أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - وديع العبيدي - كاموك- رواية- (43- 49)















المزيد.....



كاموك- رواية- (43- 49)


وديع العبيدي

الحوار المتمدن-العدد: 5987 - 2018 / 9 / 7 - 03:30
المحور: الادب والفن
    


وديع العبيدي
كاموك
(رواية)

الى: ايغور كركجورديان كاموك،
المناضل والانسان والشاعر..!

(43)
كل الحجرات التي سكنتها بعد مغادرة العائلة كانت فوق السطوح.. حتى حجرة القسم الداخلي والفندق أيام الكلية كانت فوق السطح أنتهي إليها بسلّم ضيّق، مثل برج كنيسة.. وأنا الآن أكتب وأنا جالس في الطابق العلوي.. وهكذا كتبت كلّ ما كتبت وأنا فوق.. أنظر للعالم من نافذة مغبرة..
وعندما تصفو السماء أنتظر مجيء أحد فوق السحاب.. أنا لا أختار.. وليست لي قدرة قدرة الاختيار.. يقودك اللاند لورد أو عمال المكتب أو خدام الفندق مثل عنزة عمياء إلى ما يخطر لهم.. وإذا طلبت تغيير الخيار أقسموا أغلظ الايمان أنها الحجرة الوحيدة الشاغرة.. وهناك من يدفع فيها اجرا أعلى إذا كنت لا تبقى هنا..
الحجرة تتحول إلى حجرات.. ولم يبق للناس غير التجارة بالتراب والحجر.. عندما وقع نظري على الحجرة أول مرة.. تذكرت والدي.. أعني.. تذكرت الحجرة التي عاش فيها والدي.. وربما قضى نحبه فيها.. أنا أيضا في عمره الآن.. أدمن حياة عزوبية متأخرة..
حجرة صفيح في الطابق العلوي من منزل خرب من بيوت الفضل.. يرتجف كلّ شيء فيه وأنت تصعد السلم.. لكنه نزل بكل معنى الكلمة.. يشتمل على سبع حجرات.. أربعة في الطابق الأرضي، وثلاثة في الطابق العلوي.. وهو الأفضل من حيث الإنارة وحرارة الشمس.. أما الطابق الأرضي فهو شبه معتم.. ولا تفارقه الرطوبة.. وبالنسبة لشخص مسن ومريض مثل والدي.. فأن البرد يفاقم أمراضه.. عندما كنت أمضي اليه.. أجده جالسا عند باب حجرته.. وهو ينفث دخان سيجارته.. ويحادث جاره العجوز في الجهة الاخرى.. جاره هو صاحب الدكانة التي في أول الزقاق.. لكنه يبقى يوم الجمعة في النزل.. يغسل ثيابه أو يصلح جهاز راديو بيده..
مع الوقت.. صرت رفيقا له.. أسأله عن والدي.. وأحيانا يجيبني قبل سؤاله اذا رآني متجها للنزل.. حتى في ذلك النزل يجد المرء رفيقا له.. هجرته عائلته هو الآخر مع الكبر.. ولم يعد أبناؤه الكبار يتفقدونه..
صغير الحجم.. طاوي الجسم.. عظم وجلد.. لكنه قوي في حركته.. أجمل ما في ذلك النزل، هو نهاية الاسبوع.. عندما يشتهي أحدهما أكلة ما ويقومان بتحضيرها.. بشكل مشترك..
في المرّات التي أكون ثالثا لهما.. لا أسمعهما يأتيان على ذكر النساء أو العائلة أو السياسة ولا الدّين.. كتابهما المفتوح هو الماضي وأيام الخير والألفة والمحبة..
والدي فقط كان يدخن، ورفيقه يلومه أحيانا ويحذره من الدخان.. كان يدخن عشرة سجائر في اليوم.. يقتل به وقت فراغه ويتخلص من التفكير..
عندما يخرج الأب من بيته ويفارق عائلته.. يصبح غريبا عنهم تماما.. يصبح ثقيل الظل والدم في زيارته.. كأنه في مهمة عسكرية.. لذلك انقطع والدي عن الزيارة.. وعندما أزوره لا يكاد يسأل عن أحد..
في البداية كان قاسيا معي.. وطلب مني عدم زيارته ثانية.. ربّما يريد أن ينسى تماما.. وربّما يخشى عليّ من ردود أفعال.. لكني واصلت الزيارة والسؤال.. سيما من رفيقه صاحب الدكان.. أحيانا أزوره في مقهى الكندي القريبة في شارع الجمهورية.. أجده مع زملاء المقهى يلعب الدومينو أو النرد أو يراجعان قوائم حسابية لأحدهم.. وعندما يتفرغ من انشغاله يدعوني للجلوس قربه ويفرض عليّ أن أتناول زجاجة ببسي..
تعلمت منه أن لا أتحدث ولا أتذكر أحدا أمامه.. ولا أذكره لأحد في البيت.. مرة أو مرتين جاء لزيارتي في مقهى الزّهاوي في ساحة الميدان..
كتب لي ثلاث مرّات بعد سفري.. وكانت كلماته تبعث في داخلي الدفء والأمان.. حروفه المكتوبة بخط الرقعة المتقن، وكلماته القليلة كانت كافية لتفصح عن حجم الحب والمشاعر التي يضغط بها أبرة القلم الحبر على الورقة..
بقي والدي يستخدم القلم الحبر حتى بعد تقاعده.. موظفا أقدم في وزارة المواصلات.. مهتما بهندامه وحلاقة ذقنه يوميا.. لم تفارقه عاداته واهتماماته.. رغم أن حياته العائلية كانت مضطربة وشبه معدومة.. لكنه كان قويا.. قليل الكلام..
أصيب بمرض القلب في أربعينياته.. وأجريت له عمليتان.. خرج بعدها كما هو.. كان المنظر مؤثرا ومزحما بالزيارات أمام المستشفى.. ربّما توقعوا أن يموت في العملية.. أغلب الأقارب زاروه قبل العملية.. وأنا دعيت أيضا بطلب منه كما قيل.. كانوا قلقين أكثر منه.. وكان هو منزعجا لحظر الدخان عليه في المستشفى..
كان مشهدا مؤثرا.. لكنني لم أتأخر كثيرا في المستشفى.. بعضهم كان هناك ينظم الزيارات ولا يسمح لأحد بالتأخر أو إزعاج المريض.. بعد مغادرته نسيت الأمر.. زحمة السيارات ومشاكل المرور تساعد في تجاوز الأمور الشخصية..
ربما كنت بلا عاطفة.. أسبغت علي الحرب الطويلة قسوتها.. ولم يكن الموت عاديا فحسب.. وإنما كان رحمة.. والآن أكثر من أي وقت.. بكلّ معنى الكلمة.
في حياة مطبوعة بالتشرّد ورفض العائلة.. يكون الموت أفضل.. هذا ما يلحّ عليّ الآن أكثر.. فلا معنى لحياة تجترّ الآلام والندم.. ان لم تكن الحياة سعيدة ومستقرة فلا معنى لها.. لا معنى لزواج ينتهي بالهجران والتشرد..
عندما أستذكره الآن.. لا أعرف كيف يعيش المرء من غير كلام.. ومن غير صديق.. أعني شريكة حياة تأخذ مكان الأم.. ولكن.. الحظ لا يمكن شراؤه بالمال.. كما يقال.. والنكد.. وراثة في العائلة..
في نهاية إجازتي العسكرية، كان يصرّ على مرافقتي للمحطة.. أحيانا نذهب هناك مبكرا لغرض ضمان الحجز أيام الزحمة.. يبقى جالسا معي.. حتى لحظة يصفر القطار.. تلك الساعات كانت جميلة حقا بوجوده.. لو بقيت هناك.. واستمرت الحياة طبيعية.. كنا سنعيش سوية.. ونقضي وقتا كافيا معا.. فأنا لم أعرف والدي جيدا.. لا في سنوات طفولتي الاولى.. ولا سنوات الحرب الأخيرة..
في سني الطفولة لم أكن أفكر.. وفي سني الحرب كنت بلا عاطفة.. وكان الأمر معاكسا معه.. لذلك لم نتواصل.. لا بالفكر ولا بالشعور..
أحاول الآن أن أستعيد الأشياء بالذاكرة.. ولوحدي.. بعض المرّات يزورني في الحلم.. ولكن كشخص غريب.. لا عواطف في الحلم.. تمثيل جامد..
لو كنا معا في سنوات الحرب أو من قبلها.. لكان وضعنا أفضل.. لكننا عشنا الحرب في كلّ صعيد.. حرب خارج البيت وحرب داخل البيت.. حرب خارج البلد وحرب داخل البلد.. وفي كلها كنا خاسرين.. لا أدري من ربح الحرب.. لكن.. ليس أنا.. ولا والدي.. ولا أحد من أهلي!.. الرابح في الحرب هو من يقف خارجها ويتربّص بأهلها الدوائر..
عندما أردت مغادرة البلد امتدح والدي قراري وقال: لا يوجد مستقبل في البلاد!..
والآن بعد ثلاثين سنة في الغربة.. أريد أن أقول له.. لا يوجد مستقبل في البلاد!.. لا البلاد الاولى ولا هذه!.. أحد الذين يحبّون حفظ المقولات الأجنبية.. قال لي هنا، عند وصولي لندره: من يهرب من كارثة.. فحيثما يذهب يجد الكارثة في انتظاره!..
ربما تجاوزنا مدّة صلاحيتنا..(expired).. هكذا أشعر.. أما الآخرون.. فكل شيء عادي لهم.. لماذا لم يفطن زملاء هنتنغتون الى انتاج يافطات مطبوعة بعبارة (ئيكسبايرد) تربط حول العضد أو الجبين.. لكل من لا يساير عجلة العولمة والمنتجات الاميركية.. كما كان اليهود يجبرون على ربط امثالها ايام النازية، أو يربطها المتقاعدون والمعوقون اليوم في البلدان الرأسمالية.. نحن أيضا معوقون ومتقاعدون من الحياة ويهود من جنس البشر.. صعود اليهود منصة نيويورك لا يمنع ان نجملها بدلا عنهم.. فنحن أيضا (يهود التاريخ)*..
لولا الذاكرة لما كان هناك شيء.. ولكن.. إذا كان شركاؤنا في الحياة لا يحترمون ذكرياتنا المشتركة.. فأية قيمة للذكريات.. وأي معنى لهذه الكلمات..
والدي لن يقرأها.. ولا الذين أعرفهم من دونه.. لا قيمة لذكريات لا تلين من قسوة إنسان تجاه أخوته!.. ما قيمة الذكريات التي لا تهذب قسوة الزوجين تجاه أحدهما الآخر..
ــــــــــــــــــــــــ
• مظفر النواب [مواليد بغداد 1934م] يقول في قصيدة له: سنكون نحن يهود التاريخ.. ونضرب في الصحراء/(العالم الجافي) بلا مأوى!.. وهي احدى نبوءات النواب التي تحققت فعلا خلال ربع قرن!.

