أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - وديع العبيدي - في علم اجتماع الجماعة- خمسون حديثا عن الانسان والانتماء والابداع















المزيد.....



في علم اجتماع الجماعة- خمسون حديثا عن الانسان والانتماء والابداع


وديع العبيدي

الحوار المتمدن-العدد: 5971 - 2018 / 8 / 22 - 21:20
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


وديع العبيدي

في علم اجتماع الجماعة..
(خمسون حديثا عن الانسان والانتماء والابداع)

Wadi Ubaidi
The Sociology Of Plural being


فهرست..

- تقديم.. (نكون أو لا نكون!)..

القسم الأول: جغرافيا العرابيا وتاريخها..

- في علم اجتماع الجيولوجيا..
- في علم اجتماع العرابيا..
- التوطن العربي تاريخيا..
- أور ذات الأسوار..
- فينيق لبنان..
- عرابيا الجنوبية: (ممالك اليمن وأرم/(حضرموت) وعُمان)..
- عرابيا الوسطى: (ممالك نجد وحوض الخليج)..
- عرابيا الشمالية: (ممالك الشام والعراق وسيناء)..

القسم الثاني: في علم اجتماع البداوة..

- في علم اجتماع البداوة..
- عن النسب والقبيلة..
- الأم ليست الأصل..
- الحاضنة الاجتماعية..
- العائلة والاستقرار..
- النظم العلائقية ومبادئها..
- غرائب الاغتراب..
- الصحراء هوية ومرجعية قيمية..
- من البحرين إلى النهرين.. تغريبة الماء..
- الجماعة الزراعية والجماعة الصحراوية..
- نجد وتهامة.. حتمية الجغرافيا والتاريخ..!

القسم الثالث: في علم اجتماع القبيلة..

- قبيلة.. قوم..
- أمّة.. اميّة..
- مزدوجات سوسيوثقافية..
- أمة.. لسان..

القسم الرابع: في علم اجتماع الحجاز..

- قريش.. قراءة راهنية..
- تاريخ مكة..
- كعبة مكة..
- أصل قريش..
- (القرآن)..
- اشكالوية زمكانية..

القسم الخامس: في علم اجتماع العروبة..

- (المدينة)، القرية والبداوة..
- الأم والأمّة..
- مصادر المعلومات العربية..
- تأطير ايديولوجي..
- وحدة ثقافية وتعددية قومية..
- العروبة.. القومية..


القسم السادس: العرب والقرن العشرون..

- العرب.. اصطلاحا..
- العروبة اصطلاحا في القرن العشرين..
- في علم اجتماع العثمانيين..
- في ظلال بني عثمان..
- تاريخ الأخطاء..
- نظرة مقارنة..


القسم السابع: عرب والألفية الثالثة..

- اللغة في مرمى العولمة..
- عرب وغرب..
- المدينة.. القرية.. البداوة.. من الجانب الآخر..
- قصور تنويري..
- علمانية مشوّهة..
- خروج من الهامش..
- عودة للصفر..
- اتحاد المشرق العربي..





أنا وأنت ولا عنوانَ يجمعُنا
غيرُ المهاجرِ لا مالٌ ولا جاهُ
أنا وأنت كلانا يقتفي أثرا
قد امّحى كثرَما من قبلنا تاهو
أنا وأنت وما في الأرضِ متّسعٌ
في الرّوح، أو في النفس نلقاه
كلّ ينوحُ ويشقى في ندامتِهِ
أينَ البلادُ وأينَ الأمُ، أختاهُ! - وديع العبيدي


"يوشك أن تتداعى عليكم الأمم، كما تتداعى الأكلة
على قصعتها! قالوا: أ وَ عن قلّة نحن يومئذ؟ قال:
لا.. بل أنتم يومئذ كثير. ولكنكم غثاء، كغثاء السيل!
/ محمّد بن عبدالله

"ان المجتمع العربي متعدد سياسيا، على الرغم
من نظام الوراثة والاستبداد الذي يسوده؛ وأنه
متنوع دينيا، على الرغم من أكثرية اسلامية و
أقليات غير اسلامية؛ ومتفرع ثقافيا، على الرغم
من الثقافة اللسانية العربية الجامعة!".
/ خليل أحمد خليل

"هناك أشياء كثيرة في حياتنا العربية المعاصرة،
فقدت تألقها، بل لم يعدْ لها معنى أو قيمة. كأنّ
الحياة المنشقة على نفسها، والتي يهيمن عليها
غير المنطقي وغير المعقول وغير المألوف،
جعلتْ كلّ شيء كأنه لا دور له ولا رسالة ولا
بريق. تسود حياتنا الفكرية والسياسية والثقافية
عموما، أفكارٌ غامضة ومسلّمات، لا تعبّر إلا
عن أن أمتنا تقف خارج التاريخ، وخارج
الحركة، وخارج القيم الإنسانية، التي تمثل
جميعُها، حوافز الوجود والدفاع عن الوجود.
وكأننا فرحون، بأنّ الغير سمح لنا أن نعيش،
مجرّد أن نعيش، ممزّقين وغير فاعلين، ومن
دون ثقة بالذات، والإيمان بأننا نستطيع أن
نعيدَ صياغة صورة مشروعنا القومي."/
حسن أحمد اللوزي: شاعر ووزير يمني سابق


"اننا محتاجون إلى خلق الظروف التي من
شأنها، أن تجعل الإنسان: الفريد في الطبيعة،
الهدف الأعظم لكل الترتيبات الاجتماعية.
الحريّة الأصليّة والاستقلال، والقضاء على
كلّ أشكال السيطرة والاستغلال، هي
الظروف الكفيلة بتحفيز دوافع الحبّ والحياة.
انّ الخلاص، بأيّ معنى، لا يمكن أن يتأتى،
الا من خلال تغييرات حاسمة في نظامنا
الاجتماعي والسياسي، بحيث تعيدُ للإنسان
دوره الايجابي الجميل في الوجود والمجتمع".
/ اريك فروم

"يصبح التأريخ علما، عندما يعمل دارسه على
اكتشاف حركته، وينقّب عن جذورها الخفيّة في
فترة البطء، ثم يتبين ترعرها بعد ذلك. وحينئذ
يمكنه استخلاص الدروس من التأريخ. فلا يعود
فقط مجموعة من الأحداث، بل موجِّها لمن يريد
تخليص بلاده وشعبه". / أحمد صادق سعد



[1]
تقديم.. (نكون أو لا نكون!)..
"التاريخ هو الجغرافيا منظورا إليها من فوق!"- رولان بارت

(1)
أمران يساهمان في بناء شخصية الانسان: بيئته الجغرافية، وبيئته الثقافية*!.
ولا مناص من التعرف إلى طبيعة كلّ منهما وخصائصها، للوقوف على تعريف (الانسان) ومفهومه، طبيعته الاجتماعية وخصائص تكوينه النفسي، دوافع نشاطه واتجاهاته وميوله. وقد تكونت عبر الزمن نظرات عامة، متباينة، لآبناء الدائرة الجغرافية المحددة، بشرق المتوسط وجنوبي غربي أسيا، وهي – حسب المتعارَف- نظرات ذات أصول عدائية عدوانية، يصدرها الندّ، المناوئ، الطامع، أو المتضرر، بحسب مكانزمات آلية الهجوم والدفاع، التي وسمت ولما تزل تسم، مجال العلاقات الدولية، وتنعكس على مجالات الثقافة والاجتماع.
وفي ظل هذا المفهوم الجامع بين [الغرابة والتناقض]، تتشكل الثقافة المعاصرة والمعارف البشرية، ذات المرجعية الغربية الامبريالية، واحتكارها مصادر المعرفة والمفاهيم وتوجيه الابتسمولوجيا، في كل مجالات المعارف والتخصصات العالمية والمحلية، الطبيعية والعلمية، اللغوية والثقافية. هاته الثقافة التي وصفها ادوارد سعيد بالامبريالية، ونسبها محمد اركون إلى أيديولوجيا المركزية الغربية، تسبق أصولها عصر التنوير والنهضة، كما تسبق ظهور الميديا الالكترونية والرأسمالية العابرة للحدود، إلى بواكير عصر الانتيكا، مؤسسين بذلك منهجا فكريا، استحال إلى أسس وأطر المنهجية الأوربية الغربية السيادية في العالم.
وعندما تهيأ للعقل العربي المسلم –بين القرنين السابع والعاشر الميلاديين-، تأسيس/ إعادة تأسيس المنظومة المعرفية المحلية والعالمية؛ لم يفت الصليبية الغربية، أزاء احتياجها المسيس لقواعد المعرفة والعقل العلمي، الحذر الشديد واعتماد (الفصل والتمييز) في تداول منتجاتنا. وتعدّ أزمة توما الأكويني [1225- 1274م] مع كنيسة روما، مثالا حيّا ودليلا تاريخيا على العنصرية العدائية التي انطلقت منها الوثنية الكاثوليكية، في النظر للآخر، والتأسيس لنظام القرصنة* الذي سوف يتبلور في الرأسمالية الوظيفية* والأيديولوجيا الكولونيالية الامبريالية الممتدة لليوم بغير انقطاع.
فالصراع بحسب واقعنا الحالي، ليس عسكريا ولا اقتصاديا ولا دينيا، وانما هو يبدأ داخل العقل، ويشتغل على الفكر، لصياغة/ إعادة صياغة الثقافات العالمية والمحلية، وقواعد المفاهيمية الفكرية للابتسمولوجيا المهيمنة. الثقافة هي المهماز الرئيس للفرد. الثقافة التي يعيد النفسانيون أصولها إلى العقل الباطن وتراكمات اللاوعي وشرائط الوراثة الجينية تارة، وإلى قواعد التربية العائلية والاجتماعية والمدرسية والاعلامية، تنعكس وتسهم في صياغة مجالاتها النفسية والعقلية والسلوكية.
الثقافة هي الحضارة، بتعبير أدق وأكثر أصالة. الحضارة بوصفها (إضافة/ مضافة) للطبيعة والفطرة؛ بوصفها الوعي (الفاعل) المضاف للاوعي (السلبي)، وأخيرا: بوصفها إرادة الفرد/ (الذات الجمعية) في صناعة الواقع والتاريخ. ولعلّ هذا يكشف عيبا بنيويا عربيا، عندما صير إلى الفصل بين (الحضارة) و(الثقافة) لغويا وابتسمولوجيا. فحيل بين الفرد العربي وبين المساهمة الحضارية من جهة، واختزل مفهوم (الثقافة) في أنماط التعبير الأدبي والفني. وهو أمر غير كائن شمال المتوسط.
انحسار (الثقافة) في أنماط تعبيرية أدبية وفنية، لم يعزله عن الجهد الحضاري فحسب، انما عزله وهمّشه عن ممارسة دوره الاجتماعي العضوي في التفاعل والتفعيل مع الحراك المجتمعي، وفي أحسن الاحوال، جعله تابعا/ مادحا/ نادبا يتبع مؤخرة القافلة. الثقافة ليست نمطا أدبيا تابعا وانما هي معيارية العقل الحضاري. وتهميش الثقافة كانت تهميشا لدور العقل في الواقع التاريخي العربي. وبخلود العرب خارج (الحضارة) و(العقل)، وجدوا في تقديس الماضي والمغالاة في تاويل الدين، تعويضا سلبيا، لم يثنهم عنه، اشتساع البون التاريخي بينهم وبين العالم، بين شرق المتوسط وشماله.
وبينما كانت الثقافات الطبيعية* المحلية، المتجسدة في العادات والتقاليد والأعراف الاجتماعية والدينية، إضافة، وعالة، على تفاعل الفرد المباشر مع بيئته وظروفه؛ فأن خطورة مشروع التنوير والحداثة، الذي رفع لواء الثورة والتمرد، على المنظومات التقليدية في الثقافة والاجتماع، وقام بتجنيد ناشئة (التعليم والتحديث) أولا، والدولة المدنية الحديثة ثانيا، أدوات لتكريسها محليا، في الثقافات البلدانية التقاليد الموروثة لمجتمعاتها، تحت عنوان التحديث والعصرنة؛ انما شكل ويشكل آلية هيمنة وغزو فكري، لاستبدال التقاليد المحلية الطبيعية، بأطر تقاليد غير محلية مستوردة، رافقت واقترنت بعصر الكولونيالية الرأسمالية الامبريالية، والتي انتهت بالعالم المعاصر، إلى حالة من (انسلاخ) عن الواقع الطبيعي الميداني، وفصام/ (مسخ) نفستاريخي عن الهوية الوطنية والقومية؛ استغرقت ولما تزل مسيرة، بدأت بمناهج التعليم والفلسفات التربوية الدخيلة، الى الاملاءات السياسية والتغيرات الاقتصادية، ومجالات الاعلام والأكاديميا والنت.
فالحداثة بهذا المعنى، ونحن نقرأها في أعتاب الألفية الثالثة، هي الانسلاخ عن البيئة والتراث والهوية الوطنية، والتطور هو الانفصام/(اللاانتماء) عن منظومة التفاعلات الجغرافية الطبيعة المحلية، والخضوع لـ(ثقافة الغازي المتفوق: عسكريا وحضاريا)، في منظومة تفاعلات امبريالية رأسمالية، تمسك بخيوطها الرئيسة غرفة التجارة الأمريكية ومؤسسة النقد الدولي، المدعومة بجيوش الناتو وقرارات مجلس الأمن الدولي، الذي هو بالأساس من انتاج غربي أميركي*، لتمرير سياساته واملاءاته إلى/ على شعوب العالم..
ان عبوديتنا للسياسات الرأسمالية الامبريالية الغربية، لا تنحصر في نظامنا النقدي القائم على (دولار) أمريكي، ولا نظام التبادل التجاري مع السوق الغربية القائمة على الانفتاح الاقتصادي القهري والمنافسة غير المتكافئة، وانما تكمن في مرجعيتنا الفكرية، الثقافية والاجتماعية، السياسية والدينية، التي تترسخ يوما بعد يوم، وعاما بعد عام، في تقمص شخصية الغازي القوي، والتمثل به لدرجة الذوبان والاندماج التام، حيث يتجه الحراك البشري العولمي اليوم باندفاع قوي نحو الغرب، ومنظومته الشمولية واملاءاته المستمرة تحت عناوين ومزاعم وبرامج دعائية متنوعة، تضمن استمرار هيمنة (الغرب) على كلّ المجتمع البشري، ومن غير منافس، مقابل التغييب الممنهج للكيان الحضاري والحراك السوسيوسياسي لمجتمعات العالم خارج الجغرافيا الأوربية والغربية!.
من هذا المنظور، جاء هذا الكتاب، لتقديم قراءة جيوتاريخية، اجتماعية ثقافية، تركز على عوامل البيئة الطبيعية والبيئة الثقافية بشقيها التراثي والمعاصر، للانسان الفرد والشخصية الجمعية، وآفاقها الزمنية والمستقبلية، تعيد في خضم ذلك استعادة الأسئلة الوجودية الرئيسة: [ماذا- لماذا- كيف]، وتطبيقها في واقع اجتماعي عربي راهن. فمن غير فهم أنفسنا وذواتنا المحلية والتاريخية، من غير مراجعة ومواجهة ونقد وتحليل، لن نتوفر على الوعي التاريخي السياسي أو الوجودي، ونتمكن من توجيه سلوكنا ونشاطنا الفكري والانساني في مسيرة الأمم..
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
• هذا المنظور في تعريف الانسان، يؤكد على الهوية المحلية للاجتماع البشري، وينفي وجود تعريف مطلق موحد، يتم فرضه على البشرية في كل العالم زمكانيا، على اساس معيارية أوربية، تعتبر كل سكان العالم خارج اوربا دونها في كل شيء، وهي أساس ومنطلق الأيديولوجية العنصرية النازية التي يتم في كل عصر بمبررات وأصباغ دينية وعلمية وعسكرية وسياسية. ونفي التعريف الموحد للانسان ولعلم المصطلح عموما، ينفي مبدأ وحدة الثقافة والعلوم والفكر الديني والفلسفي.
• رغم وجود سوابق تاريخية لزحف الغرب على الشرق، سابقة لظهور المسيحية والاسلام، بضمنها حملة الاسكندر المقدوني [333- 313 ق. م.]، فأن القرصنة الممنهجة أو المنظمة كانت على يد الكنيسة الكاثوليكية عبر الحملات الصليبية التسعة المتعاقبة [1096- 1270م] بذريعة دينية ظاهرها احتلال القدس/ فلسطين، وحقيقتها السيطرة على كامل حوض المتوسط الذي سبق للاغريق والرومان وبيزنطه سيادته، وهو بدوابة أوربا نحو اسيا وأفريقيا وطرق التجارة الدولية البرية/(طريق الحرير القديم) والملاحة البحرية لاحقا، وما يزال نفس المشروع قائما جغرافيا واقتصاديا وسياسيا ودينيا. فالحملات الصليبية وضعت مخططا عسكريا سياسيا مؤدلجا ينظم أطماع السيادة الغربية وامتدادها شرقا؛ ومع تراجع النفوذ السياسي لروما وبيزنطه في القرن الخامس عشر، تظهر معاهدة (تورديسيلياس/1494م) لتقسيم العالم بين البرتغال واسبانيا بمباركة بابوية وبما يشكل امتدادا للحملات الصليبية من جهة، ومدخلا للقرصنة البحرية والحركة الكولونيالية الامبريالية الأوربية المستمرة في أول عقدين للألفية الثالثة.
• الرأسمالية الوظيفية: اصطلاح براغماتي محدث مستعار من عبد الوهاب المسيري [1938- 2008م] استخدمه في صورة (اليهودية الوظيفية).
• الثقافة الطبيعية: هي الثقافة الفطرية المتوارثة والمتشكلة مبدئيا كحاجات انعكاسية مرادفة لعوامل الطبيعة والبيئة. فثقافة البدو وعاداتهم وأنماطهم معيشتهم وتفكيرهم، منعكسة عن ظروف الجدب والتصحر، وثقافة الريف الزراعي انعكاس لمظاهر البيئة المائية والزراعية، وهكذا. ولكنها بالنتيجة ثقافة سلبية، يكون الانسان فيها تابعا للطبيعة، وما زالت الثقافات البدوية والريفية، القبلية والعشائرية، الدينية والطائفية في صياغاتها الأحدث، تسود الواقع والعقل الاجتماعي العربي.
• تكشف مضمون منظمة الأمم المتحدة، وتوجيهها من قبل موظفي الخارجية الأميركية، بعد غياب الخطر السوفيتي أولا، والغزو الاميركي للعراق ثانيا.

(2)
تعود ملامح تشكل الجغرافيا التاريخية لبلادنا، إلى العصر الحجري الحديث [8000 ق.م.]، انتقلت فيه مظاهر المعيشة من نظام الصيد والتخزين، إلى الزراعة وتربية الحيوان وبدايات الاستيطان والاستقرار. هنا تشكلت أولى التجمعات البشرية واستقرارها في مكان محدد يؤمن لها احتياجات المعيشة والأمن، وتتشكل فيه ظروفها وملامحها النفسية والسوسيوثقافية، عبر عملياتية متبادلة فاعلة، بين عوامل الطبيعة والمكان والنشاط البشري للجماعة المتضامنة.
فالاستقرار البيئي مضافا إليه النظام المعيشي المستمر، أنتج سياقات معينة من علاقات اجتماعية منظمة بمبادئ وقيم وعادات، سوف تأخذ مفهوم تقاليد وأعراف مشتركة. التقاليد والأعراف هي جماع تفاعل عوامل البيئة مع النشاط البشري للجماعة المحلية وحاجاتها وتطلعاتها. وتعمل منظومة الأعراف والتقاليد على صيانة نفسها/(هويتها) واستمرار تفاعلها مع تغيرات عوامل البيئة وحركة المستجدات، وبشكل يضمن أصالتها وصلتها بالمكان والموروث، دون أن ينقطع عن الحاضر، أو يتعرض للمسخ والانسلاخ، أزاء حركة الطوارئ والموجات العابرة.
التجمعات السكانية/ القروية الصغيرة، سوف تنمو وتزدهر عبر أحقاب زمنية وحراك مدني اقتصادي، لتظهر مستوطنات بشرية أوسع من جهة الكثافة السكانية ومساحة المكان والحراك السوسيوقتصادي. هذا النشاط الانساني الابداعي المتواصل، دعا المؤرخين لوصفه بالثورة النيوليثية/(Neolithische Revolution) التي أنتجت الحضارات المتقدمة الأولى، والتي تحدد محيطها الجغرافي بين وادي النهرين ووادي النيل.
تعود بدايات زراعة البذور والحبوب إلى الألف الثامنة ق.م.، حيث جرى اصلاح الأرض وتهيئتها لمستلزمات وشروط الزراعة. ويبدو أن تراكمات أرساب الأنهار في أهوار العراق ودلتا النيل ووفرة المياه الدائمة، كانت محفزا لظهور وتطور هذا النظام الزراعي. كما رافق زراعة الحبوب والبذور الجافة، اكتشافات مستمرة لأنواع جديدة من نباتات الخضرة والفاكهة.
الزراعة الدائمية استلزمت دوام استيطان الفلاحين لمدة طويلة في المكان. وهذا يعني بناء دور ومساكن لحمايتهم من ظروف المناخ وتغيرات الطقس ، وتلبية احتياجات المعيشة والراحة والنوم. وكان لابدّ للجماعة المشتركة والمتكافلة في نظامها الزراعي والمعيشي، أن تبني مساكنها بشكل مشترك ومتقارب، وبما يتناسب ويوفق بين الحاجات الاجتماعية والأمنية، ومتطلبات العمل والانتاج الاقتصادي. فظهرت ملامح القرية الزراعية القديمة، والتي هي أقدم مظاهر الاستيطان والتمدن البشري عبر الزمن. كما رافق هاته المرحلة، بدايات اقتناء الحيوانات وترويضها، لخدمة حاجات الانسان والمجتمع المتمدن، ومن أوائل الحيوانات المدجنة في بلادنا كانت [الكلب، الحمل، المعزة، البقرة].
ظروف الزراعة والمناخ والاستيطان، استولدت حاجة دائمة، لمراعاة حالات انقطاع الزراعة أو حصول نكبات تعثر الانتاج، نتج عنه اعتماد نظام (تخزين) نسبة من الانتاج الفائض عن الحاجة سنويا. فألحقت بكل قرية، أبنية خاصة تصلح كخزانات للحبوب ومواد المعيشة الجافة، مما يمكن الاستفادة منه في أوقات الجفاف، أو خارج موسم الانتاج. وفضلا عن بيوت الخزن الكبيرة: (خزانات طينية مفخورة)، ظهرت وسائل خزن منزلية أصغر حجما مثل الجرار وأوعية الفخار. والسيراميك التي بقيت في الاستخدام المحلي المنزلي حتى عهد قريب. ويعتبر اكتشاف السيراميك من العلامات ذات الضرورة المميزة للعصر النيوليثي الحديث/(3000 ق.م..)
صناعة الفخار والسيراميك، ساعدت أيضا في انتاج أنواع مختلفة من العدد والأدوات والآلات التي يحتاجها الانسان في حياته اليومية، في حاجاته المنزلية أو عمله الزراعي والاقتصادي، أو لأغراض أمنية دفاعية. وإلى جانب الفخار استمرّ الانسان في تصنيع بعض حاجاته ومستلزماته اليدوية من تقطيع الحجر والصخور، وبلورة حافااتها وأشكالها.
يرتبط أقدم استخدام للعدد والأدوات اليدوية بعظام الحيوانات، ثم العدد والـأدوات الحجرية في زمن يعود إلى (100- 10) ألف عام ق.م... ومن تلك العدد ما يستخدم كسكاكين ومجارف وصحون وغيرها من حاجات العائلة اليومية المباشرة. وفي خلال هاته الحقبة من الانتاج وتخزين الانتاج و ازدهار تصنيع العدد والالات اليدوية، ظهر التبادل الاقتصادي السلعي/(اسلوب المبادلات التجارية)، التي شملت لاحقا بعض أنواع الحيوان، وذلك قبل اكتشاف الذهب واستخدامه وسيلة للتقييم، والتي تطورت لاحقا إلى ظهور عملة معدنية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
• تزعم الابحاث التاريخية مرور الأرض بأحقاب طويلة من الانجماد والتصاعد الحراري وبشكل متبادل، يقدر بداياتها بمليوني عام، واستمرت إلى حوالي مائة ألف عام، كان لها تأثير وانعكاس في ظهور وتشكل المنظومة الحيوية للطبيعة والنوع البشري. وبحسب الانثروبولوجيا الغربية كانت مراحل تطور النوع البشري من أصول بدائية كما يلي: (Homo habilis) في شرق أفريقيا قبل مليوني عام؛ (Homo erectus) انتشر في العالم القديم واستمر وجوده حتى مائة الف عام؛ (Homo neanderthalen) كان وجوده بين سبعمائة ألف عام حتى عشرة آلاف عام، وذلك خلال حقبة ثلجية عنيفة؛ (Homo sapiens) ظهر في شرق أفريقيا منذ مائتي ألف عام، وهو الانسان المعاصر. وقد كان الانسان عبر مراحله حرفيا يدويا يخترع ويبتكر ما يلبي احتياجاته، وقد بلغت مخترعاته ومبتكراته ذروتها في عهد الهوموسافينز، وهو الذي تتطور وسائل معيشته من الالتقاط الى الجمع والخزن والصيد والزراعة والاستيطان وتربية الحيوانات في الالف الثامنة ق.م...


(3)
في أواخر الألفية الرابعة ظهرت سلسلة من حكومات المدن/(Stadtstaaten) ذات الاستقلالية والاعتماد الذاتي في (سومر)/(Sumerer). ومن أبرز تلك المدن/ (الأمارات): أور، ارورك، كيش، لاكَش. خضعت تلك المدن لنظام مدروس، مشترك يتسم بالاعتدال، العامل المشترك بينها هو الزقورات/(Zikkurat)، بمثابة المعبد، ويكون بناؤه على شكل هندسي مربع/ مكعب له جوانب مائلة على شكل مدرج، تنتهي بساحة مربعة مستوية هي مركز الآلهة. وفي سومر تتشابه بيوت الآلهة والكهنة الملوك.
الفكر السياسي السومري، أو نظام الحكم الرافديني القديم، كان حصيلة تأمل ومعاناة طويلة، لدراسة مغزى الحياة ومعنى الوجود، ودور (الانسان) المتميز بالحركة والعقل والذراع، في منظومة الطبيعة. وكانت نتائج تلك التفكرات والتأملات والأسئلة ايجابية، بغض النظر عن مستوى تحديد ذلك الايجاب، وطرائق توصيفه والتعبير عنه. المميز في تلك النتائج هو ادراك دور الانسان في صيرورة الحياة، ودور (الفرد) في الاشراف والانشاء والتحكم.
ثمة ركنان رئيسان للفكر السومري الرافديني القديم: أولهما أنه موضوعي غير ذاتي، وثاينهما أنه روحي غير مادي!. فحسب عقيدة السومري لا تشكل الأرض مركز العالم، ولا بداية الحياة ونهايتها. وانها –انما- تابعة لمركز أكبر وأقوى، هو خارج محيطها، وهي بالتالي داخل محيطه ومجال تأثيره. وقد احتلت السماء أهمية مركزية في عقل السومري، وكانت مركز انبهاره وتعلقه، فجعل منها (مركز الوجود والحياة والقوة).
بناء القرية السومرية، - وهي قرية مدينية منفتحة- يضاهي رسما تصوريا ذي مصدر سماوي، يتجسد عبر التشكل الدائري لمنظومة القرية. والدائرة لا تقوم بغير مركز. ومركز القرية السومرية هو (زقورة)، ترمز لارتفاع السماء عن الأرض، وتجسد مصدر القوة والسلطة على الأرض. النظر للزقورة والتوجه إليه، هو بمثابة التوجه إلى السماء، والحاكم السماوي الذي يظهر في هيئة النور/[الشمس في النهار والقمر والنجوم في الليل].
(الإله) هو مركز حياة الإنسان، مغزاه وغاية نشاطه. والزقورة، بوصفها (معبد)/(بيت) تجتمع عليه رموز الآلهة التي تشرف على نظام الطبيعة وتبارك أسباب الحياة والتغيرات الطبيعية، هي (مصدر القوة والسلطة) أولا، وهي (المثال والنموذج) الذي ينبغي لكل فرد الخضوع له والتمثل به واقتداؤه في حياته، ثانيا. الزقورة والقرية السومرية، هي تجسيد وجود صلة مباشرة بين السماء والأرض، بين [الإله- الانسان]. ولا نعرف كثيرا عن سكان سومر، لكن الاشارات واضحة إلى (تأله) أوتونبستي وزوجته –بعد موته!-، وكون (جلجامش) يتألف من ثلثين مؤلهين وثلث بشري.
ظهور (الكهانة) يرجع إلى الفكر الديني السومري، أو الفكر الديني الرافديني السابق لسومر. لكن الكهانة لم تنفصل عن السلطة والحكم، ولهذا اصطلح عليها بنموذج (الملك الكاهن/ الكاهن الملك) وهو النموذج الذي سوف يتكرر بأنماط ومسميات متباينة في أماكن أخرى، ومنه الدول القديمة في اليمن [المعينية والسبئية والحميرية والكهلانية]. هذا التداخل بين الكهانة والحكم، لا ينبغي تفسيره – رجعيا- حسب الفهم المتأخر لمعنى وسلطة الكهنوت، وانما هو ، بتعبير مباشر وبسيط، اجتماع السلطة السماوية والأرضية في شخص واحد. ومن الملاحظ أن ملوك سومر الأحياء لم يؤلهوا أنفسهم، على طرز الفراعنه، وانما اكتفوا بمرتبة (الكاهن) خادم الـ(إله) وممثل سلطته: (النائب عنه) على الأرض. وهو ما يستمر تقليدا ثابتا، في مثال حمورابي الذي يستلم نصوص الشريعة من [الإله- شمش].
أن مفهوم الكهانة وطبيعتها الأصلية في الفكر الرافديني القديم، مختلف تماما عما هو في مصر، أو تقاليد اللاويين. فأن مفهوم (الدين) السومري والرافديني القديم، مختلف تماما، عما المعروف والمتعارف اليوم، أو ما تشكل لاحقا، عبر منظومة متنوعة معقدة، في الدين العبراني والصليبية الغربية. فالدين الرافديني القديم أدنى لمفهوم فلسفة الطبيعة والتأمل العقلي في الوجود من جهة، والممارسة اليومية لحياة الحكمة والفضيلة كغاية مثلى يسعى السكان لتمثلها.
الدين السومري يعتمد على مركزية الشمس والقمر والمجموعة الشمسية/(الفلكية). وقد عرف السومريون في زمانهم خمسة من أعضاء المجموعة الشمسية، والتي استمرت كذلك حتى بداية العلوم الحديثة في عصر النهضة. ولابدّ من تنويه، إلى أن قراءة الاثاريين المتأخرين لعثريات سومر وسواها من التواريخ القديمة، محكومة بإسقاط رجعي*، لمعلوماتهم ومعارفهم الدينية اليهمسيحية والوثنية اللاتينية الممتزجة بها. وهذا يقتضي منا تشذيب معارفنا عن تواريخنا من الآثار الغربية المتداخلة في قراءتها من خلال الاثاريين والمؤرخين الغربيين، أو المتاثرين بهم.
ــــــــــــــــــــ
• الاسقاط الرجعي: المقصود به خضوع القراءات والجهود البحثية الحديثة لمركزية العنصرية الغربية التي تضع نفسها بمثابة العقل والمثال للعالم والتاريخ، ولذا اقتضى التنويه!.


(4)
جميع أراضي البلاد من ملكية المعبد/(الإله)، والعمل في الأرض ذو صفة جماعية تكافلية، يتضامن فيه كل أفراد الجماعة، بتمثيل أنفسهم وعوائلهم ونيابة الجماعة ككلّ. لكلّ جماعة أراض محددة ومسؤوليات وتخصصات متفق عليها، وتقوم كل واحدة من الجماعات المشمولة بحدود القرية/ الحاضرة بتقديم غلتها لهيئة مركزية، وبالمقابل تحصل على الدعم والمساعدة والحماية، في حالة الخلاف أو حاجتها لامكانيات إضافية.
الفلاح حرّ في حياته، ولكنه عضو في جماعة عمل تضامنية، وملزم بأداء دوره في الانتاج الاقتصادي، يحيث يكون ضامنا لاستمراره في الجماعة وحياة القرية، وتأمين حاجاته الشخصية والمعيشية. وكلّ جماعة ذات تكوين ونشاط لا مركزي على مستوى العمل، ولكنها مرتبطة بالهدف والمسؤولية بجهة مركزية. فكلّ جماعة داخل القرية، وكل القرى ضمن المملكة، تعيش حالة من حرية ولامركزية نسبية، ولكنها خاضعة للسياسة لنظام ادارة واشراف مركزي، لتأمين الأهداف العامة وصيانة المسؤولية الوطنية.
يقوم الفلاحون بتقسيم غلة الانتاج لهيئة ادارية مركزية تابعة للمعبد/(دارة الحكم). ويقوم موظفو المملكة باحصاء المحصول الاجمالي السنوي، وتوزيع الصافي على سكان المملكة بالتسااوي، وفق جداول ودفاتر خاصة. ولضبط نظم الادارة السومرية، اخترعوا الكتابة المسمارية/(Keilschrift). وقد سبق السومريون في اختراع البناء بالطين والقصب، وذلك حسب نظام الطابوق/(طين مفخور تحت الشمس)، وذلك قبل انتشاره في مشارق الأرض ومغاربها. كما استخدم ملوك سومر العربات الحربية والملكية ذات أربع عجلات تجرّها الخيول، في مناسبات الحروب والاحتفالات والتنقل. من صادرات سومر الرئيسة كانت الجرار والمنسوجات، تباع في حوض المتوسط مقابل الذهب والفضة.
في حوالي عام (2000 ق.م.) ساد الأكديون* في بلاد سومر واستحلوا السلطة والنفوذ. واستطاع سرجون الأول [2350- 2300 ق.م.] توحيد ممالك سومر تحت سلطته وبناء أول امبراطورية في التاريخ، بلغت حدودها من حوض الخليج جنوبا، حتى شواطئ المتوسط غربا وشملت أسيا الصغرى. وقد منح نفسه لقب: (ملك الجهات الأربعة)، وكثيرا من صفات الألوهة. كانت عاصمة حكمه في مدينة (أكد) إلى الشمال من بابل، والتي تبعد عشرة كم غربي بغداد العباسيين.
في القرن الثامن عشر ق.م. قام حمورابي [1728- 1686 ق. م.]* ببناء امبراطورية عظيمة في بابل/(المملكة البابلية القديمة). اهتم حمورابي ببناء التحصينات الحربية والمعابد، أنشأ المدن وشبكات الريّ. وتعتبر لائحته القانونية/ مسلة حمورابي أبرز منجز قانون دستوري حتى اليوم,. بعد سنوات من موت حمورابي اجتاح الهيتيون بابل وأحالوها خرابا.
في القرن الرابع عشر ق.م. تأسست المملكة الاشورية* شرق نهر دجلة، في مدينة نينوى عاصمتهم. وعبر سلسلة حملات عسكرية قاموا بتوسيع نفوذهم السياسي، واتبعوا سياسة نقل وتوزيع السكان وإعادة توطينهم في أماكن أخرى، حسب رؤية الحكام وحاجات الدولة. بلغت أشور ذروة مجدها في القرن السابع ق.م. في عهد اشوربانيبال الذي عنى بعمران مدينة نينوى وجعلها تحفة الرائي، وألحق بها مكتبة عظيمة هي الأولى من نوعها في التاريخ، تضمنت حوالي اثنين وعشرين الفا من الملفات تحتوي على معظم معارف العالم حتئذ. وقد عثر فيها على نسخة من ملحمة جلجامش في القرن التاسع عشر. كما عرف ملوك أشور برياضة صيد الحيوانات البرّية أو المتوحشة، وهم في عرباتهم الملكية كما نقلتها رسوم سطوح الجدران الموثقة في متاحف انجلتره.
الجدران الداخلية والخارجية لقصوره وحجراتها الداخلية مغلفة بالمرمر والسيراميك الملون والمرسومة عليها صور وقصص منجزاته وأعماله. في أواخر القرن السابع ق.م. تعرضت أشور للغزو من قبل الكلدانيين الذي أقاموا مملكة كبيرة عاصمتها بابل. وقد اشتهر الكلدانيون بالعمران وبناء المدن والمعابد والتماثيل التي من رموزها باب عشتار وشارع الموكب والجنائن المعلقة وكلها من معالم العاصمة التاريخية بابل والشاهدة لليوم.
لم تدم مملكة الكلدانيين طويلا إذ غزاها كسرى الثاني ملك الفرس عام (539 ق.م.)، وفي عام (313- 323) ق.م. وقعت تحت حكم الاسكندر المقدوني [356- 323] ق.م. الذي انقسمت مملكته بين كبار ضباطه إلى أربعة ممالك، وهي حقبة العصر الهللنستي التي تستمرّ حتى ظهور الحكم العربسلامي في القرن السابع الميلادي، أي حوالي الألف العام [323 ق. م..- 634م].
المنجزات الحضارية والعلمية القديمة لأرض الرافدين هي أبرز ما يشهد لحضارة تلك البلاد، وتقدمها العمراني والسياسي والاقتصادي. ففي تلك البلاد تم تسجيل حركات الكواكب ومواعيد الخسوف والكسوف الدورية. وبحسب نظام الفلك قاموا بتقسيم العام إلى اثني عشر شهرا، و(360) يوما، والتي شكلت قواعد وأسس الرياضيات المعاصرة وعلوم الفلك حتى اليوم.
ولعنايتهم بالفلك وأنظمة الري وبناء القنوات والجداول، شهدت الرياضيات تطورا ملحوظا في بلاد النهرين. فعرفوا الأرقام وأدوات القياس والوزن المعتمدة على أسأس الجذر الستيني (6) أساسا للحسابات.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
• يزعم المؤرخون قدوم الأكديين إلى وادي النهرين من جهة الجنوب، وفي الجغرافيا العراقية يتقارب الجنوب مع غرب الفرات، الذي يقابل البادية المفتوحة من نجد إلى سيناء.
• الأموريون: قوم حمورابي/ [أمور- رابي= أب- امور= أمور- اب]/[قارن ايضا: أبرام= أب- ارام]، من الشعوب القديمة للساحل الشرقي للبحر المتوسط من أصول فينيقية ارامية، يرد ذكرهم في سفر التكوين العبراني ضمن الشعوب العشرة التي يزيحها (ياهو) ويمنح أراضيها لذرية ابرام. ويعود ظهور شخصية (ابرام بن تارح بن ناحور) حسب مؤرخي اللاهوت إلى القرن الثامن عشر قبل الميلاد، وهو نفس زمن حكم حمورابي وتأسيس بابل العظيمة الأولى. وفي حوض وادي الأردن اليوم توجد عشيرة باسم (الحموريين) نفس نسبة (حمورابي/ اموريين)، ومنهم أيضا عشيرة (العموريين) بين العراق والشام.. وفي السجلات السومرية والبابلية ينسب حمورابي إلى أصول سومرية، ويعتبر مؤسس الأسرة الملكية الثالثة بين ملوك سومر.
• الاشوريون: (أشور) اسم (اله) كان معبودا في وسط وادي دجلة، نسب إليه قوم يعبدونه باعتبارهم (أبناء أشور= أبناء الأله= ابناء الله) الصفة التي استعارها كاتب سفر التكوين/(تك6: 1)، التي شكلت أساسا لوصف أنفسهم (شعب الله)/ (شعب مقدس). ويبدو أن أصولها مشتقة من تقليد أشوري، والمحتمل اتصالها أيضا بتقليد رافديني شرقي قديم.. وهذا يختلف عن التقليد المصري القديم، حيث ينسب ملوكهم فقط/(فراعنه) إلى الأله (رع= اله الشمس حسب لغتهم). ويتم تجسيد الاله الاشوري في هيئة (ثور مجنّح). والثور قديما تعبير عن القوة والعظمة والاحتمال. وتجد جذورا لذلك في ملاحم الأكديين، ومنها قصيدة يصف سرجون نفسه مولودا من البقرة المقدسة. والبقرة المقدسة هي (ننورتا) في ملحمة جلجامش والتي ترد بوصفها شخصية الأم للملك العظيم صاحب الملحمة. ولكننا نرى أن (البقرة المقدسة) هي مركز عبادة الهندوس، ولها مكانة مهيبة في الموروث الاجتماعي الهندي. وقد تطرقت في مداخلة سابقة إلى اشتقاق تسمية (جلجامش) من لفظة (جاموس= جاموش) وهو لفظ (البقرة) في لغة الترك، بالجيم المعجمة، ومنها أيضا مصدر اشتقاق لفظة (قصب) العربية وفي التركية: (قامش). وكلّ من [قامش، جاموش] هما مكونان رئيسان للبيئة الطبيعية لأهوار جنوبي حوض الرافدين، وهما مضمنان في اسم الملك (جلجامش) ومعناه الكامل: (الملك الخامس، خامس الملوك) بترجمة البعض، وقد يكون (ملك الجاموس، ملك البقر) أو الراعي الأكبر لها. ينبغي التنويه أن تعابير [قصب، جاموس، بقر، ثور] ودلالاتها الاجتماعية اليوم، تختلف عن معانيها الأصلية والتي ارتبطت بالطبيعة والقداسة وقصة الخليقة، كما يعكسها الأدب الرافديني القديم. لكن الأشوريين هم سلالة ملكية وحضارية ضمن تاريخ السلالات السومرية، وامتداد ثقافي اجتماعي دينسياسي لهم. وتشترك لغات [اشور- ارام- كلدان] بتطورها عن اجتماع لغة سومر وأكد، وهو ما يصح على قطاعت الثقافة والدين والحكم والاجتماع أيضا.

(5)
لم يعمل القدماء ولا المتأخرون، على تدوين التاريخ السياسي القديم لسوريا أو بلاد الشام، والتي تشكل الامتداد الجغرافي الطبيعي بين وادي النهرين ووادي النيل. ومع أن البلاد لم تخل من قيام كيانات سياسية متعاقبة على طراز حكومات المدن السومرية والاغريقية، فثمة اتفاق بين المؤرخين على عدم ظهور مملكة عظمى في سوريا غير المملكة السلوقية في القرن الثالث قبل الميلاد، والحكم الأموي في القرن السابع الميلادي.
هذا التوصيف ليس دقيقا تماما، إذا أخذنا بنظر الاعتبار المملكة الفينيقية. بل لا يمكن قراءة التاريخ القديم، أو تاريخ حوض المتوسط والملاحة التجارية ، بغير النفوذ الفينيقي السابق للملاحة الاغريقية والرومانية والعربية. وهو سؤال يقود إلى غياب دور الفراعنة والممالك العراقية في حوض المتوسط. لقد كان لسومر وبابل وأشور دور في حوض الخليج جنوبا حتى سواحل اليمن، وكان للفراعنة دور في حوض البحر الأحمر جنوبا حتى سواحل الحبشة واليمن. ولا بدّ من بحث سبب تجنب المصريين والعراقيين القدماء مياه المتوسط.
تعود الجذور الحضارية لبلاد الشام عميقا في التاريخ، الى حوالي خمسة عشرة ألف عام.، وهو التاريخ الذي قدر لعمر الحفريات الأثرية في أعماق أراضيها. تلك الحفريات كشفت عن مزايا وملامح عمرانية مميزة في طرز بناء البيوت/(مساكن عائلية)، وذلك بشكل مترابط وملتصق ببعضها لما يشكل جملة المدينة التي يزيد نفوسها عن عشرة آلاف نسمة. وكانت حركة السكان اليومية تتم من خلال بوابات/ منافذ سقفية، في أعلى المنزل. وقد علّل المؤرخون ذلك، بأنه تحصينات أمنية ضدّ اللصوص والغزاة والغرباء، حيث يصعب تمييز/ تشخيص صورة المدينة من الخارج، التي تأخذ صورة تلة/ هضبة كبيرة، لا يشك أحد في وجود حياة ما في باطنها.
هذا الذكاء الأمني الستراتيجي هو ما افتقده العراق القديم، والذي وسم تاريخه وطبيعته بغلبة طابع الاضطرابات والتغيرات السياسية المتصلة حتى اليوم. وبالمقابل، منح البلاد السورية طابعا راسخا ومتصلا للاستقرار والثبات وتجنب مواضع الاضطراب والفوضى. هذا (الاستقرار): الطابع الجيوسياسي الأمني، بالمنظور الاجتماعي، ينعكس على طبيعة تكوين شخصية الفرد والثقافة النفسجتماعية العامة للسكان والبلاد.
تتعدد ممالك سوريا القديمة والسابقة للتاريخ، مما يمكن التعارف عليه من كشوف الحفريات الأثرية من جهة، وكشوف الجماعات القبلية والقومية العريقة من جهة أخرى، سواء منها ما يرد في مرويّات التاريخ الشفاهي الاجتماعي، أو تتوزعه السجلات والمصنفات القديمة، ومنها كتب العبرانيين والعرب والأغارقة والرومان. ومن مسميات تلك الممالك والأقوام التي ينبغي تدوينها في مصنفات تاريخية شاملة، الميثانيون والحيثيون والحوريون.
الملاحظة الجديرة بالتنويه، تتمثل في تداخل الحدود الوطنية بين سوريا الكبرى/(بلاد الشام) واليونان القديمة. وفي أدبيات الأنتيكا التي تنسب تاريخ اليونان للألف الثانية قبل الميلاد، يحتسب المؤرخون مناطق جغرافية تقع في أسيا الصغرى أو شرق المتوسط وجنوبه، ضمن الآثار والتاريخ الأغريقي. ورغم أن اليونان القديمة تشكلت من عدد من حكومات المدن المستقلة بذاتها، فالجهد الأوربي، عمل غالبا على دفع حدوده شرقا.
واقع الحال ان الأثريات الأسيوية في أسيا الصغرى أو شرق المتوسط، سابقة تاريخيا للاستيطان والتاريخ في القارة الأوربية التي لا تتجاوز الألفية الأولى قبل الميلاد. ويعترف مؤرخو الغرب بالطابع الاسطوري والخرافي الذي يصوغ به قدماء الأغارقة والرومان تاريخا قديما لأنفسهم، وشتان بين تخريف التاريخ وحضارة العقل التي ينسب الأغارقة واللاتين أنفسهم إليها.
في منظورنا العربي، ورؤية هذا الكتاب، نلتزم حدود القراءات الجغرافية الطبيعية والتضاريسية السائدة والتي استقرت عبر حركة الزمن، وسوف يتكشف لاحقا، عن مزيد من التكشف والتجليات، التي عملت المزاعم الغربية على تلخيصها وتزييفها لخدمة منظورها العنصري. فمع وقوع ممالك الحوريين والحثيين في وسط وجنوبي أسيا الصغرى، فأن وجود العرب في أعالي الرافدين وقريبا من منابعها يعود إلى القرن الثالث قبل الميلاد، وكان نفوذ العديد من الممالك والامارات التي ظهرت جنوبي أسيا الصغري والجزء الشمالي من العراق والشام، يمتدّ وسط هضبة الأناضول، وهو ما ينطبق على ممالك الحمدانيين والأيوبيين. وكانت جزيرة قبرص امتدادا لسوريا وفينيقيا السابقة لظهور الاغريق وروما.
والواقع أن الوجود العربي، وهو امتداد طبيعي للوجود الآرامي، الذي هو بدوره امتداد للكيان الكلدواشوري، الذي هو امتداد وتطور لتفاعل السومرين والأكدين سوسيوثقافيا، جاء تجسيدا لخرائط جيوتاريخية شفاهية متوارثة، وجدت ترجمتها التاريخية الناجزة مع أول تبلور السلطة السياسية العربية في القرن السابع الميلادي. وكان شرارة انطلاق الاندفاع العربي شمالا قد تحدّد ميدانيا في حوادث عام (530م) في جنوبي العراق، وأحداث التنازع الفارسي الرومي على حلب وانطاكيا (629م) واجتياحهما المتعاقب والمتكرر لحواضر شمال سوريا، بما يصحبه من نهب وسلب وتخريب وإفساد واعتداء على السكان المحليين، ممن لا صلة لهم بأطماع روما في الغرب، وأطماع فارس في الشرق.
والشاهد القرآني في سورة الروم، والذي يخضعه البعض لتأويل إشكالي، يؤكد سابقة غلبة الروم على فارس أولا، ثم تعرضهم للغلبة لاحقا على أيدي العرب المسلمين. وقد كانت المركزية السياسية العالمية في قلب الشرق، الواقع بين النهرين والنيل، قبل غزوة الاسكندر المقدوني عام (313 ق. م.)، وقعت المنطقة في أثره للتنازع الفارسي والرومبيزنطي، الذي حسمه النفوذ العربسلامي.
فما بين الاحتلال المقدوني لشرق المتوسط ونهاية النزاع الفارسي والرومبيزنطي، حوالي ألف عام، كانت مرحلة مخاض قومي واحتراقات سياسية اجتماعية، شهدت محاولات عدة لظهورات بلدانية عسكرية وتجليات دينية سياسية، لم تتماسك وتتبلور ويتهيأ لها الانطلاق والقيادات التي شهدها القرن السابع الميلادي، بكل العنفوان والأصالة والايمان والثقة. وبغض النظر عما حصل لاحقا، فأن واقع بلادنا ومجتمعاتنا، التي عانت طويلا من الصراعات الكولونيالية البرتغالية والانجليزية والفرنسية والأميركية/ [عبر القرون من السادس عشر حتى العشرين]، والتنافس الانجليزي والاميركي على المنطقة/ [قبل خمسينيات القرن العشرين]، ثم ما يسمى بالحرب الباردة بين المعسكر الرأسمالي والمعسكر الاشتراكي/[النصف الثاني من القرن العشرين]؛ فما زالت ضحية التنافسات الدولية العقيمة والغبية، بين المشروع الأميركي ومعارضيه، بين الثقافة الأميركية والثقافات اللااميركية/(مشروع تصادم الثقافات)؛ وليس أخيرا، عودة الصراعات الأوربية والغربية التقليدية حول السيادة واقتسام مناطق النفوذ خارج أوربا، بين الولايات المتحدة من جهة والاتحاد الأوربي من جهة، ومحاولة المملكة المتحدة استعادة نفوذها الامبراطوري مجددا من جهة ثالثة. وفي كل ذلك تبقى مصادر البترول والطاقة ومراكز المواصلات العالمية بين الغرب والشرق، ومجموعة العالم الاسلامي التي تتفق جميع الأطراف على السيطرة عليها، وتعطيل امكانياتها السياسية خارج الحراك العالمي، ليتسنى لها الاستمرار في لعبة السيادة الدولية لألفية جديدة..
لقد فشل العرب في بناء أنفسهم وترجمة قدراتهم الذاتية خلال القرن العشرين، الذي شهد نهوض أمم وسقوط غيرها، واليوم تتوفر تلك الفرصة، والشعوب الحية تتخلص من أخطائها، وتعيد صياغة مشاريعها.. والعرب.. يتوزعون ويتشظون.. ويجتهدون في الخلاف والاختلاف والتنازع والاقتصاص من بعضهم واللهاث وراء الأجنبي. الأجنبي الذي هو (العدو) دائما، في عالم انعدمت فيه الألوان، ولم يعد غير الأبيض والأسود.. ولم يبق ثمة غير سؤال الارادة: (أكون أو لا أكون.)..!


