن عسيري يكشف قصة المشهد -الجريء- الذي تسبب ...
- خداع عثمان.. المؤسس عثمان الحلقة 154 لاروزا كاملة مترجمة بجو ...
- سيطرة أبناء الفنانين على مسلسلات رمضان.. -شللية- أم فرص مستح ...
- منارة العلم العالمية.. افتتاح جامع قصبة بجاية -الأعظم- بالجز ...
- فنانون روس يسجلون ألبوما من أغاني مسلم موغامايف تخليدا لضحاي ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعد سوسه - مسرح التمرد لدى البير كامو ج 1