(44)
بعد ربع قرن عندما ذهبت إلى هناك.. رأيت صديق طفولتي القديمة.. لم يتغير فيه شيء.. ما زال منتصب القامة رافع الرأس وعيناه تنظران للأمام.. في نقطة خارج المكان.. (مهر يصهل في مؤخرة الكون وحيدا).. أخذني إلى البيت.. بيته.. الجديد.. مكانه تغير وشكله تغير.. ومن الداخل لا أعرفه.. لم أشعر أني في بيت.. قلت له:
- نخرج..
- تعال اجلس.. عندي كلام كثير..
- هذا ليس بيتا..
- (نظر للأرض وقال).. تعال اجلس.. انس المكان.. أريد أن أخبرك بأشياء كثيرة حدثت منذ ربع قرن..
- أين الحمام؟..
- هو يدلك على نفسه!..
وذهبت.. كنت أفكر في طريقة للخروج.. قلت له:
- أنت لست وحدك هنا..
- أنا أمامك..
- ولكن.. ثمة شخص آخر..
- لا تفكر بالشخص الآخر..
- يا ايغور.. (وهذا هو اسمه أيضا!).. يجب أن أعرفك أولا.. قبل ان أعرف أي شيء..
- يجب أن يكون شخص آخر..
- لا أفهم..
- (نحن تحت السيطرة).. الأشياء التي تعرفها تغيّرت..
كان ينظر للأرض ويتكلم.. قلت له..
- ارفع رأسك يا صديقي.. أنظر في عيني.. دعني أرى قرنيتك الشهلاء ونظراتك المشرقة.. لا أستطيع أن أسمعك ولا أراك..
- بعدك حدثت أشياء كثيرة.. والطوفان قلب كلّ شيء..
- وأنت..
- وأنا..
- ولكن..
- من غير لكن.. هذا ما حصل..
- هذا منطقي..
- انس المنطق.. كان يجب أن يحصل هكذا..
- هذا ليس ايغور الذي أعرفه..
- لقد كنا في وهم.. مرحلة مراهقة ثورية أو فكرية.. صراع طواحين.. الآن عدنا للواقع.. بالأحرى اكتشفنا الواقع.. الطوفان جعل الناس يولدون من جديد.. جعلهم يكبرون ويعيشون الحقيقة..
- هذا تسميه (حقيقة)..
- الرومانسية والديالكتيك والميتافيزيك واليوتوبيا انتهت.. الآن بدأت الواقعية..
- واقعية أم براغماتية..
- براغماتية.. حتمية.. وضعية.. إنس الفلسفة..
- يا حبيبي.. كثير هذا الذي تقوله.. كثير عليّ.. لا يمكن أن أسمعه منك..
- أنا الشخص الوحيد الذي يقول لك ذلك.. لا أحد هنا يريد أن يعرف.. ولا أحد يريد أن يتكلم.. قبل أن يتكلم يخرج حاملا سيفه..
- سيفه..
- الجوع غريزة قاتلة.. ولا أحد يريد أن يموت جوعا..
- لكن الموت أكثر شيوعا اليوم..
- (اضرب الراعي تتشتت الغنم)..
- وماذا عن (قتل الأب)..
- الأب وهم.. كنا نتبع وهما..
- هذا تسميه (وهما)..
- أنت ما زلت أنت.. لكن الواقع الجديد مختلف.. الكلام مختلف..
- ولهذا تركت الثقافة وصرت سياسيا..
- أنا لست سياسيا.. رشحوني لمجلس الحكم ولم أعترض..
- من رشحك.. الاحتلال..
- الناس..
- وأنت تصدّق هؤلاء.. أين كان الناس.. ومتى صار لهم رأي..
- (......)...
- ألفين سنة والناس على سنة أجدادها.. وفي يوم واحد تغيّروا وصاروا يفكرون كالغرب..
- ما أريده هو مساعدة الناس..
- أليس الكلّ يقولون هذا.. كلام للاعلام..
- أنا مسؤول الاعلام ورئيس تحرير الجريدة..
- هل تتحمل وزر كل ما يحدث.. سيمضي هؤلاء ويبقى اسمك في الجريدة..
- لا يهمّني ما يقال.. يهمّني عملي..
- لم تكن بيكونيا..
- لماذا لا تقول غرامشيا*.. (يبتسم)..
- ليست ايطاليا التي تحكمنا..
- القوة هي الفيصل*..
- (غابة الغابة)*..
- الغابة هي اليوتوبيا*..
- اليوتوبيا هي الأرض.. والأرض هي البستان.. الاختلاف بالمنظور..
- هل التوراة جزء من المنهاج الاعلامي للمرحلة..
- فعلا.. كانت بلادنا بستانا.. حديقة عدن.. لكننا لم نعطها حقها.. ربما لم نكن لها أهلا.. فضيعناها..
- أليس الناس الذين ضيّعوها وفسقوا فيها.. الناس الذين رشحوك..
- اليد تدمر الطبيعة.. والبستان يستحيل إلى غابة..
- والانسان..
- هذا دور الغرامشية..
- المثقف لا ينحني للواقع.. عليه أن يغيره..
- التغيير يكون من الأسفل وليس من فوق.. من الداخل و..
- و....
- ليس كل ما نريده نستطيعه..
- ومتى أردنا واستطعنا.. ربما أردنا نعم.. أحلام شعراء.. رغبة بلا إرادة..
- كان لا بدّ من التغيير.. بأي طريقة..
- طيلة ألفي عام لم تكن (لابدّ).. إلا مع الألفية..
- توفرت الفرصة والناس تلقفوها..
- لكن الطوفان لم يكن من..
- الواقع صعب لمن يعيشه.. لقد عشنا ظروفا صعبة.. من أجل الخبز..
- (الحاجة ام الاختراع).. الضرورة تلد الابداع..
- العراق ليس الصين والعراقيون ليسوا يابانيين..
- والتاريخ والمدينة وسومر و..
- دعني أقول لك.. (التاريخ وهم).. انشائيات رومانسية.. التاريخ هو الذي قتلنا.. نحلم بالتاريخ وجنة الخلد.. ونحن نفترس بعضنا.. التاريخ والدين لم ينجح في توحيد الناس وتحويلنا إلى شعب ذي هوية..
- المفاهيم ترتبط بمستوى الوعي السياسي.. وليست المشكلة في التاريخ أو الدين أو الحاكم..
- التأسيس كان مفقودا..
- ولكن لا بناء من غير تأسيس.. لماذا لا تعمل بالتأسيس أفضل من المضيعة..
- تعرف أني لا أقبل كلمات من هذا القبيل.. ربما لا أستطيع أن أقنعك تماما.. هذا يحتاج وقت.. وقت طويل.. لكنني شخصيا كنت أشعر بالاختناق.. وصلت حدّ القنوط من الأفكار والنظريات.. كدنا نموت جوعا.. أنت لا تتصور هذا.. وأنا مسؤول عن أطفال وعائلة.. لماذا أرفض فرصة سانحة.. في العهد السابق كنا نعاني ونفتخر أن لنا موقف.. نشعر بالبطولة ونحن نتعذب ونخسر.. ثلاثون عاما من الخسارة..
- النظام لم يتغير إذن.. تفكير الناس هو الذي تغير..
- معك حق.. تفكير الناس تغير.. وأنا أيضا كان عليّ أن أتغيّر..
- لكنك لم تفقد روحك..
- تعلّمت من الواقع أكثر من الكتب..
- لو كان الواقع يعلّم.. لكان بسطاء النس أحكم من الفلاسفة..
- اعتبرني بين الاثنين..
- بيكونيا..
- تصوّر.. لو أن طبيعة الشخصية العراقية الراهنة – بعد التغيير-، كانت موجودة في الخمسينيات أو السبعينيات.. أما كانت مسيرة الاحداث اختلفت.. ولم يحصل ما حصل..
- أنت تعرف ان مجتمعاتنا سلبية.. طفيلية.. اتكالية.. تفتقد المبادرة وتخشى المغامرة.. تريد أن تحصل على كل شيء.. بلا تعب أو مسؤولية أو ثمن.. هل تصدّق نحن بلد ثورات وانتفاضات.. ليست وراءها أطراف خارجية.. أقول لك تاريخ غير حقيقي..
- إذن.. لا تاريخ.. ولا حاضر.. ولا مستقبل!..
ساد صمت.. لم أكن أعرف من أين كان الكلام يصدر.. ولم أعرف نبرة الهدوء المستكين في لغة صاحبي الذي أعرفه من قبل.. ولم أعرفه يعارضني بهذه الصورة.. كأننا على طرفي معادلة تفتقد المنطق.. فجأة قلت له..
- هل ستذهب إلى السجن؟..
ابتسم بألم وهو يلتفت نحوي.. كأني نكأت جرحا خفيا في داخله.. قال..
- نحن في سجن.. الحياة سجن.. الواقع سجن.. ما يختلف هو الجدران..
- اختلاف الجدران يمنح فسحة للحرية..
- الحرية يحددها السقف وليس الجدران..
- وأين هو السقف..
- السقف غير مرئي.. لكننا نحمله على رؤسنا.. يضغط على عقولنا وأفكارنا ويعصر كلّ وجودنا بثقله..
- الحلّ..
- قطع الرأس.. أو موت الجسد..
- هل تناقض نفسك..
- التناقض منطق الوجود..
- التناقض يولد الصراع(*)..
- التناقض المتصل يصير عاديا.. ألم تسمع بالتناقض المنسجم..
- أعرف الوجود المنسجم لأوغسطين(*).. لا يوجد تناقض عادي ومنسجم..
- كلّ شيء يوجد اليوم..
- أنت تنفي الديالكتيك.. أين ذهب ماركس(*)..
- الرأسمالية وجه آخر لماركس.. وتدمير الديالكتيك ديالكتيك آخر..
- ايغور.. لقد صرت مثل قوس قزح تحمل كل الألوان.. وأنت بلا لون..
- ماركس لم يقرأ جيّدا.. قراءتنا كانت أيديولوجية مقولبة لا علاقة لها بفكره..
- هل كان ماركسا سياسيا أو اقتصاديا.. عالما أو فيلسوفا..
- (يبتسم).. ماركس كان شاعرا قبل كلّ شيء.. السياسة قتلت شعره..
- ما أعنيه هو فلسفة ماركس.. والفلسفة أكبر من التحديد العلمي والقولبة السياسية..
- الأيديولوجيا.. هي التي قتلت الفلسفة..
- ما بعد هيجل ظهرت عدة اتجاهات، واحد منها الماركسية، وما بعد ماركس ظهرت عدة اتجاهات.. تعرضت للاضطهاد من قبل موسكو.. والعرب عرفوا ماركس عبر موسكو..
- لكن لدينا كتاب جيدون انتقدوا ماركس وقدموا أفكارا جديدة..
- لكنهم لم يستطيعوا إعادة ماركس للحياة.. بعد السبعينيات انتهت الماركسية والشيوعية وبدأ المدّ الديني.. وغير قليل منهم عزف على الوتر الجديد..
- اللون الرمادي سمة هذا العصر..
- عليّ أن أذهب..
- إلى أين تذهب.. لن نفترق ثانية..
- لم نلتق لكي نفترق.. لقد اختلفت يا ايغوريان..
- لكنني أريدك معي.. أحتاجك بجانبي.. لا أحد يفهمني ويحسّ بي غيرك..
- لا أستطيع أن أكون بيكونيا لكي أسايرك..
- لا تسايرني.. ابقَ هنا فقط.. وجودك يعطيني قوة..
- ولكنك في مجلس الحكم..
- هذا أفضل شيء فعلته في حياتي..
- أليس العكس صحيحا..
- التضحية بالنفس من أجل الناس..
- التضحية بالنفس.. أبهة المركز والسيارة والسائق والحرس تضحية يا ايغور..
- أعني: احتمال العار هو التضحية..
رأيته ينظر في عيني هذه المرة باستقامة وعضلات وجهه تنتفخ..
- أوافقك جزئيا..
- إذن سوف تبقى..
- عندما توافقني جزئيا..
- ها لقد صرت براغماتيا.. أنت تساومني..
- المصطلحات عاطلة عن المعنى اليوم والمسميات غيّرت معناها..
- يعجبني فيك أنك تفهمني..
- المهم عندي هي الأرض.. العمل في الأرض من أجل الأرض..
- لم نختلف.. العمل في الأرض يبدأ بتغيير الواقع..
- البراغماتية لا تغير الواقع ولكنها تتعايش معه..
- أنا لست براغماتيا تماما.. لكني أسايرها وأطوّرها باتجاه غرامشوي..
- هل يستحق الناس ما تعمله.. أنت تلعب بالنار..
- الخوف ليس من سماتك..
- أنا أقصد الناس.. ماهية الناس..
- الناس بسطاء.. مستضعفون.. همّهم لقمة العيش..
- وماذا عن الأرض.. لا اعتبار للأرض عند هؤلاء.. يبيعون كلّ شيء لمن يملأ بطونهم.. وتبقى الأرض للغرباء..
- هذا ينعكس عليك.. أنت أيضا هاجرت وتركت الوطن..
- هذا يتوقف على الغاية من الهجرة.. لذلك أعود اليوم من أجل الوطن..
- كثيرون جاؤوا قبلك منذ التغيير.. وعادوا عندما لم يحصلوا على مركز يناسب طموحهم.. بعض منهم كسب شيئا وما زال هنا..
- أنت تعرف أنني جئت لأراك.. كنت أبحث عن نفسي فوجدتك.. ولا أريد أن أفقدك ثانية..
- هذا هو شعوري الداخلي أيضا..
- وهل تعرض علي شيئا في كلامك..
- قد أنفعك.. ولكن ليس كثيرا..
- وصلنا إلى عنق زجاجة..
- علينا أن نتغير لكي نستمر في الوطن ولكني نستطيع العمل.. عالم الحرب الباردة انتهى.. وعلينا اليوم التكيف مع الغابة لتحويلها إلى بستان.. أو حتى حديقة خلفية لأنقاض منزل..
- كم يساوي ربع قرن في مقياس الزمن..
- في التاريخ قرون كثيرة يسمونها مظلمة وسوداء..
- ولكن هناك ساعات أو أيام غيّرت وجه التاريخ..
- النور ينبلج من داخل الظلمة.. إذا تم تحضير الأرضية له..
- لم أعرف أنك تهتم بالدين..
- الدين كنص وليس طقس..
- ألا تشارك في الطقوس..
- لابد من مسايرة الناس لكسبهم لجانبك..
- أعرف أنك لن تبيع نفسك تماما للناس ولا لمجلس الحكم.. ولكن كم تطول سني عمرك لكي تنجح في تغير الأشياء كما تريد..
- أعمل اليوم وأترك الغد لغيري..
- ولكن غيرك يختلف عنك..
- لا يهمّ.. يكفي وضع حجر.. وقد يتأخر البناء.. ذلك أفضل من عدم العمل..
- ايغور.. نحن في القرون المظلمة..
- لذلك أريدك معي.. وسيكون العمل مضاعفا..
- هذا كلّ ما لديك..
- هذا كلّ ما لدينا يا ايغوران..
- ما لدينا هو الحبّ..
- الحبّ هو السلام والانسجام والجمال..
- لكنني حزين يا ايغور..
- وأنا أيضا!..
ولأول مرّة احتضنني وانفرطنا في البكاء.. كان نشيجه قاسيا في داخلي.. فندمت على كلّ ما قلته له.. أنا أحبّ هذا الانسان وأخشى أن أفقده.. ومن خلل عبراتي المختنقة قلت له..
- سامحني يا ايغور.. أنا أحبّك!..
صهيله يملأ الكون.. ويختصره في ثانية..
ـــــــــــــــــــــ
• فرانسس بيكون [1561- 1628م] مفكر سياسي انجليزي من موظفي البلاط اليزابيثي بالوراثة؛ يعتبر مهندس الدولة الحديثة، والقطب الأعلى لمدرسة الفكر الانجليزي [مادي، براغماتي، سياسي]. من أوائل الدعاة لاختزل المعارف العلمية والفلسفية في ما ينفع عمليا والغاء الاساليب القديمة في الشروح والمعارف الشاملة، وتطبيق ذلك في أساليب الادارة ومناهج التعليم، ومن تلاميذه اوغست كومت [1798- 1857م] وهربرت سبنسر [1820- 1903م] وجون ديوي [1859- 1952م] مصمم مناهج الدراسة وأساليب التعليم الحالية. (غابة الغابة) من مؤلفاته.
• انتونيو غرامشي [1891- 1937م] مفكر ايطالي شيوعي، صاحب فلسفة البراكسس القائمة على الممارسة والنقد في آن. انتقد ماركس وتقاطع مع ستالين. اودعه بنيتو موسوليني [1883/ 1922- 1943/1945م] السجن لموقفه ضد الحرب، ومات تحت التعذيب، ومن أبرز آثاره (دفاتر السجن). الغرامشية هي فلسفة البراكسس، أو الارادة العملية للفرد في مواجهة الظروف المحيطة به/[موقف اخلاقي للفرد تجاه العالم]، بما يسم قيمة وجوده. تركيز غرامشي على القيمة العملية المباشرة أو النظرية التطبيقية الانية يتكشف عن نوع من (pragmatism) المتصلة بالفكر الرأسمالي أو المادية الانجليزية، ولكن في مجال اليسار الاجتماعي أو الاشتراكي. هذا يجعل الغرامشية براغماتية يسارية، في مقابل براغماتية بيكون وكومت وجون ديوي كبراغماتية يمينية.
• في موضوع (فيصلية القوة)، نجد ان الفكر الغربي المادي عموما والبراغماتي الرأسمالي تحديد، قد قام على قواعد الفكر الديني التوراتي أو ما يدعونه (biblic ground) بعد تلاعب واضح في اللغة والألفاظ والدلالات. وتتمثل تلك المراوغة الجدلية في اللعب على مفهومي [الحق والقوة]. فالحق هو المصدر الأعلى وجوهر المركزية المقدسة، ومنها منبع الخلق والحياة والتشريع والسلطة. وتتميز في الفلسفة الغربية تحت عنوان (مسألة بيلاطس) أو جدلية بيلاطس، في المجادلة التي تدور في محاكمة بيلاطس ليسوع الذي يحيل سلطته للحق، فيسأله الحاكم الروماني: ما هو الحق/(يو18: 38). لقد جرى قلب مبدأ (الحق هو السلطة أو القوة) في الفكر الديني المحيل على (الأله/ المطلق)، بمبدأ مادي معكوس هو (القوة هي الحق). وعلى المبدأ الأخير قامت الانظمة الغربية البلدانية أو الراسمالية المعاصرة، التي تجعل الدولة أو النظام الرأسمالي محورا الحياة والسلطون والقانون والقيم. وبديهي ان (القوة) بالمفهوم الغربي الراسمالي هي مادية وبشرية، وبتعبير وجيز، تمثل مصالح نحبة الارستقراطيا التجارية التي تتحكم بنظام اقتصادي عالمي رأسمالي، تخضع كل البلدان ومؤسساتها السياسية والاقتصادية والعسكرية والاجتماعية، وتترجم حركة القروض والمساعدات والعملة الموحدة، مدى هيمنة النخبة المالية على العالم ومدى تبعية البلدان والاطراف للمركز. ومن هذا المنظور يمكن تفسير وتأويل وفهم مجمل المعارف والاحداث والمتغيرات العالمية. المنتصر يمثل القوة، صاحب القوة هو المشرع والقانون والاله المتحكم بكل شيء.
• يوتوبيا/(utupus): كلمة اغريقية قديمة معناها (مكان متخيل)/(فردوس ذهني) يجسد رغبات الشخص.
• التناقض يولد الصراع الذي هو مبدأ الوجود: مبدأ فلسفي قال به أرسطو وقامت عليه الفلسفة الغربية الحديثة، صاغه هيجل [1770- 1931م] في مصلح الديالكتيك المادي وأعتبره أساس التاريخ، الذي طوّره كارل ماركس [1818- 1883م] إلى (المادية التاريخية) وبنى عليها نظريته في التطور الرأسمالي نحو المجتمع الاشتراكي.
• أوغسطين [354- 430م]: فيلسوف جزائري من مدرسة الافلاطونية الجديدة، كان من أتباع ماني ثم اعتنق المسيحية ورسم مطرانا في بلاده. من مؤلفاته: اعترافات أوغسطين، مدينة الله، الأشكال والعناصر. وكتابه الأخير يتضمن فكرة الوجود الهندسي المنسجم للكون.