القسم الأول: جغرافيا العرابيا وتاريخها..

[2]
في علم اجتماع الجيولوجيا..

(1)
يتكون سطح الكرة الأرضية من طبقات متراكمة يعود تاريخها إلى مليارات السّنين، يختلف سمك كل طبقة وطبيعتها عن الأخرى، كما يختلف معدل الضغط والحرارة من مكان لآخر. وفي العموم، فأن طبيعة الأرض/(اليابسة) ليست واحدة ولا متشابهة في العالم، وهذا ما ينعكس بدوره في اختلاف ظروف المناخ والمحيط الحيوي وتفاوته من مكان لآخر.
أما الأمر الآخر، فيما يخص سطح الكرة الأرضية، فهو أنه ليس قطعة/(كتلة) واحدة كاملة، ذي عمق وسمك واحد، وانما يتألف من عدة أجزاء/(كتل) متفاوتة في مساحتها وسمكها، يدعى كل جزء منها (plate). وبينما تتشكل قارة أوربا من قطعة (Europian plate) واحدة، تتشكل قارة أسيا الكبيرة نسبيا، من عدة قطع، وربما كانت قطعة كبيرة وتعرضت للتهشم والانقسام إلى أجزاء في زمن جيولوجي أو مناخي معين.
أما منطقة جنوبي غرب أسيا، التي تقع فيها العرابيا، فتشكل قطعة مستقلة بذاتها تدعى (Arabien Plate). وتبدأ هذه القطعة شمالا بخط عرضي تحت سلسلة جبال طوروس، التي تفصل تركيا عن الشام والعراق، وتنحرف قليلا لتنحدر مع سلسلة جبال زاكروس التي تشكل الحدود الجبلية شرقي حوض نهر دجلة.
وبينما تشكل أسيا الصغرى قطعة مستقلة بذاتها، تحادد القطعة التي تقع عليها ايران وتمتدّ في وسط أسيا. بينما يشترك العراق والشام وشبه جزيرة العرابيا في القطعة العربية. وهذا يجعل من بلاد المشرق العربي: [شبه جزيرة العرابيا وبلاد الشام والعراق]، بالمنظور الجيولوجي والتوبغرافي، منطقة جيولوبغرافية ذات خصائص طبيعية متشابهة واحدة.
وفي كتاب المفصل لجواد علي، شرح مفصل لتوبوغرافيا شبه جزيرة العرب/(المشرق العربي)، -وليس العمق الجيولوجي وعلم طبقات الأرض-، سيما في جزئها الجنوبي السهوبي وتوزيع البوادي ومناطق النفود.
انصار النظرية الجيولوجية يعتبرون التضاريس والسلاسل الجبلية دالة تفاوت جيولوجي وعدم انسجام الكتل المكونة لطبقات سطح الأرض. وهناك حيث تلتقي أو تتزاحم وتتصادم كتلتان في تدافع وشدّ داخلي، يرتفع سطح التربة/ (طبقات الأرض) للأعلى.
مناطق التقاء كتلتين أو أكثر في جيولوجيا الأرض، هي مواضع ظهور البراكين والزلازل الأرضية، كلما بلغت درجة الحرارة نتيجة الضغط والتصادم، درجة خارج احتمال المحيط البيئي فتتنفس مندفعة للخارج. الملاحظة الجيولوجية الثالثة هي أن اتجاه الكتل الجيولوجية يتجه من الشمال وتندفع ضاغظة بثقلها نحو الجنوب. أي أن الكتل الجيوليوجية ليست ثابتة ومستقرة في مواضعها، وانما في حالة زحف وضغط وتدافع جنوبا، مما ينتج عنه ضغط جيولوجي عنيف على الكتب الوسطية والواقعة جنوبها. فالكتلة السلافية تضغط على الكتلة التركية، وكل من التركية والايرانية تضغطان على الكتلة العربية. زهذا يستدعي من الكتل الجنوبية قوة مضاعَفة للحفاظ على نفسها ومواقعها، ومقاومة فعل الضغط الشمالي. وفي النتيجة، تساعد المساحات المائية في امتصاص فائض الضغط الجيولوجي، بشكل أفضل من اليابسة التي تفتقد المرونة الكافية، أو مجالات التنفيس الجيولوجي.

(2)
ثمة ملاحظة طريفة ترد في رواية فؤاد التكرلي [1922- 2004م]: (خاتم الرمل)، فحيث يتجول بطل الرواية بسيارته ليلا في بغداد، يقوده فكره لملاحظة ارتفاع سطح الأرض في مكان عن معدل الارتفاع العادي، ويبدأ ذهنه في التساؤل مع نفسه، عن السبب الذي وراء هذا التوتر التوبغرافي. وهذا ينقلنا الى ما ندعوه علم الاجتماع الجيولوجي.
يقال ان الاسكندر المقدوني [356- 323 ق. م.] خلال إقامته في العراق [331- 323 ق. م.] واتخاذه بابل عاصمة له، لآخر ثمان سني حياته؛ لحظ اختلاف أهل العراق عن سواهم، وواجه صعوبة سياستهم، فكتب بذلك إلى معلمه الفيلسوف أرستوتل [384- 322 ق. م.]. وهذا علّل له الأمر: بطبيعة البيئة والتربة العراقية. فتساءل الاسكندر، لو قيض له تبديل تربة العراق، هل سيستقيم أمر سكانه!.. فكانت مشورة والدته هنا، وهي زوجة الملك فيليب الثاني، التي تراءى لها قبل حملها بالاسكندر، أن نورا سماويا من الإله زيوس يخترقها؛ أنه لو قيض له تغيير التربة، فلن يقدر على تغيير الهواء يتنفسه السكان، وهو جزء من محيط بيئتهم، فيتوارثون خصائصهم الجينية والنفسية.
فارتباط، ليس كيان الانسان وتكوينه الجسدي بالتربة، ولكن ارتباط طبيعته النفسية وخصائصه الجينية بخصائص الجيولوجيا والتوبوغرافيا وطبيعة المحيط الحيوي، أمر على قدر من الأهمية، سيما عندما يداهم الفكر العقلي قبل الميلاد. بعض المعاصرين، حاول تفسير/ تأويل الطبيعية النفسجتماعية لأهل العراق، في ضوء الاجتماع الجيولوجي، وترجمة الضغط المزدوج لللكتلتين التركية والايرانية، في منطقة المثلث على الجانب الشرقي، من الكتلة العربية المواجه للعراق، في صورة التناقض والاضطراب، وعدم الانسجام في الشخصية العراقية، والتي لخّصها الدكتور علي الوردي [1909- 1973م] بعقدة (الازدواجية) في كتابه الرئيسي: (لمحات اجتماعية في المجتمع العراقي).
و(الازدواجية) هي عقدة اجتماعية تعاني منها الشخصية الغربية/(الأوربية والأمريكية)، تفاقمت وظهرت للسطح مع نموّ المجتمع والنظام الرأسمالي. وبحسب مدارس التحليل النفسي الغربية، فأن جذور مرض (الازدواجية) ليست اجتماعية، وانما نفسية عقليّة، تتصل بمرحلة اللاوعي التي كشف عنها سيجموند فرويد، و بدايات الادراك العقلي في مرحلة الطفولة والنشوء، التي استكملها يونغ ومعاصروه، فيما يدعى (ما بعد الفرويدية): المدرسة الحديثة في التحليل النفسي ودراسة الشخصية.
ولم يتوقف هؤلاء عند حالة نقص الحبّ وعدم الاشباع العاطفي للطفل، وانما تناولوا غياب الحبّ والانسجام العاطفي عند الأبوين، والتي رسّخها النظام السيوسيوقتصادي للدولة الرأسمالية، لتأمين ديمومته، والغاء أسس أية محاولة للتمرّد، أو مخالفة الضوابط والاملاءات المجتمعية السياسية.

(3)
الجدير بالملاحظة، أن كلمة (أمن)/ [security, Sicherheit] الغربية، مشتقة من لفظة (نفسيّة/ سايكو)/ [psychology, psyche] ذات الأصل اللاتيني.
فالسياسة الأمنية والاجراءات البوليسية في النظام الرأسمالي الغربي، ليست قواعد سلوكية ينظمها الدستور بشكل مجرد، وانما تستند إلى مبادئ وطروحات مدارس ومختبرات التحليل النفسي والنفس الاجتماعي، التي تعمل بدأت على صعيد العيادات والجامعات، وباتصال وثيق مع الهيئات السياسية والأمنية، والسلطات التشريعية العليا.
وبينما، ينحصر نشاط البوليس والأمن العربي والعالمي عموما، في صعيد ردّ الفعل، عند ظهور مخالفات للقانون والنظام المجتمعي، فأن الأمن والبوليس الغربي الرأسمالي، له الريادة والصدارة والسبق، في توجيه المواطن والمجتمع، والتعرّض له، لضبطه ووضعه في إطار محدّد ومضغوط من كلّ جانب، وهو ما يوازي قوالب قانونية أمنجتماعية سياقتصادية، يشترك فيها ثالوث [دولة- اقتصاد- مجتمع]، لخدمة النظام الأمني الذي يحمي (الرأسمالية) كنظام، ونخبتها العليا، ويؤمن استمرار الاستقرار والتفوق لنظام ومجتمع مدجّن، مرعوب وخاوي من داخله.
يصف علماء النفس الغربيون، ومنهم ارنو غروين/[Arno Grün]، الشخصية الاجتماعية الرأسمالية: بأنها (شخصية فاقدة لذاتها)؛ وهاته حالة أكثر تقدما وعمقا وخطورة، لما تحدث عنه فرويد، من حالة (نقص الحب والحنان). والشخصية الفاقدة لذاتها، هي شخصية (كارهة للذات): تنتهي إلى أحد أمرين: مراوغة نفسها وتحويل الكره نحو الخارج/[اليهود، المهاجرين، جنس مخالف]، أو: عدم العثور على حلّ تعويضي، فتعاني من الاضطراب وتنتهي للجريمة أو مصح عقلي أو تدمير ذاتها.
ويتناول اريك فروم [1900- 1980م] في كتابه الموسوعي: (النزعة التدميرية)، خلفيات الاجتماع الرأسمالي التي أخرجت الانسان الغربي/(المجتمع الرأسمالي عموما) عن طوره وطبيعته الفطرية، وألبسته بقوالب مقننة صارمة، تحت لبوس الحداثة والتفوق والسعادة اليوتوبية، من خارج؛ ومن الداخل، سخرت المجتمع الغربي ، للسيطرة بواسطته ومن خلاله على بقية العالم، لخدمة الالة الرأسمالية الجهنمية والمشروع الرأسمالي.
لأجل ذلك تستخدم الرأسمالية (الكذب). ولعلّ دونالد ترامب، أول سياسي غربي يكشف ذلك على الملأ، من غير تفصيل. فوسيلة الرأسمالي هي (الاعلام)، ومن اعلام ودعاية لا تنجح الرأسمالية ولا تسود. وظيفة الاعلام الخداع ونشر القناع، وترويض البشر وقلب الحقيقة إلى وهم، وتصوير الأكاذيب في هيئة (حقائق).
قال لي أحد رموز الأكاديما العراقية في لندن: انظر.. أي بلد هذا يوزع الصحف مجانا على الناس ليقرأوا.. تصور.. مجانا!. وهو يمتدح الرأسمالية التي تروج منتجاتها الاعلامية مجانا، معتبرا الصحف المجانية صحافة ثقافية. فيما هي دعاية اعلانية ذات لبوس صحفي ملقح بأخبار سياسية وفنية وفضائح، تحشو بها عقول الناس، وتداعب غرائزهم عبر صور الاجساد العارية وفضائح الهايكلاس سوسايتي، وتصرفهم عن التمعن في الواقع المباشر.
فالاعلام، وهو قديم في الغرب، ومقترن بما قبل ظهور الرأسمالية الصناعية، حيث كان يكتب باليد وتنقش صوره باستخدام طباعة خشبية بدائية، قبل ظهور ماكنة نورنبرغ/(1533م)، للترويج الاعلاني واجتذاب المستهلكين. ولا يخفي تاريخ الاعلام، استخدام النساء واعلانات البغاء، في أوقات الحرب، لاجتذاب الشباب للتطوع والاقتداء بالأبطال والرموز التاريخية.
درسنا في الاقتصاد ان (الاعلان) يدخل في باب التكاليف الرأسمالية، أي جزء أساس من كيان المشروع، وليس باب النثرية والانفاق غير الأساسي، كما ينظر إليه في الشرق، وينكره النظام الاشتراكي أساسا. وظيفة الاعلام/(الاعلان). وكلاهما من نحت لغوي واحد في العرابيا.
والاعلام في الغرب هو الميديا/(media). والميديا باللاتينية هي [وسيلة/ أداة]، وغايتها: [massmedia, megamassmedia]: (اعلام جماهيري/ اعلام مليوني أو بليوني). وقد وفرت الانترنت، الذي هي منتج وأداة رأسمالية إمبريالية، (اعلام عابر للحدود والقارات)، وعديم التكاليف في نفس الوقت. وقد أوقع الانترنت عقول ناشئة العالم بالضربة القاضية: صدمة التفوق الامبريالي!.
كل هذا العالم المزخرف والمعقد والمثير الذي تجتهد المؤسسات الرأسمالية بتأثيثه يوميا بالجدد والمثير، هي ابقاء العقل في حالة الانشداه والاثارة والتبعية للدعاية، وعزله عن الواقع المحلي والمعيشي والذاتي. [بارانويا/ شيزرفرينيا] لم تعد أمراضا، انها حالات عادية، وصفة عامة للمجتمع الرأسمالية.

(4)
عند الحديث عن أتمتة المجتمع، ليس تسليعه في كل شيء، وأنما وضعه في حالة من القنانة التكنولوجية والمسخ الالكتروني، يتعذر معها اكتشاف الفرد لذاته، أو تذكر ما هو الطبيعي والحقيقي. فالحقيقة هي ما يعيشه في ظل نظام يوفر كل شيء. والحقيقة هي اللذة والاشباع الجسدي وتكريس الجسد في خدمة النظام والعمل.
لكن ذلك لا يعني غباء الانسان الغربي تماما، ولا النجاح المطلق للنظام الرأسمالي، في مسخ مدارك الناس والغاء عواطفهم. لذلك تجتهد الميديا وتصريحات الحكومة وتقارير الشرطة والهيئات الاجتماعية ، على اصطناع أزمة اقتصادية أو اجتماعية أو فضيحة أو جريمة، من وقت لآخر، مجهزة بمفتاح نفسي، يقع تحت طائلته بلد أجنبي، ثقافة أجنبية، دين مخالف.
ويرى ارنو غروين*: ان نظام دولة ما، عندما يتجاوز أزمته الاقتصادية، يعمل الاصوليون المتطرفون على تقديم بيانات تشرح خلفيات الأزمة. وهؤلاء الأصوليون في الغالب من اليمين الراديكالي/(Extremisten) يستندون في تقديم أنفسهم إلى نصوص دستورية، ويعتمد تصويرهم للأزمة لائحة نماذج، من بينها: الهوية، العنصرية، القومية، الدين، الحريّة، والأمن. وعندما يتعرض الأمن المجتمعي للاهتزاز والانهيار –كما في أوقات الحروب والأزمات-، يتهدد أمن الفرد ويضطرب توازنه الشحصي، فتنمو في داخله مجسّات الحقد والعنف والرغبة في الانتقام أو التدمير.
وبحسبه، كان اليهود قرابين جاهزة، لتفريغ احتقانات الغرب النفسية وأعراض الفصام، ولكن بعد الخمسينيات، قامت الولايات المتحدة، بتوجيه العنف خارج أميركا وأوربا، والعقود الأخيرة شهدت تنامي الضغط والعنف، ضد الأجانب والمهاجرين في الغرب، وهو المبدأ الذي استخدم دونالد ترامب بنجاح في دعايته الانتخابية. وترامب ما يزال يكرر ألفاظ الشر ومحور الشر التي سبقه اليها بوش الابن، واستثارة بلدان معينة، لاشعال (حرب عالمية جديدة)، تنفّس أزمة النظام الرأسمالي الراهنة، وتفرغ ضغوط اليأس والاحباط والعنف المحلي المتزايدة في المجتمعات الغربية.
فمنظور الغرب للازدواجية، إذن، ذو تأويل وتوظيف نفسي، لخدمة الأمن الغربي السوسيورأسمالي. و نحن نبحث له عن جذور خارج ذات الانسان، وبشكل يستمرّ في اعتباره ضحية لعوامل ومؤثرات خارجية. وذلك حسب أيديولوجيا الشرق العتيدة، في تبرئة الانسان وتنزيهه عن الخطأ والشرّ، وانما يولد الشرّ من ابليس أو جهة خارجية.
الملاحظة الأخيرة، والتي يمكنها تفنيد، منظور الاجتماع الجيولوجي، هي أن الفعل الحضاري والوعي السياسي في الشرق، تخذ اتجاها معاكسا للزعم الجيولوجي. فالحضارة والتمدن والادراك البشري بدأ من جنوبي العالم: اتجاه من الجنوب نحو الشمال. والحضارات والمدنيات العراقية والفرعونية بدأت من جنوبي بلدانها زحفت نحو الشمال.
وبالمثل، بدأت الحضارة والمدنية من نقطة في حضرموت وعدن وعُمان الجنوبية، واتجهت نحو الحجاز والخليج نجد، والثورة الاسلامية الحجازية بدأت من الجنوب، واتجهت نحو العراق والشام وايران وتركيا. كما أن المدنية ومشروع النهضة الأوربية بدأ من أثينا وروما في جنوبي أوربا، واتجهت شمالا، لتعمّ بقية الشعوب والبلدان في الوسط والغرب والشمال.
فالفكر الجيولوجي، والاجتماع الجيولوجي، هنا، يخدمنا في تأكيد خاصة الوحدة الطبيعية والاجتماعية والسيادينية لمجتمع العرابيا الكبير/ (المشرق الكبير). وهذا ما يهمنا في هذا المبحث، ونسعى إلى تأصيله، من مختلف الجوانب والزوايا، وبشكل، يمهد لنقظة انطلاق جديدة، وعودة مرتقبة للذات والوعي.
ـــــــــــــــــــ
Arno Grün: Die Falsche Götter, Econ Verlag, Düsseldorfß Wienß NY, 1991, S.48



[3]
في علم اجتماع العرابيا..
Nations, too, like individuals,
slowly grow and surely die:
some nations wax, others wane,
and in a brief space the races of
living things are changed, and
like runners hand over the lamp
of life!- W. Durant

(1)
تغليب فكرة البداوة على سكان شبه جزيرة العرب، أشاع نظرة غير صحيحة حول صورة المنطقة، وذلك بسبب استسهال التعميم، وعدم فصل الجغرافيا، عن التاريخ والسّيرورة الزمنية. ولا عذر أو تبرير لهذا الاستسهال، من قبل القدماء أو المحدثين، غير الاستهانة بروح العلم والأمانة التاريخية.
وكنت قد أشرت في مكان آخر(*) أن ظاهرة البداوة: كانت محصورة في خريطة جغرافية محدّدة، وكان ظهورها -طارئا- خلال حقبة زمنية محدّدة بظروفها. ولم تكن في أي حال، حالة عامة لعموم جغرافيا سكان شبه جزيرة العرب، ولا ظاهرة أزلية دائمة. فإهمال الزمكان في قراءة التاريخ العربي كان مجازفة، مجافية للمنطق والحقيقة.
ومن هنا رأيت، -قدر الإمكان-، تثبيت محاولة في التاريخ السوسيوسياسي للمنطقة قبل الإسلام. على اعتبار أن الظاهرة السياسية لا تكون بغير حقيقة الاستيطان، وبلوغ الوعي الاجتماعي مستوى لائقا، لإدراك ضرورة التضامن والتكافل، وتقسيم الواجبات والحقوق داخل الجماعة المتحالفة/(العقد الاجتماعي القومي).

درج الأقدمون، على تحديد المقصود ببلاد الجزيرة أو (العرابيا)، بباطن شبه جزيرة العربيا المحاطة بمياء البحر العربي جنوبا والبحر الاحمر غربا والخليج العربي شرقا، وتحديد شمالها بخط وهمي يمتدّ من رأس العقبة، حتى شاطئ الخليج المقابل- (جواد علي [1907- 1987م] في المفصل)-.
وقولهم أن [حدود العرب عند أهل الجغرافيا لا تتجاوز شمالا الخط الذي فرضوه بين (إيلة) وخليج العرب، ولا تتعدى تخوم الكوفة. وهذا على التقريب ما كان الرّوم يدعونه بلاد العرب الميمونة]- (جرجس سال [1697- 1736م] في كتابه: حقائق عن العرب في الجاهلية)-.
وفي ضوء هذا التحديد التقليدي، يمكن تقسيم سائر بلاد الجزيرة إلى ستة أقسام..
اليمن- عُمان- الحجاز- نجد- اليمامة- ساحل القواسم.
وفي القرن العشرين، أضاف إليها العروبيّون المعاصرون كلا من [العراق- وبلاد الشام] إلى قلب/ قالب العرابيا، وهي ما ندعوه (عرابيا الشمالية) في هذا البحث. وقد ضمّت (عرابيا الشمالية) للحكم العربسلامي بين الأعوام (634- 637م)*، بعدما كانت ممالك وطنية آراميّة/(أصول فيينقية ارامية)، شبه مستقلة، شكلت حلقة وصل ستراتيجي، وفصل أمني/(مناطق عازلة/ منطقة حرام)، بين الإمبراطوريتين الفارسية/(في الشرق)، والرومانية/(في الغرب).
في كتابه عن تاريخ العرب الذي قدّمه كمحاضرات في جامعة كندية في ثلاثينيات القرن الماضي، يعيد فيليب ميخائيل حتيته [1886- 1978م] تاريخ العرب إلى حوالي أربعة آلاف عام (قبلم)، وهو بداية التاريخ البشري أكاديميا، المقترن بظهور الكتابة والتدوين، ويؤرخ به لحضارات سومر والفراعنة.
وبحسب المبدأ الاقتصادي الذي استندت إليه رؤية المؤلف، استعرض تاريخ المبادلات التجارية وحركة القوافل والنقل الاقتصادي ابتداء من حضرموت/ اليمن الجنوبي اليوم، بالاتجاه مع السواحل نحو عدن وصنعاء صعودا إلى عسير وتهامة والحجاز نحو بصرى والشام؛ حيث تتفرع خطوط التجارة، وتتقاطع في مفرق سيناء نحو وادي النيل غربا، ونحو العراق وأسيا والصين شرقا، بينما يمتد خط دمشق شمالا نحو أوربا وروما؛ رغم أن التاريخ السياسي لأوربا لا يتجاوز الألفية الأخيرة قبل الميلاد*، مثلا في أثينا ومن بعدها روما.
كما يقدم عرضا للسلع التجارية، التي تشكل في معظمها موادا طبيعية خاما، كالذهب والنحاس، أو الصمغ والمرّ من الأشجار، فضلا عن تجارة الرقيق والدّواب. فحضرموت هي أقدم حاضرة مجتمعية مزدهرة، في محيط شبه جزيرة العرابيا. وسوف نعرف لاحقا، انها، كانت نقطة اتصال- ميناء تجاريا- بين تجارة الهند وسواحل أفريقيا الشرقية. فهي بذلك النقطة المركزية الرئيسة، في ربط القسم الجنوبي من عالم الأرض، بالقسم الشمالي الممثل بوسط آسيا وأوربا يومذاك.
تأكيد الدلائل التاريخية والاشارات الكتابية على المركزية الاقتصادية التجارية لبلاد حضرموت، دالة ترجيح أولوية وأقدمية (إرم)/(حضرموت) في الاجتماع الجزيري، وهو ما يتناسب مع تعويم وتغشيش هاته البلاد في التواريخ الشفاهية والمدونات الأدبية، وقطعها عن التاريخ المنظور جغرافيا وسكانيا.
(حضرموت) اسم مصطلح/ مصطنع متأخر، للبلاد المذكورة في (القرآن) باسم: (إرم ذات العماد). ومعنى (حضرموت): [حضارة موت/ حضارة ميتة/ حضارة قديمة جدّا]، واللفظ اكدي ارامي قديم تعم تعريبه وتصحيفه، لتحميل دلالة القدم الحضاري. وحضرموت أو إرم القرآنية، ومعظم الاشارات العبرانية التجارية إليها: ممثلة بذهب (أوفير) و(ترشيش) وغيرها، تعتبرها من أهم المراكز الحضارية وموانئ التجارية للعالم القديم.
هاته الحضارة القديمة الميتة، وراء اصطلاح نسابة العرب، (عرب بائدة/ المنقرضة/ قضاعة وجذم) في توصيف قدم أصل (العرب). و(العرب) في لغة القدماء هم سكان شبه جزيرة العرابيا/(بلاد العرب التاريخية)، بمعنى (دالة سكانية جغرافية) وليس دالة: [لغة أو قوم]، خارج حدود ما تمليه عوامل البيئة والاجتماع البيئي السكاني من خصائص وصفات شبهية تبادلية تتمثل في مظاهر العادات والسلوك والثقافة واللغة.
أما سكان الجزيرة، ثمة، فرغم تشابههم الاثنولوجي والانثروبولوجي، ما زالوا حتى اليوم، مولعين بالاختلاف والتمايز. كل جماعة تميز نفسها – نسبيا- عن المجموع، وعن الجماعات المحيطة بها:[لغة وعادات وقيم]. وما التصاق العرب/ الأعراب، بنظم/ أنماط القبلية والعشائرية، إلا حاجة نفسجتماعية للتمايز من جهة، وصيانة أنفسها وثقافاتها، من تمام الذوبان في المحيط العام: المحلي والأجنبي.
بعبارى أخرى، ان النظم القبلية والعشائرية الثقافية، ومن ثمة العقائدية: [مذهبية، طائفية]، هي دالة ترسيم حدود رسمية/ ثقافية، تؤكد استقلالية كل جماعة عن المحيط/ المجال الاجتماعي الكائنة فيه. فالحدود العربية الداخلية، هاته النزعة الاستقلالية، إذ عصت على الجغرافيا الأرضية، بحكم انبساط الأرض وقلة التضاريس المميزة، أصبحت حدودا ثقافية سلوكية، تحفظ لكلّ مجموعة تميزها وخصائصها الذاتية.

وسوف تستمرّ ريادة [حضرموت وعدن] عبر الزمن، حتى ظهور الملاحة التجارية العُمانية، المدعومة بنظام سياسي ملكي سلطاني، سوف يمتدّ نفوذ عُمان الى سومطره وزنجبار وسواحل شرق أفريقيا، حتى سواحل الهند في أوسع تمدّداته*. ومع دخول الكولونيالية الغربية* وتهافتها على طرق تجارة القرصنة والهيمنة، سوف تتراجع المركزية العربية والاسلامية الملاحيّة والتجارية في العالم، لصالح الهيمنة الغربية الدائبة حتى اليوم.
وقد تضمن (القرآن) وهو أقدم كتاب/ تدوين عربي، معلومات تأريخية ووثائقية عن: الأوائل والأوابد والحواضر والأواخر، إشارات ذات دلالة على حضارة اليمن الحضرمية والعدنية، كما أشار إلى أوابد عُمانية وخليجية ونجدية وحجازية، تشكل أركان مربع أو محيط الاجتماع العربي الجزيري قبل آلاف السنين.
وهذا يقتضي منا، مزيد البحث والحفريات، لاستكشاف وثائق وبيانات وعقائد، ومصنوعات تلك المدنيات القديمة، التي قد تكون معاصرة لمدنيّات سومر و الفراعنة القديمة. والملحوظ، من القراءة والتوثيق القرآني لتلك الأوابد، اختيارها كنقاط سواحلية مركزية، بين سواحل بحر العرب وسواحل الخليج وسواحل البحر الأحمر، فضلا عن دالة نجد.
وبحسب أبحاث البعثة الآثارية العراقية، في بواطن نجد في ثلاثينيات القرن العشرين، والتي شارك فيها الدكتور مهندس الري أحمد سوسه [1900- 1982م]، ثمة آثار وديان عميقة في وسط وأطراف توبوغرافيا العرابيا، مما يحتمل أن تكون مجاري أنهار قديمة تتوزع شبه الجزيرة، ويحتمل أنها كانت مواطن حضارات زراعية ومدنيات قديمة، قبل طروء التغيرات المناخية الانقلابية*، الموثقة في سجلات التغيرات المناخية والجيولوجية الخاصة بالمنطقة.
الواقع، انّ أبرز دالة على عنصر التأريخ، هو الذاكرة الشفاهية أو الثقافة الشعبية. وهو ما تعارفه العرب على مستويات: القبيلة والعشيرة والحواضر ومراكز التمدن، حيث تبرز شخصية (العارفة)/ (الحكيم). وبعضهم يتوارثون معارفهم وعلومهم عائليا، إلى جانب التواريخ والأخباريات والعقائد والقبائل، يتوفرون على معارف مهنية في الطبابة والأدوية الطبيعية، فضلا عن إلمام، بعلوم الحيوان والنبات والأمم.
فما هو المصدر الذي استقى منه أولئك (العوارف) علومهم ومعارفهم الموسوعية، قبل ظهور المدارس ووسائل الاتصال والنشر المتأخرة. ويوجد مثيل هؤلاء في بلاد أخرى كالهند والصين وأفريقيا، يمكن الاستدلال عليهم حتى اليوم. ويذكر أن فلاسفة الإغريق منذ القرن السادس والخامس قبلم، قاموا برحلات ثقافية علمية إلى الهند ووادي النهرين والنيل، قبل عودتهم إلى أثينا لدراسة وتحليل وتوثيق تلك المعارف الفلسفية، التي شكلت أساس المعارف البشرية على مدى الزمن.
ومن الطريف أن لورنس [1888- 1935م] الجاسوس الانجليزي، المكلّف بتحريض العرب ضد الحكم العثماني، يمتدح شخصية العارفة الشريف حسين بن علي [1854- 1931م] أمير مكة، الذي كان لورنس يذهل بمعلوماته عن عالم الحيوان* والحشرات. ويمكن القارئ العثور على نظير هاته الاشارات في كتاب التاريخ والتراث القديم، للوقوف على العمق المعرفي الحضاري الموسوعاتي للشخصية العربية الجزيرية والقبلية والبدوية، والتي لا تنفصل بشيء عن الأساس والمحيط المدني والسياسي القديم لتاريخ العرابيا.
وإذا كان القرآن الذي استخدم مصطلح (جاهلية)، هو نفسه الذي يشير للمدنيات والأوابد الحضارية القديمة ومنها (إرم ذات العمد)؛ فلا غرابة، أن تقرّ الذاكرة الشفاهية، والمدونة العربية بأولوية وأقدمية (اليمن السعيد) في تاريخ الجزيرة والخليج. وكلّ ذلك يوثق لممالك اليمن وملوكها وسكانها وعقائدها، قبل التنظير لظهور البداوة والظاهرة القبلية لاحقا.
فالقبائلية بحسب مدوّنة ابن اسحق النوفلي [683- 750م]، ظهرت في مرحلة لاحقة من تاريخ المدنية السياسية اليمنية، بل مع أواخرها، عقب خروج السكان في موجات بشرية، وجماعات عائلية محدودة، متصلة أو متقطعة، واندفاعها شمالا ووسطا وشرقا، بحيث ارتسمت خريطتها الدمغرافية عبر الزمن.
وفضلا عن أثر العوامل البيئية، والخلافات والمنافسات المحلية، حول الأرض والغذاء والزعامة وغيرها، فقد كان للعوامل السياسية والطوارئ الخارجية، أثر في تغيير خرائط التوزيع القبلية والبدوية، في باطن العرابيا. والأشهر فيها تأريخيا، يقترن بما عرف بحركة الردّة في عهد أبي بكر/(632م)، وسياسات التهجير العُمَريّة، لكثير من تلك القبائل والجماعات والأسر، نحو البلاد الجديدة في الشمال والشرق الأسيوي، والغرب والشمال الأفريقي.
لعلّ الخريطة السوسيوثقافية لعرب العراق وبادية سوريا والأردن، إلى جانب (الشراقوه) في مصر، و (البكارة) في السودان والقرن الأفريقي، دلائل تاريخية على تلك الهجرات القديمة، وما حملته أو تحمّلته من عوامل اجتماعية/ نفسية ودينسياسية، تبلورت في صيغة هوية سوسيوثقافية ذاتية خالدة، كما يظهر في العراق.
ومن عيوب الثقافة العربية المعاصرة، وقصور علومنا الاجتماعية، عدم التمييز والتشخيص بين الحالة القبلية والحالة البدوية، بين عوامل البيئة الطبيعية وطوارئ البيئة الاجتماعية، بين الشخصية القبلية، والشخصية البدوية، وبين ثقافة القبيلة وثقافة البداوة، ومدى تماحك كلّ منها في الحالة الاسلامية والحجازية، من حيث القبول والرفض والانتقاء والتمرد.
وقد جاء تداخل/ تلاقح الظاهرتين القبلية والبدوية، بالظاهرة الدينية، وتلبّسهما لبوس الأغراض والتلاوين الطائفية، أن يؤسس لظاهرة بنيوية خطيرة، في تدمير الاجتماع العربي، وهو أمر لم يسبق إليه. انّ الدّين (أيديولوجيا) مقدسة، إذا دخلت في وسط/ ظاهرة معينة، لا تعود كما كانت، فتخرجها عن طورها. بل أن كلا منها يمسخ الثانية؛ وعندما يتماسخان، يزدحم الواقع بمكوّنات هجينة مستجدّة: دين هجين، قبائلية هجينة، بداوة هجينة.
في أوساط جميع هاته ، يلحظ مدى ابتزاز كلّ منها للتلبيس. فالقبيلة والبداوة، غالبا ما تتخذ لنفسها لبوسا دينيا، في طروحاتها الاجتماعية / المجتمعية، لاستحصال حقوق وامتيازات أو تدعيمها وتوسيعها. بينما يتخذ الدين لبوسا عشائريا أو بدويا، في نفس السياق والسباق.
ورغم أن نسيج المجتمع العراقي، ما يزال يكشف وضوح تلك المكونات وتداخل عناصرها، فان أيا منها يستمرّ بطريقة مدهشة في دعم استقلاليته، دون الذوبان في سواه، أو التعرض للابتلاع منه. وفي كلّ تلك العناصر، لم تنجح الثقافة والأكاديما العصرية، ولا الدولة الحديثة والمجتمع المدني، في انتاج جيل جديد متطور، عن خلفيات (دينقبلبدوية)، يتحرّر من عقد السلف التاريخية.
انّ اجتماع: (دين- قبيلة)/ (دين- بداوة): هو الذي أفرز ظاهرة (الطائفية) والبدع الدينية. ولولا التعددية القبلية والتلاوين البدوية والرعوية، لما ترسّخت الطائفة والمذهبية وتشظياتهما ترسيخها المستحيل، لتشكل عقبة في طريق تقويم الفكر الديني من جهة، وفي بناء مجتمع مدني، واجتماع بشري سليم، من جهة أخرى.
ــــــــــــــــــ
• قبلم: (توجيز): قبل الميلاد.
• تاريخ استيطان بلاد اليونان يعود إلى حوالي الألفية الثانية قبلم، وتشكلت من موجات بشرية مختلفة الأصول. في القرن السادس عشر قبلم، أسس (Mykener) وهم شعب جبلي مقاتل، أول مملكة في اليونان بلغ نفوذها شواطئ مصر المتوسطية. في القرن الثاني عشر قبلم، انهارت المملكة الميكينية على يد غزاة جدد من جهة الشمال/(Dorier) حكموا البلاد، وجراء اختلاط السكان والثقافات واللغات مع الزمن، تولدت اللغة الاغريقية من جماع اللهجات المحلية الدورية والميكينية. وإلى جانب الاغريق كان ثمة الفينيقيون والتروسكيون من سكان حوض المتوسط. والتروسكيون أصولهم من أسيا الصغرى، هاجروا إلى وسط ايطاليا في القرن التاسع قبلم. وفي القرن الخامس قبل الميلاد سيطر الروم على عرش اتروسكيا، وأسسوا الجمهورية (res publica) التي يحكمها مجلس شيوخ متكون من (300) عضو يتم اختيارهم من الطبقات المتنفذة/(الأغنياء والنبلاء)، ويقوم مجلس الشيوخ باختيار قنصلين تتوزع بينهما أمور الحكم والادارة، لمدة عام واحد فقط، بعده يتم انتخاب غيرهما من بين الأعضاء. في عام (266 قبلم) شملت حكم الروم كل شبه جزيرة ايطاليا. وفي عام (148 قبلم) شمل نفوذهم مملكة مقدونيا شرق أوربا. وبعد ثلاثة حروب تمكن الروم السيطرة على قرطاجة الفينيقية/(تونس حاليا) وذلك في (146 قبلم)، ليستمر توسع نفوذهم ويمتد شرقا وجنوبا: أسيا الصغرى بدء من (133 قبلم)، سيناء عربيا/(106 قبلم)، كيرينا/ ليبيا في (74 قبلم)، جزيرة كريت/(64 قبلم)، أرمينيا/(63 قبلم)، بلاد الشام/(63 قبلم)، الجزائر/(42 قبلم)، مصر/(30 قبلم)، قبرص/(27 قبلم)، شمالي المغرب/(26 قبلم). وهذا يبين أن تقسيم عرابيا الشمالية بين الروم والفرس كان في اعقاب تفكك الحكم المقدوني/[العراق والشام ومصر] في القرن الأخير قبلم، واستمر حتى (634م) وظهور الدولة العربية الكبرى.
• يحتاج هذا البحث رصدا كرونولوجيا لتاريخ الملاحة الخليجية العربية والاسلامية وتطورها عبر الزمن، والتركيز على دور العرب في الملاحة القديمة قبل الاسلام وبعده، وهو مما لم يتح للمؤرخين المعاصرين تناوله بحق!.
• في عام (1492م) نهاية الحكم العربي في الأندلس. (1494م) توقيع (معاهدة تورديسيلياس) بين البرتغال وأسبانيا لتقسيم سطح الكرة الأرضية!. وكان خط التقاسم يمر في نقطة في المحيط الأطلسي/ غربي جزر الرأس الأخضر، بمحاذاة خط طول (50) تقريبا. فكلّ ما يكون من أراضي غرب خط التقاسم يكون من نصيب اسبانيا، وما يكون شرق خط التقاسم من الكرة الأرضية يكون من نصيب البرتغال. وقد صادق بابا روما على (معاهدة تورديسيلياس)، وتسخيرها في خدمة المشروع الصليبي العالمي ومحاصرة العالم الاسلامي. (1498م) فاسكو دي غاما يقود أربع سفن ويجتاح كاليكوت الهندية أكبر مركز تجارة بحرية في الشرق يومها. (1502م) حملة فاسكو دي غاما الثانية بمشاركة خمسة عشر سفينة، والقيام بحرق المدينة وارتكاب مجازر ضد السكان تضمنت تقطيع أيدي وأرجل وحرق جثث لارعاب الناس. (1505م) البرتغال تحتل مياه المحيط الهندي وتنشر اربع وعشرين سفينة عسكرية. (1506م) حملة عسكرية بحرية برتغالية بقيادة الفونسو البوكركه تتعرض لسواحل شرقي أفريقيا والبحر العربي وتحتل مواقع في عُمان، ومنها تستمر القرصنة الغربية ويتغير الغزاة ويتعدد القراصنة حتى ظهور القرصنة الانجليزية في القرن الثامن عشر، واحكام سيطرتها على الشرق: [من الهند إلى مصر- عبر حوض الخليج].
• تعود العصور الجليدية إلى (1.7) مليون سنة، كان آخرها بين [118000- 10000 قبلم]. كانت خلالها درجة الحرارة تنخفض وترتفع بشكل متعاقب. وترجح الحقبة الجليدية الأخيرة في حوض الخليج إلى الالف الخامسة قبلم. أعقبتها ارتفاع كبير في درجات الحرارة، مع فيضانات وتغيرات طوبوغرافية رسمت ملامح الجغرافية الطبيعية للمشرق العربي.
• أقد اهتمام معروف بالبيولوجيا النباتية والحيوانية تعود لأرستوتل [384- 322 ق. م.]، ومن العرب أبي عثمان ابن عمرو الجاحظ [777- 868م] صاحب أشهر أربعة مصنفات موسوعية، أبرزها كتاب: (الحيوان).