(45)
خرجت من البيت العتيق في بيت جدّي ولا أذكر أن الضوء كان كافيا.. عبرت ردهة البيت الحديث دون أن أنظر حوالي ووجدت نفسي في شارع المحلة الذي يأخذ بالصعود جهة الشمال، ثم ينحدر جهة الجنوب التي تواجه المنطقة الجبلية في الشرق..
السوق والمدينة يقع في جهة الغرب فمضيت فيها.. وبدل أن أواصل طريقي كالعادة، انعقفت يسارا ثانية في أول فرع عند بيت المختار القديم.. وهو بيت كبير ذي محيط مربع، وهو أول بيت باعه جدّي للمختار عند وفوده على المنطقة، قبل اختياره فيما بعد ليكون مختارا(*) للمحلة لأسباب حزبية وقومية..
البيت الثالث في الفرع بعد بيت المختار كان باب بيت مفتوحا.. ظهرت فتاة شابة سمحة المحيا وقالت لي: اليوم ستبقى عندنا..
ضحكت معها وأجبتها مداعبا: وكم تدفعين..
- أمي قالت ستبقى عندنا اليوم..
دخلت عندهم في البيت.. كان بيتا صغيرا.. حوش في المقدمة بعدها حجرتان متجاورتان بنفس القياس.. الفتاة في الصف المنتهي من الثانوية.. جميلة ملساء البشرة شعرها متوسط الطول.. ولكنها بشوشة لطيفة اللسان والقلب.. تلقائية وذكية.. نظرت إليها في مرآتي الداخلية.. وقارنتها مع والدتها التي تميل للبدانة.. وهي الأخرى في مقتبل عمرها.. حسبت أن الأمر يتعلق بمساعدتها في الدروس.. قال أمها..
- خوخه تراسل الصحف.. تكتب وترسل للصحف.. تحب أن تكتب.. أنا لا أعرف الكتابة..
- ماذا تكتبين.. (سألت الفتاة)..
- كلّ ما أراه.. أشياء من المحلة والمدرسة..
- تحب أن تعمل في الصحافة.. (قالت الأم)..
- الكتابة شيء والعمل في الاعلام شيء.... (قلت)..
- أنت تستطع ذلك.. (قالت الأم، كأنها لم تفهمني)..
بعدها قامت الأم لمشاغلها.. وانصرفنا أنا والفتاة نتحدث ونضحك وتطلعني على أوراقها ودفاترها.. قضينا وقتا جميلا.. لم أكن أتوقعه.. لم أتوقع كذلك أن تميل لي خوخه ولا أكتشفت ذلك من قبل.. قد يكون ميلا طارئا له صلة بالكتابة أو العمل.. لماذا تريد أن تعمل.. فتاة وتريد أن تعمل.. يمكنها اكمال الدراسة.. التمتع بالحياة البسيطة من غير نكد العمل وتعقيداته.. ربما تحتاج أمها للمال.. الوظيفة جاهة.. فتاة ترتدي ثيابا حديثة وتخرج للعمل.. تنتقل من مدينة إلى مدينة.. هل هذا ما تحلم به خوخه.. خوخه.. ابقي على الشجرة.. أجمل!.. خوخه تبتسم.. عيون خوخه هي التي تبتسم وليس شفاهها.. تلك الخطوط الدقيقة في زاويتي عينيها الخارجيتين.. هي ابتسامة خوخه.. لكن خوخه طفلة.. عندما أضغطها على صدري.. يغيب الكون.. ونحن نتحول إلى هواء غير مرئي..
هناك جريدتان، تشغلان الطابق الأول من مبنى أصفر في سوق المدينة.. يمكن أن تجد مكانها هناك.. عمل وصحافة.. هل هذا حلم خوخه أم رغبة أمها.. انت أكبر من العمل وأكبر من الصحافة يا خوخه.. العمل مضيعة.. والصحافة اسمها كبير وصيتها كبير.. صيت أيام زمان.. أما اليوم.. أخاف عليك من الصحافة يا خوخه.. لاتذهبي وراء الشهرة والصيت والاسم الرنان.. هل تحلم خوخه بالشهرة.. محلتنا أجمل من العالم.. ولكن.. لم أنتبه من قبل أن بيوت المحلة لها أرقام.. وأن بيت خوخه يحمل الرقم (92).. كم يبلغ عدد بيوت المحلة إذن.. وما هو تسلسل بيت جدّي.. لم أرجع للخلف.. مشيت تجاه الكراج دون أن أمرّ بالمدينة..
ـــــــــــــــــــــــــ
• في عام (1970م) اجري شبه استفتاء حول التوزيع الدمغرافي والاصول القومية والدينية لسكان جالولا، وتم احتساب الأولوية للعرب بفارق عددي ضئيل، بعد احتساب سكان الاطراف والتركمان وأقويات عدة ضمن الأصول العربية. وقد نتج عنه اناطة الادارات الحكومية والمدرسية لعناصر موالية للحكومة المركزية من أصول عربية وتركمانية.

(46)
حتى تلك اللحظة.. لحظة سقوط امريء القيس من جبل -أجا وسلمى- كجلمود صخر حطه السيل من عل.. كنت أعتبر نفسي محظوظا.. والحظ هو القيمة.. والقيمة هي المعنى.. بعد الايمان استبدلت لفظة الحظ المكروهة بعبارة طنانة فحواها: [الله يحبني ويرعاني في كلّ شيء..]..
كنت أقول أن الله يحبني ويرعاني مثل حدقة عينه حسب مزمور داود.. ولن يتركني أخزى أو أسقط بيد خصومي.. لا يتركني أسقط من جبل لأنه يحيطني بأجنحته ويداه ترفعاني.. لكني وقعت وتحوّلت إلى حشرة والعالم صار مجرد نقطة.. الكتاب نفسه أورد عبارة: أنا دودة لا إنسان(*)!..
أنا لم أقل أني دودة.. لكي لا تزعل المرأة التي كانت تضاجعني.. أو صديقي الذي كان يكرر في لحظات انفعاله أننا عائلة وأخوة..
من أجل كل أولئك.. لا أقول أنهم (دود) داخل مستعمرات دودية.. انما أقول انني حشرة.. تحولت الى حشرة حسب مسخ كافكا(*).. وأنا لست تشيكيا بالمناسبة.. أيضا بسبب الحرب اللاوطنية التي قرضت عقدا من سني عمري.. ومجيئي إلى لندن لا صلة له بهروب ميلان كونديرا(*) إلى باريس ليصبح كاتبا فرنسيا..
أنا لست انجليزيا ولا أود أن أكون كاتبا انجليزيا على غرار الهنود والأفارقة.. سوف أحتفظ ببقية عروبتي حتى الثمالة.. كما أن لندره هذه لا تستحق المقارنة بباريس شانزليزيه.. سارتر وكامو وروسو وفيكتور هيجو وعيون أراغون وموليير وفلوبير ونابليون وروبسبير وماري انطوانيت.. كل هذا لا تجده في لندره..
هنا عاش ماركس يتدفأ في أروقة المتحف بحجة الكتابة عندما كانت البارونة تهجره وتعود لأهلها في ألمانيا.. كولن ولسن مات مثل شحاذ وعاش كذلك.. رغم أن عقله أكبر من عقل الملكة وحكومتها.. لندره حاربت أودن ورسل (*) ولكنها احترمت ايليوت(*) عندما وصفها بأرض زبالة.. بعدما نبذ دين أجدادها واعتنق ديانة زوجته الانجليزية.. هل كانت تقرأ اسمه أيديوت وليس ايليوت.. ربما..
لا.. لا أقول أني دودة.. حتى لا تنثلم الكرامة غير الوطنية ويقول قائل: هل قواتنا المسلحة العظيمة هي قوات دودية.. أنا لا شأن لي بأي أحد.. وأنا الآن منسي في ثقب انجليزي مهجور في صحراء لندره لا يكاد أحد يتذكرني أو يسلّم علي أو يردّ على ندائي..
علامة الحياة الوحيدة لتاريخ القرن الواحد والعشرين.. هي حركة الفواتير وزيادات الاسعار الموسمية.. الخارجة على الأخلاق والمنطق الاقتصادي.. واليوم اجتمع اثنا وعشرون نائبا برلمانيا وتقدموا بوثيقة تطالب جيزابيل بحماية سبعين ألف عائلة متضررة من ارتفاعات الأسعار.. اثنان وعشرون رقم قياسي يناسب عدد سنوات سلمان العبيدي الذي حاول تحرير مانشستر من الغزاة في أول يونيو، وشكّل حكومة وطنية من أثنين وعشرين عضو، اجتمعوا في بهو الاوبرا.. ولكن جيزابيل عندما وصلها خبر الثورة الدمقراطية فتحت النار عليها وعلى أصحابها.. ومن يومها البوليس ينتشر في الشوارع ويسأل رائح الغادي إن كان من أتباع الملكة أو روبسبير وكرومويل..
يبدو أنهم عوائل الطبقة السياسية ومافيات البرلمان المعفية من تبعات سمسرة الحزب الحاكم.. المهم أنني لن أترك فاتورة غير مدفوعة ورائي أو أمامي مثل كافكا وراسكولينكوف(*).. وسوف تحصل المرأة صاحبة النزل عند موتي على كنوز وأموال تعيش بها عقدا من السنين بعد موتها..
لم يقبل صديقي الوحيد – أبو التمتم- الذي يعودني بصفة دورية ولفترات متباعدة.. هو الوحيد في أفق حياتي ممن يمنحني شيئا من وقته واهتمامه.. ولا يقبل وصفي لحياتي بأنها (غلطة)..
وكنت أقول أن ولادتي كانت غلطة.. ودراستي كانت غلطة.. وبقائي في الحياة بعد الحرب غلطة.. وتركي للبلد كان غلطة.. وعلاقتي بالمرأة غلطة.. واهتماماتي الأدبية غلطة.. واصراري على الالتزام والموقف والأخلاق أغلاط في أغلاط..
وفي النتيجة لسنا غير حشرات في النظام العالمي السائد منذ سقوط بابل.. رغم أن الحشرات لا تغلط.. الغلط صفة بشرية..
المفروض أن أعيش وأعمل وأتعب وأموت وأنفع بلدي.. فلا نفعت بلدي ولا أفدت من حياتي.. وأنا أعيش وأموت في بلد يحتل بلدي.. كلام كبير لا طائل منه.. فالحشرة ليس لها دور سياسي.. وهل تعتقد بوجود يسمح أن يقوده أو يخطط سياسته حشرة.. بلعت الموضوع وسكت..
أنا أيضا لم أقل أنا دودة لا انسان.. ولم أذكر اسم قائلها.. أنا أيضا لم أقل هذه جزيرة الدود مثلا.. على غرار حديقة الحيوان(*).. حديقة الحيوان يحكمها الخنازير.. فمن يحكم جزيرة الدود..
علينا أن نعيش الحياة ولا نحكم على شيء بلا تجربة.. لا يمكن تسمية الخروج غلطة إن لم نكن قد خرجنا.. وهي ليست كذلك لكثيرين عرفوا كيف يفيدون من الخروج .. ويرفضون العودة أو مغادرة الفردوس الغربي.. فردوس ميكافيللية المتعة..
أنا بوصفي حشرة لا أعرف المقصود بالفردوس.. والحشرة لا تميز بين جحيم وفردوس ولا بين نهار أو ليل أو غرب أو شرق.. لكن الحشرات تعيش عادة في الطبيعة.. ولا تفكر في المغادرة إلى غيرها.. واذا أجبرت على الهجرة تموت بفعل الاغتراب والتوحد وعدم التكيف والانسجام.. عندما تشعر الحشرة بالغربة أو الحزن تتثاقل حركتها.. تسكن.. وفجأة بعد مدة.. تكتشف أنها ميتة..
روح الانسان أكثر قوة من الحشرة.. وذلك هو سبب شقائه..
ـــــــــــــــ
• (مز 22: 6)، (أنا دودة..) وردت لدى أيوب والمزامير ورسالة لبولس الطرسوسي.
• فرانتز كافكا [1883- 1924م] قاص وروائي تشيكي من أصل يهودي، درس وتعلم كافكا باللغة الالمانية حيث كانت تشيكيا تابعة لامبراطورية الهابسبورغ حتى عام (1918م). واصل كافكا دراسته بالالمانية وحصل على درجة الدكتوراه في القانون، لكنه لم يمارس عملا مهما، وأحيل على التقاعد من شركة التأمين التي عمل فيها لاصابته بمرض السل والذي سينتهي به للموت في سن الاربعين. من أبر أعمال كافكا روايته (المسخ)/(1915م) الأكثر غرائبية في تاريخ الأدب، الى جانب روايات: القضية والقصر، وبضعة مجاميع قصصية ورسائله لأبيه.
• ميلان كونديرا [مواليد برنو/ تشيكيا 1929م] شاعر وروائي واستاذ جامعي. كان عضوا في الحزب الشيوعي التشيكي، شارك في ربيع براغ/(1968م) وفصل من وظيفته في الاجتياح السوفيتي لتشيكيا ومنعت كتبه لمدة خمس سنوات. هاجر إلى فرنسا العام 1975م)، وعندما نشر (الضحك والنسيان)/(1978م) سحبت منه الجنسية التشيكية فقدم على الجنسية الفرنسية وحصل عليها العام (1981م). في العام (1995م) قرر ان يجعل الفرنسية لغته الرئيسة في التأليف وذلك في روايته (البطء). ويعتبر صاحب مدرسة ادبية متميزة وتيار فكري له أتباعه. وهو من أشهر الكتاب اليساريين في أواخر العشرين. من أعماله: غراميات مضحكة/ (1963م)، المزحة/(1965م)، الضحك والنسيان/(1978م)، خفة الكائن التي لا تحتمل/ (1982م)، الحياة هي في مكان آخر، فالس الوداع، الهوية.
• د. ه. أودن [1907- 1973م]: شاعر انجليزي شيوعي، شارك في الحرب الاسبانية الاهلية في الثلاثينيات ضد الملكية، وهاجر إلى أميركا، توفي في النمسا وقبره في (Kirchstetten).
• برتراند رسل [1872- 1970م] عالم رياضيات وفيلسوف معاصر من مواليد ويلز. سخر حياته منذ (1914م) للعمل المباشر من اجل السلام العالمي ووقف العنف والحرب، اجرى اتصالات مع كثير من حكومات وزعماء العالم، وانتقد سياسة انجلتره، فاعتقل وأهين رغم أنه حامل لقل ايرل رسل الثالث، رغم أنه من أعيان الارستقراطية الانجليزية والحكام السابقين بالوراثة، ولكنه لم يحظ بمركز وجاهي وقد فصل من الجامعة بسبب مواقفه، وعانى الضنك دون أن يتراجع عن مواقفه.
• ت. س. ايليوت [1888- 1965م]: مواليد اميركا، (1914م) هاجر إلى انجلتره، وانتسب لكنيستها الانجليكانية، تزوج من قريبة لييتس بمساعدة من الشاعر الشيوعي المعروف عزرا باوند [1885- 1972م] الذي سانده ونقح له مسودة قصيدته (Waste Land) ونشرها في مجلته [1914- 1919م] ، قبل صدورها في كتاب عام (1922م). أما عزرا باوند الذي قدم لندن العام (1911م) وشكل ثلاثيا مع كل من هيلدا دوليتل [1886- 1961م] وريتشارد الدنجتون مؤلف كتاب (لورنس الدجال)؛ فقد هاجر إلى ايطاليا ووقف إلى جانبها في الحرب الثانية، وقد أعتقله الجيش الأمريكي وأرسل للسجن في مركز للأمراض العقلية في الولايات المتحدة الأميركية، ولم يطلق سراحه إلا بعد سنوات طويلة عقب حملة دولية ثقافية تزعمها الفيلسوف برتراند رسل.
• راسكولينكوف: بطل رواية الأبله لفيدور ديستوفيسكي[1921- 1881م]، من روائع كلاسيكيات الأدب الروسي.
• (حديقة الحيوان): رواية رمزية سياسية صدرت العام (1945م) للروائي الانجليزي الشيوعي جورج أورويل [1903- 1950م]، صاحب رواية (1984)/(1949م) التي ينتقي فيها النظام الرأسمالي ومجتمع السيبرنتيكا. وله كتاب (تحية لكتالونيا)/(1938م) عن خبراته في الحرب الاسبانية الاهلية. اسم اورويل الحقيقي هو ايريك ارثر بلير مواليد ولاية بيهار الهندية.