(2)
الأسس النظرية للقبيلة بين الغرب والشرق..
إذن، بحسب الدلائل التأريخية والقرآنية، تشكل المدنية الحضارية جذور العرابيا. وهذا بخلاف طروحات هيجل [1770- 1831م] وأنجلز، في التنظير للقبائل الأوربية التي تطورت إلى شعوب وبلدان، كما يظهر من تواريخ ظهورها في أيام روما وبيزنطه. وهذا يحدو بنا للقول: في اختلاف القواعد النظرية والاصطلاحية، في مفهوم (القبيلة) وطبيعتها وتطورها، بين أوربا والشرق/ (العرب تحديدا).
فالجيرمان والهان والغال، والبلغار والقوقاز والسلاف، قبائل بدائية، تستند إلى زعامات قوية. وجدت ضالتها في هيكلية النظام السياسي والعسكري الروماني، والذي كان له دور رئيس، في هندسة وصياغة وتطوير الاجتماع الأوربي، على مدى قرون من وحدة مرجعية النظام والسيطرة والتحكم والتوجيه، وصولا إلى توطين تلك القبائل، ومنع التجاوزات فيما بينها.
ان هدف القبيلة في عهود روما وبيزنطه، هو الاستيطان والاستقرار المعيشي. وبالنظر لصراعات القبائل حول الأرض ومصادر المعيشة، فقد سعت القبيلة للحصول على امتياز امبراطوري*، يؤمن حدودها الجغرافية ومصادر معيشتها. وفي الغالب، كانت القبيلة تشكل جيشا، في صفوف القوات الرومانية والبيزنطية، وفي خدمة أهداف الامبراطورية.
وهي بذلك، لا تؤمن مطالبها فحسب، وانما تضمن لنفسها المشاركة في السلب والنهب الحرّ، وحصة رسمية من الغنائم، ومنحة سنوية من الامبراطور للقبيلة، فضلا عن مخصصاتها من القمح ومواد المعيشة الحكومية. ولا يوجد في تواريخ تلك القبائل الأوربية ومتعلقاتها، ما يفيد أنتسابها إلى أب روحي أو أسرة أصلية، تفرعت وتوسعت مع الزمن.
القبيلة الأوربية، رغم أصولها الشمالية الكلتية/ (celt) المشتركة، وهو جذر المجتمعات الأوربية عموما، هي تجمعات بشرية تجمعها وحدة المحيط الحيوي، بحسب اصطلاح أرنولد توينبي [1889- 1975م]، والمتمثل في عنصري: [الأرض المحددة، مصدر المعيشة].
وللتضاريس الأوربية الجبلية وخرائط الأنهار، دور في تحديد الأرض، وتقسيمها إلى قرى و حواضر صغيرة، وهي الحالة العامة، للريف الأوربي لليوم، خلال المدن المتسعة على مساحات منبسطة، أو تم تبسيطها، بتجريف عوامل الطبيعة. كما أن النظام الروماني: مَعني بالعمران والاستيطان بخاصة، مسألة التوطين والحكم الذاتي.
ورغم طروحات هيجل المستندة إلى أصول وبيانات توراتية، هي في العموم، شكلت سياقات الفكر الغربي ومفاهيمه السوسيوثقافية، لكن المؤكد، انها ليست من جذر سلالي قريب. وإذا كانت الهجرات الكلتية القديمة شكت الطبقة الأولى والبدائية من الاجتماع الغربي، فأن الهجرات الأسيوية المتمثلة بالقبائل المغولية، هي نواة المجتمع الأوربي السياسي التقليدي، والمتمثل في فرنسا وألمانيا أساسا.
ومن المحتمل جدا، أن قبائل الهان المغولية التي حكمت الصين، هي التي نزحت غربا، أو تصدرت الهجرات المغولية، وهذا هو مغزى وصف الأوربيين لأنفسهم، بالهندو أوربيين أو الآريين. لكن الجماعات المغولية استوطنت جنوبي وغرب أوربا، ولم تندفع شمالا، بينما توزع السلاف شرق أوربا، والساكسن انجلترا.
ولكن التآصر الأوربي يعتمد مبدأ آخر، أكثر وضوحا، وهو نظام التسمية، الذي يقابل عربيا، فكرة اللقب/ اسم القبيلة/ الحضر. ويتمثل نظام التسمية بمقطع لفظي يضاف لأسم العائلة. واليوم تنقسم تلك المقاطع القبلية بين المأثور القديم مثل [ham, lang, ing,er,on, son, böck]، أو التقليد الأحدث عهدا، والمتصل غالبا بالتصنيف المهني أو الاجتماعي الطبقي أو الديني [schmidt, berg, burg, stein] كما في الألمانية. وتختلف المقاطع بحسب اللغات والثقافات.
اسم القبيلة ليس دالة قرابة، وانما رباط سوسيوثقافي، لتعريف الجماعة المناطقية غالبا. والجيل الجديد من الأوربيين، عندما يغير سكنه الى مدينة أو بلد آخر، يترك بعضهم اسم العائلة، العائد للجدّ، ويتخذ اسما قريبا، أو اسم شريكة حياته.
أما فكرة هيجل حول العائلة الأبوية، والسلسال العمودي للقبيلة والعائلة البشرية؛ فهو مشتق، مثل أشياء جهوزية كثيرة من جينولوجيا التاناك، واعتماد التوزيع التوراتي للأمم والأقوام من جهة، والتوزيع القبائلي لأسباط اسرائيل، أساسا نظريا، ابتنت عليه معارف ساذجة وفاشلة، لا أثر لوجودها في الواقع التاريخي من قريب أو بعيد. ولكنها عملت بقصد أو بغيره لتأسيس (علوم نظرية) من جهة، واعطاء معارف التوراة ومزاعمها، صفة العلمية التأريخية والأصل الدمغرافي، الذي تطورت منه شجرة الشعوب والأقوام.
وقد نقل المؤرخون الحداثيون العرب من الروّاد وما بعدهم، مقولات الغرب الكولونيالي نقلا ببغائا، فتجد الدكتور جواد علي/(خريج ألمانيا) يصدر موضوعه بنقدات الغربيين قبيل الاستهلال النظري. وفي النصف الأول من القرن العشرين، ظهرت طروحات علمانية كثيرة تصدّت بالنقد والشكّ والتفنيد والتبخيس للحياة العربية ومظاهرها مدفوعة بأثر الاستشراق. وعند رفع معايب القبيلة أو العشيرة، وتقاطعها مع المدنية والحضارة، إلى الصدارة، فلا يبقى للقارئ غير الاستياء من انتمائه الوطني والقومي والاجتماعي.
لغة النقد الساخر تشيع لدى كتاب آخرين أيضا، منهم: الدكتور علي الوردي/(خريج أميركا) ، وكأنهما يترجمان روح -الأناركية- المتوارثة من ثقافة (اللقاحية)، أو يمارسان ثأرا – شعوبيا- تحت عنوان الثقافة والصفة الأكادمية.
ليست وظيفة العلم أو المؤلف السخرية والاستهجان، انما دراسة الظاهرة/ الحالة المحلية بمنطق علمي وأدوات بحثية مادية، ملموسة ومدعومة بالأسانيد. وغياب هاته المنهجية العقلية، كان وراء فشل الانتلجنسيا العربية تحديدا، في تأسيس مدرسة تاريخية أو اجتماعية معاصرة، تسهم في تثوير الواقع الاجتماعي وتقليص عيوبه وأشناته.
وكما يشاع اليوم، نمط تقريع المثقف/(العلماني) وتحميله مسؤولية التردي الاجتماعي، والانحطاط الوطني والقومي العام، فأن المثقف العربي، مطالب اليوم بانتهاج منهج واضح ومنطق حازم، ليس للردّ على المزاعم الامبريالية والذيلية الدينية، فحسب، وانما التحلي بالجرأة في تناول الاشكاليات الاجتماعية والسياسية، وجذورها الطائفية والقبلية، وفضح القمع الفكري وتهميش العقل ومصادرة الرأي الآخر. ان الفراغ الثقافي والفكري، هو ما يريده العدو، وذلك في مسعى مفضوح، لانتاج ثقافة ايديولوجية رأسمالية، ذات توجه حزبي يميني مقنع بشعارات دينية ديماغوجية، وإعادة كتابة التاريخ بشكل مضادّ للثقافة الوطنية والقومية العربية.
وعلى رغم انمياز كتاب (المفصل..) عن غيره من المصادر المعاصرة لتاريخ العرب، حيث استند فيليب حتيته وعبد العزيز الدوري والبرت روحاني وشاكر النابلسي وغيرهم على العامل الاقتصادي في تقديم تاريخ العرب، فيما يكاد ينفرد جواد علي بسرده السوسيوتاريخي، لكنه يتساهل في سمت العلمية، ويختزل أدوات التحليل والمقارنة والاستنتاج. ولا يخفى أن جهده هو جمع تراكمي، بين آثار الأخباريات العربية وقراءات الاستشراق الألماني للعروبة والإسلام.
ولعلّ قارئ المجلدات العشرة أو الأثني عشرة، يعجب كيف يستمرّ ذلك السرد الانشائي، خارج سياق الزمن، وفي غياب التحقيب، وكأن تلك الظواهر وجدت جميعها في زمن واحد، أو كأن الزمن كان جامدا في فضاء العربيا، قبل الاسلام وما بعده، حتى ضواحي القرن العشرين. فضلا عن الخصائص البيئية والسكانية لمركز الظاهرة.
فلكل مفردة أو ظاهرة لغوية أو اجتماعية أو نزعة قبلية أو طراز بدوي زمن وظرف، يستدعي ظهوره وظروف ومتغيرت تشدده أو تختزله، وفي اسقاط عنصري الزمن والبيئة، يلتغي التاريخ، وتنتفي سمة التطور. وبالنتيجة، لا تكون ثمة ظاهرة اجتماعية، أو فرصة لتوارد علم اجتماع محلي في الدائرة العربية، التي يتجاوز عمرها آلاف السنين.
ـــــــــــــــــــــــ
* في هذا السياق، لا تظهر هاته العلاقة التبادلية بين القبيلة والامبراطورية العربسلامية. ولم يهتم الفرس بنواحي العمران السكاني والاجتماعي، بينما جاء التوجه العثماني لتوطين البدو والقبائل متأخرا حتى القرن التاسع عشر والذي تكلل بظهور قانون تسجيل الأراضي والعقارات العثماني/ (1869م). بل أن الجماعات البدوية والقبلية، لم يخطر لها استجداء وسائل ضغط تدفع الحكومة للاهتمام بتوطينها وتأمين الضمانات المعيشية والعسكرية لها، بما يؤهلها للتحول لكيان سوسيوسياسي مدني قابل للتطور والتقدم. ذلك أن العمران الذي كان دالة وهدفا شبه رئيسي لاباطراة روما وبيزنطه، لم يكن واردا في امبراطوريات الشرق ومنها الاسلامية. وهنا يكمن خطورة الدور التنويري لعنوان (العمران) في مقدمة ابن خلدون التونسي [1332- 1406م] في قراءة المبتدأ والخبر والبداية والنهاية في الاجتماع العربي، وهو عنوان مستعار حتما من تلاقحه الثقافي مع الامبراطورية الرومبيزنطية التي كانت تحتل قرطاج ولم تنقطع علاقاتهما التجارية والثقافية.

(3)
المتن والهامش..
تبرز قضية المتن والهامش في الاجتماع القومي العربي، بنفس مستوى الاجتماع الديني الإسلامي. وقد تسبّب روّاد الحداثة في الفكر المعاصر، إسوة بفريق من الأخباريين القدماء، في إعدام هذا التصنيف. وكالعادة، كان (المتن) ضحية الإعدام، ولصالح سيادة (الهامش).
ففي الاجتماع العربي أو العرابي، بالاصطلاح البيئي الأوسع لشبه الجزيرة، فأن الحالة المدنية الحضارية، هي المتن والأصل الذين انبثقت عنه العروبة والتعرّب، كما يظهر في (القرآن) وسيرة ابن اسحق النوفلي/[683- 750م]، والذاكرة الشفاهية الجزيرية والقبلية، التي تنسب العرب إلى (بلاد اليمن).
أما القبيلة فظهرت عقب الخروج من اليمن، والتوزع في الأرض، وتفصيلها لدى ابن أسحق أيضا. أما البداوة، فهي ظاهرة اجتماعية بيئية طارئة، أفرزتها جملة عوامل متحرّكة، لم تحظ بالدراسة والتسجيل والبحث والتحليل، من قبل أهل الاختصاص والعلاقة بالأمر.
لقد تم اختزال المجتمع المدني والاجتماع السياسي لصالح القبيلة، ثم جرى اختزال القبيلة، في ظاهرة البداوة. فالحالات الثلاثة المتفاوتة حضاريا واجتماعيا، دمجت في بعضها، دمجا عشوائيا تدميريا، وأحيلت بالجملة على دالة البداوة. فصير لفظ التعرّب يساوي (التبدّي).
والواقع أن قدماء مؤرخي العرب والإسلام، ميزوا بوضوح ودقة في كلّ ذلك، وحتى في سير الشعراء ونسبة أشعارهم، كان لليمن والحضر والبداة، أثرهم وملامحهم كلّ على حدة. كما ميّز الخطاب الإسلامي بين (العرب) و (الأعراب). ويختلف قول (عربي) عن القول (أعرابيّ).
فالعروبة قرينة التمدن والتحضر اليمني، ذي الجذور الحضرمية والسبأية العريقة، والجذور العمانية البحرينية والكترية القديمة، والجذور النجدية الحجازية المديانية المديدة. مشكلة بعض المؤرخين والمنظرين، الالحاف لايجاد جذر لغوي للفظة (عرب)، ومنهم المستشرقون.
ولكنهم لم يقولوا لنا أصل (هود) المشتقة منه صفة (يهود)، ولماذا لم يوصفوا بالموسوية او الابراهيمية، وهما شخصيتان أكثر شهرة من شخص -هود- المغمور، ليس له دور أو حقيقة تاريخية. ذلك بافتراض أن الاسم يحيل على شخصية تنسب لنبوة غامضة.
ولا يقال ان النسبة تعود على (يهوذا) ابن يعقوب ابن اسحق ابن ابراهيم، الذي حباه والده، بالنسبة الأعظم من البركات: (يهوذا إياك يحمد أخوتك. يدك على قفا أعدائك. يسجد لك بنو أبيك. يهوذا جرو أسد. من فريسة صعدت يا ابني. جثا وربض كأسد وكلبوة. من ينهضه. لا يزول قضيب من يهوذا ومشترع من رجليه، حتى يأتي شيلون. وله يكون خضوع شعوب. رابطا بالكرمة جحشه، وبالجفنة ابن أتانه. غسل بالخمر لباسه، وبدم العنب ثوبه. مُسْوَدّ العينين من الخمر، ومبيض الأسنان من اللبن!)-(تك 49: 8- 12).
و(يهوذا) هو اسم المملكة الجنوبية اليهودية التي كانت تضم سبطين من أبناء يعقوب، وملكها من عقب رحبعام بن سليمان ابن داود وعاصمتها (القدس)، في مقابل المملكة الشمالية المسماة (اسرائيل) وعاصمتها (السامرة)، وملوكها من بني يربعام بن ناباط الأفرايمي، وهو قائد قوات سليمان، وضمّت مملكته عشرة أسباط من بني يعقوب.
وفي التقليد العبراني الموسوي، يمثل يهوذا السبط الملكي، مقابل السبط الكهنوتي في (لاوي). وقد قامت المدرسة النبوية التجديدية* في اليهودية، وهي الممثلة في اشعياء وأرميا وغيرهم، التي تبنت برنامجا اجتماعيا اصلاحيا، تصدى لفساد طبقة الكهنوت وانجرافهم في نزق الملوك، وشعارهم: (أريد رحمة لا ذبيحة!).
وفي التقليد الكنسي الشرقي، يوصف السيد المسيح بأنه (الأسد الخارج من نسل يهوذا!)، عطفا على البركة الممنوحة ليهوذا، والتي بنى عليها أشعياء بن آموص فكرة (المشيحا) الخلاصية. وهو ما يرد في السلسال الجينولوجي لنسب يسوع بالجسد. وهو السبط الذي تم نسبة بني أسرائيل إليه، بعد اختزال الأسباط الأثني عشر الأخرى.
بل ما هو أصل ألفاظ: إغريق، طليان، فرنسيين، انجليز، هنود، وبقية أمم الأرض. وبنفس النسق، يتمّ المبالغة في ترجيع تسمية الإسلام والقرآن، وتفسيرهما وتأويلهما، وأحاطتهما بتعليقات، لا تبرّرها ضرورة. وقد وردت لفظتا (عرب) و(أعراب) في أسفار التاناك العبرانية، وهو الأقرب لثقافة المنطقة، وألصق بها اجتماعيا، معتمدا التمييز الواضح بينهما. واختصاص (أعرابي) بسكنى البادية أو الخيام.
واليوم، يستخدم اصطلاح (عرب) للدلالة على جملة سكان البلاد الممتدة من الخليج إلى المحيط، دون تمييز الحالة القبلية أو البدوية المتفاوتة خلالها. بينما اختزل ذلك التمييز الى المستوى المحلي، والتداول الشعبي في داخلية البلدان. وقد ألحف جواد علي في هذا التمييز وأسنده بأمثلة محلية في زمنه، اختلفت مشاعتها اليوم. وربما كان أولى، به وبغيره من مثقفي ورواد تلك الحقبة، ترسيخ وتطبيع صفة الوحدة الوطنية والقومية، بدل خدمة ثقافة التجزئة والتنابز الداخلي.
فمن الضرورة، لأغراض علمية وثقافية وتعبيرية، العناية بالفصل القاموسي بين اللفظين، كما بين التمدن والحضارة والبداوة ، كأنماط ثلاثة متعارفة في تأريخنا الاجتماعي واجتماعنا المعاصر، ولعلّ الضرورة تترسخ في الأدبيات والمناهج السياسية، للأحزاب والدول والمؤسسات، المعنية بالتنمية والاصلاح المدني.
ــــــــــــــــــــــ
• اللاهوتي المصري متى المسكين [1919- 2006م] يرى ان ايليا التشبي هو مؤسس مدرسة الأنبياء المجددين. وايليا اول من ثار على الملك وزوجته وعارض بذخهم الموصوف بعبادة آلهة غريبة، وانتصر للارامل والمستضعَفين. وأنبياء التجديد اللاحقين اشعيا وارميا وحزقيال وميخا حتى يوحنا المعمدان واليسوع، سيؤكدون مبادئ ايليا الاشتراكية، ويعارضون البذخ والاسراف والاستغلال على حساب الأغلبية الفقيرة/ (البروليتاريا الكادحة).

(4)
الاسلام بفكره وتعاليمه وأصول قادته، كان ظاهرة حضرية مدينية/(حضرمية)، ومن خلال تأكيد مركزية (يثرب/ المدينة)، نشر ثقافة مدنية واتخاذها مثالا يقتدى، في التصورات الاجتماعية لسكان العرابيا. ومن خلال نمذجة طراز (المدينة)، شجع قيم المدينة المدنية، القائمة على العمل والانتاج، ومباركة اليد السمراء المتشققة من جراء الشغل.
وكما وقف السيد يسوع الجليلي مندّدا بجهاز الكهنوت العبراني/(الفرّيسيين)، نهى الإسلام الأصلي عن التنابز ووصفه بالجاهلية، كما نهى أفكار: [الكهانة والكهنوت والرهبنة] في فكره. والواقع أنه من أغرب الغرائب، أن تتسع طبقة الكهان والوعاظ وشيوخ الاسلام في العهد العباسي، تحت إطار دراسة الدّين والتعمق في أصوله وعلومه ومناهجه، وبالشكل الذي أفرز هوامش دينية للمتن الاسلامي، القائم على الفطرة والسجية الانسانية، الخالية من لوث الدنيا ورياء التجارة والسياسة.
ويمكن القول أن الهامش الديني، الذي أسس لتهميش (الاسلام) وتأويل (القرآن)، في اتجاهات وآفاق مخالفة لسياقها، لمجرّد النسبة إلى مرجعيات وهمية دخيلة، مزجت البدع الوثنية بالهجنة الثقافية والاجتماعية. فلم يمرّ قرن على وفاة محمد [571- 632م] حتى تسيّد منصته رجال، تم إحاطتهم بألقاب ومكانة، لم يحظَ بها صاحب الدّعوة والرسالة نفسه.
وما زال الكهنوت الديني يتضخم ويضطرد، مقترنا بتوسع مجالات التعليم والدراسة، من جهة، وبانتشار الفساد الاجتماعي والتخلف الفكري والرياء الديني من جهة مقابلة. هؤلاء هم الهامش الهجين والمضلّ المبين، الذي لا خلاص للأمة ولا كرامة للانسان العربي والمسلم، بغير التخلص منه.
ولقد عرفت شخصيا، بعض الشخصيات الدينية، أسوة بغيرهم من قطاعات الثقافة والحياة العامة، لكني أشيد منهم بالسيد محمد بهجت الأثري وهو من تلامذة الآلوسي، وصاحب مدرسة فكرية خاصة في القراءة، لكنه نادرا ما لجأ للوعظ أو التمظهر برداء الدين، وكان انسانا في غاية البساطة، وغاية في التهذيب والخلق الكريم، فضلا عن مكانته العلمية.
كما تعرّفت السيد جلال الحنفي، المثقف الموسوعي والعالم العلماني، ذي الاسهامات الفكرية والقلمية الثرة. عمل الحنفي إماما لأكثر من مسجد، بما فيها المسجد الاسلامي في الصين، قبل أن يستقرّ في جامع الخلفاء. ويمكنني توصيفه برجل الدين العضوي – على غرار مصطلح المثقف العضوي لغرامشي-، وذلك لربط التعليم بالمجتمع من جهة، وربطه الدين بالأخلاق، والأخلاق بالبيئة الراهنية. ولخطبه وجلساته شعبية كبيرة في المجتمع البغدادي.
ان الدّين ليس تجارة، ولا باب معيشة، الدين خدمة. وأنا أعتبر كل مهنة أو موهبة أو حيازة، باب خدمة للمجتمع المحلي. وبغياب جوهر الخدمة الفعلية/ العضوية، تفقد الموهبة والثقافة والحيازة نصف قيمتها، وتتحوّل إلى سمة شخصية، أنانية، أو باب طمع شخصي.
وللأسف، يروج الكهنوت الاسلامي لنفسه شعارات خاوية، فحواها تبشير المسلمين بالاسلام، واتهام الناس بالمروق والجهل الديني، لكي يبرر لنفسه تصحيح عقائدهم وإعادتهم للصواب. وتصور عشرة وعاظ، من هاته الشاكلة، يمرّون على شخص واحد. فكلّ منهم يخطئ سابقه، لتأمين لقمة عيشه من جهة، وتنمية رصيده المالي والديني من جهة ثانية.
لقد انقسم الكهنوت الإسلامي، منذ البدء، بكافة ألوانه وأطيافه ومستوياته، بحسب التقسيم الرائج للكهنوت العبراني والكهنوت النصراني. ويستخدم الكاتب داود درّة الحداد، تصنيف (سنة وشيعة) لتطيبقه على النصرانية. ويرى ان النصرانية (شيعة) تعود بآل بيت يسوع، وكان زعيمهم: (حلوقا ابن خالة): المسيح، جعل نفسه عميدا للعائلة، وجعل ابنه: (يعقوب): أول أسقف لأورشليم، تزعم التلاميذ يومئذ بضمنهم بطرس ويوحنا والآخرين. فالتشيع لآل بيت حلوقا انتج شيعة النصرانية اليهودية، والذين اتبعوا بولس هم (سنة) المسيح. وذلك في تسلسل تاريخي معاكس للسياق الاسلامي.
فكلا التشيع والتسنن، في النصرانية أو الاسلام، بدعة وابتداع، وهامش لتدمير النص. وكما اختفت وصايا السيد يسوع الجليلي، وتعرضت للتهويد النصراني والتوثين الكاثوليكي، فأفرغت رسالة المسيح وروحانية عقيدته، إلى أنظمة رأسمالية صيرفية، قائمة على الاكتناز والبيرقراطية، واستغلال الفقراء والمُستضعَفين.
كذلك أفرِغَت الدعوة والرسالة المحمّدية، من جوهرها الروحي والأخلاقي والانساني، لتستحيل إلى برامج حزبية ومزاودات وشتائم متبادلة، ليس بين الفرق، وانما تطال شخصيات القادة والرواد، بما فيهم جوانب من حياة محمد بن عبدالله، والافتراء عليه بكثير من القصص والأحاديث، حتى وصف أحدهم الطبري [838- 923م] بصاحب (مطبخ) الاسلام، فهو يجمع ويدبج ويطبخ ويخبز ويبيع، في عماء مذهل. ومن شاكلته مواطنه البخاري في مصنفه للحديث، والموصوف بلقب (الأمام الأكبر).
وفيما تدور الدوائر، لتبرير نحت هذا المصطلح، وفرضه في القاموس الإسلامي، فتحت أسواق كلام وشعارات وألقاب، عباسية، من بينها الألقاب الدينية، فهذا أمام أكبر، وذلك شيخ الاسلام وغيرذلك من كلام وعناوين مجانية، ضحكت بها دمقراطية العباسيين، على مرتزقة الدين ودهاقينهم، فأعيد طبع كتبهم مؤخرا، بيد تيّارات الدّين السياسي المعاصرة، لتمتلئ بها المكتبات والأرصفة وعقول الناس.
أما حال الدين فهزال تامّ. وأما حال المسلمين والناس، فغاية في الانحطاط والضياع والذلّة واللامستقبل.
يصف أحد المفكرين (الدين) بأنه: رأي من لا رأي له.
وبنفس المعيار، يمكن القول، أن الدّين: مهنة من لا موهبة وامكانية له، ورأي من لا رّأي له.، وفي ظل البراغماتية الغربية تحول إلى وظيفة كولونيالية تجارية رخيصة مزدوجة.
وجاء انتاج تكنولوجيا الفضائيات وشبكة النت، لخدمة جيوش الكهنوت وأطماعه وحبّهم للشهرة. فهؤلاء أكبر المستفيدين من هذا العنكبوت الشيطاني، الذي يحركه سلطان الهواء. وإذا كان الدّخل السنوي لوعّاظ أميركا، بمئات الملايين، فمداخيل وعّاظ المسلمين لا تقل عنهم، ان لم تزدهم بفضل العوائد النفطية.
وإذا كان عالم القرن والواحد والعشرين، يفتقد قناة تلفزة أو مجلة واحدة: تعنى بمجالات الثقافة والفكر والفلسفة الانسانية، فأن كثيرين من أفراد وعّاظ الدّين من ديانات مختلفة، يمتلك واحدهم شبكة تلفزة فضائية، وشبكة مراكز اعلامية ودينية عبر القارات، فضلا عن طاقم طيران خاص يتنقل به حول العالم.
فهل ثمة رقي رأسمالي ورياء ديني امبريالي، أفضل مما يجري اليوم وأكثر ازدهارا، مما لم يحظ به ايليا التشبي ويوحنا المعمدان [4 ق. م.- 29م] ويسوع الجليلي [4 ق. م.- 29م]، الذين لم يعرفوا مكانا يسندون فيه رؤوسهم؛ أو محمد [570- 632م] الذي عانى أنكى الظروف والضيقات في حياته، ومات مسموما.
وقد استخدم هادي العلوي [1934- 1998م] تعبير (الإسلام الميّت)، في مصطلح غني بالدّلالات،ولكن دلالته الأساسية، تبقى في حركة الانقلابات الداخلية والتمردات، والانتفاضات المتلونة، التي تنتهي بأنوع القمع الفكري والجسدي، عند تجاوزها على سلطة الدّهاقين.
وما زال ممثلو الإسلام أصحاب (سلطة مطلقة)، تتجاوز مؤسات الدولة والدستور والقضاء والاقتصاد، وكل الموسوعة المعرفية ، بامتلاكهم حقوق إصدار فتاوى القتل والحدّ والخلع، والنهب والابتزاز واستيراث الأموال، لذلك تجدهم في ازدياد وانتفاخ، يوازي سيادة الجهل والتخلف، وغياب السّلطات المدنية والدستورية.
ـــــــــــــــــــــ
• انظر: وديع العبيدي: في علم اجتماع القبيلة- مكتبة الحوار المتمدن؛ كذلك: في علم اجتماع البداوة، للمؤلف موقع جماليا للثقافة والفنون.
• التوسع العربسلامي خارج الحجاز وشبه جزيرة العرابيا، لم يحصل في عهد محمد بن عبدالله [571- 632م] مؤسس الدولة العربية الاسلامية الأولى، وانما عقب وفاته بأربعة أعوام، وذلك في السنة الثانية لولاية عمر ابن الخطاب، مع أنه لا يمكن البت في الخخلفية السياسي أو العسكرية وراء ذلك. الخليفة، أمراء الجيش الذين وجدوا أنفسهم بلا عمل بعد نهاية حروب الردّة وموت ابي بكر، تجار قريش، مرتزقة الجيش، البدو، أم عوامل أخرى مكتومة. وقد حاول احدهم تبرير ذلك بمقولة أن النبي كان يحضر لغزوة (تبوك) قبيل وفاته، ويسمى له الامراء، لكنه ليس دليلا ولا مبررا، فضلا عن موقع تبوك في حدود العرابيا التقليدية.




[4]
التوطن العربي تاريخيا..

(1)
(قحطان) الذي يرد في الكتب العربية، -في الأرجح- هو (يقطان) الذي يرد اسمُه في (سفر التكوين 10: 21- 25) التوراتي، فهو: [يقطان بن عابر بن شالح بن أرفكشاد بن سام ابن نوح]؛ أو هو: [قحطان بن عابر بن شالح بن أرفخشذ بن سام بن نوح] عند نسّابة العرب.
وهذا هو تفصيل جينولوجيا التوراه: [سام ابن نوح، هو أبو كلّ بني عابر. بنو سام: (عيلام، أشور، أرفكشاد، لود وأرام). وبنو أرام: (عوص، حول، جاثر وماش). وأرفكشاد ولد شالح، وشالح ولد عابر. ولعابر ولد ابنان. اسم الواحد فالج، لأن في أيامه قسمت الأرض. واسم أخيه: يقطان. ويقطان ولد: (الموداد، شالف، حضرموت، يارح، هدورام، أوزال، دقلة، عوبال، أبيمايل، شبا، أوفير، حويلة ويوباب)، جميع هؤلاء بنو يقطان. وكان مسكنهم من ميشا، حيثما تجيء نحو سفار جبل المشرق.]-(تك10: 21- 30).
وقد لا يكون هذا السرد بعيدا عن جانب من الحقيقة، مع الأخذ بالاعتبار، التغايرات اللغوية والاعلامية والجغرافية عبر آلاف السنين. يلحظ أن (يقطان/ قحطان) وأهل اليمن أو جنوبي العرابيا، هم أقدم من أجداد تارح وولده ابراهيم، بعدة أجيال. رغم أنهم يلتقون جيونولوجيا تحت صفة (عبرانيين) نسبة إلى (عابر) أبي كل من (فالج ويقطان).
وإذا اعتبرنا أن (فالج) التوراة هي [فالوجة/ فلّوجة] العراق على نهر الفرات، التي قسمت الأرض. فالمعنى أن مجرى نهر الفرات، كان هو خط التقسيم بين: أولاد فالج وأولاد يقطان. وفيما كان نصيب (بني يقطان/قحطان) نهاية اليابسة من جهة جنوبي الفرات، التي هي (العرابيا): شبه جزيرة العرب اليوم؛ انتشر (أولاد فالج) شرقي المتوسط، إلى الغرب من مجرى الفرات حتى سيناء.
أما بالنسبة لقطوراء التي ترد عند النسابة العرب، اردافا ببني إسماعيل، فهي زوجة أبيه/ (ابراهيم) الثالثة بعد وفاة (سارة)، كما يروي النص: [وعاد ابراهيم فأخذ زوجة اسمها (قطورة)، فولدت له: (زمران، يقشان، مدان، مديان، يشباق وشوحا). وولد يقشان: (شبا وددان). وكان بنو ددان: (أشوريم، لطوشيم و لأميم). وبنو مديان: (عيفة، عفّر، حنوك، أبيداع و ألدعة). جميع هؤلاء بنو قطورة. وأعطى ابراهيم اسحق كلّ ما كان له. وأما بنو السّراري، اللواتي كانت لابراهيم، فأعطاهم ابراهيم عطايا، وصرفهم عن اسحق ابنه، شرقا، إلى أرض المشرق، وهو بعد حيّ]- (تك25: 1- 6)
ويرى أحد الوعاظ البروتستانت المعاصرين، أن (قطورة) ومعناها: (عصفورة)، هي نفسها (هاجر) المصرية، التي طردتها (سارة)، بعد انجابها وتعلّق ابراهيم بها، وهي بعد عاقر، فنزحت جنوبا إلى سيناء، قريبا من بلدها في مصر. وعندما توفيت (سارة)، عاد إليها ابراهيم، وعاش معها بقية عمره.
ولم يذكرها الكاتب العبراني باسمها الأول، والذي هو صفة للأجنبي (هاجر/ غريب)، وليس اسما شخصيا حقيقيا. انما دعاها (عصفورة/ قطورة) من باب الغزل والتفنيق: (أي الدّلع). ولذلك عاش بنو قطورة مع اسماعيل وبنيه، فهو أخوهم الأكبر والزعيم الأكبر لعشائرهم، ومناطقهم شبه جزيرة سيناء وامتدادها شرقا حتى رأس الخليج جنوبي الفرات.
ما يهمّنا هنا، هو حدود التوطن الجغرافي، الذي يشير في التوراة: (شرقا، إلى أرض المشرق)، وهي البلاد الممتدة من وادي عربايا نحو الخليج، الواقعة بين جنوبي مجرى الفرات وشمالي نجد، اليوم. أما هاجر واسماعيل وولده، فقد استوطنوا شبه جزيرة سيناء ووادي الأردن.
وفي وقت لاحق، سنجد أن أولاد (عيسو) ابن اسحق، وشقيق (يعقوب) الملقب (اسرائيل)، والذي يسبغ عليه كاتب التوراة، معظم صفات اسماعيل/ عمّه، سوف يستوطن أيضا في سيناء ويتزوج من بنات اسماعيل، ويندمجان أسريا، لكن بني عيسو الملقب (أدوم) ومعناه (أحمر) – نسبة إليه: تسمية البحر الأحمر-، سوف يتمدد جنوبا مع الساحل الشرقي للبحر الأحمر، لما يعرف اليوم بالحجاز، وإسمها التوراتي: (مملكة أدوم).
وفي رأيي أن عيسو هو الذي صاهر بني (جرهم) واستعرب، حسب الأخباريين العرب، الذين اعتبروه اسماعيل، بحسب التاريخ الشفاهي السائد. ذلك ان اسماعيل يلتحق بابراهيم مباشرة وهو بكره، والموازي لاسحق ابن سارة، الذي يصغره بثلاثة عشر عاما. وهذا يجعله أكثر قدما وأولوية من كون عيسو ابنا لاسحق وحفيدا لابراهيم.

(2)
ولابدّ من تأكيد حقيقة طالما تغافلها/ تجاهلها السابقون والآخرون، وهي أن (ابراهيم) بحسب مرويّة التوراه، يبقى عراقيا: بابليا كلدانيا في أصله/(تك11: 28)، وهذا يصحّ على أخته وزوجته سارة. أما ناحور شقيق ابراهيم فقد تزوج بنت أخيه/(ناحور) واسمها: (ملكة بنت هاران) قدمت معه من أور إلى حاران شمالي الفرات في سوريا. ورغم أن (هاران بن تارح) شقيق ابراهيم الثالث، بحسب رواية التوراه مات في أور، فأن ذريته وصلت إلى حاران، وتتكون من ثلاثة أشخاص: [لوط، ملكة، مسكة]. وقد تزوجت ملكة من عمّها: (ناحور)، ولا يذكر شيء عن مصير أختها (مسكة). لكن الكاتب العبراني يؤكد أن ابراهيم أصرّ على تزويج اسحق من بنات شقيقه في حاران، وهي رفقة بنت ملكة زوجة ناحور وأخت لابان. ولاحقا سوف يتزوج يعقوب ابن اسحق امرأتين أختين من بنات لابان.
الكاتب العبراني الذي وصف الموطن الأول لتاريح وابراهيم باور الكلدانيين/(العراق الحالي)، يصف بني ناحور وملكة بالآراميين/ (سوريا الحالية). و(أرام) تسمية قديمة لسوريا، وأهلها (اراميون) نسبة للمكان. فنساء اسحق ويعقوب اراميات، واعتبرن النسب الأصلي/ الشرعي لبني اسرائيل.
في نفس السياق، نجد أن اسم ابراهيم الأصلي هو اسم مركب من مقطعين: [أب- أرام] وبدمجهما جرى اختزال الألف الوسطية ونتج الأسم (أب رام)، وما تزال (الرامة) و(رام الله) حواضر وشواخص جغرافية فلسطينية حيّة لليوم، وهي العاصمة المؤقتة للسلطة الفلسطينية الانتقالية.
فالعائلة الابراهيمية هي عائلة عراقية سورية أصلا، وهذا يعني أن العبرانيين جملة يعودون إلى أصول عراقية كلدانية، والكلدان هم الأموريون قوم حمورابي مؤسس بابل الأولى التي عرفت بالكلدانية. ومن بابل الكلدانيين- بحسب النسابة العرب الأوائل-، نزحت أقوام وهجرات جنوبا مع سواحل الخليج، حتى انتهى بعضها بأرض اليمن.
فيكون مرجع أهل اليمن بابل الكلدانيين. فأهل اليمن والخليج الأصليون مع الاراميين والعبرانيين، يعودون للأصل الكلداني البابلي. ومن اليمن ذات المرجعية الكلدانية، خرج العرب الأصليون. وهذا خلاف القول بنسبة اليمن والعرب للعبرانيين. والقولان مرجعها نصوص سفر التكوين التوراتي، على ما فيهما من تناقض وازدواج في الرأي.
والتناقض والارتباك في جينولوجيا التوراه، واضحة وضوح الشمس. وقد زادها وضوحا تهافت الايديولوجيا الاسرائيلية وعبثها بالنص الأصلي، فحيث جعلت اسماعيل ابنا بكرا لابراهيم/(اب رام)، عادت وطردته من العائلة وجعلت له أما مصرية، وجرى استبداله باين تلده (سارة) وهي في عجوز وابراهيم عمره (مائة عام).
وبعدما جرى تصفية موضوع اسماعيل بجهد ملحوظ، يعاد انتاج نفس القصة باسم (ايسو/ عيسو)، ويكون هو الأول والبكر مثل اسماعيل، وكلاهما حبيب أبيه، ثم يتمّ تجريده أيضا من بكوريته ويحرم من الارث العبراني، بفذلكة أكثر تعقيدا. والمشتركات في القصتين عديدة وواضحة. لكن الأكثر وضوحا، هو دور الأنثى في صياغة الأحداث وقيادتها حسب رغبتها ومزاجها. فقد جاء طرد اسماعيل من قبل سارة، وكانت رفقة زوجة اسحاق وراء تجريد عيسو من البكورية. ويبقى ثمة السؤال المضمّر، لدى طائفة من الباحثين، من كتب التوراه التي لم يكتبها (موسى ابن عمرام)؟..
وهذا سؤال جندري، حسب سياق الأحداث وسطوة القص واتجاهات القوى التي تنتصر غالبا للمرأة، سيما في الحلقات الرئيسة، ولا مبرر لظهور الرجل، الأب الروحي وعميد العائلة يبدو ضعيفا هامشيا مستلب الارادة والرأي أمام امرأته، وذلك في مجتمع شرقي: بدوي أو رعوي، يتمتع فيه الرجل بكل السلطة والمسؤولية والمجازفة، ولا يتجاوز نشاط المرأة حدود العائلة والمنزل.
والفارق بينهما ضئيل، عائليا واجتماعيا. ولعيسو نساء حيثيات وكنعانيات/ (من سوريا ولبنان)، وهو قطب أثني عشر قبيلة، وأول من أقام سلالات مكلية حكمية من نسله.

نسل اسماعيل..
[هذه مواليد اسماعيل ابن ابراهيم الذي ولدته هاجر المصرية، جارية سارة لابراهيم. وهذه أسماء بني اسماعيل بأسمائهم، وحسب تستسل مواليدهم: (نبايوت البكر، قيدار، أدبئيل، مبسام، مشماع، دومة، مسّا، حدار، تيما، يطور، نافيش و قدمة). هؤلاء هم بنو اسماعيل، وهذه أسماؤهم بديارهم وحصونهم. أثنا عشر رئيسا حسب قبائلهم. وهذه سنو حياة اسماعيل: مائة وسبع وثلاثون سنة. وأسلم روحه ومات وأنضمّ إلى قومه. وسكنوا من (حويلة) إلى (شور)، التي أمام (مصر)، حينما تجيء نحو (أشور). أما جميع أخوته نزل.]- (تك35: 12- 18)

نسل عيسو..
[وهذه مواليد عيسو: الذي هو (أدوم). أخذ عيسو نساءه من بنات (كنعان): (عدا بنت إيلون الحثي)، و(أهوليبامة بنت عنى بنت صبعون الحوّي)، و(بسمة بنت اسماعيل أخت نبايوت). فولدت عدا لعيسو: (أليفاز)، وولدت بسمة : (رعوئيل)، وولدت أهوليبامة: (يعوش، يعلام و قورح). هؤلاء بنو عيسو، الذي ولدوا له في أرض كنعان/ (بلاد الشام/ شمالي الحجاز). ثم أخذ عيسو نساءه وبنيه وبناته وجميع نفوس بيته ومواشيه وكل بهائمه وكلّ مقتناه، الذي اقتنى في أرض (كنعان)، ومضى إلى أرض أخرى، من وجه (يعقوب) أخيه. لأنّ أملاكهما كانت كثيرة على السكنى معا، ولم تستطع أرض غربتهما أن تحملهما، من أجل مواشيهما. فسكن عيسو في جبل سعير. وعيسو هو (أدوم).]- (تك36: 1- 8)

(3)
الاستيطان في العرابيا..
بنو عيسو في أدوم..
[وهذه مواليد (عيسو) أبي (أدوم)، في جبل (سعير). هذه هي أسماء بني عيسو. أليفاز ابنه من (عدا)، ورعوئيل ابنه من (بسمة) بنت عمّه. وكان بنو أليفاز: (تيمان، أومار، صفوا، جعثام و قناز). وكانت (تمناع) سرية لأليفاز بن عيسو، فولدت له: (عماليق). هؤلاء بنو عيسو من زوجته الأولى (عدا بنت إيلون الحثي). وهؤلاء بنو رعوئيل: (نحت، زارح، شمّة و مزّة). هؤلاء كانوا بنو عيسو من بسمة بنت اسماعيل عمّه. وهؤلاء كانوا بنوه من أهوليبامة بنت عنى بنت صبعون الحوّي. ولدت أهوليبامة: (يعوش، يعلام و قورح)]- (تك36: 9- 14)

أمراء بني عيسو في أرض (أدوم)/ (الحجاز)..
[هؤلاء بنو عدا الحثية: (أليفاز بكر عيسو أمير تيمان، أمير أومار، أمير صفوا، أمير قناز، أمير جعثام). وهذا ابن تمناع: (أمير عماليق). ومن بني بسمة: هؤلاء بنو رعوائيل بن عيسو: (أمير نحت، أمير زراح، أمير شمّة، وأمير مزّة). ومن بني أهوليبامة: (أمير بعوش، أمير بعلام، أمير قورح). هؤلاء بنو عيسو الذي هو أدوم، وهؤلاء أمراؤهم.]- (تك36: 15- 19)

بنو سعير..
[هؤلاء بنو سعير الحوري: سكان الأرض: (لوطان، شوبال، صبعون، عنى، ديشون، إبصر و ديشان). هؤلاء أمراء الحوريين بنو سعير في أرض أدوم. وكان ابنا لوطان: (حوري و هيمام). وكانت تمناع: سرية عيسو وأم عماليق، هي أخت لوطان. وهؤلاء بنو شوبال: (علوان، مناحة، عيبال، شفو و أونام). وهذان ابنا صبعون: (أيّة و عنى). وهذا (عنى) هو الذي وجد (الحمائم) في البرّية، إذ كان سرعى حمير صبعون أبيه. وهذا ابن عنى: (ديشون و أهوليبامة). وهؤلاء بنو ديشان: (حمدان، أشبان، يثران و كران). وهؤلاء بنو إبصر: (بلهان، زعوان و عقان). هذا ابن ديشان: (عوص و أران)]- (تك36: 20- 28)

أمراء الحوريين:
[أمرء الحوريين: أمير لوطان، أمير شوبال، أمير سبعون، أمير عنى، أمير ديشون، أمير إبصر، أمير ديشان. هؤلاء هم أمراء الحوريين بأمرائهم في أرض سعير.]- (تك36: 29- 30)

ملوك أدوم..
تأسست مملكة أدوم على الساحل الشرقي من البحر الأحمر، مما يلي اليمن شمالا، وذلك قبل أن يخطر (الملك) لبني اسرائيل، ومطالبة صموئيل الكاهن/(1صم 8: 5، 19، 21- 22) بترسيم شاول ملكا لهم.
1- بالع بن بعور: ملك في أدوم، وكانت إسم عاصمته: (دِنْهابة). ودام حكمه حتى مات، فخلفه في مكانه..
2- يوباب بن زارَح: ملك في أدوم، وأصله من (بصرة). ودام حكمه حتى مات، فحلّ مكانه..
3- حوشام: حكم في أدوم، وهو من (تيمان). وبعد موته، خلفه في مكانه..
4- هداد بن بداد: حكم في أدوم، وهو من مدينة (عَوِيتَ)، وفي حكمه كسر (مديان) الذي في مدينة (مؤاب) شرقي نهر الأردن. ودام حكمه حتى مات، فخلفه في مكانه..
5- سملة : حكم في أدوم، وهو من مدينة (مَسريقة). وحكم حتى مات، ومن بعده ملك..
6- شأول: ملك في أدوم، وهو من مدينة (رحوبوت النهر). دام حكمه حتى مات، فخلفه في مكانه..
7- بعلُ حانان بن عكبور: ملك في أدوم. ودام حكمه حتى مات، فخلفه في مكانه..
8- هَدار: ملك في أدوم، وهو من مدينة (فاعو)، واسم امرأته: (مهطئيل بنت مطرد بنت ماء ذهب).
- (تك36: 31- 39)

أمراء عيسو أبي أدوم..
الذين حكموا من بعد الحوريين في أدوم/(الحجاز- لاحقا)..
[أسماء أمراء عيسو حسب قبائلهم وأماكنهم بأسمائهم: أمير تمناع، أمير عَلوة، أمير يتيت، أمير أهوليبامة، أمير إيلة، أمير فينون، أمير قناز، أمير ثيمان، أمير مبصار، أمير مجدئيل، أمير عيرام.]- (تك36: 40- 43)
(4)
حكام أدوم في دمشق..
في التأطير العبراني الكهنوتي للمملكة اليهودية، تحضر دمشق بقوة في أخبار داود بين يسّي، وذلك في معاهدة التعاون والتحالف بينه وبين الملك (هدد) ملك أرام في دمشق/(). وفي سياق لاحق، تظهر معلومات عن أصل هدد الارامي الدمشقي الأدومي، كما ترد في مروية (التاناك) هكذا:
[لما كان داود في أدوم/ (الحجاز)، عند صعود يوآب رئيس الجيش لدفن القتلى وضرب كلّ ذكر في أدوم. لأن يوآب وكلّ اسرائيل أقاموا هناك ستة أشهر، حتى أفنوا كلّ ذكر في أدوم. أن (هدد) هرب، هو ورجال أدوميّون من عبيد أبيه معه، ليأتوا مصر. وكان هدد غلاما صغيرا. وقاموا من مديان وأوا إلى فاران، وأخذوا معهم رجالا من فاران، وأتوا إلى مصر، إلى فرعون ملك مصر. فأعطاه ببتا وعيّن له طعاما وأعطاه أرضا. فوجد (هدد) نعمة في عيني فرعون جدّا، فزوّجه أخت امرأته: أخت تحفنيس الملكة. فولدت له أخت تحفنيس ابنه: (جَنُوبَثَ)، وفطمته تحفنيس في وسط بيت فرعون. وكان (جنوبث) في بيت فرعون بين بني فرعون. فسمع (هدد) في مصر، بأن داود قد مات،وبأن يوآب رئيس جيش داود قد مات. فقال هدد لفرعون: أطلقني، فأنطلق إلى أرضي!. فقال له فرعون: ماذا أعوزك عندي حتى أنك تطلب الذهاب إلى أرضك؟ فقال: لا شيء، وانما أطلقني!. وأقام الله له خصما آخر، رزون بين اليداع، الذي هرب من عند سيّده (هدد عزر) ملك صوبه. فجمع إليه رجالا، فصار رئيس غزاة عند قتل داود إيّاهم. فانطلقوا إلى دمشق، وأقاموا بها وملكوا في دمشق. وكان خصما لاسرائيل كل أيام سليمان، مع شرّ هدد. فكره اسرائيل، وملك على أرام.]- (1مل 11: 15- 25)
خلاصة..
هذا السياق السردي الجيوتاريخي، والمرتكز إلى محورية الشخصية التوراتية المركبة، ذات الأصول العبرانية الكلد-أكدية، [اسماعيل- عيسو] ومحيط توطنها الجغرافي، يؤكد أمرين: أولهما جغرافي: أقدمية اليمن/[صنعاء وحضرموت] على ظهور الشخصية التوراتية؛ وثانيهما اجتماعي سكاني: هو أقدمية فينيقيا على ظهور كل من اليمن والعبرانيين. وقد تعارف القدماء على أهل اليمن/ (جنوبي العرابيا)، بالقحطانيين، وعلى أهل الشام/ (شمالي العرابيا)، بالكنعانيين. وسوف يعني هذا، ان تزاوج (عيسو) الفينيقي، مع جرهم اليمانية، أنتج عرب الحجاز، والتي تتموضع مركزيا وسطيا بين أرض الشام/(شرقي المتوسط)، وأرض اليمن/(جنوبي البحر الأحمر)، وهو طريق خطوط التجارة العالمية يومذاك، من حضرموت إلى الشام، ومنها شرقا وغربا. ولذلك اكتسبت الحجاز صفتين متلازمتين: أنها مراكز حضرية، وانها مراكز تجارية. فهي حضرية غير بدوية ولا قبلية، وهي تجارية غير زراعية ولا رعوية. هاته الخاصة المدنية الأساسية، ستشكل السمات الأصيلة للجماعة العرابية التي ستتبلور ظروفها وملامحها في الحاضنة الحجازية.
ــــــــــــــــــ
* المصدر: سفر التكوين: الكتاب الأول من أسفار التوراه الخمسة، كتاب (تاناك) العبرانيين، الذي يضمّ كتب التوراه وكتب الأنبياء والكتب التاريخية.