(47)
في يوم الثلاثاء المصادف لليوم الثالث عشر من يناير.. كنت أشعر بالكسل.. أو قل بالتثاقل.. ولا أريد أن أعمل شيئا.. ومن غير شعور قمت وفتحت الكمبيوتر.. لم أكن أفكر في معاينة البريد لكني فعلت.. رسائل الأصدقاء.. أصدقاء النت والتعارف الالكتروني.. تمنح بعض التشجيع..
كانت تلك بدايات النت والناس لم يمتسخوا بطبائعه تماما.. لم يكن اليوتيوب والفيس بوك والتويتر* قد ولدوا بعد يومذاك.. بعض الرسائل تستسهل الردود.. كلام في كلام.. خلال ذلك كانت بعض الرسائل تتوارد.. تنحدر من قفا الأثير في حضن الشاشة..
حاولت تأخير الرسائل الجديدة، ريثما الانتهاء من سابقاتها.. بطريق الخطأ انفتحت واحدة منها.. أسودّت الشاشة فجأة.. أعدت قراءة الايميل.. قمت.. درت في الحجرة.. أحاول نسيان الكمبيوتر.. عيناني تسترقان النظر خلسة للشاشة السوداء.. خرجت من الحجرة وعدت بعد زمن.. قرأت الرسالة أيضا..
لقد اغتالوا... ماذا.. ايغوووور.. غير معقول.. ايغغغوو...... كتبت جوابية للتأكد من الخبر.. رسالة ثانية تتضمن تفاصيل أكثر.. اليوم حصل ذلك.. الآن.. هذا الصباح.. ما زالت الجثة على العتبة.. ما زال القتلة الثلاثة يهربون.. جثة.. رصاصات.. عتبة.. دم.. مراقبة.. حرس.. تحت السيطرة.. ارتديت ثيابي وخرجت عن طوري.. بلا وجهة.. لا أدري إلى أين..
أرادني أن أكون معه.. وها هو يتركني.. قلت له لا أريد أن أخسرك.. فخسرته.. أردنا أن نكون واحدا.. فقسمونا إلى أشلاء.. سألته هل يثق بالناس.. قال أن اهتمامهم ينحصر في بطونهم.. من أين تصدر الرغبة في القتل.. من البطن أو من مكان آخر..
قال أن الناس يحبونه وهو يريد أن يخدمهم ويكسبهم.. هل الحبّ يولد الوحشية.. هل الحب يقتل المحبوب.. هل القتلة من زبائنه أو من الغرباء.. البنادق أميركية.. ولكن الأشخاص هربوا باتجاه الشرق.. الشررر...ق.. ف.. فق قف.... بعد أيام دفع الأميركان (دية) القتيل.... تم غلق الملف....
بعد أشهر.. القي القبض على القتلة الثلاثة.. والملف بقي مغلقا.. (الدية) مدفوعة مقدما..
ايغور ليس أول أرمني يتعرض للقتل والاغتيال والتصفية الجسدية.. ملايين الأرمن عانوا هذا المصير.. بمباركة جنون سكان البطون والحصون.. كم من الأرمن..أرامل ويتامى.. قتلوا الرجال وسبوا النساء والأطفال.. لماذا يتحد الشرق والغرب ضدّ الدم الأرمني..
أورمية(*) البلدة المسالمة في حوض بحيرة وان.. الوحيدة التي لم تخضع لفارس ولا الاغريق أو روما وبيزنطه.. اول دولة مسيحية في القرن الثاني الميلادي تلاحقها الاضطهادات طيلة عشرين قرنا.. لكن ايغور.. بالكاد يذكر شيئا عن ذلك..
لم يذكر أحد حقيقة الجهة وراء الاغتيال.. أما القتلة فمجرد أدوات تعمل حسب الأجرة.. في بلد تسوده البطالة والجوع والفوضى.. الخبز خبز حتى لو كان أسود أو أحمر.. هل اغتالوه لشيوعيته.. بسبب غرامشي أو بيكون.. الدين أو الرأسمالية.. أم هؤلاء يتحدون مقابل عدوهم.. هذه أيضا من وصايا بيكون..
إذن مات بوتو ومات تيتو ومات ايغور.. اغتالوا الليندي وانديرا غاندي وابنها وفرج فوده.. الجريمة واحدة والدافع واحد.. الأداة واحدة والقاتل واحد.. قد تختلف الضحية لكن القاتل لا يختلف.. قد ينقسم الضحية لكن القتلة يتوحدون ويعتصمون برباط المال.. المال والبطن واحد.. وجهان لدونية الجوع.. أو وحشية البطن..
مات ايغور.. مسحوا اسمه من مجلس الحكم.. ألقوا مكتبته في ماء خراسان.. فاصطبغ بلون أحمر.. وعلى قبره طبعوا بصمة كف حمراء.. وداعا يا غرامشي.. هللويا فرانسس بيكون وفرانسس فوكوياما وكل فرانسيسه والعالم يتقدددم....
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
• ظهر الانترنت في الخدمة العامة في أواخر التسعينيات، ومع نقلة الالفية ظهرت شركات محلية بلدانية باطنة بالوكالة للشركات الأميركية الأصلية. أما خدمات اليوتيوب والفيس بوك فقد ظهرت العام (2004م) والتويتر العام (2017م).
• أورمية: مملكة عريقة في بلاد الأناضول شمالي بحر الخرز، أول مملكة اعتنقت المسيحية عام (150م). حافظت على استقلالها في عهود امبراطوريات فارس وروما وبيزنطه. والأرمن الى جانب اليهود من الشعوب القديمة التي حكم عليها بالتشرد والانتشار في الشرق والغرب، وما زالت محافظة على أصولها القومية الثقافية والدينية. وقد برز كثير منهم علماء ومثقفون وساسة وعسكر، في البلدان المقيمين فيها.