[5]
أور ذات الأسوار..

(1)
المدن القديمة، منذ أيام سومر، كانت تحيط بها اسوار منيعة؛ كما في ملحمة جلجامش، الملقب بـ(باني الأسوار) واحدة من منجزاته. ويظهر جلجامش في نقش واقفا على قاطع من سور، تحت العمل. وللسور وظائف عدّة، منها ترسيم الحدود، والتمييز بين الداخل والخارج، ومنها حماية البيئة المحلية، من الغرباء والمعتدين.
أن بناء بيت أو مستوطنة سكنية، كان يبتدئ أولا ببناء سور محيط، يكون قاعدة لترسيم خرائط الداخل. وفي القرية/ المستوطنة السومرية، شكلت الدائرة والمركز أساس التوزيع. فبعدما ينتهي ترسيم السور وبناؤه، يتم بناء (زقورة المعبد) في نقطة المركز، يقابله قصر الملك الذي يستمدّ سلطته وقوته من (الإله).
وبعد مساحة خالية حوالي المعبد والقصر، تبدأ سلسلة بيوت السكان على شكل حلقات دائرية تحيط بالمعبد والقصر. ويمكن بذلك تحديد عنوان أي بيت بالمدار القائم فيه والمرقم بالتسلسل من نقطة المركز، التي تمثل القيمة (صفر).
وفضلا عن شيوع (الأسوار) في الصين وبعض مدائن الرومان خاصة القسطنطينية/(استامبول) التي حفظتها أسوارها المنيعة مرات كثيرة من السقوط والاجتياح؛ فقد اعتمد الطراز الاسلامي لبناء البيوت والمدن: مبدأ (الأسوار)، ومعظم المدن الاسلامية الكبرى، توفرت على أسوار عارمة وعظيمة وجميلة، لما تزل أنقاض منها ماثلة لليوم في بغداد القديمة والقيروان والفسطاط/ (القاهرة) وبعض المدن القديمة.
ومن أبرز تلك النماذج هي خريطة بغداد المدورة، وسورها العظيم الذي تعرض لردم ونقض ونهب مستمر، سواء من قبل السكان المحليين، أو سراق الآثار. وفي متاحف الغرب، مقاطع من أسوار بابل وأشور نينوى. وتقسيمات مناطق بغداد والمدن الإسلامية ما تزال تتبع توزيع أبوابها مثل [باب المعظم، الباب الشرقي] في بغداد اليوم، وكان لسور بغداد سبعة أبواب، تفتح في النار وتغلق في الليل، ومنها [باب البصرة، باب الحوائج] وغيره.
وأنا أرى ضرورة استعادة هاته القيمة العمرانية التراثية في استحياء منظومات الأسوار المدينية والقروية والمحلية، وتنظيم بواباتها ومخارجها، وتأهيل كوادر نظامية معنية، بتأمين الحماية والحصانة لها ولساكنيها. و(السور) في هذا المضمار، ليس حائطا حجريا مجردا، وانما قطعة فنية تراثية تاريخية، وكتاب مفتوح يستعرض طبيعة المجتمع المحلي وتاريخه ومآثره. يساهم في ذلك طاقم محلي من فنانين مقتدرين، ذوي قدرات وخصائص فنية محلية، بحيث تشكل (الأسوار) دلائل فنية على أعمالهم الابداعية، ويكون لكل فنان اسمه ورسمه مع نقوشه ومنحوتاته.

(2)
لكلّ مكان هوية، خصائص طبيعية يدخل فيها التراب والماء والهواء، النباتات والحشرات والطيور ولمسات الانسان القديم، كلّ ذلك يسبغ على المكان حيوية كامنة تندفع خارجا كرائحة وعبق ولغة روحية، تتخلل أنفاس ومسامات المتأمل. ومن يعش فيها، لا يكاد يفارقها، أو فلنقل: ينساها.
المكان في بلادنا يتيم، بائس، حزين. لأنه لا يجد من يدنو منه، من يهاجسه أو يتحسس ألمه. لكن غربة المكان ويتمه وبؤسه، لا تذهب مع الريح. انها تتخلل انسانها. انسان البيئة والمكان، مهما ابتعد وحاول الهروب، تبقى تلك الرائحة تطارده. لا.. بل يبقى اليتم والبؤس والغربة تتخلله وتطارده، ولو نال من الدنيا ومن ترهات الغرب منالاته، تبقى في داخل نقطة سوداء، نفق أجوف، أو ثقب أسود، لا ينفك عنه.
الانفصال عن المكان الأول والبيئة الحميمة الأصلية ليس كلاما. وكل من يصفن مع روحه، ويحفر جوانياته، يجد تلك الهمسات البريئة، والخصائص الأولية المرتبطة بعشبة أو حشرة او ساقية جافة، تحفر في داخله عميقا وعميقا، وتحمله الأماني، للمسة، لنسمة، لجلسة استرخاء وتأمل في ذلك المكان الأمومي، ولو كلفته التكاليف.
ولكن، عناد الانسان، وجحود المجتمع، وخيبة الأنظمة السائدة في الشرق والغرب، والمتحالفة ضدّ براءة الانسان ونقاء المشاعر وطهارة الطبيعة؛ تلك هي الاخطبوط الذي رسم في العيون والأذهان، صورة وهمية للثروة والجاه والسيادة. وللأسف، في داخل كلّ منا، في داخل كلّ مخلوق، مهما كان حقيرا وبليدا، حلم للعظمة، للتسلط، للملوكية، حلم أجوف، بل هو وهم قاتل ومرض مضلل.
هاته هي أميركا الشمالية. هذا هو الحلم الأمريكي، هذا هو الهراء الذي دفع الاف الأوربيين في القرن السابع عشر وما بعده لركوب البحر، بحثا عن الذهب والثروة والسيادة. ربما كان وهما روّجته الدعاية الكولونيالية الغربية لاحتلال القارة الخالية وضمها لمستوطناتها وغنائمها، وما أشطر الانجليز في هذا النوع من اللعب.
لكن خيبة الأمريكي لا توصف. شعور الأمريكي بالاحباط والندم لا علاج له. لذلك انقلب الاحباط واليأس والندم في داخله إلى عنف خارجي، وهوس في الجريمة، أسبغ على العالم الجديد صفة بلا منافس، هي البلد الأول في الجريمة، بكلّ ما تتضمنه موسوعة الاجرام من فنون ووحشية.
الأمريكي من أصل انجليزي أو الماني أو فرنسي، غير قادر للعودة إلى بلده الأم ولد أجداده، إلا بتأشيرة دخول. وتفرض القوانين الأوربية على الأمريكي اجراءات صارمة في الدخول والاقامة ولا تسمح له بالعمل أو البقاء، بغير عقود عمل وصفقات شركات استثمارية ولمدة محددة لا يجوز تجاوزها. وكان احد المبشرين الأمريكان في انجلتره، لا يستطيع تجديد الاقامة، بغير العودة إلى بلده والبدء من الصفر.
الحلم انكشف، والوهم افتضح، والفردوس تكشف عن غابة. اميركا ليست حلما ولا فردوسا. انها رأسمالية الرأسمالية. الحياة فيها مرهونة بالثروة. والأثرياء وحدهم يعيشون ويتمتعون وتظهر صورهم ومظاهر غناهم في الاعلام. أما الشغيلة، فلا قانون عمل يحميهم، ولا ضمان عمل أو صحة يتكفل بهم. فإذا عجز أحد عن العمل، فله الله.
هذا هو مبرّر العنف الأمريكي نحو الخارج. أعني العنف الرسمي، حملة الحروب والازمات التي تشتعل بين أسيا وأفريقيا، ويذهب إليها الجيش الأمريكي للانقاذ او التدمير أو ديمومة حركة النار. الشباب الأمريكي العائد من حروب الخارج ينتهي للجنون والانتحار والتمرد والجريمة.
اعلام ترامب مثل اعلام المحافظين في لندن، أوقف نشر أخبار الانتحار والجرائم الداخلية. المجازر والفضائح المكررة في المدارس والقواعد العسكرية، لم تنته، لكنها اخفيت عن الاعلام.
بالمقابل، ظهر مقاولون اعلاميون يروجون لنسخ جديدة من الحلم الأمريكي، حلم الثروة والجاه والسيادة، على جيوش العطالة في أسيا وأفريقيا، هيا للهجرة، لجمع الذهب والثروة وسهرات النبيذ الحمر والليالي الحمر والغواني من كل لون، هيا لسيارات الليموزين والسائق والبودي غارد والمعجبات.
هكذا يبذل البائس ما يملكه، وما يتوفر عليه ذووه، لتحقيق حلم الهجرة. ولعبت السياسات الحكومية الطائشة ومسلسلات الحروب الأهلية والفوضى الأمنية والدين السياسي والمسلح عوامل في تهجير ابناء البلد نحو الخارج، فردوس الغرب. خدمة مجانية للماكنة الامبريالية، لبنوك الغرب وتدعيم الدولار.

(3)
لا أحد يفصح عن معاناة الغربة، وذلّ المعيشة. والكلّ يكذب على نفسه، وعلى الكلّ. يكذب حياء أو رياء، وربما ليخفي خيبته من الشامتين. لكن المقيم في الغربة والمهجر، يرى ويسمع ويعيش ويعايش. ثلاثون شخص يعيشون في حجرة، لا تكفي لسرير واحد ومطبخ صغير. هذا ما يعيشه المصريون والهنود. ما لا يجوز ويباح في البلدان، يتجرعه المهاجر الذي انقطعت به السبل ولا يستطيع العودة.
ها هو يكتشف خيبته، لا يستطيع المعيشة بغير عمل ودفع فواتير، ما كان يدفع ثلثيها في بلده. ربما، بعد سنوات يستطيع تأجير حجرة مستقلة لنفسه. ربما وربما. أما الذهب والثروة والسيادة والكرامة، فمجرد وهم أميركي. وفي المهجر، في فردوس حقوق الانسان، لا يمكن للمهاجر أن يحظى بشعور مساواة مع ابن البلد.
حتى أنظمة الرواتب والأجور، تختلف بين المواطن والمهاجر، كما بين الرجال والنساء. لكن المهاجر، مغضوب على أمره. لا دولة تحميه ولا أهل يستقبلونه خالي الوفاض. والحل، اتباع شعار كل شيء من اجل المال. وذلك يعني غاية البراغماتية والميكافيللية والتحلل من كل شيء في سبيل الدولار والثروة الموهومة.
حالة من الموت المنظم والتدريجي. برنامج دقيق للاستغلال والدمار والاحباط الشامل. في النصف الأول من القرن العشرين كان المثقفون واليساريون يتحدثون عن استغلال الاقطاع للفلاحين وبؤس القرى وغياب العدالة الاجتماعية والاقتصادية والاستغلال الطبقي.
أما اليوم، والاستغلال الراسمالي للشباب والشغيلة والنساء، وقلعهم من بلدانهم وحرمانهم من خصائص الحياة الطبيعية وممارستهم اعمالا لا تناسب أو تليق بهم وأعمارهم وامكاناتهم، فليست استغلال، ولا تستحق اذكر وتشويش الاعلام. الاقطاعي امسكين كان مكشوف القفا، لسكاكين اليسار الذي استخدمتهم انجلتره لضرب نفوذ رجال الدين المحرضين ضد الاحتلال. أما اليوم، فأن الامبريالية العالمية وكل طواقمها حول الأرض، يحمون الرأسمالي وتجارة الدولار والمصانع والشركات الغربة أصلا.
أدبيا أو أكادميا، حقوقيا أو حضاريا ، دينيا أو أخلاقيا، تقتضي أحوال المهاجرين، وسيما الشباب والمهاجرين الجدد، أكثر من صرخة، لترتيب أوضاعهم وتصحيحها. وكان سعدي يوسف، كتب مرة عن معاناة الهنود وبؤس سكناهم واستغلالهم في الخليج، وكان أحرى به التقرب من ظروف ومعاناة المهاجرين في انجلتره، والبلاد الرأسمالية التي يقيم هو فيها.
ثمة أكثر من ضرورة وفي أكثر من صعيد، لفتح هذا الملف، واجراء علاجات فورية، لوقف نزيف الهجرة وضياع السكان ومشاعل الشباب، على أرصفة الغربة والاستغلال الرأسمالي. على كل بلد اعادة هيكلة اقتصادياته، وفتح مشاريع انتاجية واستهلاكية، لتوفير فرص عمل لسكانه، بدل تملق صندوق الدولي، والتطفل على القروض والاستيراد، لتستمر بحبوحة الغرب، ويترسخ بؤس الشرق.

(4)
قليلون جدا جدا كتبوا عن حياة المهاجرين. قليلون يصدقون في كتاباتهم، كثيرون يكتمون ويكذبون. والأقل جدا، من يكتب من داخل الحالة، من داخل المهجر ومن سوق العمل ومحيطه الاجتماعي. ومن مضاعفات ذلك انحياز المهاجر للدين، لضمان دعم نفسي وغطاء اجتماعي، وربما رابطة مع وطنه الأم، كما عند المصريين والهنود والشيعة.
ان الفرد منا يعيش قطيعة معرفية وقطيعة تاريخية مع الأرض والبيئة المقيم فيها، وقد انعكست تلك القطيعة والجهالة في هشاشة الارتباط بالأرض والبيئة الثقافية والمجتمع المحلي والوطني والقومي. وقد ورثنا تقليدا سيئا وسالبا، هو عن فهم خاطئ، أكثر مما هو نهج أصيل، وأعني به الهجرة.
وإذا كانت هجرة محمّد وأتباعه عن إضطرار طارئ، انتهى بالعودة إلى مكة والحجاز، فليس الحريّ اعتبار التقويم الهجري (تقليدا هجريا). وموجات انزياح العرب والمسلمين وانسياحهم خارج بلدانهم أولا، ونحو الغرب ثانيا، ينبغي التعرض له بعلاجات وأجراءات عملية ايجابية، وتوظيف امكاناتنا البشرية والعقلية والمادية داخل بلداننا وبيئتنا المحلية.
الطبيب المصري أو اللبناني أو المغربي، يجب أن يخدم داخل بلده، بل داخل مدينته ومحلته وقريته. ويدعم الحالة التواصلية، بين ما أخذه منها في نشأته، ويعيدها إليها منقحة ملقحة مهذبة خادما معطاء، فتتأصل أواصر الصلة المحلية، وتتوشج عرى الروابط النفسية والاجتماعية، ونختصر مضاعفات الغربة والاغتراب والقلق والانفصام والانقطاع عن الجذور.
وأعتقد، من واقع تجربتي الشخصية، ومن نخبة المثقفين والأكادميين، أن المغترب، كلما طال أمده في المهجر، يدرك أهمية الموطن الأول، في روحه ونفسه وفكره، ويفضل مثل هؤلاء، نسمة هواء من بيئة مولده، على كل مدنية الغرب الزائفة والسمجة.
بل أن نخبة مثقفي الغرب والمقتدرين منهم، يهجرون بلدانهم، للاقامة في بلد شرقي، والتمتع بخصائصه الفريدة المعدومة في الغرب، بينما يهجر الناشئة والشباب والنساء من بلدان الشرق لملء سوق العبيد والنخاسة الرأسمالية.
بالمقابل، نجد أنفسنا أمام حقيقة جارحة. ان البلدان المصدرة للسكان، خصوصا الشباب، لا تعتمد أية برامج تنموية اقتصادية وعمرانية، لتحسين الواقع الحضاري والمعيشي ورفع مستوى الحياة لمعدل نسبي ستاندارد، يليق بحياة انسان في هذا العصر.
بل أن نظريات الحكم والاجراءات الأمنية ما زالت بدائية وتقليدية، وتمثل مخالفة واضحة لحقوق الانسان، والقيم الخلقية الاجتماعية والدينية. ان مسألة الكرامة مجروحة في حياة الشرق والعرب. تارة بسبب حكم بوليسي متعجرف يحتقر ابناء البلد، وتارة بفضل الفساد المستشري في مفاصل الدولة والمجتمع، بحيث لا يكاد يبلغ المرء شيئا، لا ينال من كرامته.
لقد حان الوقت لنعمل شيئا، لا أن نتكلم فقط، وندخل في مجادلات عقيمة وحيص بيص. ومن واجبنا الاخلاقي، وقد صرمتنا السنون، ووضعنا أنفسنا مواضع الثقافة والتنوير وقيادة العقل، أن نكشف (تاريخ الأخطاء)، ونفضح (الانحراف) الذي تنزلق فيه حياة مجتمعاتنا والهوامش السلبية التي تستهلك بلداننا، ونطرح السبل والمناهج الكفيلة بتقويم تاريخ المستقبل، وإنقاذ أطفالنا وبلداننا من المصير المهلك الفاغر فاه.

(5)
لقد ضيّعت شخصيا كل امكانياتي الفكرية والبدنية خارج البلد الذي نشأته فيه، وأعتبر مغادرتي له أساسا، بداية الأخطاء. وذلك ما يدفعني للكتابة في هذا الموضوع وفي هذا الاتجاه، وبهذا الاصرار، بعد معاناة ومهاصرات روحية ونفسية وفكرية وقهر، يفتقد المرء أيّ مبرر.
لو كنت بقيت في بلدي، وبالطبع، بالتأكيد، ما كنت أفضل من أي أحد هناك. أعيش الآن صراعا قاهرا، وليس في مفردات الندم ولا الحماقة، ما يفي التعبير. ولذلك يتجه تفكيري، ليس نحو ذاتي، وانما نحو كل مشروع الهجرة وجيوش المهاجرين، التي يخطط لها ناشئة الشرق منذ سن السابعة، كما في الهند ومصر.
وليس ثمة هزيمة ذاتية/ وطنية: قومية، أعرم من هذه، أن يولد انسان ليهاجر. أن ينسلخ الانسان عن بيئته ليصبح عبدا لرأسمالية إمبريالية: هي سبب خراب العالم وانحطاط الشرق. وأقف مليا، ومليا، أمام رائعة الكاتب السوداني الطيب صالح (موسم الهجرة إلى الشمال).
خلاصة رحلة مصطفى سعيد في العودة إلى غور السودان، منسلخا من كل ما كسبه من الغرب ومجده الاكاديمي، ليعيش ويموت فلاحا من الفلاحين. والطيب صالح الذي عمل في القسم العربي لاذاعة لندن، هجرها عائدا إلى بلده. لكن الأجيال الجديدة لا تقرأ، وإذا قرأت لا تعرف تلك الكلاسيكيات الرائعة التي استقرأت المستقبل، قبل أكثر من نصف قرن.
(6)
انحسار التحالف الغربي..
جريدة صوت الشعب الاردنية- الاثنين 1 فبراير 1993م
لقد كان من أثر الخيبة الأميركية في العراق.. ان امتدّ مفعولها إلى مواقف الحلفاء.. وأدركوا نأي أحلامهم عن أرض الواقع.. وخطأ التصورات التي رسمها لهم البنتاغون.. في عدم الانتظار أكثر من اسبوع.. ليستطيع خلالها تحالف الثلاثين دولة والمليون جندي توجيه ضربة قاصمة الى العراق: الدولة التي تهدد مصالحهم في الخليج.. بعدها يبسطون هيمنتهم على جغرافيا الذهب الأسود.
وهكذا أصبحت التمنيات الأميركية أمام اختيار جديد لاثبات مصداقيتها وفعلها.. ولو بعد مرور سنين على الهجوم الأول.. وعدم استنفاد أغراضه.. والذي اقترن مع موعد تغير ادارة البيت الأبيض.. مما وضع الادارة السابقة على محك أثبات قدرتها وجديتها لتنفيذ نوايا العدوان.. وهكذا.. كان الرهان الأخير.. رهان بوش.. عودة الهجوم ثانية.. ولكنه أخفق في اقناع حلفائه.. بعد لأي.. إلا في تسديد ضربات محدةدة.. على نقط عسكرية محددة.. لا تخرج عن اطار مناطق الحظر الجوي جنوب خط عرض 32 وشمال خط 36.. وهنا يقدم لنا الواثع الصورة التالية..
1- الضربة الأولى.. نفذتها (106) طائرة، (80) منها هجومية أميركية، (6) فرنسية، (4) انجليزية. واقتصرت الضربات على ثمان قواعد لاطلاق الصواريخ، اسفرت عن تدمير قاعدة واحدة وإصابة ستة أخرى، وهكذا تكون الضربة الأولى فاشلة عسكريا، وخلال التحقيقات عن سبب الاخفاق، تقرر تسديد ضربة ثانية.
2- الضربة الثانية.. اقتصر تنفيذها على الطائرات الهجومية الأميركية.. واكتفت طائرات الحلفاء بتوفير الحماية والغطاء الجوي لها. وتوزعت على ثلاث نقاط.. الشمال والجنوب والوسط. بعدها أعلنت بعض الجهات تأييدها للضربة مثل يلتسن وبطرس غالي، بينما جرت اختلافات في أوساط الخارجية الفرنسية والبرلمان الانجليزي والروسي حول مواقفها من شرعية الضربة وفق قرارات الأمم المتحدة. واقترنت هذه المرة بإصابة عدد من الأهداف المدنية والأحياء السكنية في مدينتي البصرة والنجف.
3- الضربة الثالثة.. هجوم صاروخي على أحد معامل جنوب شرق بغداد.. بعدد (40) صاروخا.. سقط احدها على فندق الرشيد وسط بغداد، وعلى مسافة (20) كم عن الهدف الأول.. واقترن هذا الهجوم بانعقاد جلسات المؤتمر الاسلامي.. كان جانب منها في صالة الفندق. وتسبب الهجوم في خسائر مدنية، بينها صحفيون أجانب واعلاميون.. جاءوا لتغطية أخبار المؤتمر.
نستنتج من ذلك ما يلي..
1- ان القوة العسكرية الاميركية.. انتهت إلى الاعتماد على نفسها كلية في تنفيذ الضربات، بعد انحسار حماس الحلفاء في المشاركة.
2- لم تحظ عملياتها العسكرية بتأييد مطلق كما في السابق، بل أثارت شكوكا ولغطا حول مدى شرعيتها الدولية.. ولم تسمح تركيا باستخدام قواعدها في الضربة الأولى.
3- تصريحات ارئيس الروسي يلتسن الأخيرة حول استعداده.. لاجراء محادثات مع القيادة العراقية واستعادة دورها في الوساطة الدولية.. إلى جانب رد الفعل على الرأي العام والرسمي في بقية دول الحلفاء.. وظهور أصوات تنادي بعدم شرعية مناطق الحظر الدولي في الشمال والجنوب.. وعدم اتفاق بعض العقوبات مع المفروضة مع قرارات مجلس الأمن.. مما يشير إلى تنبه الأوربيين الى خطر اللعبة التي أرادت الادارة الميركية سحبهم إليها.. خلفها..!.
[]
فريق تفتيش جديد في بغداد.. إلى أين؟..
جريدة صوت الشعب الاردنية- اربعاء 24 مارس 1993م
ما كاد فريق اتفتيش (52) ينهي أعماله حتى كان الفريق (53) يعلن عن وصوله دون سابق انذار إلى العاصمة العراقية. وعى ذكر الرقم (53)، تعود بنا الذاكرة إلى ما قبل سنتين من هذا التاريخ، عندما أنهت الولايات المتحدة عملياتها العسكرية (الخائبة)، وراحت تبحث عن مسوغ لها من خلال قرارات مجلس الأمن لمواصلة فرض العقوبات الاقتصادية على العراق، ووضع ترسانته وتقنيته العسكرية تحت اشراف ومراقبة فرق التفتيش عن الاسلحة الكيمياوية والبالستية في ذلك الوقت..!. تم ارسال عدة فرق تفتيش إلى كل من كوريا والصين وباكستان، لمراقبة نشاط مفاعلاتها النووية واستخدامها للأغراض السلمية!..
يومها مرّ هذا الخبر من وسائل الاعلام مرور الكرام.. ولم تعلق عليه هاتيك الدول بشيء. ولم تصرح فرق التفتيش المكلفة تلك بأي شيء بعد انجاز عملها في بضعة أيام. وثمة.. فلم يعقب تلك الفرق -اليتيمة- أي فريق جديد وأغلق الملف بالنسبة لتل الدول. الأمر غير العادي الذي حصل، الذي لم يستأثر من وسائل الاعلام العربية والغربية غير الزاوية الخبرية المجردة دون تعليق أو إشارة، إلى مبرر تعاقب فرق التفتيش واستغراق كل منها مددا تتراوح بين اسبوعين إلى أربع.. دون تمييز في تنفيذ مهامها بين المنشآت المدنية والعسكرية.. أو الدوائر الادارية والمصانع.
وهذا يدفعنا للتساؤل.. عن إطار مهمات فريق اتفتيش وواجباته. وإذا كان كل فريق يتزود بكل المعلومات الاستخبارية اللازمة لاجراء مسوحاته وكشوفاته الميدانية من قبل (CIA).. فما الذي يتبقى لها بعد ذلك؟.. ما الذي تتركه لفريق جديد يأتي بعدها؟.. بل ما الذي يتبقى بعد ثلاث سنوات؟؟..
وإذا اعتبرنا ان كل فريق تفتيش يتكون من (25) شخصا، على أقل تقدير.. فبعملية حسابية بسيطة سنكتشف ان (1325) خبيرا دوليا في الاسلحة الجرثومية والكيمياوية قد زاروا العاصمة العراقية واطلعوا على تفاصيل مشروعه انووي ومحتويات ترسانته العسكرية وما يتعلق بها. وإذا علمنا أن بعض فرق التفتيش تتكون من اكثر من (50) فردا، وبعضها وصل إلى (80) أدركنا أن الرقم الذي وضعناه أعلاه هو متواضع جدا!.
وإذا تذكرنا ان الدول الصناعية الكبرى وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية وبالاشراف المباشر من منظمة الطاقة الدولية، كانت وما زالت.. تمسك بعجلة اتصنيع والتقنية انووية وتفرض رقابة صارمة، ليس على انتقال التقنية وانما على انتقال التكنولوجيا المتقدمة بوجه عام، إذا لم يصر إلى تجاوز مخاوفها واكتشاف حلقات متقدمة فيها، بحيث يستحيل على الدول الأخرى اللحاق بها، مهما أوتيت من العلم درجة.. وهذا يعني أن ما انتقل من تقنية الذرة إلى الدول الأخرى، وخاصة دول العالم الثالث.. تحت سمع وبصر هاته الجهات، ومن خلال وكلائها وعملائها من تجار الاسلحة والشركات متعددة الجنسيات، وهذا يدلنا إلى جملة أمور.. منها..
1- ان ما انتقل من تقنيات الذرة إلى العالم الثالث، يمثل المراحل الابتدائية البسيطة، دون الحلقات المعتبرة أو المتقدمة فيها/ مما يحبط مخاوف تلك الجهات ويدحض مزاعم التهديد الدولي أو الاقليمي.
2- ان لتلك الجهات معلومات كاملة عن حجم ونوع اتقنية المتقلة وأوجه استخدامها وفق صفقات البيع وخضوعها للمراقبة.
3- مما يعني ان انتقالها تم بموافقة الدول المصنعة والناقلة.. كما تجدر الاشارة إلى أن انتقال هاته التكنولوجيا إلى دول العالم الثالث اقترن مع نهاية السبعينيات والثمانينيات، مع ظهور برامج نووية متقدمة للعالم الصناعي، مثل مشروع ناسا وبرنامج حرب النجوم الاميركية ومشروع النجم الاحمر السوفيتي/(سابقا).
مما يؤكد زيف دعاوى المنظمات الدولية وبطلان مزاعمها ومحاونلة تمرير خططها ومؤامراتها تحت جنح هاته المزاعم، ومن خلال ما يسمى (فرق التفتيش النووي)،وليس ثمة ما يبرر تعاقب هاته الفرق على مدى ثلاث سنوات حتى يبلغ عددها (53) فريقا. وثمة.. فأن واجبات فرق التفتيش لا تنفصل عن واجبات طائرات (يو تو) المصاحبة لنشاطاتها والمكلفة بحمايتها. وهي طائرات استطلاعية تجسسية.
وقد دفع النشاط التجسسي الاستفززازي العراق إلى اعلان رفضه استقبال الفريق الخمسين أواخر العام الماضي وبدايات هذا العام. كما حاول الحدّ من نشاطات الفرق وتحديد مجال حركتها وتدخلها في الشؤون الداخلية، معلنا مرارا ان أعضاء فرق التفتيش ليسوا خبراء ذرة وانما ضباط مخابرات في جهاز (CIA)، دون أن يلقى أذانا صاغية من المنظمات الدولية، التي ما فتئت تربط ربطا قسريا بين الانصياع الكامل لقراراتها ومطاليبها، وبين مناقشة رفع الحصار الجائر.
فهل ارادت اولايات المتحدة تبرير خيبتها العسكرية في العراق.. فتجعله أرضا مكشوفة أمام نشاط مخابراتها امركزية والتي ما فتئت تجمع المعلومات والخرائط تحت مزاعم ومسميات مختلفة، مستغلة بذلك الشرعية الدولية وانشغال الدول بمشاكلها وأزماتها الاقليمية حول العالم..وإذا كان نصيب فرق التفتيش هو الخيبة في معرفة المعلومات الكاملة طيلة السنوات المنصرمة، فلن يكون نصيبها في المستقبل أفضل حالا. مهما استمرت لعبة فرق التفتيش هاته، وأسفرت عن مزاعم وأكاديب!.




[6]
فينيق لبنان..

(1)
ول ديورانت* يشبّه بلاد الإغريق بصورة كف مفرودة، أصابعها في حوض البحر المتوسط، في راحة يدها تستقرّ جزيرة كريت، شرقا بحر ايجه وبلاد الأناضول، وغربا، سواحل المتوسط الشمالية والجنوبية، عبر جزر سيسلي ومالطا، لتنتهي أطراف اصابعها على سواحل شبه جزيرة ايبريا، أعمدة فيثاغورس، حيث نهاية خطوط الملاحة، أيام كان المحيط الأطلسي بحرا مجهولا، يؤدي إلى نهاية العالم.
هذا هو تصوير [غريكو/Greece] من منظور أوربي غربي، يؤسس تاريخه ويمدّ جذوره، بما يدعّم فلسفته السياسية القائمة على إسطورة القوة والسيادة. لكن الاسطورة اللبنانية الفينيقية لها مقال آخر.
فقدماء سكان لبنان، فلاحوها وملاحوها وحكماؤها، يعتبرون أن حوض البحر الأبيض المتوسط، كان بحيرة فينيقية منذ البدء. وأن الملاحة الفينيقية هي التي كشفت أول أسرار الماء وفكت ألغازه. وأن سكان الفينيق وقبائلهم انتشروا منذ القدم القديم في جزر المتوسط، واستوطنوا سواحله الجنوبية والشمالية والنائية، في شبه جزيرة ايبريا، نهاية الماء.
كان الفينيق/(Phenique) حضارة ومدنية قديمة ومنتشرة في العالم القديم، ومن ملامحها المميزة سيادة الماء. وإذا لم يسبقهم أحد- حتى الآن-، فهم مؤسسو الملاحة وأول روّادها وقادتها، ريادتهم في الأبجدية والحضارة والماورائيات، قبل أن تظهر غريكو وروما وبيزنطه، التي ساوت في نفوذها الماء مع اليابسة.
أما سبارطه وقرطاجة وغيرها من الممالك التي نافست وناوأت الاغريق وهزمتها لاحقا، فهي ممالك ومجتمعات فينيقية، تعود أصولها لمركزية صور وصيدا اللبنانية، والتي ما زالت ملامحها وسمات أصالتها وقوتها، ماثلة في الشخصية اللبنانية الأصيلة، وشموخ جبالها وقلاعها وعمرانيها العتيد، في عمقها وتأمليتها ونظراتها الغائرة عميقا وبعيدا في التاريخ والمستقبل.
ولبنان، بالمنظور السطحي، بلد صغير، يتحدد بمساحته الجغرافية وحجم سكانه؛ ولكن قلّما يذهب أحد إلى تاريخه وثقافته. بل لا يشغل أحد نفسه بالتوقف لدى ملاحظة، ان (لبنان) الصغير في حجمه*، الكبير في إسمه، هو الجزء شبه الوحيد في خريطة المتوسط، الذي حافظ على استقلاله الذاتي وخصوصيته الذاتية، وبقي استثناء من مصائر كبرى بلدان العرابيا تاريخا وراهنا.
هنا أحاول، تقديم صورة حقيقية للبنان العريق والأصيل، خلاف النظرة والنظريات المعاصرة، التي تقيس البلدان بالأمتار والأميال وحجم السكان. وقد ركز الاثاريون الغربيون جهودهم ونظرياتهم على أحواض الأنهار، ولم تستأثر أحواض البحار بعنايتهم، مما رسم صورة غير دقيقة ومشوّهة، للمعرفة الحديثة.
وبالتأكيد، ثمة غرض شوفوني بغيض، في تشريح الاستشراق للشخصية البدوية في جنوبي العرابيا، واهمال الثقافات الشمالية، المرتبطة بجذور وأصول حضارية قبلتأريخية، ومنها الشخصية الشامية والمصرية. الشخصية الشامية ممثلة بعمقها الفينيقي الثري والواسع، والشخصية المصرية بعمقها الفرعوني النوبي/ القبطي.
لبنان، هي الجذوة التي تحرّك وتجمع، نسيج الاجتماع الحضاري والثقافي، في أحواض بحار المتوسط والأحمر والخليج، وذلك عبر شبكة ملاحتها، التي كان يفترض بفيليب ميخائيل حتيته [1886- 1978م] عدم اهمالها في استعراضه لخطوط التجارة القديمة، من جنوبي العرابيا نحو أفريقيا والشام/(الشمال).
الشخصية الفينيقية لها سمات مورفولجية، مميّزة وواضحة للعيان، عند مقارنتها في التصنيف العرقي والمورفولوجي لأجناس البشر. ومن تلك السمات: الطول والنحافة والوجه المستطيل وضيق الكتفين مع طول ملحوظ في العنق. ومعدل ارتفاع الشخصية من الذكور حوالي [1.7- 1.8م]. ويدعى هذا العرق في الانثروبولوجيا بالجنس المتوسطي، نسبة لحوض المتوسط. والجنس المتوسطي هو الجنس الفينيقي، الأقدم تاريخيا من الإغريق* والسابق لظهور أوربا.
تنتشر ملامح العرق الفينيقي في البلدان والمجتمعات السواحلية، بدء بأهل الشام/ شرق المتوسط، وأهل سواحل المتوسط الجنوبية من مصر حتى المغرب، مع استثناء محدود لسكان بورسعيد والاسكندرية والجزائر، ومجتمعات القرن الأفريقي وفي مقدمتها: الصومال وأريتريا وجيبوتي والسودان وأوغنده.
هذا يعني أن الجنس هو من الأعراق البشرية القديمة، السائدة لليوم والمحافظة على سماتها بقوة، والملتصقة بجغرافيتها التاريخية والوطنية. وبينما يمثل الجنس الفينيقي أحد الأعراق الثلاثة المشكلة للشخصية المصرية، فهو العرق الأساسي الغالب في ليبيا وتونس والمغرب، والصومال واريتريا وجيبوتي وأوغنده؛ وأحد أعراق الشخصية السودانية.
والملاحظ التصاق هاته السمات بجنس الذكور دون الإناث. إذ تغلب عليهم البشرة السمراء، ودقة الملامح، واستقامة الأنف الدقيق، وانعدام الترهل والشحوم في الجسم، والاستقامة في أشكال الأطراف وهيئة الجسم، وقوة العين، فضلا عن خاصة الذكاء وسرعة البديهة، والمرونة في العلاقات الاجتماعية، مع اعتزاز برأي خاص وعدم افراط أو تفريط، وميل دائم للتفكير العقلي والتأمل الفلسفي، يجمع بين الواقعية فيما يخص المعيشة والعلاقات، وبين اجتراح الأسئلة وامتحان الظواهر والأفكار السائدة والطارئة في الواقع.
بعبارة أخرى، ان ظروف الملاحة والتجارة والتقاء تنوّع بشري وثقافي، كلّها عوامل ساهمت في صياغة الشخصية اللبنانية الفينيقية عبر الزمن. ومن مستلزمات الملاحة ومواجهة الجماعات الغريبة، تطورت القدرات والمؤهلات العسكرية التي صارت سمة بارزة، للجنس الفينيقي.
وهذا مما يحضر لدى التعرّض للشخصية السكونية والسلبية للانسان الشرقي ومنه العربي.
ووالمعروف ان (الفينقية) هي أساس ومرجعية الطروحات الأيديولوجية لانطون سعادة [؟ - 1947م]، المؤسسة للحزب الاجتماعي القومي السوري، في رؤية توسع الجذر الجغرافي وتجعل (صور/ صيدا) الفينيقية بؤرة الدائرة الحضارية للوطن الاجتماعي القومي.
ــــــــــــــــــــــــــــ
• Will Durant: The Story of Philosophy, NY., 1961, Ch. 1, P. 1
• في قصيدة للشاعر اللبناني موسى الزين شرارة يصف بلده: (لبنان):
لنا وطن وطن صغير الحجم لكنْ نفخناه بمنفاخ الغرور
وسمّيناه لبنانا كبيرا وما هو بالكبير ولا الخطير
• لا يتطرق التاريخ إلى الأصل الاجتماعي لأهل أثينا وروما، وتنسبهم قصص وملاحم ميثولوجية للآلهة، ولم يرد لهم ذكر في جينولوجيا التوراه، أو يتصدى لذلك المعاصرون.


(2)
أيّ هو الأقدم في تاريخ الحضارة والتمدن والاجتماع السياسي: سوريا أم لبنان؟..
سؤال لعلّه لم يطرح بهاته الصيغة، ولم يجرِ البحث في قواعده وفق مبادئ علم الآثار والأنثروبولوجيا والتمدن. لكن الدلائل العامة تؤشر أوليات الاستيطان المائي والسواحل المائية. ودالة صور وصيدا والجليل والسامرة وغزة، ذات أولوية في مقابل الداخل الجاف أو الصحراوي.
المؤشر الآخر ذو الأهمية انثروبولوجيا، يتعدى ظاهرة المستوطنات الصغيرة حول الواحات أو الجداول أو ضفاف الأنهار، القائمة على الصيد والرعي أو الزراعة أو مراكز التجارة الواقعة على طريق القوافل؛ إلى رصد مظاهر التطور الحضاري والثقافي والوعي السوسيوسياسي لنظم ما بعد القبيلة.
ان قدمية لبنان من منظوري الشخصي، تأتي في مستوى سؤال عن طبيعة العلاقة بين لبنان والإغريق. فثمة جانب من الفلسفة السوفسطائية تنبع أفكارها من صور ومحيطها اللبناني. بل أن وقوع لبنان على ساحل المتوسط الشرقي، وفي نقطة وسطية بين شمالها وجنوبها، مادة بنظرها حو الضفة البعيدة لسواحل ايبريا الشرقية، له دالة سيادية جيوبحرية أثيرة، ليست مصادفة.
هذا البحر الكبير أو العظيم كما وصفه قدماء الجغرافيين ومنهم الادريسي في خريطته، أكثر أهلية للنمو والازدهار وانفتاح اتصالاته بين الشمال والغرب والجنوب، من الزاوية الميتة التي يقع فيها بحر ايجه التي تقع عليها أثينا، ضمن مراكز بحرية تجارية عديدة. ومعلوم، ان الملاحة في ايجه لا بد أن تمرّ عبر مياه المتوسط.
ثمة خلل في التاريخ السوسيوسياسي القديم لمجتمعات شرق المتوسط، وذلك في مقابل الاسراف في مدونات تاريخ الاغريق والرومان، التي ينسبها أهلها لما يقارب الألف قبل الميلاد، وهي حقبة ازدهار شرق المتوسط، وقلب العالم يومذاك. وما يزال أصل سكان أثينا وروما مجهولا، وملغزا عليه؛ بينما أعتقد بأصول أسيوية شرقية للإغارقة، وأن أصول زوّاتهم الفلكية والعلمية تكمن في حضارات الشرق القديم، بين الهند ووادي النهرين والنيل.
لكن عيبة التاريخ الأوربي أنه تسلطي حربي. فتاريخ أثينا وملاحمها، يدور حول صراعاتها العسكرية المتصلة مع مراكز وسيادات منافسة لها، وقد انتهت من كلها بالهزيمة. واقع الاعتراف بالهزيمة هو الذي جعل أثينا ينصرفون عن السيادة العسكرية للانشغال بالملاحة التجارية، والتجارة هي التي أسست شبكة اتصالات وتنوع سكاني أممي، اجتمعت خلاصاتها الثقافية والميثولوجيا والفلكية والطبية، لتأسيس دوحة العمل العقلي والمدارسات الفلسفية والمناقشات الجدلية، التي ما زالت لليوم سمة الإغريق الرئيسة.
أما روما فقد جاء ظهورها متأخرا جدا لما بعد الامبراطورية المقدونية. ولم تكن روما في أصلها، أو حتى ما قبل الميلاد بقليل، غير قرية صغيرة تتوزع أطرافها مستوطنات وأقوام أكثر منها قوة وازدهارا. علما أن توطن (روما) فاشل ستراتيجيا. خطأ موقع روما الستراتيجي العسكري، هو سبب قرار قلسطنطين بناء عاصمة جديدة، سوف تحميها تحكيماتها الجغرافية والعمرانية عشرات القرون من الغزوات الخارجية، بينما لم تستطيع روما حماية نفسها عسكريا.
وهذا يعيدنا لجيولوجيا التضاريس المعقدة التي تسم جغرافيا لبنان، وتؤمن لها نسبة من الحماية والحصانة الذاتية. وكل من العرقين الإغريقي والروماني في هيئة الجسم أو خصائص الوجه والأنف تتبع الدائرة الفينيقية، وليس العكس. إذا ثمة من يعتبر سكان سوريا من أصل روماني، وأهل لبنان من أصل إغريقي. فالعكس هو الصحيح.
فكرة التمدّد الإغريقي- المقدوني- الروماني، إلى لبنان وسوريا، ظاهرة تاريخية، ومثال لتعقب القوي إذا هان. ومن أمثلة ذلك: العراق الذي كان مركز الحضارة والمدنية والسيادة منذ بدء التاريخ وعلى مدى ثلاثة آلاف عام، تحوّل إلى مأوى للوحوش عند انهياره، وقصدته الغزوات والهجرات.
كما تكالبت الغزوات والأطماع على مصر منذ أول ظهور مقدونية وروما وبيزنطه.. تباعا حتى ظهور الكولونيالية الحديثة بعد سقوط الأندلس/(1492م). بينما كانت (الهند) مضغة الملاحة الصليبية والتجارة الكولونيالية من أيام ألبوكركه وفاسكو دي غاما حتى استقرارها في الحاضنة الانجليزية، منذ القرن الثامن عشر.
ومن الأمثلة المعاصر: الصين، التي تكالبت عليها الشركات الرأسمالية الأميركية والألمانية والغربية عموما، منذ أول انفتاحها النسبي في الثمانينيات، حتى تكاد (شنغهاي) أن تكون مدينة دولية، ومتروبوليتان رأسمالي وراء سور الصين. وعندما سقط النظام الشيوعي في موسكو وشرق أوربا، تدافعت محلات مكدونالد وفروع الشركات والأسواق الرأسمالية لاحتلالها، وهو ما حصل في بغداد عقب السقوط، أيضا.
فلا يختلف الغزو والنفوذ الإغريقي والمقدوني والروماني لشرق المتوسط وحوضه الجنوبي، عن تلك السابقة التكرارية المتعارفة تاريخيا، وتطبيق مبدأ (قتل الأب). ولعلّ هذا أد أسباب تعويم تواريخ وحضارات وأصول مجتمعات الشرق والعالم القديم، وإعادة تدوينها وربطها بالتاريخ والأيديويوجيا الغربية.
أما أن تكون لبنان وطنا صغيرا منفوخا، فليس إلا أنه كان وطنا كبيرا ففاستأصلون وشرذموه، ونعرف من تاريخ الروماني، حركة التغيرات السياسية والتقسيمات الأدارية المستمرة، في التقطيع والفصل واللصق، بحيث لا يتبقى كيان سوسيوسياسي اقليمي متكامل، تتوفر فيه عناصر التمرد والثورة والانفصال عن الحكم الأجنبي.