(48)
عندما استقبلت الشارع كان المساء جميلا.. الحركة مزدحمة.. الناس على الجانبين ذهابا وإيابا.. كلّهم مشغول.. يتحدثون ويضحكون.. يأكلون ويدخنون.. تسير داخل تلك الجموع وأنت لا تفكر.. لا تفكر حتى أنك وحيد أو غريب أو بلا أحد..
واصلت مسيري عبر محطة بادنغتون الرئيسة.. وأنا أتمنى مواصلة المسير هكذا.. جاء الباص الذي يمرّ عبر المكان الذي أسكنه.. صعدت للباص.. في لندره.. حركة الناس أفضل من جلسة الشقق أو الحجرات الصغيرة التي ينزلها الوحيدون/ السنغل..
وأنت في الشارع لا تفكر في العودة للبيت.. تتمنى أن يكون لك صديق أو جماعة تقضي معهم الوقت.. أين هم الذين أعرفهم أو يفترض أن نلتقي سوية.. كلهم مشغولون.. كلهم يكذبون.. لو كنت ذا مال ومركز.. لما تركوني أذهب للحمام لوحدي.. لقد جرّبت هذا وذاك..
في يوم الثلاثاء المصادف تاريخ الثالث عشر من يناير (الفين وخمسة)، اغتيل صديق طفولتي بثمانية رصاصات غادرة.. أطلقها ثلاثة ملثمين لم تورد وكالات الانباء شيئا عنهم.. في ذلك العام الخامس بعد الفين.. قررت المجئ الى لندره، بحثا عن الملثمين ومن وراءهم..
قال لي جهينة أن إطلاق النار حدث الساعة الثامنة صباحا.. موعد خروجه إلى العمل.. وأنهم كانوا ينتظرونه تحت شجرة أمام الباب.. وبعد الحادث انطلقوا في عجلة كانت تنتظرهم نحو الحدود الشرقية لمندلي..
تبين أن الشجرة تواطأت في الجريمة.. رغم أن صديقي الذي أعرفه منذ الطفولة.. ليس له عداء مع الأشجار.. أو العجلات ولا الحدود الشرقية.. كما أن الصديق الذي ياما انتظر لحظة موته من قبل، لم يكن يتشاءم من الرقم الثلاثة ومضاعفاته.. ولا حتى الأرقام الفردية..
ولا بدّ.. بناء عليه.. من وجود سهو في الموضوع.. لذلك كان الهروب نحو الشرق وليس الغرب كما هو معهود في نشرات الاخبار.. فكرة التلثم تتعارض مع مبدأ الشهرة التي يسعى إليها شباب اليوم الذي ينتظرون ظهور صورهم في وسائل الاعلام.. واهتمام الغرب بترويج تلك الصور مثل نجوم البوب في المسارح الغربية..
لا بدّ لجهة ما معاجلة تصحيح (السهو) وقبل أن يتحول القتيل أو أحد القتلة نجما في الأخبار.. وبعد أيام.. قال جهينة أن القائد الأمريكي في المنطقة تولى كافة الاجراءات.. ولكن الأخبار لم تورد شيئا عن شهامة القائد الأمريكي وكرمه العربي.. ولا نخوة قواته العابرة للبحار.. للامساك بأحد القتلة قبل الهرب.. يبدو أن الأمريكي يتجنب وسائل الاعلام والاعلان لسبب، ولا يريد الافصاح عن اسمه..
ولأن لندره فيها كلّ الأخبار ولا تخفى عنها خافية من خفايانا.. فلا بدّ أن يكون لديها الخبر الصريح.. لكنني لم أجد خبرا عن الحادث في شركة غوغل.. التي يقال أنها تعرف كلّ شيء.. لا شيء سوى ما كتبته أنا عن الحادث وعن ذكرياتي الشخصية مع صديق طفولتي الوحيد.. أما الضابط الامريكي الذي دفع فدية القتيل.. فلا أثر لاسمه أو رتبته في الأخبار..
وكيف تعرف الأخبار هناك بعد مقتل صديقي الذي كان مسؤول الجريدة.. يبدو أكثر شبابا وهو في الخمسين، كأنه في العشرين.. تلك هي آخر صوره التي أرسلها الي قبل الحادث.. نظرته الواثقة للأمام.. ولسان حاله يردد.. [مهر يعدو في الكون..]..