(3)
في قراءة فراس سواح لتاريخ الحضارة، يستخدم اصطلاح (البؤرة الحضارية)، والبؤرة اشتقاق من (بئر) وهو دالة العمق السحيق، الذي تعلوه طبقات جيولوجية طوبوغرافية متراكمة، لترسم سطحه الخارجي. وهو – عطفا على مشروع انطون سعاده- يجعل سوريّا مركز البؤرة الحضارية العالمية.
ومن نقطة (البؤرة) تصدر أشعة/ (جمع شعاع)/ [Strahl, ex-ray]، في هيئة دائرة/ دوائر متعاقبة ومتسعة ابتعادا عن نقطة المركز حتى أقصى نقطة، محملة بعبق الحضارة وأريج منجزاتها وانعكاساتها إلى كل جملة الاجتماع البشري المسكوني.
لكن بؤرة الفينيق: (صور- صيدا) أعمق من (دمشق) وأقدم من (تدمر- حلب). على رغم المفهوم الشمولي لتحديد البؤرة السورية، باعتبارها الحاضنة الجغرافية الأوسع الذي يضم لبنان أو يحيط بها، عندما تكون جزيرة (قبرص) جزء من دائرة البؤرة السورية.
المهم في هذا السياق، اتفاق المؤرخين في الاصطلاح على الألفين قبل الميلاد، بالعصر الآرامي، وذلك انحيازا للمصطلح والتوريخ التوراتي، والمتمثل بهجرة (أب- رام) الى حوران أعالي الفرات، ونزوله حتى (بئر سبع) وشبه جزيرة سيناء.
وكانت التجارة هي ديدن القبائل الآرامية، وتنقلها في محيط جغرافي بين حوض المتوسط حتى الهند والسند، مما نجم عنه رواج الثقافة واللغة الآرامية خلالئذ.
وقد بلغت الثقافة واللغة الآرامية ذروتها في القرون الأخيرة قبل الميلاد، لتكون لغة المعاملات والمبادلات التجارية، والتعاملات الثقافية والدينية، درجة أن تظهر ترجمات آرامية* للتوراة: [ترجوم، بشيتا]، بدل العبرية: لغة العبرانيين. والآرامية هي لغة السيّد المسيح الأصلية، وبها كتب أقدم نسخ انجيله.
هاته البؤرة شرق المتوسطية العريقة في التاريخ الحضاري، والتي وقعت ضحية التهميش، لوقوعها بين حوضي النيل والنهرين، كانت هي مصدر الهجرة الأمورية نحو العراق، في الألف الثانية قبل الميلاد. ومركز الأموريين يقع في الساحل الشرقي للمتوسط، والتوراة يضعها محيط وادي الأردن، ويجعلهم أحد الأقوام العشرة التي يطردها ياهو ويفنيها ليمنح أراضهم وأملاكهم لذرية (ابرام): لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير الفرات: القينيين، والقنزيين، والقدمونيين، والحثيين، والفرزيين، والرّفائيين، والأموريين، والكنعانيين، والجرجاشيين، واليبوسيين!/ [تك15: 18- 19؛ خر34: 11].
وكلمة (أمور) فينيقية معناها (غرب)، والأموريون هم: (قوم من الغرب/ غربيّون/ غرابوه)، ذلك أن مواطنهم في ساحل المتوسط، تقع غربي العراق. والغربية عند أهل العراق، هي ما يلي الفرات من جهة الغرب: كالأنبار ودمشق ولبنان. وكلمة (أمور) الفينقية القديمة، لها صلة باللفظ الاسباني (مورو): (أجنبي/ غريب).
وقد وصف الأسبان بها العرب، بعد سقوط غرناظه في [30 نوفمبر 1492م]، وتدعى حضارة الأندلس في لغتهم بالموريسك، وأهلها: (مورسكيّون). أما كلمة (أمورو) الفرنسية/ التي لها أصل لفظ (أمور)، فتقتضي متخصصا بالفرنسية لتفصيلها.
ويبدو أن ادخال الحاء في أول الكلمة بدل الهمزة، من قبيل التصحيف الذي تميّزت عن اللغة (العربية) عن اللغة (الآرامية). فجرت كتابة اسم مؤسس بابل الأولى: (حمورابي) وليس (أمورابي)، والحاء من الحروف العربية الأصلية التي لا صوت لها في غيرها. وقد وردت: (الحموريون) كذلك في بعض المصادر. وقد صادفت في الأردن ناسا يحملون لقب (الحموري).
ليست لدينا معلومات عن السبب الدافع لحركة جماعة من الأموريين نحو العراق في أواخر الألف الثالثة/ بداية الألف الثانية قبل الميلاد؛ أعني لماذا (الحموريون) وليس فئة غيرهم من الأقوام والقبائل في محيطهم الجغرافي. وهذا ما يدعوني لتفكيك لفظ: (أمور) إلى: [أم – أور/ Am- ur]: بمعنى: (أهل الأرض)، أو النسبة العائدة على (أور) السّومريّة.
فتكون حركتهم الستراتيجية من شرق المتوسط، للمحافظة على أرض النهرين بعد سقوط (سومر)، ويبدو أن عائديتهم القومية لسومر، وراء نسبة ملكهم إلى السومرين، واعتبارهم امتدادا للاسر الحاكمة في سومر، تحت عنوان (الأسرة الثالثة) من ملوك سومر.
هذا يعني، أن تاريخ وصول الأموريين للعراق، يسبق تاريخ هجرة (اب- رام) من العراق، في حال كون الأخير شخصية تاريخية، لا يوجد ما يثبتها حتى الآن. أما الأموريون الذين خرجت موجات منهم، وليس جميعهم، متجهة للعراق، في مواجهة الموجات الأكدية التي دخلت العراق من الجنوب.
وفيما اتخذ الاكدية مدينة (أكد)/(عشرة أميال عن بغداد الحالية)، قام الاموريون ببناء مدينة (بابل)/(55 ميل جنوبي بغداد) عاصمة حصينة للدولة ثم الامبراطورية البابلية، ثاني امبراطورية بعد امبراطورية سرجون الأكدي الأولى في التاريخ عموما.
والصلة واضحة بين اسم (حمورابي/ أمورابي) وبين (أمّور) اسم القبيلة، وما يزال في الأردن وفلسطين، جماعات من قبيلة (الحموريين/ الأموريين)، فلم ينقرضوا ولا هاجروا من مواطنهم الأصلية لليوم. ومعظم الحضارات والامبراطوريات وسلالات الحكم العراقية القديمة ما خلا [سومر وأكد]، ظهر في العصر الآرامي- الفينيقي، والأغلب أن مواطنهم الأصلية غرب الفرات، على غرار الأموريين، وتخاذ الاشوريين (نينوى) شمالي دجلة المتداخلة في المثلث العراقي السوري التركي، عاصمة لهم.
لقد تعلمنا، من مناهج الدراسة والتأليف السائد، المرور بحضارات بابل الأولى والثانية وأشور، وحتى من سبقهم، دون تساؤل عن أصولهم ومواطنهم القديمة والأصلية، وربما أريد منه تعريق أولئك وتأصيلهم ضمن الاجتماع الجغرافي التاريخي لأرض النهرين، دون توضيح تفاصيل ذلك، أو شرح عوامل الاستعداء والتنافس والغلبة بينها، إذا كانوا أبناء بلد واحد، يحرصون على حفظ الكيان السياسي الحضاري لبلدهم.
ان تعدّدية الدول والإمبراطوريات وسلالات الحكم، - قد تكون- مرآة لتعددية الأصول القبلية والبيئية، لكنها لا تعني بالضرورة تعددية قومية عرقية، أو صراعات خارجية على أرض مفتوحة، غنية بالموارد، وتفتقد من يسوسها ويعنى بها. وفي كلّ الأطر السياسية التي دالت العراق/ أرض النهرين، كانت الشام داخل نفوذها السياسي ونسيجها السوسيوثقافي المنسجم.
ويصدق ذلك على سحابة التاريخ القديم والوسيط. فعندما قامت الدولة العربية الكبرى في القرن السابع، لم تفصل الدولة الأموية شرق الفرات عن نفوذها، ولا فصلت الدولة العباسية الشام خارج ادارتها، وهو ما نهجته الدولة العثمانية اللاحقة، مع تفاوت في درجة المركزية السياسية.
هذا يعني، أن بدايات الفصل، اقترنت بالقرن العشرين، وبالصراع الأنجلوفرنسي على الإرث العثماني، وكان قرار الانتداب المرسوم في اتفاقيات سايكس بيكو وسان ريمو، والنافذ في عام (1920م) والمُصادَق عليه من منظمة الامم المتحدة لاحقا، أول فصل عملي في الجغرافيا السياسية بين العراق وبلاد الشام التي جرى تقسيمها في أربعة اقاليم. وفي ذلك قال الشاعر..
ليس بين العراق والشام حدٌّ حطّم الله ما بنوا من حدودِ!
ــــــــــــــــــــــــ
• ينسب مؤرخو التوراه ظهور الترجوم/(سريانية) أو لبشيتا/(آرامية) في سوريا للقرن الثاني قبل الميلاد، وهي نفس حقبة ظهور الترجمة السبعينية/(أغريقية) في الاسكندرية.

(4)
وقد وردت الاشارة والاشادة بالفينيق في أسفار التوراه في أخبار داود بن يسّي وسليمان بن داود وقصة بناء الهيكل/ (2صم 5: 11) وفي الانجيل/(اع14)، مرة في موضع الخلاف بين عيسو ويعقوب، والتمييز العرقي بينهما، رغم كونها توأما من رحم امرأة واحدة وأب واحد.
ويلحظ أن الاشارة الفينيقية انحصرت في شخص (حيرام ملك صور) ودور الصوريين في صادرات الخشب والعاملين المهرة في البناء والحفر والنقش المرتبطة بفن العمارة والعمران.
أما شخصية عيسو ابن أخ اسماعيل بن ابراهيم وهيئته، فقد ارتسمت كما يلي:
[فلمّا كملت أيامها لتلد، إذا في بطنها توأمان.
فخرج الأول أحمر. كلّه كفروة شعر. فدعوا اسمه عيسو.
وبعد ذلك، خرج أخوه،ويده قابضة بعقب عيسو، فدعي أسمه يعقوب.
وكان عيسو: يعرف الصيد، انسان البرّية،
ويعقوب: انسانا كاملا، يسكن الخيام.
فأحبّ اسحق عيسو، لأن في فمه صيدا.
وأما رفقة فكانت تحبّ يعقوب.]/(تك25: 24- 26، 27- 28)
ولما كان عيسو ابن أربعين سنة، تخذ له زوجة: يهوديت ابنة بيري الحثي، وبسمة ابنة ايلون الحثي/(تك26: 34)
قال يعقوب لرفقة امه:
هوذا عيسو أخي: رجل أشعر، وأنا رجل أملس/(تك 27: 11)
ذهب عيسو إلى اسماعيل، وأخذ محلة بنت اسماعيل بن ابراهيم اخت نبايوت، زوجة له على نسائه/(تك28: 9)
ارسل يعقوب رسلا قدّامه إلى عيسو أخيه، إلى أرض سعير/(عسير): بلاد أدوم/(تك32: 3)
ويتناول الاصحاح السادس والثلاثون ذرية عيسو من نسائه، وتوزيع القبائل الخارجة من صلبه، والأمراء والبلاد التي ملكوا عليها على الساحل الشرقي للبحر الأحمر. وصفة اللون: (أحمر)، المنسوب إليها (عيسو) وذريته، تنتسب لها تسمية (البحر الأحمر). والحمرة في أصلها هي دالة (سمرة/ ميل للسواد)، وهي صفة الدم اذي يكون داكنا كثيف اللون أو مزدحمه. وليست الحمرة الخفيفة الشائعة اليوم، وامستخدمة فنيا وصناعيا للتجميل. والأحمر هو نفسه لون الفينيق/ (phenic, pink)، والتسمية الأصلية للبحر الأحمر في الخرائط القديمة هي (بحر الفينيق)، تحولت في الخرائط العثمانية إلى (بحر القلزم)، والقلزم: نسبة للأحمر في اللغة التركية، ومنه: (قزلباش): (الرأس الأحمر) وهو غطاء رأس خاص من كتان أحمر، يرتديه فئة من حرس السلطان عرفوا يومها (قزلباشية). ويلحظ هنا ظاهرة التصحيف/ (أي تقديم حرف وتأخير حرف) بين (قلز- قزل) في التركية كما في العربية ولغات أخرى.
ورغم انحدار عيسو ويعقوب من رحم واحد حسب مروية التوراة، فأن عيسو ينسب للحمر، الذين هم الفينيق، سكان السواحل، وهو نفسه يتخذ في سواحل شرق البحر الأحمر مواطنه. ومنهم قوم (حمير) الذي حكموا اليمن قديما، وما يزال في اليمن جماعة تدعى (بنو الأحمر).
أما يعقوب، الأصغر، فهو ينسب إلى (أرام) في (حاران) أعالى الفرات ، وهم أصل ابراهيم النازحين من (أور) جنوبي الفرات، بحسب التوراه. فالكاتب العبراني لم يستطع التنكر لصلة القرابة السوسيوجغرافية بين [أور- ارام- فينيق]، ولكنها عمد لاختلاق أسباب لتفكيكها عن بعضها،ووضعها على شفير تناقض، فيما يفترض بالدين التقريب والتوليف بين البشر وليس استعداءهم.
ما يهمنا هنا، حقيقة نسبة عيسو للفينيق، واشتراكه بالخصائص الجسمانية واللياقة البدنية نفسها، ما عدا فكرة (الشعر) غير الحقيقية، والمقصود بها سوء، بينما الصاق صفة (أملس) بيعقوب، وهي من سمات الخناثة المعيبة للرجل. والملاحظة الأخرى، هي استمرار العرق الفينيقي في مواطنهم القديمة في حوض البحر الأحمر، كما في حوض المتوسط.
وكما ارتبط عيسو بالحثيين وتخذ منهم نساء، ارتبط داود بن يسي بهم في زواجه من بتشبع امرأة أوريا الحثي، والتي أنجبت له (سليمان بن داود) /(صم2: 24). وسوف يستمر سليمان في مصاهرة أخواله، وتبقى نفسه معلقة بالكنعانيات، وفكره يدور في فلك صور وصيدا، التي يرتبط بهم بمواثيق ومعاهدات، وهم بناة ومهندسو المعبد اليهودي المعروف (هيكل سليمان)، وذلك باستخدام خشب شجرة الأرز: رمز لبنان التاريخي/(مل1: 5).
ويشكل نشيد سليمان، قصيدة غزلية غنائية تدور بين الملك وحبيته السمراء/(السوداء في النص): أنا سوداء وجميلة يا بنات اورشليم، كخيام قيدار، كشفق سليمان. لا تنظرن إلي لكوني سوداء، لأنّ الشمس قد لوّحتني. بنو أمي غضبوا عليّ. جعلوني ناطوة الكروم. أما كرمي فلم أنطره. أخبرني يا من تحبّه نفسي، أين ترعى أين تربض عند الظهيرة. لماذا أكون أنا، كمقنّعة، عند قطعان أصحابك/(نشيد سليمان1: 5- 7).
ويذكر النص ان سليمان (أحبّ نساء غريبة كثيرة، مع بنت فرعون، مؤابيات وعمونيات وأدوميات وصيدونيات وحثيات.. وكان في زمان شيخوخة سليمان، ان نساءه أملن قلبه وراء الهة أخرى، ولم يكن قلبه كاملا مع الرب، فذهب سليمان وراء عشتروث إلهة صيدا، وملكوم إله عمّون)/(1مل 11: 1، 4- 5).
ان امتلاك كثرة متنوعة من النساء رمز للعظمة والنفوذ، أسوة بكثرة الأموال والممالك والاقاليم والقادة والشعوب الخاضعين لملكه.
أما نص نشيد سليمان فهو محاكاة للاسطورة الفينيقية (أروبا) التي تتحدث عن فتاة جميلة جدا هي ابنة ملك صور، يقع في غرامها (زيوس) ملك الروم القديم و(الإله) في الميثولوجيا اللاتينية، فيتقرب إليها في الحقل/ الكرم، متخذا صورة حيوان/ (ثور) فيلعب معها ثم يخطفها الى بلاده.
والقصة الفينيقية ليست غزلية، ولا يجمع الحب بين الخاطف والخطيفة ، ولكن لها دلالة حضارية سياسية أعمق. وأسم الاميرة الصورية (عروبا/Aruba): هو مصدر اشتقاق تسمية شمالي حوض المتوسط باسم (Europa, Aroba).

(5)
مملكة ميتاني الحوريّة..
[لم يكن الاله الشاب (سيلبر) سعيدا. رفقاءه سخروا منه لأنه بلا أب. لكن أمه شرحت له عن العوائل السماوية. والدك هو (كومربي): ربّ الأرض والحبوب. عندها وصل سيلبر لقناعة مريحة. كومربي كان الها خالقا في الميثولوجيا الحورية. كومربي أواح (آنو) عن العرش بطريقة وحشية. وفي السماء الثالثة رفرف إله المناخ (تيشوب) إلى ملك الالهة من أجل لعنة كومربي. وقد حاول كل الوسائل من أجل اعادة السلطة الشرعية.]..
طيلة ثلاثة الاف عام ق. م. كان للحوريين حضورهم الثقافي واحضاري، رغم أن مملكتهم العظمى لم تستمر أكثر من مائة وخمسين عاما. ان الكثير مما يتعلق بهذا الشعب القديم ما يزال قيد الغموض والبحث واتكهنات والتأويلات. الأصل الذي انحدر منه الحوريون وأصل لغتهم ما يزال غامضا. بينما تشير حفريات جديدة إلى آفاق محتملة وحضارة متقدمة. كان احوريون معاصرين للسومرين والأكديين، الذين يحتلون المرتبة الولى في تاريخ المجتمع المدني. وكانت لهم مملكة موحدة اسمها (ميتاني)في القرن السادس ق. م.. شكلت القوة الثالثة إلى جوار البابليين والفراعنة في مصر، استمرت لقرنين من الزمان. تعرضت بعدها ميتاني للتقسيم بين الحيثيين والاشوريين، وغرقت في ظلمات التاريخ.
التنقيبات الأثرية والحفريات التي أشرف عليها كل من الالماني بيتر بفلزنر من جامعة توبنغر وزوجته هايكه توهمان- بفلزنر، بالاشتراك مع الأمريكي جيورجيو بوجوتشيلاتي من جامعة لوس انجلز ، وزوجته مارلين كادي- بوتشيلاتي، في موقع تل موزان على الحدود السورية التركية القريبة من العراق، كشفت عن وجود: معبد، قصر، سور مدينة، شرفة كبيرة، شوارع ومناطق سكنية ومنطقة تجارة حرة، إضافة إلى الاف الاختام الدائرية التي تؤرخ لعوامل الاتصال في الشرق القديم.
الجميل في موقع الحفر، العثور على مدينة حورية، قصر ملكي جميل ما قبل تاريخي، يمثل مسكن الاله الحوري (كومربي). الأختام الاسطوانية مجموعة في جرة مغلقة من الفخار. من خلال جمع وتحليل الرموز والاشارات المنقوشة على تلك الكسور الناعمة، والتي تصغر مساح بعضها عن سنتمتر مربع واحد، توصل الباحثان بوتشيلاتي/ (1955م) إلى عدة اسطوانات تحمل نفس الختم. اطلق على القطع المنجزة (توبكيش)،-على الأغلب اسم الملك اوركيش- ، مما يدلّ على أن (تل موزان) كان تابعا أو مرتبطا بمدينة الملك احوري وهوية المدينة الميثلوجية.
وقد ورد ذكر قصر (اوكيش) في أسفار سومرية وأكدية تعود إلى (2200)ق. م.، وتشير قطعة قديمة باللغة الحورية، إلى أن الملك (تيشاتال) أنشأ معبدا للاله (نيرجال) بين (2250- 2000) ق. م.، وفي حوالي (1800) ق. م. أوردت مصادر اشورية وبابلية أخبارا عن الدولة المدينية الحورية، على شكل طاق كامل، يبدأ من مدينة (اوغاريت) على ساحل البحر المتوسط، عبر (ألالاخ) ممتدا شمالي سوريا والعراق حتى بحيرة (نوزي) جنوبي شرق نينوى. كما أوردت المصادر الحيثية معلومات بهذا الصدد.
هاته السلطة المدينية والاقتصادية المتمركزة، حسب المصادر امتوفرة حتى الان، ظهرت خلال الفراغ السياسي الذي تركه سقوط مملكة (أكد) حوالي (2150) ق. م.. ومن بين كثير من المدن الحورية، امكن تحديد مواقع القليل منها، والانتهاء من أعمال الحفر فيها. لكن مستقبل التاريخ احوري ما يزال في باطن الأرض. ان التطور اللامركزي للدولة احورية، انتهى بتأسيس مملكة ميتاني حوالي (1470)ق. م. لكن مغزى نشأتها يبقى غامضا.
اعتبر بوتشيلاتي السور اهم اكتشاف، وهو الذي ما يزال قائما، منذ (2600) ق. م.. حتى اليوم.. ومن المحتمل ان بناء السور، سبق ذلك التاريخ، حتى (2700) ق. م. مع بناء معبد وقصر في حدود (2250) ق. م. اضافة الى بناء مدينة شعبية وأثرية تعود إلى ثلاثة الاف عام ق. م.. بوتشيلاتي ركز جهوده في نطاق القصر التي تم العثور علي خمسه للان, ويتوقع ان يستغرق العمل فيه سبعة اعوام أخرى.
بيتر بفلزنر يعنى بالتدوينات الأولية في القطاع السكني والمعبد. وفي اثني عشر مستوى حفر متصل، أكّد التواصل السكاني غير المنقطع بين [2600- 1700] ق. م. في نفس المكان. القطاع المقدس كشف عن أضواء جديدة، بناء المعبد تم حوالي [2800- 2700] ق. م. على مساحة كبيرة تقدر [120× 75م]، وجرى تسويره بشكل بيضوي. وهذا من أقدم وأكبر الأسوار البيضوية التي تم العثور عليها جنوبي ميسوبوتاميا.
في الدواخل تنفتح احفريات على شرفة، مبنية بحجر الفخار، تبلغ مساحتها (40× 40م)، وارتفاع (10م). الدخول إلى البناء يتم عبر عتبة عرضها (16م) وفي القسم العلوي سلم يتكون من (24) درجة، يؤدي إلى حجرة واحدة كبيرة. وحسب الشواهد البحثية بقي السلم مستخدما حتى أيام مملكة ميتاني، للفترة بين [2800- 1500] ق. م..
تمثل (أوركيش) بمساحتها البالغة (135) هكتار، أكبر منطقة سكنية في سوريا خلال العصر البرونزي المبكر، قدر عدد سكانها بخمسين ألف نسمة، يحيط بها سوران بارتفاع ستة أمتار وعرض ثمانية أمتار. وهي مجهزة بنظام شوارع متوسطة، بحيث لا تنمو المدينة من مركز قرية نحو الخارج –كما في المدن السومرية-، وانما متوازية على حدود المخطط. في عام (1800) ق. م. هجرت المدينة للمرة الأخيرة. ولم يبق في الاستخدام غير المعبد، حتى عام (1300) ق. م..
في تل موزان كشفت الحفريات عن مدينة عمرانية كبيرة متقدمة ومستمرة، لها لوائح لتنظيم الأعمال والعلاقات العامة للمواطنين، تعود للعام (2800) ق. م..
أقدم ملوك الحوريين، حسب المكتشفات للآن، هو (توبكيش) ابن (أوركيش) وزوجته (اوكنتيوم)، كان حكمه حوالي (2200) ق. م.. وفي عام (1999م) رفع الباحثون قطعة خطية من الانقاض، تضمنت مائتي بصمة ختم، فتحت أفاقا جديدة في البحث. بعد جمع جمع اثني وعشرين قطعة متناثرة مع بعضها، أمكن التوصل إلى اسمين: في قصر الملك احوري (تار ام- اجادا)، ابنة (نارام- سيم) حاكم أكد.
وتبين ان العلاقة بين ملك أوركيش وجيرانه لم تقم على الحرب، ولكن التعاون المشترك ، كما تؤكد هاته امعلومة، باتخاذ بنت جارة زوجة ملكية لنفسه. ولما كان حكم نارام- سيم خلال [2210- 2175] ق. م. يحتمل أن يكون تاريخ الزواج قبل (2175) ق. م.. ويقدره بفلزنر في (2200) ق. م.. ويؤكد ذلك نص حوري آخر يتكون من خمسمائة سطر، يدور حول زواج اميرة ميتانية من الفرعون (امنفيس الثالث) في مصر، تم العثور عليه في ارشيف تل الفراعنة.
ان الفكر الملكي والحياة المدينية لا تنشأ بين يوم وليلة. لذلك تقدر بدايات أوركيش والحواضر القديمة شمالي ميسوبوتاميا بزمن سحيق في القدم. وليس من الحتمل تصور القفار السكاني في هذا الاقليم. وبحسب الباحثين، يشكل الحوريون أقد سكان تك الأرض، أما هويتهم وأصلهم فليس ثمة ما يدل عليه. وبنسب بفلزنر، التطور المديني الحوري إلى السكان الصليين للميسوبوتاميا، حيث تعود خطى المدنية الأولى إلى ثلاثة الاف عام ق. م.. وامعلومات التي امكن الوقوف عليها للان، تعود إلى ممالك سومر وأكد واللغة التي كانوا يتداولونها.
من جانب آخر، توصل خبراء اللغة، من خلال تحليل الاثار اللغوية للحوريين، إلى وجود عناصر مكونات قومية متعايشة مع الحوريين. لم تكن لهم سيادة كاملة، وعندما يريدون تسجيل شيء، يستخدمون اللغة الأكدية التي كانت منتشرة في العالم القديم، مثل الانجليزية في أيامنا. وبالكاد، يجد الباحثون، حتى في قمة مجد ميتاني، كتابات أو أخبار باللغة الحورية. مع ذلك، ما زال الارشيف الحوري غير مكتمل، وينقصه كثير من الجهد، قد يطول مائة عام.
ان الدول المدينية في تل موزان، أوركيش، تل براك، نجر، لم يتم اعثور عليها، ولم يتم تحديد موقع العاصمة (فاشوكاني) بالضبط للآن. ويتركز الجدل حول موقع محتمل للعاصمة في (تل فخرية) على نقطة الحدود السورية التركية. لكن هذا الموقع تعرض للتدمير من قبل الحثيين، ثم الاشوريين، ثم الرومان، الذين أنشأوا فوقه أبنية كثيرة، مما يعرقل الوصول إلى طبقات الأرض التي تتضمن المدنة الحورية.
وتوجد صعوبة في استخدام الحفر العموري (a la Schliemann) من سطح الأرض مباشرة حتى اعماق القشرة الأرضية، لما يستغرقه من وقت، يصل إلى خمسين عاما، بحسب بفلزنر. وما عدا ذلك، تبقى امصادر الثانوية، ومنها نص تل العمارنة، والموجود في متحف برلين لاثار الشرق. أما المصدر الاخر، وهو ارشيف الحيثيين في (هاتوشا) ويضم معظم موجودات مدينة الالهة الحورية اتي نهبها الحيثيون لدة غزوهم مملكة ميتاني (1340) ق. م.. .
ــــــــــــــــــــــــــــــ
* ميخائيل تسيلك: احوريون من دولة المدينة إلى مملكة ميتاني- مجلة ضفاف الثقافية الصادرة في النمسا- السنة الخامسة- العدد 15- سبتمبر 2003م- ص15-19، ت: المجلة عن الألمانية.


(6)
من اجل نظرة موضوعية للواقع العربي المعاصر*..
(1)
قبل سبعة عشرة عاما عندما بدأت مناوشات الحرب الاهلية في لبنان، تحدثت وسائل الاعلام عن المخططات والاطماع الصليبية في المنطقة، ومنها حجم الدور الصهيوني في تخريب لبنان، والاستيلاء على نهر الليطاني، وتحويل مياهه وتهويد سكانه بالتدريج. وجرت مراهنات في نسبة تاريخ المخطط إلى خمسينيات هذا القرن، وبعضها إلى قرون سابقة. ولعلّ من الطريف يومها، ان مجلة عربية مرموقة، كشفت النقاب عن أوراق سياسية لأحد الكتاب الروس الكلاسيك/(فيدور ديستويفسكي)، تضمنت احداها صورة للمخطط الصهيوني حول لبنان، باعتباره مركزا للاطماع، وقاعدة ينطلق منها للتوسع شمالا وشرقا وجنوبا. وذلك قبل أن تتجه أنظار قادة الحركة الصهيونية إلى فلسطين أو غيرها. ولكن الخلاف الناجم عن معاهدة سايكس بيكو بين فرنسا وانجلتره أدى إلى اختيار فلسطين، وعمل ترتيبات انشاء الدولة اليهودية فيها.
فيما شهدت تحالفات وارتباطات معينة بين بعض السفارات في روما، وبعض الأصابع الداخلية المكلفة بخلق أجواء مناسبة، واصطناع خلافات، توفر غطاء تنفيذ الحلم اليهودي. وهكذا توفرت تلك الظروف بعد عشرين سنة في أواسط السبعينيات. ونحن نجد من خلال ما سبق، ان أحد ما لم يتجد لدراسة الأسباب الموضوعية للحرب، وتحديد الجهات التي كانت وراء زيادة حدّة الخلاف وعدم الالتزام بمواثيق الهدنة المؤقتة أو الشرعية الوطنية. وانصبّ الحديث بشكل مقصود على خطط سابقة ونوايا قديمة، وضعت في حيز التنفيذ هذا الوقت. والغاية منه، تأكيد أسطورة اتفوق الغربي والاسرائيلي الذي خطط لنا (200 سنة سلف!) على حدّ تعبير البعض!. وهكذا تجري التبرئة من وزر الأحداث الجارية.
ويلاحظ ان مثل هذا الحديث جرى عقب ما يسمى بحرب الخليج، وبدأت مراهنات المحللين والمنظرين والتاب، عن الخط الأمريكية التي وضعتها لضرب العراق سمة (1981م)، أو سيناريو عاصفة الصحراء التي انتهت اللمسات الألإخيرة منه في (1989م)، واعداد الميزانيات التخمينية والقوات المشاركة وتطبيقها على أرض الواقع/(المناورات)؛ وهكذا اتجهت الانظار مرة أخرى للتفوق الأمريكي والاسلحة الجديدة التي سوف تستخدمها و .. و... وهكذا وجد البعض انه لا مفر من التسليم للعدو، طالما لا يمكن الوقوف أمامه.
بل أنه بنفس الطريقة، جرى تعليل وتفسير خلافات الحدود بين امارات الخليج وايران... لتبرئة الذمم والقاء اللوم على الاطماع التاريخية، وبذلك يتم سدّ طرق الحلول. ولا يمكن حل الخلافات الا بمعجزة (أميركانية) جديدة تنزل على قلوبهم وتجعل جريان المياه على هواهم. ان مثل هذا الوضع يدفعنا للتساؤل، إلى متى تستمر لعبة تعليق الخطاء على شماعات الغير ومشاجبه، والتنصل من المسؤوليات الذاتية؟.. وإلى متى نستمر في التهرب من واقعنا وعدم البحث في قضايا امتنا المصيرية، لنوفر للاعداء من خلال تهربنا وانشغالنا عن قضايانا، فرصة التسلل (لخل خلافاتنا) وطعننا طعنات جديدة... ألا نجد أننا صرنا نتحدث بملء أفواهنا وإرادتنا ودون خجل عن (شعوب عربية) بعد أن كنا نتحدث قبل عقود قليلة عن [شعب واحد.. وطن واحد.. من المحيط للخليج.. دولة العرب!].
كيف بلغت الامور هاته النتيجة؟.. ووصل تشرذمنا حدّ اليأس من وحدة هاته الأمة ونهضتها؟.. دون أن نسأل أنفسنا: ماذا فعلنا لأجل ذلك؟.. ماذا فعلنا لأجل تسوية خلافاتنا الجانبية وتصفية الأجواء؟.. ما هي الاستحالات التي نتحجج بها في وجه بعضنا؟.. وهل بلغ الوضع العربي حدّا لا يمكن تفاديه أو تغيير النتيجة؟.. لمصلحة من حالة اليأس المطبق والتشاؤم؟.. ونحن لا نزال في دور المتفرجين.. منتظرين حدوث معجزة الهية تعيد لنا أمجادنا ومكانتنا التاريخية!..
لقد تعرضت أمتنا في تااريخها الطويل إلى وضع أصعب وأعداء أشرس وحالة أكثر تفككا وتشرذما.. حتى أصبحت كل مدينة وكل قبيلة حكومة مستقلة، تتوسع على حساب الأخرى وتحاربها.. سيما بعد الغزو المغولي وسقوط الدولة العباسية/(1256م).. ولكن أمتنا ما فتئت ان استعادت قوتها ولفظت البرامكة و البويهيين والسلاجقة خارجا.. ولم يكن للأمة يومها هذا العدد الهائل من المثقفين والمتنورين.. ولا هذا العدد الضخم من الأحزاب والمنظمات الوطنية والشعبية والاقليمية ولا... ولا... ولكن الأمة لم تيأس.. وتسلم قيادها للأجنبي.. وبقي ايمان العربي بنفسه أقوى.. لأن هذا الايمان انما يرتكز على جانبين: جانب العقيدة الاسلامية وجانب العروبة القومية!.
ان مثل هذا الايمان، هو زاد الأمم، في تقدمها واصرارها على الحياة. وهو قوتنا الذي ينبغي ألا نساوم فيه لتصفية خلافاتنا وتقارب مواقفنا والعمل المشترك.. وبمثل هذا الايمان تصدى العراق- الدولة العربية الصغيرة من دول العالم الثالث- لعدوان ثلاثة وثلاثين دولة صناعية كبرى، استخدمت آخر مخترعات العقل البشري وقمة التكنولوجيا التدميرية.. واستطاع إعادة اعمار ما دمرته الحرب خلال سنة واحدة.. بعد أن أكد خبراء دوليون حاجة العراق الى عشرين سنة للاعمار ومعالجة اثار الحرب واستعادة قوته.. وها هو يعود أقوى مما كان.. في ظل استمرار ظروف الحصار.. ولا زالت فرق التفتيش الـ(45)، عاجزة عن الوقوف على الارقام الحقيقية وتحديد أمكنة الاسلحة والتكنولوجيا العراقية.. ألا يعني ذلك ان العقل العربي العراقي، وصل إلى الحدّ الذي يراوغ العقل الغربي وينتصر عليه.. ألا يعني أننا بدأ نفكر بطريقة علمية مستقلة وصحيحة.. وأن الغرب لم يعد يعرف ماذا يجول جوانية العقل العربي!.
لقد تهاوت اسطورة التفوق الغربي الأميركي، كما تهاوت قبلها اسطورة التفوق الاسرائيلي وفشلت فشلا ذريعا في النيل من العراق.. بفضل قوة الايمان وارادة والصمود.. ان علينا أن نؤمن بأنفسنا وأمتنا.. وعلى قاعدة هذا الايمان الاذي لا يتزعزع، مهما كانت قسوة الظروف وتحالفات الأعداء، وهو معيار قوتنا الحقيقية، واحتياطي صمودنا كشعب قبل أي شيء آخر!.
ها هو العراق ينتصر على أعدائه.. ويحافظ على صموده، ويواصل مسيرة البناء والتقدم.. وها هو لبنان ينتصر على خلافاته وتفككه.. ويعود إلى وحدته الوطنية ويعيد ترتيب شؤونه!. وها هو السودان ينتصر على الجيب العميل.. ويعمل على تنظيم أوضاعه الاقتصادية والسياسية.. ويتعهد بتأمين النقص الغذائي للوطن العربي.. بعد أن أبعدتها الحرب الأهلية عن مسيرة البناء الاقتصادي السليم..
أليس كلّ هذا جديرا بأن يدعونا لإعادة النظر في واقعنا العربي من جديد.. بدلا من تهويل الأمور والمبالغة في تصوير ضعفنا وقوة وتفوق أعدائنا.. ان كلّ حالات الضعف التي تعتور واقعنا ليس إلا ضعفا مزيفا مختلقا.. طال النفوس الضعيفة الايمان.. رغم أنه يستند إلى أسباب موضوعية على أرض الواقع... سببها تراجعنا عن اداء دورنا التاريخي واتكالنا على الغير.
دعوة.. لإعادة النظر إلى أنفسنا وإلى واقعنا.. ولتخطيط وبرمجة أهدافنا وتنظيم حياتنا بعيدا عن حالة الانبهار والعجب بالغرب.. وتفوقه الحضاري.. منطلقين من أرضية الايمان بالذات والثقة بالنفس.. طالما أن أمتنا تمتلك من عناصر التكامل والانسجام والقوة أكثر من غيرها...
ولتكن البداية الاعتماد على الذات في التنمية والبناء.. وتوفير المستلزمات الضرورية للحياة والتقدم!.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
• جريدة صوت الشعب الاردنية- الجمعة 23 اكتوبر 1992م

(2)
اعمار لبنان.. المسرولية الوطنية والقومية*..

لأنها.. لبنان.. لبنان.. الجمال والمحبة والسلام.. لبنان الثقافة والحضارة.. لبنان العلم والمدنية.. لبنان النجوم والاقمار.. صلة الشرق بالغرب، والعرب بأوربا..
لبنان التي – حسب الاسطورة الكنعانية- على شواطئها كانت تتنزه (أروبا) الاميرة الفينقية، فأعجب بها زيوس اله الاغريق واختطفها.. فأمر أبوها اخوتها الثلاثة بالانطلاق في أثرها وعدم العودة من غيرها. فاستقر كل منهم في قارة، إذ لم يجد أخته التي توغلت في القارة التي دعيت باسمها. وأطلق أخوتها أسماءهم على القارات الأخرى.
لبنان التي لم تقدر مذابح جمال السفاح في خنق روحها الوطنية والقومية.. ولم تفلح سياسات الفرنجه في زرع الوتد الطائفي المسيحي وتهجير المسلمين منها، وأصبحت مثلا للتسامح الديني والألفة الوطنية والتآخي الروحي..
لأنها .. كل ذلك.. ارادوا قتلها وذبحها من الوريد إلى الوريد.. أدخلوا اليها اوسخ اسلحة الدمار ومآفيات التخريب.. والطائرات والدبابات الاسرائيلية.. وتحولت مساعدات الدول لها شحنات أسلحة ومخدرات وعتاد (TNT) حتى أحرقوها.. وهجروا سكانها.. وقتلو ثقافتها.. وذبحوا دمقراطيتها.. التي كان بها المثل.. وأغلقوها في وجه العرب.. بعدما كانت موئل الأدباء والعلماء ورجال الأعمال والسياسة..
ولم تستطع أي عاصمة عربية أن تحل محلها.. وتشغل الفراغ الذي تركته في الضمير العربي بعد سبعة عشر عاما.. تعود لتلقي عنها ثياب الموت والدمار المهترئة.. وترتدي حلة الجمال التي اشتهرت بها.. بعدما أيقن المغرضون استحالة تحقيق مآربهم..
توافرت لها الارادة الوطنية وجمعت شملها.. والارادة الوطنية في ظروف الخراب الاقتصادي والصراع السياسي والافتئات الاجتماعي.. هي ارادة البناء وتنقية الجواء وإعادة المهجرين إلى قراهم ومدنهم.. ولذلك جاء تكليف أحد ابرز رحال أعمالها لتسنم مسؤولية البناء والاعمار.. ولأن المهمة الاقتصادية تأتي في مقدمة المهمات الوطنية الملحة.. واقتصاد لبنان.. دمرته ويلات حرب وغياب سلطة الدولة خلال سبعة عشر عاما.. وانحطاط الليرة اللبنانية في سوق العملات.. كان لتكليف الملياردير رفيق الحريري معناه الاقتصادي.. وأثره في رفع قيمة الليرة اللبنانية وسعر صرفها في سوق العملات.. وجاء تشكيل وزارته مؤخرا ليحقق بالدرجة الأولى غاياته الثلاثة: الاقتصادي- السياسية- الاجتماعية..
ان لبنان التي بلغت قيمة خسائرها في الحرب (25) مليار دولار.. لم تقصر كثير من الجهات والدول في تمويل ماكنة الحرب فيها، فأن بناءها اليوم.. واعمار منشآتها وقطاعاتها المختلفة.. هو مسؤولية قومية عربية أيضا.. ينبغي أن لا نتردد في دعمها.. وتمويلها.. بدلا من ضخ الأموال الى فقراء أوربا وميزانية الدفاع الأميركية وتمويل مشاريع النظام العالمي الجديد.. وهو مسؤولية دولية تتحمل تبعاتها الأطراف الأجنبية المتعددة والمعروفة..
ولكن.. يبدو ان الحرب أعطت العبرة للبنانيين الذين قالوا أيام الحرب.. ارفعوا أيديكم عن لبنان.. وارتكوا لبنان لأهله.. لن يطلبوا المعونة من أحد.. غير أبنائهم!.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
• جريدة صوت الشعب الاردنية- الأحد 8 نوفمبر 1992م

(3)
لماذا تفجير الوضع الأمني في لبنان؟*..
بالتأكيد.. ان اسرائيل لا تنوي الاحتفال بالذكرى العاشرة لاجتياحها جنوبي لبنان.. أولا.. لأن لبنان التي اجتمعت حكومتها أمس، اجتماعها الأو بعد استحصال ثقة البرلمان الجديد.. تحث خطاها لمعالجة آثار الدمار والحرب الطويلة الأمد وإعادة البناء والاعمار.. وبالتالي، فهي لم تكن، ولن تكون، لها أية نية في مهاجمة شمال اسرائيل،وألقائها في البحر.. ثانيا.. وثالثا.. أن أحد الأغراض الرئيسة للحرب السابقة على لبنان، كان اخراج المقاومة الفلسطينية من لبنان، وهطا ما تم، لتطمئن اسرائيل على حدودها الشمالية.
ورابعا.. ان المفاوضات العربية الاسرائيلية دخلت عامها الثاني مع غرة نوفمبر الحالي.. بين كل من لبنا وسوريا والاردن وفلسطين من جهة، واسرائيل بالمقابل. وهذا يعني ان جميع الطراف المتفاوضةتؤمن أن طاولة المفاوضات هي الطريق النسب لاستحصال الحقوق العربية(؟) بعد أن أثبتت المواجهات العسكرية فشلها في هذا المجال. بل أن الشرط الأول لدخول المفاوضات هو ايقاف العمليات العسكرية ولو مؤقتا.. لتوفير اظروف المناسبة لاستمرار ونجاح المفاوضات. نستنتج منه، ان الاطراف المتفاوضة لن تلجأ للقوة وليس لها مصلحة في ذلك في هذا الوقت، لأنها سوف تؤثر سلبا على المسيرة التفاوضية وقد تتسب في انسحاب وفد اسرائيل منها. وثمة.. من ذا الذي سوف يفكر في اقلاق حدود اسرائيل.. ومن هو صاحب المصلحة في ذلك؟..
لقد ذهب البعض، مع بدء الهجمات الصاروخية على شمال فلسطين.. الى اعتبارها جزء من ستراتيجية ضغط على وفد العدو لتفعيل وتسريع عجلة المفاوضات أو تقديم تنازلات حول مبدأ التخلي عن الأرض مقابل السلام الذي ترفضه اسرائيل حتى الان. وهذا زعم يدحض نفسه. ذلك ان القوى المشتركة في المفاوضات الان، لم تشترك الا بعدما تأكد لها ان طريق الكفاح المسلح لم يعد اسلوبا حضاريا مناسبا لاستحصال الحقوق في نهاية القرن العشرين.
وبالتالي، فمن غير المعقول العودة لاتباع نفس الاسلوب للضغط على العدو. لأن ما لم يحققه كفاح (44) عاما، لا يعقل أن يحققه خلال ايام (!!). ازاء حجم الترسانة اعسكرية المتقدمة والصناعة النووية التي تتوفر عليها اسرائيل منذ الخمسينيات.. والتي واجهت بها الجيوش العربية مشتركة في ثلاثة حروب رئيسة، وهي لن تتأثر شيئا بهذا المزاج المسلح وانما على العكس، تتخذه ذريعة للتقدم واقتطاع اجزاء جديدة من جغرافيا جنوب لبنان.
ونعود للتساؤا.. من المستفيد وصاحب الغرض في اعادة التوتر الى جنوب لبنان؟.. لا احد طبعا.. سيتساءل.. لأن الذي يهم الان ويدور الحديث عنه هو.. الدبابات الاسرائيلية التي تتقدم نحو الشمال وخطط القيادة الاسرائيلية لاجتياز واجتياح حدود لبنان بين لحظة وأخرى.. وبالتالي.. فلا فائدة من تحليل أسباب هذا لوضع والجهة التي أججت الموقف، والجهة التي تقف وراء الجهة اتي أججت الموقف.. ولا طبيعة وهوية هاته الجهة أو طبيعة وهوية وأغراض الجهة التي تقف وراءها.
والأولى من ذلك لوم وتقريع العدو (كالعادة) وتحميله وزر كل ما جرى ويجري معه وبدونه.. وبما يحقق التنصل من كل مسؤولية ازاء الوضع.
هاته الاجواء الصحية المناسبة التي يتطلبها نمو الانوايا الايرانية المغرضة المختفية أو المتحجبة وراء اصابعها السرية في أكثر من دولة عربية وأجنبية، والمتبجحة بأكثر الشعارات والأهداف الوطنية والدينية والانسانية رقة وقبولا واثارة للعواطف والمزجة.. لا حبا بالعرب.. ولا بفلسطين والفلسطينيين وحقوقهم المغتصبة.. ولا عداء لاسرائيل وأميركا والصهيونية العالمية.. لأنها تشترك معها في نفس المنابع التي تشرب منها حقدها وعداءها ضدّ العروبة والعرب..
وبالتالي.. فأن الفتن وحوداث الشغب والبلبلة والنزاعات المسلحة غايتها منع عوامل الوحدة والانسجام واعاقة خطط البناء والاعمار ومعالجة الاثار السلبية المترتبة على عقود الضعف والتفكك واستمرار التجزئة والتقسيم.. محققة بذلك أغراضها العدوانية واشباع نزعاتها المريضة، من خلال تعريض جنوب لبنان للمطرقة الاسرائيلية بين فينة وأخرى.
كما تستهدف منه اعاقة خطط الحكومة اللنانية الجديدة في اعادة الوجه الحضاري المشرق وصورة الانسجام الاجتماعي والتسامح والتكاتف الديني.. وافشال سياسة الحكومة في بسط سلطتها الشرعية على كامل الأرض اللبنانية من خلال اقتطاع اراض لحكم المليشيات من جديد.. وتغذية نشوء مليشيات جديدة وجيوش جديدة.. ومن ثم.. اتاحة المجال لتغلغل قوات اسرائيلية واقتطاع شريط جديد.. أو السعي لوجود دائم في جنوب لبنان لحماية حدودها اتي لا تستطيع الشرعية اللبنانية توفير الامن والهدوء فيها.
ويأتي ذلك في وقت تتداعى فيه الارادة الوطنية والقومية لمازرة وتأييد الارادة اللبنانية وتقديم العون اللازم لها لتطبيق سياستها وانجاز خططها.. واعادة الشرعية والدمقراطية وارادة الحياة في كل لبنان..
ولن يتحقق لها ذلك، اذا لم تعمل على تنظيف البيت اللبناني من كل البؤر والخيوط المريضة، قبل أن تفكر في اعادة ترتيبه وبنائه.. وبذلك تضمن سلامة البناء ووحدة الارادة ونجاح المسيرة..!
ــــــــــــــــــــ
• جريدة صوت الشعب الأردنية- الخميس 19 نوفمبر 1992م

(7)
فلسطين التاريخية..
(أ)
الخريط الجغرافية هي خريطة سكانية/(علم اجتماع أرضية)، قبل أن تكون جغرافية طبيعة تضاريسية ومناخية. وباستثناء حالات الكوارث الطبيعية الشاملة، لا تفقد الخريطة السكانية خصائصها الأصلية وملامحها التاريخية. ويمكن تطبيق هذا المبدأ على كل خرائط السكان القديمة، التي قد تبدو هامشية اليوم، أي فقدت مركزيتها، وأضيفت كجزء ثانوي لمركزيات بلدانية وسياسية مستجدة، لكن الأصالة تبقى رهن القدمية.
ولما كان المحيط العربي المعاصر، موطن حضارات ومدنيات قديمة قبلتاريخية، نحتاج هذا المنظور لاستقراء مصداقية الجذور الطبيعية، في وجه هشاشة خرائط سياسية، أنتجتها تغيرات موازين القوى وحركة المصالح الأقليمية والدولية. هذا يصح تماما على لبنان/(الكبير والخطير) الذي استحال –(صغيرا)- بفعل عوامل، تقتضي البحث والاستقراء. كما ينطبق تماما على فلسطين الجار التاريخي القديم لبلد الأرز.
الحديث في هذا السياق، يضيف دليلا آخر، على مدى قصور أبناء شرق المتوسط، سواء دعوا أنفسهم عربا أو أراميين أو أية صفة أثينية أخرى، في استقصاء وتجميع وتدوين الجذور السكانية وضبط عوامل حركة السكان التاريخية لبلدانهم أو المنطقة تماما، كما فعل الأغريق مع تاريخ والأوربيون عقب النهضة مع بلدانهم القومية.
أما تاريخنا، البلداني والسكاني والقومي، فهو عال على مصدرين تعوزهما المصداقية، كتابات الأقدمين الشعوبيين، ومدونات المحدثين المستشرقين. وهذا يعني –من منظوري الشخصي-ّ، أننا نفتقد تاريخا حقيقيا قطعيا، وسوف نبقى كذلك، حتى تتبلور لدينا ملامح وظروف ومستلزمات مدرسة عربية معاصرة لتدوين التاريخ، على أسس فلسفة علمية عقلية، تؤسس لاستقلالية عقلية عربية، على أرضية قواعد الفكر والمنطق والاجتماع الميداني.
مرة/(سلطان الكلام- 1999م)، انتقدت في قصيدة كثرة الشعراء في أمتنا، ففهم أحد شعراء المغرب الأمر من باب التجريح، وقد عدت لتناول الأمر تحت عنوان (التشوه القطاعي في الثقافة العربية) في افتتاحية مجلة (ضفاف)/(1998- 2005م) التي كنت أصدرها وقتذاك. والواقع ان فولتير كان شاعرا ودراميا وفيلسوفا. وكثير من فلاسفة الغرب كانت لهم تخصصات أخرى، رسخت طروحاتهم الفلسفية. لكن الانسان العربي، يبقى حبيس عنوان وظيفي مفرد، بله، لا يكاد يغادر نمطية جامدة، في منطق الفكر ولغة التعبير. ولذا يبقى هذا الأمر مطروحا، حتى تتحقق امكانات الخروج إلى رحب العقل والواجب القومي.
تتألف فلسطين التاريخية من ثلاثة أقاليم أو مقاطعات. وموقعها التأريخي يتوسط مصر الفرعونية وممالك بابل وأشور. فكانت سيناء اقليمها الجنوبي، وشمالي فلسطين اقليمها الشمالي، وحوض الأردن اقليمها الأوسط والشرقي. والفلسطينيون، على غرار اللبنانيين، يحتفظون بخصائص أثنولوجية بلدانية مميزة، متصلة في سكانهم حتى اليوم.
والفلسطيني اليوم، كما اللبناني المهاجر بالأمس، قد لا يعيش في محيطه السكاني القومي، لكن، جذوره القومية وخصائصه التاريخية تبقى شاخصة ومميزة في شخصيته البدنية والنفسية والعقلية. والفلسطينيون، منذ أواسط القرن العشريسن، ينتشرون في كل قارات الكرة الأرضية، ويتحدثون لغات البلدان المقيمين فيها، لكن خصائصهم المستمرة في ذراريهم، تجمعهم وتؤكد خصائصهم المجتمعية التماثلية.
قلنا، اننا لا نكاد نعرف تماما ما حصل للبنان الكبير حتى استحال صغيرا، قسمته الكولونيالية العثمانية والغربية إلى مقاطعتينفي القرن الثامن عشر، قبل أن ينقسم إلى ثلاثة في النصف الأخير من القرن العشرين. لكننا، بالمقابل، نكاد نعرف أشياء، فضلا عن الوقائع والاشارات الميدانية والتاريخية المتعددة، التي تدعم حقيقة البلدانية الفلسطينية، وحقيقة الجوار الفلسطيني اللبناني.
في هذا المفصل، علينا البحث في الدافع الذي جعل من فلسطين التاريخية، هدفا لأطماع خارجية بغرض السيطرة والاستيطان.

(ب)
وعدبلفور.. المبررات والأبعاد
قبل (75) عاما/(2 نوفمبر 1917م) أصدرت بريطانيا على لسان وزير خارجيتها – بلفور- وعدها الشؤوم سيء الصيت... بتخصيص وطن قومي لليهود- الشتات- المتوزعين في بلاد الأرض. وكان ذلك بداية االجهود والمساعي الرسمية وغير الرسمية التي بذلتها بريطانيا لتحويل هذا الوعد إلى واقع حال. كما كان الضوء الأخضر الذي ارتكزت اليه الجماعات والفرق اليهودية، في التوجه إلى الفردوس المفقود.
على أن مسلسل الهجرة اليهودية الى فلسطين، قد سبق ذلك التاريخ، كما كشفت عنه الملفات والثائق الرسمية العثمانية، وتضمنت جداول بأعداد الوافدين اليهود وعقود مبايعات أراضي مسجلة في سجلات الطابو/(التسجيل العقاري)، مصدقة حسب الأصول الرسمية، مما يدل على أن مخطط الهجرة لم يبدأ مع وعد بلفور، وانما سبقه بكثير.
وأكثر ما يتم الربط بين اوعد المشؤوم، وبين مقررات المؤتمر الصهيوني الأول المنعقد في بازل بسويسره سنة (1897م)، دون اشارة لمغزى أو صورة الربط بين المؤتمر المنعقد في سويسرا، وبين حكومة بريطانيا بفاصل زمني مقداره (20) عاما/(1897- 1917). وهو أمر ليس من قبيل المصادفة التاريخية، إذا علمنا بوجود تيودور هرتزل زعيم مؤتمر بازل والحركة الصهيونية في بيت روتشيلد لندن/(بيكاديللي الرقم 4) خلال اعداد قرار بلفور واطلاعه المباشر عليه، قبل اقرارهو صدوره رسميا.
كما ان طبيعة الظروف السياسية والدولية، حيث تدور رحى الحرب العالمية الأولى، وظروف بريطانيا الداخلية اقتصاديا وعسكريا، ناهيك عن جملة الأحداث والمعاهدات التي سبقت ذلك، مما يضعنا أمام صورة الحتمية التاريخية، التي وجدت بريطانيا نفسها فيها، لاصدار مثل هذا القرار. ان ابرز المؤشرات الدولية والسياسية التي سبقت ذلك، يمكن ايجازها في..
1- بدء عمليات الحرب العالمية الأولى (1914م)، بين الحلفاء بقيادة بريطانيا ودول المحور بقيادة المانيا.
2- تحالفات بريطانيا مع العرب للوقوف الى جانبهم ضد العثمانيين، مقابل عهود ومواثيق قطعوها للشريف حسين بن علي/(حسين- مكماهون). وبدء عمليات الثورة العربية من الحجاز/[9 شعبان 1916م] ضد الدولة العثمانية.
3- اتفاقية سايكس بيكو/(1916م) بين بريطانيا وفرنسا، وهي الاتفاقية اتي أقرت واقع الانتداب، وتقسيم ارث الدولة العثمانية بين فرنسا وبريطانيا، وبالشكل المعروف.
4- نجاح الثورة البلشفية في موسكو، وظهور النظام الاشتراكي الجديد، وهي الثورة التي فضحت اسرار سايكس بيكو امام العالم.
5- كما تجدر الاشارة الى ان بريطانيا لم تكن حتى ذلك التاريخ/(1917م) قد حسمت عملياتها العسكرية في المناطق التي اندفعت فيها جيوشها، ولم تحكم سيطرتها عليها أو على دفة الحرب.
وثمة.. ما الذي يجعل الحكومة البريطانية في خضم ذلك... تفكر بحقوق اليهود وآمالهم القومية؟.. وما هي جملة النتائج اتي يمكن قطفها من هذا القرار؟.. وأثر ذلك في توجيه دفة الحرب؟.. وهل يمكن أن تكون لمثل هذا القرار كل هاته الاثار السياسية والعسكرية والدولية؟..
ان جملة الأحداث والتغيرات السياسية والعسكرية، بما فيها وعد بلفور، لا تنفصل عن جملة مقررات ما يسمى – تقرير بانورمان-. ذلك التقرير الذي تولى التنظير والتخطيط للوضع العالمي للقرن العشرين.. منذ بواكير هذا القرن.. وبالتالي.. فأن جملة ما تحقق ليس غير جزء من بروتوكولات بانورمان.
وكان كارل بنورمان وزير خارجية بريطانيا قد دعى نظراءه في الدول المهيمنة الكبرى في العالم، لمناقشة الاحتمالات المختلفة للوضع الدول الجديد، وسبل المحافظة على عناصر قوة وهيمنة دولهم على العالم. وقد انتهى اجتماع وزراء الخارجية ذلك سنة (1903م) إلى انشاء لجنة من علماء ومستشارين ومختصين، لاعداد دراسات سياسية ومستقبلية لازمة في هذا الخصوص. واستغرقت مداولات تلك اللجنة التي سميت لجنة بانرومان ثلاث سنوات [1904- 1907م]، قدمت بعدها تقريرها الذي تضمن جملة استنتاجات وتوصيات، راهنية ومستقبلية..
1- الدول المرشحة للانهيار والسقوط والزوال.
2- القوى الجديدة في الأفق، والتي يمكن أن تهدد ميزان القوى العالمي من خلال القوى الكامنة فيها.
3- أهم المواقع والزر والخلجان الرئيسة الستراتيجية في العالم.
وكان لامتداد الدولة العثمانية حول حوض البحر الأبيض المتوسط شمالا وشرقا وجنوبا، وهيمنتها على وسط وجنوب العالم؛ إضافة إلى البنية التقليدية لها، وتخلفها الاداري والاقتصادي والسياسي، أثره في إثارة أطماع الدول الغربية، للانقضاض على – رجل أوربا المريض-، وتوزيع ارثه وممالكه بين الدول الأوربية القوية. وذلك ما تحقق، فكانت ثورة الدستور/(1908م) الاسفين الأول لهدم صرح الامبراطورية الخرافية المتخلفة، بعد عام واحد فقط من انتهاء أعمال لجنة بانورمان. ثم استمر تهاوي ممالك العثمانيين، ونشوء حركات وجمعيات ومنظمات قومية داعية للاستقلال والتحرر، تأثرا بأفكار الثورة الفرنسية، ومنها الجمعيات العربية كالعهد ومصر الفتاة واجتماع القوميين العرب بباريس/(1913م).
وعندما اندلعت الحرب العالمية الأولى، أسرعت بريطانيا بوضع قواتها في ثغر الخليج العربي واحتلال العراق، بينما وضعت فرنسا قواتها في مصر وطرابلس للاستئثار بالجانب الأفريقي. وكان لهذا التقسيم الجغرافي لممالك العثمانيين بين فرنسا وبريطانيا، أثر في وضع معاهدة سايكس بيكو/(1916م). على أن انهيار الرجل المريض واقتسام ارثه ليس غاية المراد، لأن ما يتهدد الغرب، هو الخشية من عناصر الوحدة والتكامل والانسجام، التي تكفل ظهور دولة قوية موحدة. وثمة ضرورة لوضع ما يعيق كل احتمال لوحدة ونهضة القوة العربية الاسلامية، وهو مبرر قرار وعد بلفور/(1917م) الهادف لتحقيق عدة أغراض..
1- فصل القسم الأفريقي عن القسم الأسيوي.
2- السيطرة على حوض البحر الأبيض المتوسط.
3- السيطرة على قناة السويس وشمال البحر الأحمر.
4- السيطرة على مركز الأديان السماوية الثلاثة.
5- ان زرع اسرائيل في وسط بلاد العرب، يعني زرع خطر دائم محدق، يهدد بالتوسع من النيل إلى الفرات باستمرار. مما يدفع العرب للانشغال بمواجهة هذا الخطر وتأمين الاستعدادات العسكرية اللازمة لمواجهته؛ ولذلك تنشغل عن تأمين عوامل ومستلزمات نهضتها العلمية والاقتصادية. فلا غرو أن تنشأ في الشرق الأوسط أكبر ترسانة أسلحة ونقاط توتر وتهديد دائم.
6- اضافة لكون زرع اسرائيل بين العرب سوف يوجه عداء العرب نحو اليهود، بدلا من الدول الغربية الكولونيالية، وسيما بريطانيا وفرنسا..
7- فأن ذلك يعمل على توجيه العداء اليهودي نحو العرب، بدلا من الغرب المسيحي الذي أعمل ضد اليهود عديد الجرائم والمجازر، فضلا عن الحقد والضغينة التي تشربها الطفل المسيحي الأوربي ضد اليهودي البشع المرابي. وربما توسمت بريطانيا، من خلال هذا الجميل والكرم الانجليزي مسح صفحة العداء والضغائن المتراكمة في نفوس يهود أوربا وغسل اثامها وسيما من خلال سيل المساعدات والاعانات التي لا تزال اوربا الغربية تصبها على دولة اسرائيل.
8- ان أوربا الغربية، ضربت عصفورين بحجر، التخلص من اليهود، الذين يتنامى دورهم ووجودهم ورساميلهم في أوربا(*)، وضمان اخماد طموحات العرب في الوحدة والنهوض والتقدم والتحرر، من خلال تهديد كل منهما للآخر.
ولا زلنا حتى اليوم نشهد سريان مقررات لجنة بانورمان، في ترسيخ التقسيم والتجزئة، والمزيد من المزيد من اتكتل والتذرية. بينما تعمل الدول الغربية على دعم هيمنتها على الشرق الأوسط والعالم ، وتزعمه في صورة النظام العالمي الجديد.
ـــــــــــــــــــــ
• جريدة صوت الشعب الاردنية- الثلاثاء 10 نوفمبر 1992م.
• يعود وصول اليهود إلى انجلتره إلى العام (1070م) بدعوة ملكية لأغنياء يهود أوربا وألمانيا، للاستفادة من أموالهم في تمويل بلاط الملك وحروبه من جهة، وتقديم ضمانات لهم لبناء نواة اقتصاد محلي وحاشية ارستقراطية للملك. وعلى مدى عشرة قرون تتالى وصول يهود غرب أوربا لانجلتره، ولكن حقوقهم السياسية بقيت متواضعة، في مقابل الخدمات التي أسدوها للعائلة المالكة والاقتصاد التجاري الانجليزي. لكن الازدهار الاقتصادي والنمو الدمغرافي الانجليزي في النصف الأول من القرن العشرين انعكس سلبا على الجماعة اليهودية الانجليزية التي بدأت تهاجر غربا نحو الأمريكتين، ولم يتبق منهم في خميسنيات القرن العشرين غير عدد يقل عن ثلاثمائة ألف معظمهم من الفقراء على هامش المجتمع الانجليزي/(Londoners Jews) .

(ج)
وتمرّ المناسبات..
ليست مصادفة.. أن تلتقي في ضمير أمتنا.. اكثر من مناسبة.. مؤلمة.. بل جارحة.. ومهينة.. وعد بلفور- قرار التقسيم- زيارة السادات للقدس- مؤتمر مدريد- ذكرى وفاة تشرشل: وزير المستعمرات السابق ورئيس وزراء بريطانيا في الحرب الثانية الذي مهد وأشرف بنفسه على ترتيب الخريطة السياسية العربية وتقسيمها إلى كانتونات موزعة بينه وبين حليفته فرنسا، قبل أن يولد الفك الأمريكي المفترس بعد الحرب العالمية الثانية، ويفترس كل شيء.
كأننا نجامل أنفسنا. فنخفف عنا وقع تلك الكوارث والمصائب والنكبات التي يشيب لها الدهر.. أو أننا نجامل الاخرين، فنقلل في عيونهم من شأن ما ججنت أيديهم بحق حلفائهم في امشرق.. فنسميها مناسبة.. أو مجرد ذكرى.. ثم تمرّ المناسبات..
حينها واحهنا تلك القرارات بالرفض.. بالشجب.. والاستنكار.. على كل المستويات. ولكن ذلك لم ينفع. كل الفعل أقوى. وكان ردّ الفعل ضعيفا، مترددا، متجزء، متشرذما.. قياسا إلى قوة النظام العالمي القديم الذي كانت تقوده انجلتره. وبعد تلك العقود المسلوخة لم يعد لنا من أعمارنا وأعمار أجيالنا كلها، الا أن نحتفل.. ونردد كلمات.. كلمات.. ربما تفلح في تغيير قسمات تاريخ متغضن.. أعمق.. أعمق من جراحنا.. جراح الأرض والسماء، عندما يتشرد شعب وتستلب أرضه، وتنتهك حقوقه وتغتصب مقدساته.. وترتفع قطرة الدم إلى السماء مستغيثة.. ليمثل اليهود على العرب مجازر النازية التي ارتكبها هتلر ضد اليهود في ألمانيا، بهدف بناء ألمانيا قوية نظيفة من (رس) اليهود. تلك النازية ما زال اليهود يرتعبون من اسمها ويهددون بقطع العلاقات مع المانيا إذا لم تلجم المنظمات النازية فيها.
علما ان نشاط المنظمات النازية الالمانية اليوم ضد الاجانب، وآخر ضحاياهم كانوا من الترك وليس من اليهود. ولكن بدن اليهودي يرقشعر بعد نصف قرن لمجرد ذكر الاسم، أما نحن.. فقد دمل الزمن جراحنا.. وأصبحنا أكثر قوة وإرادة.. في تغيير مسار كل شيء. بما فيه التاريخ. ليس تاريخنا القادم فحسب، وانما المنصرم. وإعادة كتابة تاريخ جديد. وكأننا نؤدلج مواقفنا تجاه قرارات عفا عليها الزمن.. عسى أن تحدث المعجزة التي لم تحدث. ويتغير واقع الحال وتبدل النتائج.
أننا نتحرر إذن.. من نزعة السوداوية والتشاؤم التي التصقت بأرواحنا منذ لعنة آدم. ونتخلص من تطرفنا وحديثنا في تحديد علاقاتنا الجديدة، باسم روح الانفتاح ورياح الدمقراطية التي تحتل أصقاع الأرض، من حركة وشاح تمثال الحرية الأمريكي. وها نحن نشكر (العدو الحميم) الذي تلطف علينا، وأعرف عن استعداده لمجاملتنا (بقطعة) من (أرضنا) يشاركنا فيها في الادارة والتنظيم ويدس أنفه حيثما شاء واينما شاء.. ليس وفق قرار التقسيم، لا .. وانما.. أقل.. أقل منه بكثير. لأن قرار التقسيم مات، ولا يمكن لأحد أن يبعثه الان إلا في الذاكرة.. وهذا هو الموجود!.
ويبدو ان الذين يعيدون كتابة التاريخ المعاصر ينطلقون من حكاية قديمة، فحواها ان الماضي ميت، وكل تعامل مع الميت (حرام). ولذلك ينبغي التعامل مع المؤشرات الجديدة التي يمكن الاستفادة منها في تغيير علائم مستقبلنا الذي ينتظرنا.. ولكن عندما يعيد التاريخ نفسه مرتين، من نقطة واحدة. من حقنا أن نتساءل.. ومن حق الأجيال القادمة كذلك.
عندما اقتطعت عصبة الأمم لانشاء كيان دولة اسرائيل، جزء من من أرض فلسطين، هاج الكل وماج. واجتمعت بلدان الجامعة العربية الطرية يومذاك، واتخذت أول وآخر قرار تاريخي بالاجماع، برفض اتقسيم ورفض الكيان الجديد ورفض كل شيء. فاستغلت الدولة المستجدة قرار الرفض العربي وعملت على توسيع حدودها ومدّ نفوذها خارج المناطق المخصصة لها دوليا. مستخدمة لذلك كل ما يناسبها من وسائل تهجير وتشريد وطرد وو...، وبعد حرب، أو لنقل نكسة حزيران/يونيو 1967م
ظهر مشروع روجرز/(وزير الخارجية الاميركي يومها)، ليرسم حدودا جديدة للمناطق العربية. وكان الرفض هو الردّ. ولم تنفع الجهود والوساطات الدولية والعربية يومها في اقناع المتنازعين بجدوى قرار روجرز. وأصبح شعار الثورة الشعبية المسلحة لتحرير كامل التراب الفلسطيني، هو الردّ الوطني والقومي على انشاء اكيان الصهيوني. ذك الردّ اكتسب مصداقيته الوطنية والقومية والدولية ولقي الدعم الكامل من لدن مختلف المظمات والحكومات العربية والدولية، وصولا لاعتراف المنظمة الدولية بها، ممثلة بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلا شرعيا للشعب الفلسطيني. وكان لهاته الثورة إلى جانب قرار المقاطعة العربية لاسرائيل والجهات المتعاونة معها- اعلاميا وسياسيا واقتصاديا- أثره البعيد وانعكاسه عليها.
وثمة.. هل يمكن وضع كل هاته المؤشرات على طاولة: مدريد؟.. وكيف يمكن التوفيق بينها وتحقيق الانسجام الهارموني للخروج بلوحة متناسقة متفقة متوافقة في أبعادها ومراميها؟.. وهل يكفي توافق التاريخ [29/ 30 نوفمبر]، لغض النظر عن جيرة (44) عاما، بين [1947- 1991م]؟.. حافلة بمآسي وآلام ومكائد ودماء ودموع.. أرقام خيالية من قتلى وجرحى ومعاقين ومشردين وأيتام وأرامل.. الاجابة ، بالتأكيد، ستكون بالنفي، في كل الأحوال.
لأن مؤتمر مدريد لا يمثل الحل. قدر ما يمثل خطوة أولية على طريق الحلّ الجديد. طريق الصيغة الجديدة في التعامل مع مؤشرات سياسية دولية، بعد أن أثبتت كل الصيغ السابقة فشلها الذريع في توجيه حركة الواقع التاريخي. ولا شك أن اتباع هاته الصيغة في أواخر القرن العشرين، هي محصلة قراءة متمعنة في المكانزمات التاريخية التي توجه السياسة الدولية والاقليمية.. تفترض التخلص من كل التناقضات واللاواقعية التي طبعت العقود الماضية.
ومهما يكن.. فلن تفلح في تحويل هزائمنا إلى انتصارات.. ونكباتنا إلى أمجاد.. ومهما أطلق على المفاوضات من أسماء- حروب، معارك، فأنها سوف تبقى مجرد مفاوضات أولا وأخيرا.
ـــــــــــــــــــــــ
• جريدة صوت الشعب الاردنية- الجمعة 18 ديسمبر 1992م

(د)
بدون عنوان..
بعد أكثر من عام.. على ما عرف بمسيرة السلام وخطوات التطبيع والتطويع والتمثيل واستبدال الأقنعة، وجهود اسرائيل في (المحافظة على ضبط الأعصاب)! ازاء عمليات الانتفاضة.. بعد كل ذلك أفلت العصب السمبثاوي وعاد لترجمة الغريزة الفطرية والمبادئ الأساسية والسياسات الستراتيجية التي اعتمدتها الفكرة الصهيونية، منذ اللحظة الاولى لولادتها في رؤوس رجال المال اليهود، اللحظة التي نحن فيها، "وهي دولة تضارع الدول وتتطاول لبناء امبراطوريتها السامية.. على أرض، لم تكن لها يوما".
وإذا كانت اسرائيل أرات التعامل مع حادثة اختطاف شرطي/(13 ديسمبر 1992م) باسلوب حضاري مرن، وحاولت توظيفه اعلاميا لاغراضها الخاصة، لتوجيه حركة الرأي العام الغربي، فقد أخرجها ذلك التصعيد الاعلامي من خانة التعامل السياسي الدبلوماسي المرن، إلى خانة الانفعال والتفاعل العاطفي المتطرف، وهو ما انعكس في رد فعلها العنيف، والذي قلب حركة الرأي العام ضدها، وأوقعها في جملة –مطبات- ليس اعلامية، وانما سياسية عويصة هاته المرة مع عدة أطراف.. مما يقود للقول ان حادثة اختطاف الشرطي واغتياله لم يكن أمرا طارئا. أو صدفة غير محسوبة. انما اختير لها التوقيت المناسب جدا.. لتكون اختبارا سريعا.. واستفزازا لغريزتها المتأصلة فيها.. في ظل جملة ظروف، متعددة الأبعاد، متنوعة الدلالات..
1- جاء اختطاف الشرطي ردا على الحملة المتحمسة عير العادية اتي أعلنتها حكومة رابين ضد حركات متطرفة في ألمانيا. وكان على رأس جدول أعمال زيارته الأوربية لكل من ايطاليا وانجلتره لاقناع الجماعة الاوربية باستصدار قرار يحدّ من الارهاب والتطرف، وكأنها في كفاح ضد الارهاب والنازية، وتنسى تاريخها القائم على القتل والارهاب وعصابات الارغون والهاغاناه ودير ياسين وغيرها، فما هو مبرر هاته الحملة، وما هي الصورة اتي تريد أن تضطبغ بها من وراء حماسها الاعلامي هذا؟.
2- هذا الاجراء الاسرائيلي جاء بعد مرور شهر على التصعيد الأمني الأخير في جنوب لبنان من قبل جماعات حزب الله، وقبل أن تسكن ثائرة اسرائيل تجاهها، سارعت إلى توجيه ضربة مشتركة للجماعات الدينية/[حماس، الجهاد الاسلامي، حزب الله]، مما يفسر لنا سبب ابعادهم الى لبنان بالذات. لماذا لم تبعدهم إلى بلاد أخرى؟.. ولماذا تضعهم في منطقة تنشط فيها جماعات حزب الله؟.. ما هي اللعبة التي تريد أن تلعبها هاته المرة؟.. وماذا سيتبعها في الافق. الفلسطيني.. اللبناني على السواء؟.. لقد طالبت اسرائيل حكومة لبنان بوضع حد لنشاط حزب الله، وحملته مسؤولية التفجير الأمني الأخير..واليوم تلقي (418) انسانا على أرض لبنان عنوة.. وتحملها مسؤولية الحفاظ على سلامتهم. دون أن تتساءل عن علاقة لبنان بما يمكن اعتباره مشكلة داخلية –لاسرائيل- ؟.. ولماذا تلجأ إلى تصدير مشاكلها إلى لبنان بالذات(*)؟.. بينما لا تزال لبنان تحاول السيطرة على وضعها الأمني الداخلي، وعلاقاتها مع الفلسطينيين تشهد حالة من البرود.
3- جاءت في غمرة الركود الذي انتهت اليه المحادثات المشتركة، وبعد مرور أكثر من سنة عليها دون احراز تقدم يذكر، في أي صعيد أو طرف ولا سيما الفلسطيني. فهي تحمل تساؤلات الجماهير الفلسطينية من جهة، وتؤكد موقف المنظمات الرافضة للمفاوضات/(زمنها حماس).. في أن المفاوضات لن تقدم شيئا للفلسطينيين.
4- جاءت لتكشف زيف ادعاءات اسرائيل ورغبتها في السلام والأمن وامكانية التطبيع والتطويع والتعايش السلمي؛ وتنسى الاطواق المنية المفروضة على المناطق العربية وسلطات الحاكم العسكري والاداري/(الصهاينة) في هاته المناطق.. أغلاق المدارس والجامعات لأتفه الأسباب بدعوى تهديد وجود وأمن دولة اسرائيل؟.. فأية دولة هاته تهددها حجارة طفل؟.. وأي أمن هذا الذي يهدد حادث اغتيال شخص واحد؟.. ان هذا يكشف هشاشة اسطورة البناء والقوة الاسرائيلية وتوجسها وارتيابها من كل شيء.. مهما كان صغيرا أو كبيرا..
5- جاءت في مستهل استلام حزب العمل مقاليد الحكومة الجديدة برئاسة رابين، وما أشيع عن سياستها المعتدلة والمرنة، مقابل حكومة شامير اليمينية المتشددة خاصة فيما يخص المفاوضات والمطاليب العربية، بزعم كون رابين من المتحمسين وابطال السلام. بينما أكدت الاحصاءات الامنية الأولى تصاعد موجة العنف منذ مدة ولايته وبلوغ القتلى (17)*. وتأتي الحادثة الأخيرة لتزيد من انفجار الوضع الأمني الداخلي ووحشية سياسة الحكومة في التعامل معها.. بحظر التجوال، الاعتقال الكيفي.. الطرد والتهجير.. فما هي صورة السلام الذي يولد من هذا الوضع؟.. وهل هاته هي الاجواء الصحية المناسبة لخلق صورة السلام في المنطقة؟..
6- وأخيرا..
فأن قرار الابعاد وان يكن.. ليس القرار الأول الذي تمارسه اسرائيل ضد الفلسطينيين، ولن يكون الأخير طبعا.. فأن يأتي منافيا لكل اللوائح والمقررات الدولية والدساتير الانسانية.. فليس ثمة قوة في الأرض.. ألأو مبرر لاخراج انسان من أرضه ووطنه.. من داره وأهله وعشيرته.. تخت أي ذريعة أو مسوغ قانوني اجرائي!.
وإذا كانت دولة اسرائيل تضع قرار الابعاد، في بنود قانوان عقوباتها ضد الفلسطينيين، لا لشيء، الا أنهم أصحاب الأرض.. وانهم يطالبون بأرضهم وحقوقهم الانسانية والمدنية..فالمعروف انه لا يجوز – قانونا- معاقبة شخص بدون ذنب يؤتيه.. ولا تثبت تهمة بدون بينة قانونية، ولا تقوم بينة بدون دليل مادي ملموس أو رؤية عيانية أو تلبس. والسؤال.. ما الذي فعله (418) فلسطينيا ليطردوا خارج أرضهم ووظائفهم؟.. وما الذي ثبت ضدهم؟.. وهل يستطيع محامو دفاعهم مطالبة محكمة العدل العليا الاسرائيلية بابراز ادلة جرمية تدينهم؟.. بدل طلبات الالتماس والظروف الانسانية والصحية للمبعدين وعوائلهم واستجداء العطف السرائيلي.. أم أن هذا الابعاد لا يدخل في خانة المحاكم والقانون!..
وإذا ثبت ارتكاب شخص لجرم معين.. فثمة سلسلة عقوبات اصلاحية يمكن أن تعالج الموضوع.. بدء بالعقوبات الادارية ودفع الغرامات الى الحبس المخفف والمشدد ولمدد نسبية.. وهنا نذكر ان الكنيست رفض قبل ايام وللمرة الثانية طلبا تقدم به أحد أعضائها لاعتماد عقوبة الاعدام.. وجاء في بيان الرفض انه لا يمكن توخي الاصلاح من هاته العقوبة!. لأن هدف القانون الاسرائيلي من العقوبة هو هدف اصلاحي ذاتي أو ردعي!!.
ـــــــــــــــــــــ
• جريدة صوت الشعب الاردنية- الخميس 31 ديسمبر 1992م
• من المرتكزات الاساسية في المشروع الغربي الصهيوني فكرة (الوطن البديل) الذي يستوعب المكونات الاجتماعية التي يتم تهجيرها وتشريدها وطردها وتفريغ الأرض منها، لتأمين وجود اسرائيلي غربي مزدهر. وبالعودة إلى الملفات العثمانية في عهد عبد الحميد الثاني، كان موضوع الوطن والوطن البديل حاضرا وواضحا، وفي مواجهة الضغوط الغربية والصهيونية التي كانت تبتز الحكومة العثمانية مقابل دعمها المالي والتجاري. عربيا، استخدمت امارة شرق الاردن والمملكة لاحقا، اطارا للوطن البديل، ويشكل الفلسطينيون أكثر من نصف سكان الاردن اليوم، وهو نصفها الشمالي غالبا. وأمام تزايد الضغط الدمغرافي الفلسطيني داخل اسرائيل، فقد بدأ البحث عن وطن بديل آخر، أمام عجز امكانيات الاردن عن قبول المزيد، وكان ذلك واضحا في خط المفاوضات مع سوريا، والتي لم تصل الى نتيجة، وعلى الجانب المصري تشكل سيناء احتمالا مفتوحا لذلك. لكن مشروع الحرب الاهلية اللبنانية وتداعياتها السياسية والامنية، فتحت احتمالات جنوب لبنان عمقا اسرائيليا لوجستيا من جهة، وملجأ فلسطينيا بديلا من جهة أخرى. وكله من التوافقات الدولية السرية أو غير المكتوبة، وانما يجري تطبيقها وسط مهانة وتواطؤ من الجميع.
• التلميح الضمني للكاتب يشير إلى وجود قوة خفية وراء التصعيدات الأمنية والتلاعب بحركة الاستفزازات المتبادلة. ولاشك ان اليمين الاسرائيلي عندما يكون خارج السلطةّ، فهو يعمل على دفع حزب العمل نحو مزيد التشدد والتطرف بما يجعله يخضع لاملاءات اليمين بشكل غير مباشر عبر سياسة الفعل ورد الفعل، والاستفزازات المصطنعة في الشارع والمنسوبة لجهات فلسطينية، هي في معظمها خيوط تتلاعب بها أصابع القوة الخفية. بل أن هاته القوة تستخدم الاستفزازات وتحركها خلال وجود شامير وحزبه في السلطة، وتتواقت مع مواعيد المفاوضات وقرب تحقيق تقدم نوعي، فيضيع كل شيء اثر حادث مسرحي!.

(ر)
الثوابت العربية في مسألة المبعدين..
وأخيرا.. انبجست حنجرة رابين معترفا بالرعب الذي يخيم على أركان دولته.. جراء تعاظم دور وأهمية الانتفاضة الشعبية الفلسطينية المقدسة/(ثورة الحجارة المباركة).. من خلال عرضه صفقة مساومة مسألة المبعدين بوقف عمليات الانتفاضة والكف عن معارضة مسيرة السلام.. بعد أن أثبتت الحجارة الفلسطينية أنها الاسلوب الأكثر نجاعة.. وبعد أن تحولت وهي تدخل عامها السادس، إلى ستراتيجية.. وترعرع معها الطفل العربي الفلسطيني، تجسد حبّ الانسان لأرضه وبيارته وتاريخه: (والتين والزيتون، وهذا البلد الأمين).. معتقدا أن بامكانه ان يجعل من الـ(418) فلسطينيا مبعدا، ثمنا مناسبا يسدد به فاتورة الانتفاضة. متناسيا الثمن الذي عليه دفعه لتسديد فاتورة الدم الفلسطيني خلال الـ(45) عاما المنصرمة. بل منذ (1936م) وثورة البطل عبد القادر الحسيني وعزالدين القسام.. وربما قبل ذلك.. وأن هاته الانتفاضة.. جاءت لتثأر لهذا التاريخ المجترح.. وتعيد للدم الفلسطيني بهجته.. وللطفل الفلسطيني ابتسامته وإباءه وكبرياءه الأصيل.. على أرضه وأرض أجداده.. لتقول ان الدم لا يتحول إلى ماء بمرور الزمن.. ولا يمكن مقايضة العروبة باليانصيسب.. في أسواق النخاسة الدولية..
اعتراف رابين جاء بعد يأسه من قبول البرامج والسيناريوهات المرسومة لحل أزمة المبعدين.. وتصريفهم سواء على حساب لبنان.. أو الدول الأوربية.. وبعد يقينه أنه لن يستطيع مواصلة تضليله للمنظمة الدولية وموفدها للمنطقة منذ اسبوع متنقلا بين أكثر من عاصمة وجهة.. في محاولة لحل الأزمة وتقريب وجهات النظر.
ويؤكد بشكل قاطع فشل اسرائيل في مواجهة الموقف العربي ولا سيما اللبناني ازاء هاته المسألة. وتطويعه بالشكل الذي يخدم أغراضها وادعاءاتها، وبما يتطلب ثبات الموقف العربي والمحافظة على الثوابت الستراتيجية التالية..
1- استمرار الانتفاضة الفلسطينية.. باعتبارها الاسلوب المناسب والأكيد الذي يهدد وجود اسرائيل ويفضح موقفها أمام الراي العام العالمي، دون أن تستطيع الوصول إلى الردّ اللازم لمعالجتها وايقافها أو تبريرها.
2- استمرار الموقف البناني المبدئي والواضح وطنيا وقوميا- وبما يناسب تأكيد سيادتها على أرضها وحقها في الدفاع عن نفسها وحقوقها اوطنية، وتحميل اسرائيل مؤولية سلامة المبعَدين ومعالجة مشاكلهم.
3- التأكيد على ربط مسألة المبعدين باستمرار الجانب العربي في المفاوضات، الأمر الذي دعت الضغوط الأميركية الاطراف العربية لتجنبه...
ولا شك أن الايام المقبلة سوف تشهد صحة الثوابت العربية، ازاء تخرصات المعتدين!.
ــــــــــــــــــــــــ
• جريدة صوت الشعب الاردنية- الثلاثاء 10 يناير 1993م






[7]
عرابيا الجنوبية: (ممالك اليمن وإرم/(حضرموت) وعُمان)..

(1)
علم اجتماع جنوبي العرابيا..
اليمن لغة من اليمين: جهة مقابل الشمال أو اليسار. واليمين: دالة اليُمْن: النعمة والسعادة والرخاء، كذلك هي في ميثولوجيا الأمم والفكر الديني. واليمين من الجهات يقابل (الشرق) = جهة مشرق الشمس، وفي ازائها (اليسار) = جهة مغرب الشمس. واليمن تقع إلى شرق مضيق باب المندب، وهذا يقع شرقي الحبشة.
لكن المؤكد أن صلة اليمن والرخاء ببلاد اليمن، ليست فرضية لغوية أو ميثولوجية، وانما تستند لواقع ملموس يتمثل ببيئتها الطبيعية والمناخية وموقعها التجاري الجيوملاحي، ومحيطها المائي، واشرافها على المعبر المائي بين جنوبي غرب أسيا و القرن الأفريقي، وليس أخيرا، تسلطها وسيادتها على عالم مياه الجنوب: البحر العربي والأفريقي والمحيط الهندي.
ولليمن مكانة نفسية وتاريخية أثيرة في الذاكرة العربية، وقد اقترن ذكرها غالبا باليمن السعيد. لكن تلك الأهمية أكثر وأعمق من دال الاقتصاد والمعيشة، إلى اعتقاد شبه جازم، بمركزية تلك البلاد في تأسيس عالم العرابيا، والبؤرة التي انطلقت منها هجرات بشرية، توزعت أطراف ووسط شبه الجزيرة، شمالا وشرقا وغربا. فكانت في موضعها الجنوبي القاعدي: الأصل الأسري تحدّرت منه تشكيلات الاجتماع الجزيري، والمركزية الأبوية للعائلة العربية.
واليمن يمنان، إن لم تثلث. صنعاء على البحر الأحمر، وحضرموت على البحر العربي. تقع حضرموت/(إرم)، في نقطة متوسطة بين خليج اليمن/ (مضيق المندب)، وخليج عُمان/(مضيق هرمز). وقد لعبت التضاريس الأرضية المعقدة وصعوبة الانتقال فيما بينها، دورا في توزيع الاستيطان السكاني هذا.
لكن ما يوحّد الأقاليم الثلاثة، من جهة المقومات الطبيعية البيئية والمناخية والسكانية والمعيشية، يتشابه إلى حدّ كبير، وبما يكاد يكون توزيعا طبيعيا عادلا للامكانات والموارد فيما بينها، وهو ما يفسّر – إلى حدّ ما- حالة السلام والأمن الاقليمي لساحل البحر العربي. وبالمقابل، لا تكفي عوامل الطبيعية التضاريسية، لتبرير شبه القطيعة والاتصالات والتواصل الاجتماعي التجاري والسياسي، وغياب العمل الاقليمي الموحد، عبر التاريخ.
الاتصالات/ (communication) والتعاون/ (cooperation) سيما في مجال التجارة والتبادل/(trans-trade)؛ خصائص حيوية في صيرورة وسيرورة الاجتماع البشري الاقليمي والعالمي. وقد كان للتعاون والتبادل التجاري دور مركزي في تكوين حاضرة التمدن الأوربي ونظامها السياسي.
لكن القراءة التاريخانية والراهنية لجنوبي العرابيا، يلحظ ضعف التواصل الداخلي والاقليمي فيما بينها، على الصعيدين الشعبي والرسمي، التجاري والسياسي. مما يفتح المجال لتأشير ظاهرة (العزلة) و (التقوقع) و (الانعزال) و(القطيعة) في الاجتماع الاقليمي الجنوبي للعرابيا، في إزاء والاتصال والتعاون والتبادل.
وبقدر مساس الحاجة لتوجيه الدراسات الانثربولوجية والسكانية، لتفكيك عوامل القطيعة والعزلة الذاتية والبيئية، فأن أهل العصر مدعوون، لانتهاج مشروع الانفتاح الداخلي والتعاون الاقليمي الستراتيجي الشامل، وبشكل، يدعم تفعيل الدور الجنوبي ومركزيته في الحراك العربي الراهن والمستقبل السياسي للمنطقة.
للبيئة دور أساسي خطير في صياغة التكوين النفسي والفكري والاجتماعي للفرد. وسواء كانت بيئة التضاريس الجبلية والمائية، أو بيئة الصحراء والمناخ الجاف، فقد دفع الاثنان، باتجاه خصائص نفسجتماعية وسوسيوسياسية متشابهة، في مجال الاتصال والتعاون والتبادل في علم اجتماع الجزيرة عموما، وانعكاساته اللاحقة على التشرذم القبلي وتشظيات البداوة.
يعرف علماء النفس (الشلليّة)، بأنها حالة اغترابية، تكون الجماعة الموجودة في محيط بشري ما، تفتقد الارادة أو القدرة، على الاتصال والتواصل مع عناصر محيطها الاجتماعي. من المحتمل أن تستند (الشللية) لعوامل ومقومات تاريخية: اجتماعية سياسية أيضا، في حالات خاصة، لكن البتّ المفصّل والنهائي في ذلك لا يغتني عن الدراسة الفكرية والميدانية.
غياب التعاون والتبادل الاقليمي، والذي أصطلح عليه بالاتفاق الستراتيجي الشامل، شكل أساسا على مدى التاريخ، لحالة التفكك والتهالك الجزيري، وسهولة اختراق الملاحة الصليبية والكولونيالية الرأسمالية الغربية لجنوب غربي أسيا. ذلك التفكك والهشاشة والاختراق الذي يتحمل مسؤولية الراهن العربي المتردي، وكلّ انعكاساته الخطيرة والمعقدة على صعد سياسية واجتماعية واقتصادية، وعلى مستويات الفرد والمجتمع والنظام السياسي.
وتكشف مراجعة التاريخ، ميل الجماعات العربية للتعاون مع قوى وجماعات خارج أقاليمها، بدل علاقات الجوار الجغرافي المنسجم والمستند إلى مقومات سوسيوثقافية واحدة. وطيلة المواجهات العسيرة لسلطنة عُمان مع البرتغال وايران وانجلتره، لم يخطر لها عقد تحالف اقليمي مع اليمن وحضرموت، أو مع رأس الخيمة والقواسم ومنطقة الخليج. وبدلا منه ظهر مسعى تحالف مع ميسور الهندي، لم يحظ بالنجاح لأسباب معروفة.
وسوف نلحظ، للأسف، أن كلا من البوكركه أولا، والانجليز، بعد محاصرة عُمان ومسقط وهرمز، يستكملون مهاجمة عرب البحر الأحمر من جهة، وعرب القواسم والخليج وبشكل يضعهما خارج دائرة الفعل السياسي والعسكري. بينما لم يكن النفوذ العُماني على الساحل الأفريقي –متجاوزا اليمن- غير عبء وهدر، لم تدعم المركز في حالة المواجهة.
ثمة مجالا للنزعات النفسية وخصوصيات المكان، ولكن ثمة ضرورة ومنطق وأولوية، للفكر والتعامل الستراتيجي الذي يخدم ويبني أهداف الوجود والتقدم والمنعة والسيادة. ولا ينبغي أن ترتفع النزعات النفسية والخلافات المتوارثة، لحدّ تتحول فيه إلى عناصر تدميرية في علم الاجتماع العربي والسياسي. وهو ما يقتضي التجاوز،والانطلاق بفكر وأفق جديد للأمام والمستقبل.

(2)
علم الاجتماع السياسي..
- المملكة المعينية [1000- 24 ق. م.]..
- المملكة السبأية [900 ق.م.- 275 م]..
- المملكة الحميرية [110 ق. م. – 525 م]..
- مملكة أكسوم [100- 940م]..
- سلطنة عُمان..

تعارف تاريخ اليمن القديم على عدة ممالك أو عوائل ملكية متعاقبة، منها..