(49)
لمناسبة العام الثامن عشر من الألفية الثالثة.. أكتب الآن بعض خيبتي من هذا العالم.. في لقائي غير الأخير مع العمدة الاشتراكي حيث أقيم.. تحدث بأسف لانتكاسة العام الثامن للألفية الراهنة.. في الأوضاع السياسية للنمسا التي نعيش اليوم نتائجها..
ولأنني جئت إلى النمسا لاجئا من كوارث بلدي.. وجدت الكوارث والأزمات تتناسل في هذا البلد الذي يعرفه الآخرون عكس حقيقته وواقعه.. ولولا تلك الأغنية الدعائية لأسمهان لما عرف أحد طريقها.. تلك الأغنية التي قتلتها أيضا.. أسمهان أيضا قتلتها أغنية.. لماذا لم تغن للمتروبول والتايمز..
ليس من تلك الليالي غير موائد القمار وكازينوهات الأوتيلات الباهظة التي لا يعبر عتبتها غير أصحاب الشهادات البنكية المعتبرة.. كازينوهات المال والخمر والنساء.. التي لا يحبّ النمساويون أنفسهم أن يتذكروها..
هم يقولون إن نساء الكازينوهات من بلدان شرقية.. وعندما يدخل الأجنبي تأتيه واحدة تتكلم لكنة ألمانية مكسورة.. لكنني أعرف أن التشيك والهنغار يتكلمون المانية أفضل من الألمان.. اللكنة تظهر عند اليوغسلاف وما وراءهم.. ولكن نساء الأخيرات ليس لهن سوق في هذا المجال مثل تشيكيا وبولونيا.. وفي الألفية بدأت علب الليل تقدم الأوكرانيات والروسيات مكافأة لبلدانهم على انضمامها للناتو.. وهن أرخص الموجود..
مع بدايات الألفية زادت علب الليل زيادة كبيرة.. ووجدت لها مراكز في مدن لم تعرفها من قبل.. الحكومة لم تلتفت لاعتراضات السكان المحافظين الذي يقدمون احتجاجات تلو غيرها على زرع الأوكار بين بيوتهم البعيدة عن محلات الأسواق.. وأخيرا وجد أهل البلاد مجالا جديدا للاستثمار وكسب الأموال من البورديلز.. أعني مجال السمسرة.. أي سمسرة..
أحد أصدقائي الشعراء من أهل البلاد.. وهو مدرس ثانوي فاشل ويمارس وظيفة إدارية.. أصبح كاتبا وأصدر رواية يقلد فيها باولو كويلهو.. ولكي يشتهر ويتفوق على الأصل، أصر على توقيع نسخها الأولى في علبة بورديل عفنة.. رفض الرافضون وسخرت وسائل الاعلام من الفكرة.. لكنه أصرّ وأصرّ ولم يتراجع.. فالمقصود هو الضجيج والاثارة التي تجلب الشهرة.. وقد حصل لقاء ذلك على شهرة محدودة..
لقد دخل سوق الكتاب بعدما كان مغمورا.. وصار يرشح للمسابقات ولجان التحكيم.. لقد وجد مهنة جديدة ينشغل بها في سنوات تقاعده من التعليم.. وعندما شاركت في أمسية أدبية قبل مدّة.. كان يتقدم لجنة التنظيم.. يستقبلني بابتسامة وحفاوة وداع كبيرة.. وبعد المغادرة أرسل لي صور الأمسية بالايميل.. صرنا أصدقاء..
ربما كان عليّ اقتراف بدعة شاذة، من هذا النوع لتحقيق رواج لاسمي وكتاباتي، والخروج من سجن الحظ الذي وضعني فيه القدر.. هذا مفتاح مناسب لتغيير حياتي ونسيان الماضي واجترار مشاعر الندم والقنوط وتقريع ما حصل في العصر الحجري الثامن.. هذه الفكرة واتتني مؤخرا.. وأنا منشغل بها وأبحث لها عن مناسبة..
كان عندي صديقي.. بحسب تعريفه لهذه الكلمة.. لا يهم.. يتصل بي حسب هواه أو حاجته.. وعندما أتصل به نادرا، يعتذر أنه مشغول.. أيضا لا يهم.. في الفترة الأخيرة اشترى سيارة – على الزيرو- كما يقولون هنا.. وعندما تكون عنده مأمورية تعبانة يجدها فرصة للاتصال بي.. فيمرّ بي وأساعده في الموضوع.. ولأن السيارات الحديثة مجهزة مبدئيا بجهاز (التمتم) كما يسميه المصريون هنا.. ففي كلّ مرة يكرر علي سؤاله عن كود المنطقة وتفاصيل العنوان.. كما لو أنه يتبختر أمامي.. وأنا أقرعه بعدم الحاجة لترهات الفضائيات واعتبارها من وسائل التجسس الالكتروني.. بينما هو يسمع ويوافق ولكنه يفعل ما برأسه..
ولأنه لا يضبط مسيره حسب توجيهات الخاتون أم التمتم.. تجده يرتبك ويعيد الدوران في الساحات.. ويرجع في الفروع التي سبق مروره فيها.. وأنا مع كل دورة أزيده تقريعا وتوبيخا.. فيزداد هو عنادا وتكرار.. فيضيع في مشوار العشرة دقائق أكثر من نصف ساعة.. بل ساعة أحيانا.. بحسب عناده ومجهولية المنطقة التي يقصدها..
في المرّة الأخيرة التي التقينا فيها.. لم يعد يدقق الالتزام بتعليمات التمتم.. يدخل في أي شارع بشكل عشوائي ويقول وهو ينظر لنافذة التمتم.. (هو يصحح نفسه.. الآن يعطي خريطة جديدة).. وتنجح معه اللعبة.. هكذا صار يخرج من متاهته بدل الدوران لاتباع التمتم.. صار التمتم يتبع صاحبنا..