المملكة المعينية [1000- 24 ق. م.]..
وهي مملكة عبرية على رأسها كاهن أعلى يدعى (مذود)، اشتقاقا من اسم المجلس أو القصر الذي يقيم فيه، واسم القصر (مذود): بحسب لغتهم المختلطة بين العبرية والحبشية القديمة. وربما كان هذا المجلس/ القصر هو مركز الاجتماع الشعبي في النظام الدمقراطي الأثيني [Ecclesiastes]، ومعناه الاجتماع/ مكان الاجتماع العام، والذي ترجم للعربية في لفظة [الجامع] في التقليد الإسلامي، أو[congregation saal] في الاجتماع المسيحي ، يساعده مجلس استشاري [على غرار الكهنة المساعدين والشمامسة والعمال في النظام الكنسي التقليدي]، ويحضر الشعب أو مندوبون عنه، في المجلس المركزي، أو المجالس المتوزعة حسب الأقاليم والمناطق، وذلك في مناسبات دورية، لتداول الأمور وتنظيم الحياة العامة، واسم الشعب (عمّي) كما هو في اللغة العبرية.
لم تكن مملكة (معين) ذات نفوذ عسكري، أو تطلعات سياسية خارج الحدود. ولم يكن الحاكم متسلطا أو مستبدا، وفي الغالب يكون في معيته وعهده، أكثر من شخص من عائلته، يحمل لقب الحاكم وصلاحيته، دون تداخل السلطات أو طروء صراعات حكم، لغلبة الطابع الاجتماعي الديني على صورة المملكة، وغياب الأغراض والمشاريع ذات الطابع السياسي العنيف أو العسكري.
وما زال تاريخ اليمن القديم في طور التحقيقات والابحاث العلمية، وفق مناهج علم الاجتماع السياسي والتنقيبات الميدانية. وقد قسم المستشرق الالماني فرتز هومل [1854- 1936م] أسماء ملوك (معين) في ثلاث طبقات، كل منها يضم أربعة ملوك، ثم أضاف لها طبقة أخرى تضم ملكين.
اما الفرنسي كليمان هوار [1854- 1926م]، فقد صنف ملوك (معين) في سبع طبقات، تضم الأولى أربعة ملوك، والثانية خمسة، والثالثة أربعة، والرابعة اثنين، والخامسة ثلاثة، فيما تضم كل واحدة من الطبقتين السادسة والسابعة ملكين. ويكون المجموع أثنين وعشرين ملكا.
وقد صنف الانجليزي جون فيلبي [1885- 1960م] الحكم (المعيني) في خمس سلالات، كان على رأس الأولى (اليفع وقه)، وجاء في آخر السلالة الخامسة الملك (تبع كرب) الذي دام عهده عشرين عاما [650 - 630 ق. م.]. وكان مجموعهم أثنان وعشرين ملكاً،
وبحسب الامريكي وليم اولبرايت [1891- 1971م]: إن ملوك (حضرموت) هم الذين أسسوا مملكة (معين)، في حدود القرن الرابع قبل الميلاد. وكان الملك (اليفع يثع) أول ملوكها، وهو من أبناء الملك (صدق ايل) ملك حضرموت. ويرى ذلك من عدم وصول كتابات (سبئية) ما بين السنة [350- 1000 ق. م.]، أي إن السبئيين كانوا أتباعاً لحكومة معين.
وعلى العموم فإن هذه الأسر أو السلالات، لا تعني إنها كل الأسر الملكية في (معين). وقد يكون ثمة عدد آخر من الأسر والملوك الذين حكموا قبلها بسنين أو قرون كثيرة.

المملكة السبأية [900 ق.م.- 275 م]..
وهي عبارة عن اتحاد قبلي سياسي، ضمّ كل الممالك اليمنية النافذة خلال الحقبة، مثل ممالك [حضرموت والمعينية والقتبانية]، وهي بذلك تمثل حالة متقدمة أكثر رقيا ووعيا من الممالك والمراكز السياسية والتجارية، التي كانت تظهر وتندثر في المنطقة، أو تتآكل بفعل الصراعات والتنافسات الطارئة.
وقد وردت إشارات لمملكة (سبأ) في الأدبيات الإغريقية والرومانية والبيزنطية والحبشية، كما في العهدين القديم والجديد والقرآن. وكشفت التنقيبات الأثرية عن غير قليل من آثار سبأ القديمة، وما زال المؤرخون في محاولة تنسيق تلك التواريخ وتدقيقها كرونولوجيا.
و(سبأ) اسم قبيلة مشهورة تنسب إلى جدّها (عبد شمس)، ودعيت سبأ لأنها أول من [سبى: سبيا] حسب المرويّات الشفاهية. وتشتهر (سبأ) بإنشاء السدود العظيمة، ومنها سدّ (العرم) الذي أحيطت به جملة خرافات وأساطير. لكن ذلك لا ينفي عناية السبأية بالعمران والري، كما يتضح من قصورهم، وحذقهم في نحت الصخور، وتنظيم الحياة المدنية والعامة.

المملكة الحميرية [110 ق. م. – 525 م]..
حمير: مفردة حبشية معناها (أحمر)، نسبة إلى (العرنج) وهي عمامة حمراء كان يرتديها رجالهم، وأحيانا كان الواحد من الأعيان/ الملوك يدعى (عرنج). وحمير: قبيلة (عبرانية) من أصول (سبأية)، نجحت في السيطرة على الممالك الأربعة [كونفدرالية سبأ]، وإنشاء مملكة موحدة مركزها في (ظفار يريم).
فهي أول مملكة موحّدة شملت بلاد [اليمن وحضرموت وعُمان]، وكان لها تحالف وثيق مع مملكة (كندة) في مركز (نجد) منذ القرن الثاني قبل الميلاد.
ويرتبط ظهور مملكة (حمير) بالاضطرابات التي دهمت أواخر المملكة السبأية الاتحادية، جراء فقدانها السيطرة على الملاحة البحرية وخطوط قوافل التجارة. مما تسبب في اصطراع الأقيال –تسمية لرؤوس الإقطاع المتنفذين اقتصاديا- واضطرارهم للاستثمار في الأرض والزراعة. ولذلك تميزت مملكة (حمير) باعتماد اقتصادها على الزراعة والإنتاج الحرفي بشكل أساس.
وساهمت من خلال استيعاب تغيرات الظروف الاقتصادية والسياسية، في تحويل التوجه الاقتصادي للسكان، وإعادة تنظيم علاقتهم بالأرض، والاعتماد على الذات والحرف اليدوية. مما يشكل نقلة نوعية في الوعي الاقتصاسياسي وانعكاساته الاجتماعية.
وإضافة لدورها ونشاطها السياسي والتجاري، مع الممالك والأمم السائدة في عهدها، لها إشارات وذكر في آثار الإغريق والروم وبيزنطه والحبشة، إضافة لأسفار العبرانيين.
ويذكر أن خط (المسند) الذي عثر عليه الأثريون، وعدّوه إشارات أولية للعربية، هو المعروف بالخط (الحميري) حيث عرفوا بكتاباتهم وآثارهم الأدبية والدينية، التي تم تضمينها لاحقا عبر برنامج (التعريب)، في ما عرف بديوان الشعر الجاهلي، والأدب الجاهلي الذي منه أدب الكهان وسجع الكهان.
وكان لقرب عهد (حمير) بتزايد النفوذ السياسي للحجاز وظهور الإسلام، اثر سلبي في القضاء على تجربتها السياقتصادية والاجتماعية المتقدمة من جهة، وتدمير سائر آثارها ورموزها، على غرار حملات (هدم- دم) البدويّة، التي شملت كلّ مراكز الحضارة والعمران، في أنحاء الجزيرة وأطراف العراق والشام.
أن فهم الحضارة الحميرية واستعادة –تخليص- آثارها المدروسة والمشوّهة أو [المُعرّبة] سوف يكشف الكثير من ألغاز وطلاسم التراث العربي وإشكالوية لغة القرآن.

لا جرم إذن، أن هذه الممالك تميزت بطبيعتها الدينية/(العبرانية)، – وليس هويتها فحسب- حيث كان ملوكها – كهّانا-، وهي الظاهرة (الخصوصية اليمنية)، شبه الفريدة في المنطقة، بله التاريخ عامة. أن فكرة [كاهنملك] أو [الحكم الكهنوتي] لم تتحقق في تاريخ بني إسرائيل أنفسهم، ما عدا المملكة الحشمونية [167- 67 ق. م.]، والتي يختلف العبرانيون في تقييمها ويتحفظون على مروقها الديني/ خلاف الشريعة.
وما عدا ذلك بقي الفصل واضحا بين الملك والكاهن/ (النبي)، مع فصل الأمور الدينية والكهنوتية، عن الأمور السياسية والعسكرية والمدنية العامة. ويتضح من التاريخ العبراني، ان اللعنة لم تفارق ممالكهم وملوكهم من أولها حتى نهايتها، وقد تعرّضت لجانب من هذه الأمور في مضانّ آخر.
لكننا بالمقابل، لا نملك معلومات وافية عن سيرورة الحياة اليومية والسياسية لممالك اليمن، ما عدا القليل من المرويّات الشفاهية – الإخباريات- الذي تغلب عليه الخرافة والمبالغات اللغوية، مما لا يعتدّ به في البحث العلمي. كما أن التاريخ والإخباريات لا يكاد يورد شيئا عن ممالك عُمان والبحرين واليمامة/ الإحساء، مما ينافي منطق الحقيقة التاريخية، وقدمية المنابت الحضارية والمدنية لها.
وفي رأيي، ان كلّ الاقاليم التي ارسلت اليها وفود، أو نصب لها حكام وولاة وقضاة في صدر الإسلام، هي ممالك معروفة، سابقة لظهور مملكة الحجاز الإسلامية، مما يقتضي البحث والحفريات، والنظر في بطون الكتب القديمة.

مملكة أكسوم [100- 940م]..
كانت اليمن اقدم مواطن الكيانات السياسية، في صور المملكة التي تسودها عوائل حاكمة، تتناوب الحكم في ذراريها. وقد اكتسبت اليمن تقاليد الحكم من جوارها التاريخي العريق لمملكة الحبشة/ أثيوبيا، التي كانت تشمل عموم القرن الأفريقي. ومن المحتمل أنها وراء إنشاء مملكة اكسيوم [100- 940 م] الممتدة على جانبي مضيق المندب الأفريقي والأسيوي.
ويختلف المؤرخون في جعل عاصمة اكسيوم في شمال اليمن، ويقول غيرهم أنها كانت في موقع إريتريا اليوم، وامتدادها الجغرافي شمال اليمن. لكن الثابت أن ممكلة اكسيوم كانت ذات نفوذ تجاري بحري، يسيطر على جنوب بحر القلزم/ الأحمر من الجانبين.
وثمة من يزعم أن اكسيوم كانت مملكة مسيحية، تابعة لمملكة النجاشي. وهذا يقود إلى ظاهرة الهوية والطبيعة الدينية، لممالك اليمن المخالفة لمسيحية اكسيوم والنجاشي، وهي اليهودية. وفي المصادر التراثية ترد عبارة (مملكة نجران)، وهي إشارة لاكسيوم غالبا.

الدولة اليعفرية [847- 997م]
مؤسسها يعفر بن عبد الرحمن الحوالي، ويعود اصله الى (منطقة شبام كوكبان/ شبان أقيان) الذي استولى على صنعاء عقب هروب واليها العباسي منصور بن عبد الرحمن التنوخي. وشمل حكم يعفر المنطقة الجبلية بين صعدة وتعز، واستمر مدة ربع قرن [847- 872م]، وخلفه ابنه محمد بن يعفر الحوالي. وشهدت البلاد حالة من الفوضى خلال حكم القرامطة [901- 916م]. كما عرفت المملكة ظهور الدعوة الاسماعليلية والدعوة الزيدية. وكان من ملوكها يعفر بن عبد الرحمن الحوالي، محمد بن يعفر، عبد القادر بن يعفر، ابراهيم بن احمد، اسعد بن ابراهيم، محمد بن ابراهيم، وعبدالله بن قحطان.

الدولة الزيدية [897- 1919م]
تأسست على يد الامام الهادي يحيى بن الحسين بن القاسم الرسي بن ابراهيم طباطبا [245- 298هـ/ 859- 911م] وعرفت ك-لك باسم (الدولة الهادوية) [284- 1006هـ]. وهو الجد الاعلى لسلالة الرسيين حكام اليمن منذ صدر العهد الاسلامي حتى (1962م)، والرس اسم جبل على مقربة من مكة، هو موطن جدودهم القدماء. ويعود نسبهم الى الحسن بن علي بن ابي طالب. وقد قدم يحيى بن الحسين من الحجاز الى اليمن، فنزل في نجران وأسس قاعدة للزيدية. ويتصل نسب الزيدية الى زيد بن علي السجاد بن الحسين ابن علي ابن ابي طالب.

الدولة المتوكلية/ الامامية [1904- 1962م]
يعود تأسيسها إلى أئمة الزيدية في اليمن والمعترف بهم منذ حكم ال العباس وال عثمان، ومنهم محمد بن يحيى حميد الدين المتوكلي القاسمس [1904- 1918م]، أحمد بن يحيى بن حميد الدين المتوكلي القاسمي [1918- 1948م]، محمد البدر [1962- 1970م]. وقد عانت الدولة المتوكلية ظروف الصراعات الغربية الكولونيالية/(ايطاليا، انجلتره) حول اليمن، والصراعات الاقليمية/(الزيادية في تهامة وال سعود في نجد) من جهة، وحركات الاخوان المسلمين المصرية وتنظيمات الضباط الاحرار من جهة مقابلة. وبشكل وضع نهاية لنفوذها، لتقوم الجمهورية اليمنية/(1962/ 1970م- 2011/ 2013م).

(3)
سلطنة عمان..
يسبق تاريخ الحكم العُماني كلّ ما سواه في بلاد العرب، وهو يشمل الزاوية الجنوبية الشرقية من شبه جزيرة العرب، وامتداده على الساحل الشرقي الجنوبي لأفريقيا المقابل لجزيرة زنجبار.
لكن الملاحظة، ان سلاطين عمان وزنجبار، لم يعن لهم توسيع نفوذهم في داخل شبه جزيرة العرابيا، رغم الأهمية القومية والستراتيجية لمثل هذا القرار. بل أنه لم يتوسع ليشمل الساحل الجنوبي المتمثل بحضرموت وعدن، ليشكل امتدادا تواصليا للمركز مع الطرف الأفريقي المائي.
هذا التوسع كان يدعم سلطانه في مواجهة الحكم الايراني، ومحاولاته السيطرة على حوض الخليج، والضغط باتجاه مضيق هرمز. وكانت ايران تعاني حالات من التردي والضعف والفراغ السياسي، منذ الاجتياح المغولي للمنطقة وسقوط بغداد (1258م).
وكلّ الدول الايرانية التي كانت تظهر وتختفي، لم تكن من القوة والحنكة، للاستمرار في الحكم، أو الاهتمام بالادارة والعمران داخل حدودها. ومنذ ظهور أول دولة الصفويين، حاولت اعتماد الهوية والقضية الشيعية، مركزا لسياساتها ومبررا لوجودها، مدعية وصايتها على (العتبات الشيعية)، الواقعة أصلا خارج حدودها الإقليمية والسياسية. وقد كلّفها ذلك معارك وأزمات، استهلكت قدراتها المحدودة.
وقد كان الإجتياح الأفغاني لايران (1722م) أفضل دليل على هشاشة النفوذ الايراني لتلك الحقبة الطويلة. ومنذ أولهم كان القاجاريون، تحت رحمة اللهو والابتزاز الأنجليزي والاميركي، ممهّدين بذلك للحكم البهلوي من بعدهم. وبدل اهتمامهم ببناء بلادهم، وتطوير اقتصادياتها وتحسين أحوال السكان، كان يرهن البلاد في بنوك الغرب للحصول على قروض تغطي مظاهر الترف السلطاني.
ان ضعف الحكم الايراني لسبعة قرون، يعتبر فرصة ضائعة للحكم العُماني وكلّ عرب المشرق، لم ينظروا بها بعين العقل والستراتيج، والإرادة الحقيقية التي تغيّر التاريخ، وترفعه عن احتمالات التردي والضياع.
الغزو الغربي الصليبي لسلطنة عُمان..
1506م: اسطول برتغالي عسكري بقيادة الفونسو البوكركه يحتذي السواحل الشرقية من أفريقيا ويحتل (سومطرة)، ويخفق في احتلال (عدن). وفي (أوغست 1506م) يحتل القسم الشرقي من شبه جزيرة العرابيا الخاضعة لحاكم هرمز، ويهاجم مدن وموانئ: [خبوره، قريات، مسقط] ويحرق كل السفن العربية الراسية فيها مع طواقمها. وبعدها تقدم نحو جزيرة (هرمز) ووجه انذارا لحاكمها قبل اقتحامها، ورغم توفر الجزيرة على امكانيات دفاعية، فأن طبقة التجار النافذين نصحوه بالخضوع وعدم المقاومة، حماية لممتلكاتهم وحياتهم. وبذلك صار حاكم هرمز الذي يحمل اسم: (سيف الدين) تابعا لملك البرتغال، وتعهد بدفع جزية سنوية، مع تامين حرية الحركة والتجارة بشروط استثنائية. وبموجب ذلك، فرضت البرتغال سيطرتها على كل منطقة الخليج العربي، وفرضت استحصال أدن خاص من القائم البرتغالي في هرمز، مقر المحطة التجارية البرتغالية. وقد وصف البوكره في كتاب (تعليقات) الذي وضعه لاحقا، ما قام من ممارسات وحشية واحراق الجامع البديع بأمر منه.
1507م: توقيع اتفاقية تجارية بين قراصنة البرتغال وحاكم هرمز في (اكتوبر 1507م) تؤكد سيادة البرتغال التجارية والبحرية في المحيط الهندي والخليج العربي، فارضة سيطرتها على حركة التجارة الدولية بين الهند والعرابيا ومنها نحو مصر والعالم.
1508م: اجبار البوكركه على سحب اسطوله من مياه الخليج العربي/ [مايو 1508م].




[8]
عرابيا الوسطى: (ممالك نجد والخليج)*..
(1)
مملكة كندة [200 ق. م.- 633م]..
كانت نجد – وسط الجزيرة- مركزا لأكثر من مملكة، كان آخرها مملكة كندة [200 ق. م.- 633م] التي لا يذكر من أمرها شيء، غير أن أشهر ملوكها الشاعر المعروف حندج ابن عمرو ابن اكل المرار [520- 565م] المعروف بامرئ القيس أو الملك الضّليل.
والذي جاز إليه الملك عقب مقتل والده بأيدي بني أسد، وسعى للأخذ بثاره فلم ينجده العرب، فانصرف عنهم مستنصرا بالفرس، ثم بالروم، وقصة موته الغريبة في طريق عودته من كونستانت نوبل ولقائه قيصر الروم. وقبره اليوم بأسيا الصغرى – جنوبي أنقرة- وعليه (نقش النمّارة) أو الأثر الكتابي الوحيد لخط عربي قبل الإسلام، حسب زعم بعض المؤرخين.
مع حقيقة أن الخط واللغة هي آرامية سريانية، وليست عربية. ويقرّ جواد علي بصعوبة قراءتها، أو فكّ طلاسمها، لعدم اعتباره – وغيره- بتاريخ ظهور ونشأة اللغة العربية، المتأخرة بقرون عن الإسلام، وتأخر ظهور الرسم والتشكيل الكتابي [المسند والكوفي والاندلسي] وتبلوره لاحقا.
ويذكر الأخباريون والرواة وكتاب السّيرة- [الطبري مثلا]-، مدى اهتمام محمد بن عبدالله، بشخصية امرئ القيس ومعرفة أخباره من أحد أحفاده، واحتمال أثر ذلك في تكوين وبلورة أفكار الزعامة والملك لديه لاحقا. ويبقى الدمار المنظم والمحو التام لآثار تلك الممالك الجزيرية السابقة للإسلام، مما يستثير الغرابة والأسئلة.
أن الآثار الوحيدة التي نجت من الدّرس التام، هي بعض آثار ممالك اليمن، القائمة في مناطق تضاريسية، بينما تم تسوية سواها بالأرض. وعندما يذكر الرواة: إرسال فلان ومعه جماعة لمحو [وثن، صنم]، فلا بد أن يتخاطر للذهن، ما هو كائن بجانب الصنم، أو حواليه من عمران ومدائن وأثار ونقوش أخرى!. وفي ذلك دلالة لنقص وعي المكان والعمران، وله آثار متصلة لليوم.
فلا يعقل أن [الها] له عبّاده في مكان، ليس له معبد. وأن هذا المعبد (أو) الصنم، كائن في قفرة من الأرض. سيما أن المراكز الدينية كانت محطات للقوافل والرحالة يومذاك. وهذا أحد أسباب إخفاق العرب في علم التاريخ، وصعوبة الركون لرواياتهم، التي تعارف الاخباريون أنفسهم، على تكذيب بعضهم البعض فيها!.
ـــــــــــــــــــــ
* تضم عرابيا الوسطى: (الحجاز ونجد والخليج)، وقد اختزلت الحجاز هنا للتعرض لها في مبحث مستقل لاحق!.

(2)
امارة الدرعية [1745- 1818م]/[1823- 1887م]/[1915م- ..]..
بدأ (إمارة) في الدارية ثم الدرعية، وفي المرحلة الثانية/(1823م) تخذت من (الرياض) عاصمة لها في نجد، وفي المرحلة الثالثة/(1926م) تحولت إلى مملكة نجد والحجاز، ثم المملكة السعودية.
ربما كان الجدير بالمثال السعودي أن يظهر قبل ظهوره بقرون. أن الخلافة/ الحكم السياسي، لم يتهدد في أيام العثمانيين، وانما ، كان فقد معناه وإطاره منذ القرن العاشر الميلادي، ومع تحكم البويهيين والسلاجقة ببغداد.
وهذا القرن العاشر الميلادي وما بعده، هو عصر ظهور المذاهب الاسلامية، وازدحام العلماء والشيوخ والمصنفات التاريخية والدينية والفكرية، التي بقيت خارج الفعل السياسي، وخارج فاعلية النقد. وكان من شأن النقد السياسي لو أمكن تفعيله على أرض الواقع،أن يهيئ لظهور قيادة مقتدرة جديدة، تتولى تصحيح المعادلات والانحرافات، وتحدّ من النفوذ البويهي وغير البويهي، في اللهو بالعرب والاسلام.
في البدء كان موقف ال سعود داعما لموقف عُمان، في مواجهة الضغوط الصليبية البرتغالية والانجليزية، وحاول عقد تحالف ثلاثي: [عُمان- ايران- نجد]، مما استثار القوى الغربية، للعمل باتجاه معاكس، وذلك بتسليط ضغوط على حكام عُمان وايران وباتجاهين متعاكسين، ومناوئين لنجد، وانتهت باغتيال حكام نجد/[اغتيال الأمير عبد العزيزعام (1803م)]، وعُمان/ [اغتيال الأمير بدر عا (1807م) المتحالف مع نجد].
مرحلة ما بعد (1803م) رسمت دالة جديدة للحكم السعودي، دفعته لتغيير منهجه السياسي الراديكالي الستراتيجي، والتراجع عنه لصالح منهج نهج براغماتي معاكس سلبي، يستند لقراءة الواقع والتعايش معه، وليس تغييره، وبدل انطلاقته القوية في الداخل والخارج، بدأ التركيز على وضعه الداخلي وتوخي الدعم الأجنبي.
ان كل أهل المنطقة، حكاما ومجتمعات كانت رافضة للنفوذ الأجنبي والتعامل معه، بله الخضوع له. لكن الارادة السياسية الحقيقية كانت غائبة، والآمال لا تتحق بالتمني، وانما تؤخذ -غلابا- حسب أغنية أم كلثوم. ورغم معاناة حكام عُمان الطويلة من البوكركه وضغوط دائرة الهند الانجليزية، فلم يسعفه تكتيك سياسي اسلامي، مدعوم بالارادة الجماهيرية وتحالف قبائل الجزيرة، للتصدّي لمغامرات البوكركه والذين جاءوا بعده، حتى انتهت عمان للتقسيم.
أكثر من هذا يقال عن شاهات قاجار الذين لم يكن لهم من دور أو فاعلية يستحقون به هذا اللقب المفخّم، وكان جواسيس انجليز وأميركان يتلاعبون بهم، ويرسمون لهم سياساتهم، وبشكل يجعل المرء يتساءل، عن دور الارادة القومية والمرجعيات الدينية المنظمة.
هذه هي الخريطة السياسية المواجهة لحكام نجد في القرنين الثامن والتاسع عشر، بينما كان حكام عثمانيون يحكمون في الحجاز والعراق والشام، وأسرة محمد علي في مصر، وكلّهم يتبعون الخط التركي. ومع غياب الارادة الفعلية لدى حكام المنطقة، لاتخاذ موقف فعلي مقتدر لطرد الجواسيس والغزوات الملاحية، انقسمت المنطقة سياسيا بين النفوذ العثماني الهزيل والمتردي، وبين النفوذ الغربي الصليبي المتصاعد.
رفع ال سعود شعار التوحيد، اسوة بالحركة المحمّدية الأولى، وكان هذا يستدعي التقارب من بقية الحكام والزعماء، والاتفاق على عمل اقليمي مشترك، على اساس التعاون من اجل هدف واحد وعدم هدر الجهود المحلية.
أما العمل المفرد واسلوب التوسع والتجاوز على حساب الاخوة، فيتناقض مع أوليات العمل الستراتيجي، وهذا ما وصم مستقبل تلك الجهود المهدورة، وخدمة الهيمنة الأجنبية على الجميع، وضياع امكانيات واحتمالات بناء مستقبل مستقل ومقتدر.
لقد ترتب على ممارسات حكام الدرعية ونجد، نزوح كثير من قبائل الجزيرة نحو الشمال. وكثير منها ارتهن نفسه لحكام ايران والانجليز وتخلوا عن العقيدة. فتحوّلوا من صف القوة والارادة العربية إلى الخندق المناوئ. مما يسجل هدرا اقليميا وقوميا مضاعفا، فضلا عن ابعاده المعنوية وآثاره المستمرّة حتى اليوم.
لقد كان من شأن انشاء مجلس مركزي وتحالف قبائلي كبير، توفير امكانيات بناء مملكة عظمى وليس إمارة، تلتحم داخلها الارادات والامكانات، وتصبح قوة معتبرة على الأرض، مستقلة عن النفوذ العثماني، في أمد القرن الثامن عشر، أو القرن التاسع عشر، سابقا لسقوط الاستانة. وكان ذلك يسدّ الطريق على كثير من الممارسات والهدر القومي والوقوع تحت الابتزاز الانجلو اميركي.
ان قيمة كل فكرة أو مبادرة، ترتهن بلحظتها وبيئتها. الحركة الصحيحة ترتهن بالزمكان الصحيح. وما يخالف ذلك هدر، وقبض ريح.
السيرورة الزمنية لدولة آل سعود..

(3)
الدولة السعودية.. مؤشرات رئيسة..
فيصل عبد العزيز آل سعود [1906/ 1964- 25 مارس 1975م]
هو الابن الثالث لمؤسس الدولة السعودية
1925م قاد الجيش للسبطرة على اقليم الحجاز.
1926م أصبح نائبا للملك.
1927 رئيس مجلس الشورى.
1932 وزير خارجية السعودية.
1934 شارك في الحرب السعودية على اليمن.
1934 قدم طلبا للملك عبد العزيز لقطع علاقات بلاده مع الولايات المتحدة، عقب قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين.
1953 أصبح نائبا للملك في عهد أخيه سعود عبد العزيز، وليا للعهد، نائبا لرئيس الوزراء ووزير الخارجية.
1958 أزمة الخزانة السعودية، واستلاف قروض من أرامكو والبنوك الغربية.
1959 وزير للمالية والبترول.
1960 توترات بينه وبين أخيه الملك، استمرت حتى نهاية حكم أخيه. تجريده من كل المناصب الوزارية.
1962 إعادة تعيينه ريسا لمجلس الوزراء ووزير الخارجية.
1964 (29 مارس): الأمير محمد عبد العزيز، الأبن الأكبر لمؤسس السعودية بعد سعود يجتمع مع علماء الدين ويصدر فتوى تعيين فيصل نائبا للملك في حضوره وغيابه، وذلك بسبب مرض سعود الدائم ومراجعته الغرب بسبب المفاصل.
1964 (30 مارس): اجتماع مجلس الوزراء برئاسة الأمير خالد عبد اعزيز نائب رئيس الوزراء، لنقل السلطات والصلاحيات للأمير فيصل بحسب فتوى العلماء.
1964 اجتماع العائلة المالكة، واصدار قرار خلع سعود، مصادقة علماء الدين على الخلع، ومبايعة فيصل ملكا.
1964 ارسال وفد للملك المخلوع لاقناعه بالتنازل عن العرش، بدل خلعه. وعندما رفض التنازل أصدر مفتي البلاد محمد بن ابراهيم آل الشيخ فتوى خلع سعود ومبايعة فيصل بدلا عنه.
1964 (2 نوفمبر): فيصل ملكا على البلاد. يطلب تعديل اتفاقية المناصفة مع أرامكو، والمشاركة الوطنية في عمليات استخراج البترول، وعدم منح امتيازات لشركة أجنبية.
1964- 1965 بدء بث التلفزيون السعودي بشكل تجريبي محدود، ثم اطلاقه في كل البلاد، وذلك بعد معارضة طويلة من رجال الدين.
1965 اصدار قانون اصلاح زراعي، البحث عن المياه، تحسين أساليب الزراعة، تطوير الثروة الحيوانية ومصائد الأسماك، مكافحة اتصحر، تحسين انتاج التمور وتسويقها، انجاز سدود جازان.
1971 مشروع الري في الأحساء، شبكة طرق حديثة، تربط السعودية ببلدان الجوار. معهد تدريب الطيران المدني في جدّة، انشاء مستشفى فيصل التخصصي في الرياض.
1975 اعتماد أول خطة خمسية في البلاد.
1975 (25 مارس): الأمير فيصل بن مساعد بن عبد العزيز آل سعود يطلق الرصاص على عمّه الملك خلال استقباله وزير نفط الكويت عبد المطلب الكاظمي.
1975 خالد بن عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود [1913/ 1975- 13 يونيو 1982م] ملكا على السعودية بعد اغتيال فيصل، وهو الابن الخامس لعبد العزيز، وفي عهد تستكمل أول خطة خمسية في البلاد. ويستمر برنامج الاصلاحات الاقتصادية والعمرانية والمدنية، توسيع الجامعات والمستشفيات، انشاء جسر خالد بين السعودية والبحرين، انشاء شركات مساهمة وبداية سوق الوراق المالية السعودية، اكتفاء وطني في انتاج القمح. ضمان نظام معيشة للطلبة في كافة مستويات الدراسة. تكريم خريجي الجامعات السعودية بقطعة أرض سكنية مع منحة خمسين ألف ريال نقدا. اقرار نظام التقاعد والضمان الاجتماعي في المملكة، دخول خدمات البريد والهاتف والفاكس والتلكس، تطور وسائل الاعلام والاذاعة السعودية. بعد ثلاثة اسابيع من استلامه الحكم بدأت الحرب الأهلية في لبنان.
1978 انشاء باب الذهب بدل الباب القديم في الكعبة.
1979 (20 نوفمبر): أزمة الحرم المكي وانتفاضة الجهيمان.
1981 (25- يناير): القمة الاسلامية تقرر انشاء قوات الردع السعودية.
1982 انشاء مجلس التعاون الخليجي.
1982- 1997 عهد فهد بن عبد العزيز [1921/ 1982- 1997/ 2005م]
1995- 2005 عهد عبدالله بن عبد العزيز [1924/ 1995- 2005/ 2015م] أغني الملوك في العالم بلغت ثروته (ثمانية عشر) مليار.
2015 عهد سلمان عبد العزيز(1935م): الغاء الشرطة الدينية/ المطاوعة، التخلي عن مشروع الوهابية، اعتماد التقويم الميلادي رسميا. وللمرة الأولى تسمية ابنه محمد بن سلمان/ (الجيل الثالث) وليا للعهد ومنحه صلاحيات حكم واسعة.


[9]
عرابيا الشمالية: (ممالك الشام والعراق وسيناء*)..

مملكة الانباط [169 ق. م.- 106م]..
وعاصمتها بترا/(البتراء)، وهي المذكورة لدى الإخباريين باسم (ثمود) ودعيت كذلك بـ(الحجر). وصفها بطليموس الجغرافي: [الحجر مدينة بترا، وهي واقعة في القسم الشمالي من بلاد العرب بين الحجاز والشام، وهو القسم الذي دعاه (بتريا) نسبة الى بترا المذكورة.
وانما أسمى المدينة بهذا الاسم، لأنه سمع أهلها يقولون لها بلغتهم [سلع/ سالع] وتفسيره صخرة. فنقل معنى هذا اللفظ إلى لغته اليونانية فقال (بترا)= صخرة، ودعى الناحية كلّها بتريا]- (جرجس سال [1697- 1736م]- م. س. ص72).
وقد ورد ذكر (سالع) في كتب العبرانيين، مرة باعتبارها ملجأ لأهل مؤاب في (اشعياء بن آموص 16: 1)، ومرة باعتبارها امتدادا لأراضي الأدوميين في وادي الملح (سفر الملوك الثاني 14: 7). وكانت مركزا مهما على طريق حركة القوافل التجارية بين جنوب اليمن ودمشق الشام.
وكانت ما تزال عامرة في أيام السيد المسيح [4 ق. م.- 29م]، ويقال ان زوجة بيلاطس [10 ق. م. – 38م] الحاكم الروماني على اليهودية الذي أعدم يسوع الناصري في ولايته، كانت منهم.
يستخلص منه أن قيام بعض الممالك على طرق حركة القوافل التجارية، واستمرارها كان استجابة لحاجات تجارية سياسية ستراتيجية، وكانت تحظى بدعم وتكافل، من سلسلة المراكز التجارية الأخرى والإمبراطوريات السائدة يومها، الرومانية والحبشية والفرعونية، ذات الصلة بالتجارة.
وبحسب المصادر الكتابية، فقد استمرت مملكة الأنباط اكثر من ألف عام. وعندما تحولت بعض خطوط التجارة من البرّ إلى البحر، تراجعت أهميتها، وانتابها الوهن، في القرون المسيحية الأولى، وربما كانت نهايتها تمهيدا لنشأة الغساسنة في الشام والمناذرة على طريق الحرير نحو الشرق.

مملكة الغساسنة [220- 638م]..
وهي الأخرى تشكل امتدادا لمراكز حماية وخدمة قوافل التجارة، وتصريف منتجاتها. وقد أنشاها بنو (أزد/ أسد) في وسط الشام، عند ماء يقال له (غسان) فدعوا باسمه. وتعود نشأتها إلى القرن الثالث قبل الميلاد، واستمرت اكثر من ستة قرون، وفي حسابات المؤرخ الجغرافي أبي الفداء: [1273- 1331م] دامت [616 عاما].
كان الواحد من ملوكها يدعى (الحارث) وقد جاء ذكرهم في سفر اعمال الرسل (8: 24) ورسالة كورنثوس (11: 32) حول قصة بولس الطرسوسي [5- 67 م] في دمشق. وكان ملوكها عمالا للروم على حدودهم الشرقية. وكانت نهايتها على على أيدي عرب الحجاز[629- 636 م]، وتحوّلها إلى ولاية الشام التي ستؤول لبني عبد شمس.
وفي عام (636 م) ولي (أبو سفيان) ولاية الشام، وأنشأ فيها مملكته التي استمرّ أمرها في بني أمية [662- 750 م]. ولم ينقطع ذكرهم منها أو صيتهم عليها بعد تولي (العباسيين) في العراق. ويلحظ منه أصول نشأة – [التقابلية العراقية الدمشقية]- وما يحكمها من حل وشدّ سياسي وديني عبر التاريخ، وظلالها القاتمة على المجتمعات والحكام في البلدين حتى اليوم.


مملكة الحيرة [268- 633 م]..
أنشأها مالك بن فهم من ولد كهلان الحميري، في أرض (الكلدان) من أرض العراق، ثم انتقل ملكها بطريق المصاهرة إلى بني (لخم) المعروفين بالمناذرة، واستمرّ حكمها حتى دخول خالد ابن الوليد [592- 642 م] وقضائه عليها. وقد دام حكمها حسب حسابات ابي الفداء [622 عاما].
وفي عام (655 م) نقل علي ابن ابي طالب [599- 661 م] مركز حكمه من (الحجاز) الى (الحيرة) في العراق، وابتنى دار الامارة في (الكوفة) على جانب منها، كما هو المتبع في أعمار المدائن الإسلامية، على حافات المدن القديمة، وإطلاق أسماء جديدة عليها. وعند وفاته جعل قبره في طرف منها، ومن بعده استمرّ أمرها في ولده وأقاربه. ومع تولي بني بويه أيام الدولة العباسية [750- 1258م] في العراق ترسّخت مركزا للتشيّع/ (شيعة علي) حتى اليوم.

هاته القراءة السريعة، ليست بحثا أو توثيقا تاريخيا كاملا ومقصودا في ذاته، وإنما هي مجرد استعراض وإشارات للإحالة عند الحاجة لمصادرها الأصلية. وإنما الغرض منها إعطاء صورة الممالك والحياة السياسية، في بلاد الجزيرة وشمالها في عصر ما قبل الإسلام، ومدى تعالق وتجاذب هاته التجارب على ظهور وتمدد مشروع الدولة الحجازية الإسلامية.

ــــــــــــــــــــــــ
• عرابيا الشمالية: تضم (العراق والشام وسيناء)، وقد اختزلت سيناء للتعرض إليها في مبحث مستقل سابق، عند التعرض لأبناء اسماعيل وعيسو، وتمثيلهم معامل ارتباط اجتماع الفينيق باجتماع اليمن.
• انظر: وديع العبيدي: في علم اجتماع القبيلة- مكتبة الحوار المتمدن؛ كذلك: في علم اجتماع البداوة، للمؤلف موقع جماليا للثقافة والفنون.
• جرجس سال :[George Sale (1697- 1736)] مستشرق انجليزي من مواليد كنت/ كانتربري، له ابحاث عدة عن العرب والاسلام والقرآن، من اثاره: ترجمة القرآن للانجليزية/ (1734م)، ووضعه القاموس العام في عشرة اجزاء.
• Philip M. Hatteta: History of Arab.



القسم الثاني: في علم اجتماع البداوة..

[10]
في علم اجتماع البداوة..
حين يرد ذكر جماعة بشرية أو شعب معين، فأن ذهن المستمع ينصرف الى الأرض التي تقطنها تلك الجماعة وذلك الشعب، مكانها، طبيعتها، ظروفها المناخية. أي أن صورة المجتمع هي نتاج حصيلة العلاقة بين الانسان والأرض التي يعيش فيها. وبدون استدراك تلك العلاقة ، لا يمكن التوفر على صورة اجتماعية تاريخية تميّز مجتمعا عن سواه، وبلادا عن غيرها.
علاقة الانسان بالأرض، هي جزء من علاقة الانسان بالطبيعة. وقد بدأت تلك العلاقة بسيادة الطبيعة التامة، واقتصار دور الانسان على محاكاتها، والتماثل معها وتقديسها، للاستفادة منها في المأكل والمشرب والملبس والمأمن (المسكن). وقد ترتب على ذلك ايمان بوجود قوة مطلقة وراء (مظاهر) الطبيعة، فهو يسترضيها ويخضع لها عبر المحاكاة والخضوع والتقديس.
ومع تعدّد حاحات الانسان ونموّ مداركه، بدأ الانسان في تطويع بعض أدوات الطبيعة كالأعواد والطين والحجر، لتصنيع مستلزمات حياتية، تعينه في المعيشة. وربما حفزته مراقبة اختلاف مساقط الضوء لمشاهدة صور ظلال متحركة تسفر عن ملامح كائنات بشرية أو حيوانية أو صور غريبة، فحاول محاكاة تلك الظلال والصور، عبر ترسيمها بيده على التراب أو سفوح الجبال. وجذب مسامعه اختلاف سرعة الريح وما يصدر عنها من أصوات، فحسبها صادرة من قلب الطبيعة أو القوى التي وراءها، فحاول التقرب منها بتقليدها ومحاكاتها. ولم يكن الانسان في طفولته الأولى تاريخيا، بعيدا عن طفولة كائن حي حديث الولادة، يكتسب معارفه وقدراته بالمراقبة والتقليد والمحاكاة، وكلّما اجتهد وبرع في المحاكاة حسبه أهله أكثر ذكاء ونجاحا.
كان لواقع المشاهدة والمحاكاة والتقليد أثر في تحقيق خبرات بشرية متراكمة، أسفرت بالنتيجة عن مزيد من الجرأة والشجاعة في القيام بأعمال ونشاطات يدوية واجتماعية لتأمين بعض متطلبات الجماعة الاساسية، بدل انتظار ما تهبه الطبيعة، بحسب ظروف المناخ والمواسم.
ان استخدام الانسان ليده في العمل، حقق أكبر نقلة تاريخية في تحوّل الانسان، من الخضوع للطبيعة إلى بدء المشاركة في تأمين ظروف الحياة، وتسهيل أسباب المعيشة، تمهيدا لبداية تحرّر الانسان من عوامل الطبيعة تدريجيا، ونجاحه النسبي في السيطرة على بعض مظاهرها، والتحكم فيها، وترويضها لصالح الحياة، وتطوير أساليبها وأجوائها.
بداهة.. لا يبقى الانسان جامدا، عند هبوب رياح قوية، أو هطول أمطار شديدة، أو حدوث فيضان، فقانون الفعل ورد الفعل الطبيعي، يدفعه للتصرف بشكل، يقيه أضرار الريح والمطر والفيضان، وحرارة الشمس العمودية.. فاجتمعت ثمة جملة أسباب، لتحفيز النشاط البشري وفعاليته، في بناء الأسس والقواعد المادية للحياة، وتأمين مصادر المعيشة وديمومة الوجود.
استنادا لما سبق، فأن صورة الحياة في شبه جزيرة العرابيا، هي حصيلة تفاعل الانسان مع الطبيعة، الممثلة بالأرض والمناخ والمياه فيها. ومقارنة الصورة المعاصرة، بالصورة التاريخية المتواردة في كتب وأسفار قديمة، وبعض أنماط التفكير والمعيشة، ومنظومة القيم والعادات والمفاهيم التقليدية المتوارثة، يلحظ ضعف دور انسان العرابيا ونشاطه المادي، في تطويع الظروف الطبيعية لصالحه؛ واستمرار أنماط الحياة البدائية، في السلوك والتفكير والاجتماع، إضافة إلى استمرار عقيدة تقديس الطبيعة، وقوى الغيب المستترة وراءها.
ان ما يميز المجتمعات عن بعضها، هو تمايزها في أنماط المعيشة والسلوك والتفكير، الذي يطلق عليه اصطلاحا بالحضارة. وما وصلته بعض المجتمعات الأكثر تحضرا وحضارة، يدلّ على تجاوزها مراحل متعددة في درجات التعامل المادي، اليدوي والفكري مع ظواهر الطبيعة، وتسخيرها لصالح الانسان.
ولو كان المجتمع الأوربي الغربي، قد توقف في مرحلة بدائية معينة، لما تطوّرت حياته ومعتقداته، وما يزال يطوّر ويغير أنماط حياته وطرز تفكيره بشكل متصل، مما ينعكس بدرجة ملحوظة على العالم غير الأوربي، وما زال يعمل منذ نصف قرن على اختراق الفضاء، واستكشاف عوالم الكواكب والنجوم المعلقة في السماء. تلك النجوم والأجرام التي كانت قبل ألفي عام رموزا مقدسة يتعبّد لها البشر.
البداوة، التي هي صفة حضارية ونمط معيشة وسلوك، ارتبطت بظروف المعيشة الصحراوية؛ والتي تعود في الزمن إلى ما يزيد عن ألفين من السنين – على أقل تقدير-؛ تؤكد عدم تجاوز سكان شبه جزيرة العرابيا للمرحلة الأولية من خوف الانسان من الطبيعة وتوجسه من التدخل أو تغيير صورها، إلا في حدود بدائية، لم يتمّ تجاوزها منذ قرون طويلة.
وقد عمل المؤرخ الانجليزي ارنولد توينبي [ - 1972م]، على عقد مقارنات بين بدو أواسط آسيا -المغول- وبدو أفريقيا –الطوارق/ الأمازيغ- وبين بدو -العرابيا-؛ فاستغرب حجم الدور الحضاري للمغول والأمازيغ – سيما المهاجرين منهم إلى أوربا- مقارنة بحالة الجمود والتخلف الحضاري للجماعة العربية.
وقد كان مأمولا.. أن تعمل مظاهر العمران والمدنية، المقترنة بظهور الدول والإمارات الجزيرية في أواخر القرن الماضي، في تقليص آثار البداوة في مجتمعاتها. لكن أسبابا عدّة حالت دون ذلك. فيما أسفر سقوط الدولة المدنية في البلدان المجاورة –مع بداية القرن الجديد-، والانقلاب على برامجها التنموية الاجتماعية، إلى عودة استفحال عقليات البداوة والرجعية الثقافية، لتبدو مجرد هوامش مشوهة للمنظومة الجزيرية.
قد يرى البعض، ان صورة شبه الجزيرة والمجتمعات الجزيرية اليوم، تجاوزت الصورة التقليدية –للبدو الرحّل-، وأن التقدم العمراني والأهمية الدولية، - جعلها- تضاهي الحواضر الغربية وأشهر المدن العالمية. وهو أمر لا يغيب -بداهة- عن كاتب هذه السطور.
لكن هذا العمران الاسمنتي والأبراج العمودية المستوردة، ليست من صنع سكان البلاد، ولا انتاج تفكيرهم، بقدر ما هو تصاميم وعمل شركات غربية. بينما يستمر سكان البلاد يمارسون أنماط حياتهم التقليدية، وقد جرى الفصل بينهم وبين مراكز العمران والعمارات الحديثة، المخصصة غالبا للأجانب ومكاتبهم.
البداوة اليوم، ربما تقلّصت - نسبيا- في مجال الخيمة والجمل (السكن والمواصلات والاتصال)، لكنها مستمرة في العقلية وأنماط التفكير والانفعال والعادات والتقاليد والمفاهيم الغيبية، وهذه لا تقتصر على المجتمعات الجزيرية، وانما تتجاوزها للمجتمعات المجاورة في العراق والشام ومصر، وزادت بروزا في العقود المتأخرة.
ان العقال والدشداشة التي غزت العراق وكبريات مدنه - مثلا-، هما دالة لعودة عناصر البداوة ومكانزماتها الدافعة لعجلة الحياة نحو الخلف، -إلى جانب مظاهر وعناصر أخرى ليس هذا مكانها-.
فالحديث عن -احتمال- تجاوز مجتمعات العرابيا للبداوة غير دقيق. نظرا لما تحتله قيم البداوة من ثقل وأهمية في العقلية العربية، وفي التقاليد والقيم المجتمعية؛ ومن أثر مركزي في القوانين والدّساتير الجزيرية والتي تعتبر –العقال والدشدلشة- زيا رسميا، وهما يرمزان لما تحتها من منظومة قيمية.
فالتطور والتغيير الحقيقي هو ما يجري داخل العقل والعقلية، وينعكس في أنماط التفكير والسلوك. وليست المظاهر الخارجية وأبراج الاسمنت غير قشور واستعارات، ليست لها جذور نابتة داخل الأرض.
على أبواب الفية جديدة.. لا بدّ من التحلي بجدّية أكبر.. والتحوّل من طور الكلام الانشائي، والشعارات الوصفية والغزل الأجوف بالماضي، للعمل الجادّ. لا بدّ من بداية عملية حقيقية، تتسلح بفكر رصين وخطاب حضاري، لمضاهاة ركب الانسانية، والمشاركة المادّية في حضارة الانسان على الأرض.. من أجل حياة جديرة، آمنة، وكريمة!..