#وديع_العبيدي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كاموك- رواية- (36- 42)
- كاموك- رواية- (29- 35)
- كاموك- رواية- (22- 28)
- كاموك- رواية- (15 -21)
- كاموك- رواية- (8- 14)
- كاموك- رواية- (1- 7)
- في علم اجتماع الجماعة- ج2
- في علم اجتماع الجماعة- خمسون حديثا عن الانسان والانتماء والا ...
- انتبهْ!.. الوطنُ لا يُباعُ وَلا يُستبدَلُ.. وَلا يُطرَحُ للإ ...
- ما بعد الحداثة/ ما بعد الانسان..
- نحو علم اجتماع عربي..
- محاضرات في لاهوت العولمة
- (المسيح الثائر) في اسفار الشاعر الاشتراكي المصري أمل دنقل
- (المسيح واللصوص) للأديب والفنان الاشتراكي نجيب سرور
- (اعترافتان في الليل، والاقدام على الثالثة) للشاعر الاشتراكي ...
- منفيون في جنة ابليس
- مقامة الثامن من أوغشت..
- باسكال: بين الشك والايمان
- الميّت الماشي- قصيدة الأديب الاشتراكي توماس هاردي
- انا عندي حلم/ I Have a dream رائعة المناضل الانساني مارتن لو ...


المزيد.....




- -خاتم سُليمى-: رواية حب واقعية تحكمها الأحلام والأمكنة
- موعد امتحانات البكالوريا 2024 الجزائر القسمين العلمي والأدبي ...
- التمثيل الضوئي للنبات يلهم باحثين لتصنيع بطارية ورقية
- 1.8 مليار دولار، قيمة صادرات الخدمات الفنية والهندسية الايرا ...
- ثبتها أطفالك هطير من الفرحه… تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...
- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...
- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - وديع العبيدي - كاموك- رواية- (43- 49)