[11]
عن النسب والقبيلة..
ثمة مفاتيح اصطلاحية أساسية في علم اجتماع البداوة، لا غنى عنها لولوج طبيعتها وتأمل تفاصيلها ومكانزماتها، ومن تلك المفاتيح: [الفطرة ، اللقاحية، التقليد]. الفطرة في تعريفها الأولى هي الاقتداء بالطبيعة/(المحيط الحيوي المحلي/ البيئة الجزيرية)، وينطوي الاقتداء على منظومة مركبة، تضمّ: [الخضوع، التوقير، الاتباع].
الكلمة المرادفة للقاحية/ (بفتح اللام): هي [الأصالة، النقاوة، الجذور]، وذلك حسب المعجم الأخباري الذي يمثل أقدم الأدبيات العربية. فاللقاحية، كطراز حياة وتفكير ومنظومة قيم/(أخلاقية)، ترتبط عضويا بالجانب العملي لمصطلح (الفطرة). ومن غير توفر عنصر (الفطرة) في الشخصية، لا توجد قيمة (لقاحية) جوهرية في الشخصية.
أما التقليد، فهي تتمثل باحتذاء الطبيعة، ومحاكاتها في خصائصها وسماتها شبه الثابتة والمتحركة. والمحاكاة، هي وظيفة الانسان القديم، الذي وجد في الطبيعة، ليس (الأم الحاضنة)، وانما المدرسة التربوية والتعليمية، ومنها اشتق أول دستور لتنظيم وجوده كفرد وجماعة، وذلك ما نتعارف عليه بالنظام القبلي أو المنظومة البدوية.
هذا يتطلب من القارئ التوفر على دراية جيّدة، ببيئة البادية ومعايشة حياتها وظروفها من الداخل، ليس في هذا الزمن، وانما في زمن ما قبل الاسلام، وقبل دخول الحضارة الغربية ونشأة الدول الحديثة في شبه جزيرة العرابيا ما بعد القرن التاسع عشر. ولتعذر وجود تلك البيئة القديمة، فأن المخيال العقلي، مهما استدق، لا يقارب الحقيقة البيئية في براءتها الأولية.
وكما يقال غالبا، ان الذي في الخارج، ليس كالذي في الداخل. والذي يده في النار، ليس كالذي يده في العسل!. ونحن اليوم، في مستوى المتفرج، أو الباحث المختبري، أما التجربة الميدانية، فغابت شروطها من عين الحاضر. ومع ذلك، تبقة قراءتنا بحثية نقدية تحليلية، لغرض الفهم والهضم، وصولا لما بعدها، وليست قراءتنا نقدية حكمية، ونحن جزء من موضوع الدراسة، والبداوة والجزيرة والعروبة، هي من صميم هويتنا ووجودنا. وفهمنا لها، يقربنا من فهم ذاتنا وهويتنا القومية.

يمثل (القتل) صمام الأمان الرئيس في العقل الاجتماعي الشرقاوسطي، وذلك للحفاظ على قداسة إرثه الأبوي الذي بالكاد يعرف جذوره. فالعنف ليس مظهرا من مظاهر البدائية وانعدام التحضر، بل هو المرتكز الأساس في بناء الجماعات البشرية الاولى، ومن مضاعفاتها القبيلة والعشيرة. وعلى قدر لزومية الطاعة والخضوع لبناء الجماعة ودوامها، فلا بديل للعنف والترهيب لفرض الطاعة.
المحافظة على الإرث والاحتفاظ به يعني الأصالة، عرقيا وثقافيا. الكلمة التي يقوم عليها نظام تراتبي اجتماعي متسلسل عبر التاريخ. وقد استخدم المفكر هادي العلوي مصطلح (اللقاحية) رديفا للأصالة. والمقابل النقيض لها هو الهجنة، وهي دالة على اختلاط الدم والعرق والنسب. والهجين من الناس أدنى من الأصيل (صاحب الأصل). وتشكل الهجنة نقطة وسطية للنقطة المتطرفة على مسطرة التصنيف العرقي المنتهية بالعجمة. وهذه تخرج بصاحبها عن دائرة الأصالة، أو مقترباتها الممثلة بالهجنة، التي تتضمن خيطا ضعيفا من الأصالة اختلط بخيوط غير أصيلة.
نظام القبيلة والعشيرة ودوائرها، تستند إلى دستور قومي تاريخي لا يقبل المساس هو شجرة الأنساب. وتحتفظ كلّ جماعة عرقية (قوم) بشجرة أنساب تعود في أساسها إلى أصل الخليقة، ممثلا بآدم الأول- أبي البشر- أو (ابن الإله). ومن البديهي أن كلّ أمة، تحتفظ لنفسها بمستوى مميز في ذرية أصل الخليقة، تتميز به عن بقية البشر، والذراري الأدنى قيمة، أو عديمة الأصل.
يلحظ هنا – نقطة جوهرية- هي أن الاختلاف والتراتبية هو أساس النظام الاجتماعي. والنظام الاجتماعي يتشكل من التعارف والاتصال والتبادل والتعاون في مختلف المجالات والقطاعات والمستويات. وعندما يكون عدم التكافؤ وعدم المساواة أساس العلاقات أو الحياة، فلا تبقى فرصة أو احتمال لمفردات السلام والانسجام والتعاون الحقيقي.
تتجسد شجرة الأنساب في مرجعية مركزية أبوية (بطرياركية) تكون أصلا ذريا للجماعة البشرية ومنبعا لمرجعية فكرية اجتماعية. ومن رموزها العريقة [سام بن نوح]، الذي تأسست عليه فكرة (السامية) بما لها من ثقل فكري تاريخي وسياسي اليوم. ولكن يلحظ في نفس الوقت عدم ظهور أو ولادة فكرة (الحامية) أو (اليافثية) استنادا على مسميات أخوة سام الآخرين.
اعتمد الفكر العبراني مرجعية روحية تمثلت في (أبراهيم)، ومرجعية اجتماعية قبلية ممثلها (يعقوب بن اسحق ابن ابراهيم)، وجاءت الديانة العبرية الموسوية لتأكيد المرجعيات الروحية والقبلية المتوارثة. ولم يتنكر العرب لمرجعية ابراهيم (الروحية)، بينما اعتبروا (اسماعيل بن هاجر المصرية) مرجعا قبليا لهم، اعتمادا عل نفس المصدر العبراني (التوراة).
فمرجعية أي فكرة ليست مجردة في ذاتها، وانما تعود أهميتها للجماعة المؤسسة والمنتجة والمرسخة لها، ومدى قدرة الجماعة على استمرار صيانة تلك الفكرة ورفعها إلى درجة التقديس. فمن الناحية التأسيسية –حسب المرجعية التوراتية للقصة وأشجار أنساب البشر- تم جعل (سام) ابنا أكبر لأبيه، له كل دلالات وامتيازات البكورية، وثم جرى تدعيمها بقصة رؤية حام ويافث لعورة أبيهم، بينما يقوم سام بتغطية عري والده دون النظر إليه. هذا المفهوم الذي استعاره الفكر الاسلامي وصاغه في مصطلح (الستر) [وإذا بليتم فاستتروا]!.
يشكل (الستر) أحد أبرز مقومات الفكر القبلي (العرقي)، -[أو القومي البدائي] باعتبار الفكر القبلي بداية تأسيس الفكر القومي بمعناه المعاصر-. ويمكن استنتاج صلة القرابة بين الناس ودرجة قوتها من خلال درجة المحافظة على الأسرار، سيما المتعلقة بأمور داخلية أخلاقية أو سياسية أو فضائح وعيوب، يمكن أن تضعف صورة الجماعة وتسيء لسمعتها أمام الناس. فالستر لا يعني عدم وجود عيوب وانما اخفاءها والتستر عليها والتظاهر بعكسها. هنا يلحظ أيضا تسويغ الكذب كقيمة أخلاقية سلبية، تتحول في العرف القبلي أو القومي أو الديني إلى قيمة موجبة، بحسب غايتها في حماية البناء الخارجي للجماعة.
التستر واخفاء الحقيقة يعتبر جريمة في أصول المحاكمات الجنائية، ومن الأمور المشددة لدرجة العقوبة، مما يجعل القانون القبلي والديني على طرفي نقيض مع القانون المدني القضائي.
المراءاة والتظاهر بعكس الحقيقة يجسد معنى النفاق. والنفاق تعبير مشهور في الثقافة الاجتماعية والأدب القبلي والديني، ولكنها قيمة سلبية. كيف تجتمع صفة الستر والتستر كقيمة ايجابية مع المراءاة والنفاق والتظاهر كقيمة سلبية داخل إرث ثقافي واحد؟. هنا تبرز إشكالية قيمية معقدة!
الواقع أن (النفاق) صفة غيرية يجري استخدامها ضد (الآخر)، ويمنع استخدامها داخل القبيلة. فالنفاق صفة أو حكم للحطّ من قيمة شخص أو الجماعة، وكلّ ما يحطّّ ويسيء لا يجوز نسبته للجماعة الداخلية، وانما يلحق بالعدو. ينتج من ذلك، أن صورة الثقافة القبلية (العرقية القومية) تقوم على وجهين أو قدمين، ولا تنمو وتتقدم بدونهما.
تقسم كلّ الأشياء واالمفاهيم والقيم إلى قسمين، خير (موجب)، وشرّ (سلبي). وذلك حسب معيارية الأنا الذاتية المحض [EgoٍSuper- ]؛ فكلّ ما هو خير وموجب ينسب للداخل (الذات)، وكلّ ما هو شرّ وسلبي يجري نسبته للخارج (الأخر). وهذا يكشف المضمون الشوفيني العنصري للثقافة القبلية/ الدينية/ القومية، والقائمة على تزييف الحقائق والوقائع والمفاهيم كمبدأ بنيوي أساس لنشأة تلك الثقافة واستمرارها وسيادتها.
كلّ فرد داخل الجماعة الذرية القبلية ملزم بطاعة النظام الاجتماعي وتبجيل المركزية الأبوية لزعيم الجماعة الروحي وممثله الراهن. والطاعة تستعدي إلى الخضوع، لاستمرار العمل بالمراسيم والطقوس والتعليمات الروحية المتوارثة أو المستجدة مما يرتأيه الزعيم المعاصر. والطاعة والخضوع هنا لها صفة قسرية ملزمة بفعل التربية والتنشئة الأسرية والدينية أو بفعل الأمر والتهديد والتطبيع الجبري.
استمرار الالتزام وتداول المفاهيم والممارسات المتوارثة هو صورة التقليد/ التقاليد الاجتماعية التي يقف كثيرون إزاءها بلا حول ولا قوة، إذ يرددونها أو يكررونها بفعل النطبع والعقل الباطن.
هذا التأسيس والبناء وتسويغه تحت مفهوم القبيلة والعشيرة، قبل عشرات القرون، تحول بفعل عوامل الزمن إلى طابع عام وسائد لمرتكزات القومية أو الأمة، وخرج بمفاهيمه وعناصره من الحدود الداخلية الضيقة إلى الإطار الأوسع بفعل عوامل الدعم والتحفيز والسيادة والانتشار، لما يمكن وصفه بالقبيلة المفتوحة أو الممتدة، وبنوع من الدين الاجتماعي أو الثقافة التقليدية. وفي الدائرة الاجتماعية للشرق الأوسط تخضع مختلف مظاهر النشاط الاجتماعي والفكري لعناصر العروبة والأسلمة، بدء من أنماط التفكير والمنطق الاجتماعي وليس انتهاء باللغة والفكر الديني. فالعروبة والاسلام، تدخل في كلّ الثقافات الاجتماعية للأقوام والمجتمعات الشرق اوسطية ومعظمهم من غير العرب، وهو ما ينطبق على المذاهب والمعتقدات غير الاسلامية.
خروج القبيلة كمنظومة من إطار محدود خاص إلى إطار عام، يعني كذلك خروج قيمها ومظاهرها للعموم، وزيادة مساحة سلطانها الفكري والاجتماعي. كان المفترض أن يكون هذا الخروج دالة تحول تاريخي من مرحلة/ عقلية (القبيلة) إلى مرحلة/ عقلية (الأمة)، كما هو لدى الترك مثلا. مما نتج عنه أمران خارج مجال المنطق والعصر..
- فمن جهة، غلبت قيم البداوة والقبيلة على عموم المجتمع، مما زاد حدة التناقضات الاجتماعية داخل المجتمع.
- ومن جهة ثانية، لم تنجح عوامل وحدة اللغة والدين، في التقريب بين فئات الناس والطبقات الاجتماعية والأثنية والبلدان المختلفة.
هذا التناقض الذي لا يخطر على بال السياسيين والباحثين الاجتماعيين هو المسئول عن مظاهر الاحتراب الاجتماعي والنفسي والفكري بين الناس، وبين الفرد ونفسه، رغما عن الجميع. هذا الاحتراب الذي وصفه ابن خلدون بصراع البداوة والحضارة قبل ثمانية قرون، يمكن توصيفه اليوم، بصراع السلفية والحداثة (العلمانية).
يقول لورنس العرب أنه جاء لتعليم البدوي (المتمرد) طاعة النظام، وعملت الدولة المدنية في القرن الماضي على توطين البدو وتطبيعهم على احترام مؤسسات الدولة وروح المواطنة. ومع بداية الألفية الثالثة، وانتقال الغرب لعصر ما بعد الحداثة، يغرق العرب في حالة من الفوضى الفردية وغياب القانون والنظام وتزداد مظاهر السلوكيات الفردية والعنف غير المسئول. فيما تدعم السلطات الاجتماعية والدينية التقليدية سلطاتها وأساليب عملها المتوارثة، متحدية سلطات الحكومة والشرطة والقانون.
وإذا كان الدين قد اعتمد في ظهوره على نظام القبيلة والعائلة، فأن القبيلة والعشيرة اليوم تستخدم الدين لاستعادة نفوذها التقليدي، وجعل الولاء للقبيلة وزعيمها، بديلا عن المواطنة والدولة. وعلى مذبح القبيلة والدين، تعيش بلدان المنطقة طفرة رهيبة في ارتفاع معدلات الجريمة والعنف اليومي، وتسود مظاهر لا سابق لها من حالات انعدام الأمان والأمل واضطراب القيم والأخلاق.



[12]
الأم ليست الأصل..
المتعارَف في الدراسات التاريخية والفلسفية، اعتبار العائلة أصلا للقبيلة (العائلة، القبيلة، الدولة) كما لدى هيجل، وكان ذلك أحد دوافع الاعتقاد بأن المجتمعات النسوية (الأموية) كانت سابقة للمرحلة الأبوية (البطرياركية) [النظام الأبوي- الجنس عند العرب/لابراهيم الحيدري]. لكن مثل هذا الاعتقاد لا يحمل أية دلالة أو إشارة لمفهوم العائلة الذي نعرفه اليوم.
فالعائلة كعلاقة اجتماعية/ اقتصادية منتظمة بين شخصين [رجل وامرأة] تتأسس على التزامات نفسية أدبية تتمثل في حياة مشتركة وانجاب وحضانة وتربية وتنشئة، وصولا لتنشئة حلقة جديدة من عوائل الأبناء والبنات وفق نفس الأسس، وهكذا دواليك..... مفهوم (العائلة) هذا.. حديث استغرق عشرات القرون من التطور الفكري والمدني، لترسيخه وانتشاره كحالة مثالية لتحقيق التعايش والتعاون والأمن والسلام الاجتماعي داخل المجتمع. ولا يمكن تصوره أو تجذيره - بسهولة- كما جرى في بعض الكتب الدينية والتاريخية.
مثل هذا المفهوم لا ينسجم مع الحالة العربية ممثلا في صورة القبيلة، كأساس للنظام الاجتماعي حتى اليوم. أعني ان القبيلة - العربية- وخلافا لطروحات هيجل ليست تطورا للعائلة ولا امتدادا لها، وذلك لسبب رئيس هو مركزية المرأة في العائلة، بينما تعدم وجود المرأة في حياة القبيلة وثقافتها. وما زالت المرأة عند العرب تفتقد المكانة اللائقة ومعيار الشراكة البشرية، كما هي في الغرب.
ويكاد الأدب العربي [ديوان العرب] يعدم قصيدة في الأم كما وصفها معروف الرصافي [- 1945] والتي قد تكون من أول النصوص في هذا المجال. وحتى شعر الغزل العربي يركز على أعضاء المرأة الجنسية أكثر من اهتمامه بانسانيتها، واعتبارا كيانا نظيرا أو ندا صديقا. ويلحظ اليوم انتشار حالات نفسية لدى الرجال تتمثل في [الحنين للأم] أو التصاق الأبناء بشخصية الأم أكثر من الأب في التنشئة الحديثة، وهو من خصائص المجتمعات المدنية الشمالية والغربية، ولا صلة له بالثقافة العربية القبلية القائمة على مركزية الأب ونسبه وإرثه.
العرب في شبه جزيرتهم الصحراوي يختلفون عن أهل الشمال [العراق والشام ومصر] كما يختلفون عن الايرانيين وراء الخليج والبربر وراء البحر الأحمر. حيث تحتل المرأة –تحديدا الأم- مكانة متميزة، كانت تصل إلى درجات القداسة في المأثور المصري القديم، وهي صاحبة الأمر ومركز النفوذ لدى البربر (كنداله) التي تقود شعبها، وهي التي كانت على رأس الجيش البربري في التصدي لغزو العرب لتونس. ولا يزال يمكن تلمّس آثار هذه المكانة في المجتمع والعائلة الايرانية.
للأسف لا يوجد وجه مقارنة بين المرأة العربية –بحسب الثقافة القبلية الصحراوية-، والمرأة في أي مكان من ثقافات الجوار، الذي منه اليمن السعيد. فالحضارات اليمنية القديمة، امتدادا لأصولها البربرية والشمالية حفظت مكانة المرأة ورفعتها فوق مكانة الرجل اجتماعيا ومعنويا، ولعل المرأة اليمنية القديمة، هي الوحيدة إلى جانب البربر، توّجت المرأة على رأس الجماعة السياسية، رغم أن من يقرأ تواريخ سبأ وقصة بلقيس لا يتوقف لدى هذه الحيثية تماما. علما أن (سبأ "شبا") هو اسم امرأة حكمت اليمن وإليها انتسب اسم البلاد التي توالى على حكمها سلسلة من نساء القبيلة بدلا من رجالها، مثل (أسمى).
وهناك مفارقة تاريخية اجتماعية بين الامتداد اليمني إلى الشام، على طول خط القوافل القديم [حضرموت- صنعاء- دمشق]، لتشهد ظهور شخصية زنوبيا الغسانية اليمنية التي حاربت جيش الروم ووسعت مملكة تدمر لتشمل بلاد الأناضول والشام جنوبا حتى سيناء. ولكن زنوبيا وأهل تدمر والغساسنة وكثيرين ليسوا من العرب، ومن الجنايات التاريخية القاتلة خلط المستشرقين وتلاميذهم المؤرخين العرب وكتاب التعريب القومي، بين حقيقة الأصول اليمنية وهويتها التاريخية والثقافية الناصعة الوضوح، وبين الأعراب البدو سكان وسط الجزيرة وهويتهم الثقافية المعروفة جيدا؛ دون وقفة علمية مقارنة عند الأصول والعادات والثقافات الاجتماعية المميزة بين أولئك.
وفيما اهتم الباحثون بالدراسات اللغوية وتوقفوا لدى قواميس كلّ جماعة وأقلية وأنظمة النطق لديها ومخارج الأحرف، وأصول بدايات الكلام ونهاياته، مما اندرج في كتب ومصنفات؛ عَدِمَ البحثُ الاجتماعي في حياة الجماعات البشرية تلك، رغم أن العادات ومظاهر السلوك أكثر وضوحا وأهمية لدى الاقتراب والتعامل مع الناس.
وأبرز تلك المظاهر أو الظواهر الاجتماعية هو مكانة المرأة في القبيلة.
النظرة العربية القبلية للمرأة لا تنطلق من قيمتها "الذاتية" ككائن انساني (نظير) الرجل، وانما يتم النظر إليها من قيمتها "الاستعمالية" باعتبارها (سلعة). فالسلعة ليس لها أهمية في ذاتها، وانما قيمتها تكمن في مدى صلاحيتها للاستعمال، والفوائد المترتبة على استخدامها (الوظائف).
هناك كتاب يؤكد الوظائفية السلعية (الجنسية) لجسد المرأة ويحدد صلاحيتها ونفاذها بمدة خمسة عشر عاما [فئة 15- 30، فئة 30- 45]. بينما يحدد عمر الرجل بمعدل يزيد عن (60 عاما). الرقم ستون بالقسمة على (خمسة عشرة) يكون الناتج الرقم (أربعة)، وهو التشريع الفقهي لعدد الزوجات المسموح به في الاسلام. ان جسد المرأة لا يحتفظ بمواصفاته التنافسية خمسة عشر عاما، ولذلك يلجأ الرجل لتجربة أخرى، كما تستطيع هي الحصول على تجربة جديدة. ويلحظ عدم وجود زيجات معمرة في تاريخ العرب [باستثناء زيجة خديجة بنت أسد من محمد]. ويتم تطليق المرأة بعد الانجاب أو بعد قضاء الحاجة منها.
وبالمقابل لا يوجد استئثار بالمرأة مهما كان جمالها ونسبها، عند العرب..ويلحظ في قصص تزاوج أعداد من الرجال من نفس المرأة، حيث يطلقها الواحد ليتزوجها الآخر. وثمة نساء أفرادا كن أزواجا لجميع الخلفاء الراشدين وبعض الصحافة على التوالي، وذلك لخصائص حسنهن أو تضخم مؤخراتهن، أو مهاراتهن الحرفية في السرير. وهو ما يبرر ظهور فكرة (امهات المؤمنين) والنص الديني على عدم جواز الدخول فيمن دخل فيهن الرسول. وكان عمر عائشة بنت ابي بكر ما بين [18- 21 عاما] حين ترملت، وعمّرت دون أن يحق لها الزواج، فالتجأت للسياسة، ولم توفق!.
هذا المبدأ الاستعمالي للمرأة (السلعة) هو المرجعية الفقهية التي تقوم عليها كلّ الثقافة العربية القبلية بشأن المرأة. ولا غرابة بعد ذلك – شخصيا كنت أستغرب حقا- من كثرة تصانيف العرب والمسلمين (يجري وصفهم بالعلماء وربما المفكرين) في موضوع [فقه المرأة، فقه النساء، فقه النكاح، المستطاب والمستقبح في أوصاف النساء، غزل النساء] وغيرها مما يدفع مكانة المرأة إلى حضيض التفكير الاجتماعي.
وعلى أساس القيمة الاستعمالية جرى تبرير وتسويغ تعددية الزوجات (في الاسلام) بمرجعية قبلية بدوية واضحة، كتقليد اجتماعي سابق تخذ صفة دينية دائمية. وهناك ثلاثة أوجه لاستعمال المرأة هي [خدمة، متعة، انجاب] تحدد أهميتها ومكانتها لدى (السيد) أو الجماعة. ويلحظ عدم ورود صيغة (زواج) في هذه العلاقة، وكذلك اختفاء فقرة/ فكرة الرضاعة والحضانة فيما يخص الانجاب. حيث يجري التعامل مع كلّ جزء كخدمة مستقلة، يمكن أن يتولاها شخص آخر، بقصدية واضحة.
فصل (الانجاب) عن (الارضاع) الغاء ضمني لمعنى (الأمومة). يترتب عليه تدمير مكانة الأم ليس الاجتماعية في القبيلة والجماعة، وانما مكانتها النفسية بالنسبة للفرد/ الطفل. ومن الخصائص النفسية.. [الحميمية والحنان والدفء والشوق والارتباط الدائم (العِشرة والاستقرار)]، مما يتنافى مع القيم البدوية الممثلة في عدم الاستقرار وعدمية المشاعر والمحافظة على القوة الجسدية العضلية واللياقة القتالية.
في أفلام جيمس بوند المشهور بتصيّد النساء، يلحظ أنه يترك المضجع بعد الجماع مباشرة، تحوّطا من اصطياده وهو نائم، أو تكون المرأة - العشيقة- مصيدة له. مثل هذا السلوك الجنسي تعلمه الانجليز من البدو/ العرب، ويصفه الأديب غالب هلسا في واحدة من قصصه، حيث (يدفر) الرجل المرأة بعد قضاء وطره منها ويبتعد عن فراشها.
فالعلاقة الجنسية العادية بين الجنسين لا وجود لها في العرف القبلي، وهي لا تتجاوز عملية النكاح وهو (الايلاج/ الدخول) ويلحظ أن لفظ الدخول منصوص في [عقد النكاح] كشرط لتوقيع شرعية الارتباط. بينما العلاقة الجنسية (الحياة الجنسية/ الثقافة الجنسية- بتعبير أوسع) هي أكثر من مجرد الايلاج، الذي لا يتحقق تماما من غير مقدمات نفسية وحسية معتبَرة، وتعقبه كذلك جملة ممارسات نفسية وحسيّة على درجة من الأهميّة لبلوغ غاية العلاقة الجنسية للطرفين، وليس لأحدهما دون الآخر.
وصف العلاقة بين الجنسين بالجنس [sex] بالتعبير الانجلو أمريكي، (النكاح- عربيا) يتضمن درجة غير قليلة من التسليع والتجريد النفسي، بينما وصف العملية بالحبّ بالتعبير النفسي الفرنسي أو الألماني يرفع قيمة العلاقة والاتصال النفسي والجسدي بين الطرفين. وعندما ترتفع قيمة العلاقة بين أثنين، ففي ذلك تقدير ضمني متبادل في نظرة كلّ منهما للآخر.
فالاتصال الناجح (communication) بين أثنين يشترط أمرين إلى ثلاثة [التكافؤ- المساواة- الاحترام]، وهو ينطبق على العلاقة الجنسية (الحبّية) في كلّ صورها ومستوياتها، ولا بدّ أن يكون قاعدة أساس للعلاقة الزوجية.
وقد ذكرت أن الثقافة القبلية العربية لا تعرف نظام الزواج، أو أن ثقافة الزواج الحضارية غير مضمّنة في الثقافة العربية المتصلة للآن. لأن مكانة المرأة - دونية- سواء في علاقة الزواج أو خارجها. وما زلنا نحن (مدينين!!) جميعا في ثقافتنا الجنسية للغة الشتائم والسباب التي تندلق على كلّ مصاريعها في حالات الشجار والاختصام بين الصغار والكبار، وذلك قبل زمن طويل من تعلم القراءة واصطياد الكتب ذات العلاقة.
وقول على قول في هذا المجال، تحتل الشتائم والتعابير الجنسية أسبقية وأهمية لدى تعلم اللغات الجديدة، قبل أي شيء آخر، وهو أمر لا يقتصر حكمه على العرب، وانما على الأوربيين الذي يتعلمون العربية ويرافقون العرب. ولدى تولي بول بريمر الحاكم الأمريكي أمر العراق، أتقن بعض الشتائم باللهجة العراقية التي كان يستخدمها لنهر أعضاء مجلس حكمه.
وعندما تستند ثقافتنا الجنسية للغة الشجار والخصومة والتحقير، وهي حالات تفرق الناس وتزرع في لا وعيهم ذكريات مرة وخاوية، سوف تبقى تشكل عائقا في طريق الاتصال بالآخر، ومنه الأنثى. ولا يفوتني الاشارة هنا إلى مخزون اجتماعي متراكم من (النكت والحزازير) التي تظهر في حالة مخالفة وهي التسلية والفرفشة. فأعضاء الأنثى ومفاهيم الجنس هي أدوات حربية ينال بها كلّ طرف من الآخر، أو هي أدوات استفراغ نفسي واجتماعي لملء وقت الفراغ دون إرهاق الذهن أو الجسد. والواقع، أن النكتة مهما كانت بريئة، ومنذ البدء، هي سلاح حربي أبيض، قد يخلو من العنف المادي المباشر، ولكنها ليست خلوا من عنف فكري مؤدلج متراكم. وتعتمد كلّ النكات على وجود طرفين، أحدهما يمثل مركز القوة والذكاء، والآخر يوصف بعكس الأول، بالضعف والغباء. أنها اسطورة التفوق والتخلف الحضارية اليوم، وهي تجسيد لعقلية [البقاء للأقوى].
يمكن الخلوص مما سبق لتلخيص واقع المرأة/ الأم في الثقافة القبلية..
- تسليع المرأة وتصيفها حسب الوظيفة، ومنها فصل الانجاب عن الإرضاع والحضانة الذي تتولاه امرأة أخرى بالايجار.
- ومع اعدام دور الأم، ينفرد الأب بمرجعية العائلة والقبيلة، وهو أساس النسب.
وكانت أمي تؤكد في طفولتي أن الناس في يوم (الحشر) يُدعَون بأسماءِ أمهاتهم، وليس آبائهم. وحتى محمد يقال له (ابن آمنة)، و (عيسى ابن مريم). وإذا كان الناس يُنسبون إلى أمهاتهم يوم القيامة، فلماذا لا يفعلون ذلك في هذه الدنيا. هل تختلف هذه الأيام بشيء عن القيامة؟!..



[13]
الحاضنة الاجتماعية..
"يتامى نحن في بلد بلا أبناء"
أحد خصائص الحاضنة الاجتماعية الرئيسة هو الاحتضان الذي يرتبط بالأم ويحيل على الوطن، والقاسم المشترك بينهما هو المرأة. والحنين والحنان كحاجات نفسية حسية ليست غير تعبير عن تلك الحاجة للحضن والاحتضان والحاضنة.
هذه الثلاثة على اختلاف تمثلاتها [أم- عشيرة- وطن] تتلخص في دالة القبول والرعاية غير المشروطة. فالأم تقبل وليدها بدون شروط مسبقة، وتسبغ عليه رعايتها وحضانتها بغض النظر عن لونه وشكله وجنسه، سواء كان كاملا صحيحا أو معوقا مشوها مريضا.
فالحنين للأم في زمن الطفولة، واستعادته مع بدايات الهرم والشيخوخة، هو في جوهره تعبير عن عمق الحاجة للقبول والمحبة والرعاية غير المشروطة. وفي صميم وجود كل فرد، هو أن يكون مقبولا مرغوبا محبوبا، موضع اعجاب وعناية واهتمام من وسطه الاجتماعي، أو من شخص قريب منه. وإذا كانت المدنية قد اختزلت الكثير من تقاليد الرعاية والاحتضان النفسي للطفل والبالغ على السواء، فأن حدب الأوربيين واهتمامهم بعالم الحيوان، هو تعويض عن تلك الحاجة وافتقادها لدى الحيوان بعد تجرد المدنية منها.
ان الربت على رأس الحيوان وتلميس عنقه أو ظهره يجعل منه كائنا أليفا دافئا، عكس خصائص الوحشية العنيفة التي تتملكه عند تعرضه للاستفزاز أو التهديد أو ضغط الجوع.
أين هو مكان الحاضنة الاجتماعية النفسية في دائرة القبيلة؟..
ان عقلية القبيلة ترفض الضعف والنعومة ومظاهر الحاجة على اختلافها، فكيف بالحاجات النفسية، الغائبة عن القاموس اللغوي لها. على العكس منه تمجّد الثقافة القبلية مفاهيم الشجاعة والإباء والتحدي والمقاومة الجسدية وتحمّل الصعاب والظروف غير الاعتيادية. ويعتبر التعبير عن الألم والخوف والمرض مستنكَرا يقلل من قيم الرجولة والبطولة والفروسية.
مظاهر القوة والعنف ترفع من معنويات القبيلة وتبعد عن أذهانهم أفكار الخوف والتخاذل والألم والحاجة. وقوة المعنويات الملحوظة في أجواء الحرب والتدريب العسكري وفرق الموت شرط رئيس للتقدم والشجاعة وعدم التفكير بالتراجع أو الخوف.
من مضاعفات ثقافة القوة والشجاعة، واقع العزل داخل العشيرة بين النساء والرجال، الاناث والذكور. وفي معسكر النساء يكون مكان الأطفال الذكور حتى سنّ معينة، وعندما يشتد ساعد الصبي ويتعلم الخروج لوحده ليلا أو الدفاع عن نفسه واتقان تمارين الفروسية والمنازلة ينقل إلى معسكر الرجال.
يمكن القول، أن معسكر النساء أكثر مرونة واستيعابا للحاجات النفسية والجسدية في حالات الرعاية والمرض والخوف. لكن المرونة هنا لا يسمح بها إلى حدود التمادي، بحيث تزعزع واقع القبيلة أو الربع. وتلعب النساء المسنّات دور الحرس الثوري لضغط المشاعر وكبث الآلام وعدم السماح بالصوت المسموع مهما كان دافعه الجوع أو البرد أو الخوف أو الألم.
هذه الصورة العسكرية لنموذج البطل القبلي، يترتب عليها خصائص اجتماعية ونفسية تنتظم مظاهر السلوك والخطاب النموذجي الملزمة داخل مجتمع القبيلة. وبتعميم هذا النموذج تتحول القبيلة إلى صورة كتيبة عسكرية مجندة، لا يمكن التمييز بين أفرادها.
يتعارف مجتمع العشيرة على لون محدد للثياب وطراز محدد ثابت لكل عشيرة أو قبيلة. ولتوجس الجماعات البدائية عموما من الظواهر الطبيعية وحركات النجوم والقبائل، يجري تفضيل اللون الأبيض للرجال، واللون الأسود أو الألوان القاتمة للنساء، لخفض معدل الجاذبية والإثارة.
ومن الفضائل المتعارفة طول الصمت الذي يشير للحكمة والصبر، ونبذ المزاح والضحك، وخفض الصوت عند الكلام. ويلحظ شيوع الشعر بين العرب، على اختلاف أنواعه، ويفضل منه الفخر والحكمة والفروسية ويليه الغزل والرثاء والهجاء وآخره المجون والإضحاك. فالكلام على عواهنه والاصدار بلا سبب مبرر يحسب على السفه، وهو من قلة (خفة) العقل، الذي تستهجن لأجله المرأة.
كثرة الكلام تودي بمكانة صاحبها، فلا يؤخذ برأيه في أمر، ويستبعد من حضور جلسات الحكم ومداولة الأمور المهمة. وبنفس المعيار، تمكنت بعض النساء الصموتات الحكيمات من احتلال مكانة لائقة في مجالس الحكم. ومنهن من نبغ في الشعر أو الفروسية أو الحكمة. فالصفات والفضائل النبيلة ترتقي بأهلها بغض النظر عن عوامل الجنس واللون والأصل. والعكس بالعكس أيضا.
فالتشابه في الطباع والخصائص والعادات والثياب وغير ذلك من مظاهر الحياة والنشاط البشري، يؤكد أهمية قيمة التشابه والتكرار كقيمة قبلية، لتأكيد وحدة القبيلة وقوة الولاء لها. وخلاف ذلك، يعتبر الاختلاف وعدم المشاركة بتقاليدها ومناسباتها وأنشطتها، دالة عصيان وتمرد وخروج على الاجماع، مما يستوجب الحساب والعقاب الجماعي.
ينسب إلى عمر بن الخطاب قوله: كلّ من أدخل في هذا الأمر ما ليس منه، فليس منا، وفي قول آخر.. أضربوا عنقه!.
وفي أوساط التشدد السلفي المتجددة يلحظ تأكيد ومبالغة في استخدام العبارات والصيغ والنماذج التقليدية الغابرة في كلّ شيء، والزام الناس بتداولها، ومنه عبارات التحية، التي يختزلها هؤلاء في عبارة واحدة، لا تقتصر في نصها على (السلام عليكم/ عليكم السلام) وانما بالنص التكميلي المكرر [السلام عليكم ورحمة الله وبركاته] وعلى المتلقي الردّ بالمثل دون قطع العبارة، حتى لا يعتبرها السلفي إهانة أو اختزالا للرحمة والبركات.
هذا الخطاب الاعلامي يختزل المعاني الحقيقية للنص ويكتفي بالمسموع والتمثيل الأدائي حتى لو لم يصدر من القلب أو يقترن بمشاعر الودّ.
في ظلّ هكذا أجواء مسرحية أو تمثيلية، أين يكون مكان الذي لا يشارك في المسرحية أو الفيلم، لا بدور رئيسي ولا كومبارس، ولا حتى حارس ستارة؟..
بضعة أنفار في المدينة تعرضوا لآثار عقوبة مقاطعة جماعية لأنهم لم يرافقوا الرسول في أحدى غزواته ولم يستأذنوه للبقاء؛ وكان منهم كبار السنّ ممن تلزمهم الرعاية، وكانت المقاطعة تشمل امتناع الكلام والمعاملة والتحية، حتى من أهل بيتهم. وكان بعض الأشاوس قد تبرعوا أمام الحاكم بقطع أعناقهم.
مثل هذا السلوك يبرر فرض ضريبة الذميين في الدولة الاسلامية جراء عدم خروجهم للقتال، رغم أن الدولة وراء منعهم من الخروج مع المسلمين.
ففي نظام القبيلة لا مكان للاختلاف، ولا مكان للمختلف. فالقبيلة لا تقبل التنوع والاختلاف والتعدّد. حتى لو كان الاختلاف والتعدد والتنوع يصبّ في صالح غنى المجتمع والجماعة الانسانية.
تختلف القبيلة العربية في هذه النقطة عن القبيلة العائلية العبرية. ان رابطة الدم العائلية لدى اليهود تشكل حاضنة اجتماعية (أموية) لكلّ العبرانيين، ورغم انتشارهم في البلدان، يجتمع أبناء الجالية محتملين بعضهم بعضا في ضعفاتهم وفقرهم وظروف احتياجهم. هذه الرابطة الاجتماعية الضامنة، لا وجود لها في نظام متشابه تكراري.
هذه المنظومة القبلية بكل خصائصها السلبية انعكست في الفكر الديني المنعكس عنها، والضامن لديمومتها وخلودها. وبفعل اجتماع القبلي والديني في الإرث التربوي المتخلف، ورث النظام السياسي العربي المعاصر تقاليد القبيلة التكرارية وعقيد رفض المختلف، فانعدمت مظاهر الحرية والمساواة من داخل المجتمع، وامتنعت أسباب حرية التعبير والرأي الآخر في الشارع والصحافة والزعامة.
يتساءل البعض، بارتياب واضح، فيما إذا كان الاسلام كدين وراء الوضع الكارثي والتخلف المهين الذي تتهاوى في أطرافه بلدان الشرق الأوسط. الواقع ان طبيعة النظام القبلي البدوي القائمة على التكرار السطحي والقيم المظهرية الساذجة هي سبب تخلف الاسلام، وامتداداته في المجتمع المعاصر.
وفي ظل عجز البيئة القبلية عن احتضان أبنائها والانفتاح الحضاري والانساني أمام اختلافاتهم وألوانهم الفكرية والدينية والسياسية، يتزايد معدل الهجرة والاقامة العربية والاسلامية في المهجر، حيث تتوفر أجواء التسامح والتكافؤ والمساواة على أساس الانسانية، والانسانية فحسب!.



[14]
العائلة والاستقرار..
اعتبر اكتشاف الزراعة بداية تحول البشر من مرحلة الصيد والتنقل إلى مرحلة الاستقرار وبناء المساكن الآمنة. وهنا بدأت النواة الأولى لنشأة العائلة كتطور اجتماعي مادي مرتبط بنمط الانتاج وتغير طراز المعيشة.
ان العائلة كنظام اجتماعي متحضر، هي قيمة أكثر مما هي مجرد صورة أو إطار خارجي. قيمة اجتماعية ونفسية وفكرية واقتصادية في آن واحد، تربط بين أعضائها روابط تتجاوز مستويات الحاجة الاقتصادية أو الأمنية، إلى الترابط الاجتماعي والنفسي وأجواء الألفة والدفء التي تترتب عليها قيم العناية والاهتمام والمحبة والمسؤولية المشتركة. فالاهتمام بالشخص المريض أو العجوز الضعيف من الجنسين ينبع من القيم العائلية النبيلة، التي لم تكن لها تلك الأهمية من قبل.
العائلة كقيمة اجتماعية هي المأوى والمسكن، وما زال كثيرون اليوم يعرفون الوطن أو المدينة بأهلها ونظامها الاجتماعي، وليس مجرد مكان أو أبنية صماء.
والعرب كنمط حياة ينزع للتنقل (البداوة) المستمر ويعتاش على ما يصادفه من كلأ وماء أو يعتمد الصيد، وتجارة الحيوانات ومقايضتها للحصول على مستلزمات معيشية (في مرحلة متقدمة نوعيا)، لم يألفوا الزراعة، وعملت قيمهم على احتقارها وتحقير العمل اليدوي والحرفي، مفضلين عليها قيم الحرب والقتال والمبارزة والفروسية، فكانت الجمال دالة الحياة والمعيشة والتنقل لديهم.
وفي حياة التنقل، لا بدّ من التخفف من الأحمال والتأكيد على الضرورات القصوى، بحيث تضمن سرعة التنقل وخفة الحركة، وهذا يستدعي أن يكون أعضاء الجماعة البدوية مقتدرين للقيام بشئونهم بالقوة والسرعة التي لا تعطل حركة المجموع، ولا يعرقلهم في الغزو والقتال.
فإذا كان هذا المجتمع لا يحتمل العجزة والمرضى، فلا مكان فيه للأطفال والنساء ومقضيات الحضانة والرعاية. لذلك كانت المرأة (الفتاة) الشابة النشيطة هي الأوفر حظا لدى الجماعة القبلية. ولحفظ حيوية هذا النظام كان الاتجاه العام لتبديل الزوجات باستمرار، وعدم اعتماد الزيجات الطويلة الأمد، أو الاعتياد على زوجة واحدة لمدة طويلة، باعتبار الركون للنساء مما يورث الوهن، ويقلل العزيمة. وأذكر في هذا المجال، أن النساء قديما، يحتفظن بنشاطهن وخفة حركتهن مع تقدمهن في السنّ، ولا يتمارضن أو يشكين، فلا يكونن عبئا على ذويهن، أو يتثاقل منهن أحد. بل كن يستمررن في القيام بأنواع الخدمة رغم تقدمهن في السن. طواعية المرأة الدائمة للخدمة، وحذقها في اكتساب الفنون والمهارة والحكمة، عناصر تلجأ إليها المرأة منذ بدء نشأتها لدعم أهميتها ومكانتها داخل الجماعة القبلية أو العائلة.
ان منظومة القيم الاجتماعية والثقافية وما يتعلق بها من عادات وتقاليد، ناتجة من نمط الحياة والمعيشة وصراع البقاء، تتجاوز في أخميتها وخطورتها حدود المكان والزمان، عبر تدخلها في صياغة مستويات الوعي والشعور الفردي والجماعي المتعددة.
بيئة البداوة ونمطها القبلي المعروف في أواسط وشمال العرابيا، لم يكن منقطعا منغلقا داخل بيئته، مثل سكان الغابات القدماء في أستراليا وأفريقيا وأميركا الجنوبية، وانما كانت محاطة بسلسلة من المناطق الحضرية المتوطنة ممن يحترف الانتاج الزراعي أو الحرفي أو التجارة، إضافة إلى امتداد خطوط التجارة على ساحل البحر الأحمر.
وكان أفراد من البدو يمرون ببعض الحواضر القريبة لقضاء بعض حاجاتهم ومقايضة بعض اجتمع لهم. والمنطق يفترض ان يترتب على الاتصال التجاري آثار اجتماعية وثقافية، تنتج بالتراكم تحولا اجتماعيا أو اقتصاديا، يفترض عبر عشرات القرون أن يأتي على نهاية نمط البداوة وقيمها..
ربما كان احتمل ذلك واردا ولو نسبيا جدا، ولكن الطريف والغريب في الأمر، أن العكس هو ما تحقق. فالقيم الثقافية والاجتماعية للبداوة والحياة القبلية لسكان البوادي هي التي طغت على حياة وتفكير سكان الحضر، لسبب أو آخر، وهذا يقتضي وقفة مستقلة.
ان مشكلتنا الحقيقية في أصلها، ليست البداوة كطراز معيشة، وانما البداوة كقيم ونمط تفكير. والدول التي حاولت وعملت على توطين البدو وجذبهم للاستقرار، نجحت في ذلك إلى حد كبير، ولكنها فشلت في تطوير ثقافات وعقليات ووعي البادية. وبشكل، قاد تفاقمه الزمني والدمغرافي إلى تغلب الفكر البدوي على الفكر الحضري والمدني.
وكان ظهور الاسلام مدنيا في جذوره، وهو سرّ مرموزية قريش (مكة) المركزية حتى اليوم، باعتبارها حاضرة اقتصادية ثقافية متقدمة، وكان حريا بالاسلام تعميم مدنية قريش (لاحظ مغزى تسمية يثرب بالمدينة، مقارنة بمكة التي جاء تصنيفها كقرية في القرآن)، ليشمل كلّ سكان البادية. فدخلت الحركة الجديدة في صراع ثقافي مضنٍ، برزت ملامحه في القسم الثاني من تاريخ الاسلام بعد انتقاله للمدينة، واتضحت معالمه بعد موت الرسول، معلنا غلبة البداوة على الاسلام الحضري. وهو نقطة الانشقاق الرئيسة في التاريخ والفكر الاسلامي والعربي، التي دخلت في تشظيات ومسميات كثيرة، تبعا لتعدد المرجعيات، واختلافها.
ما زالت الأرثوذكسية الاسلامية ترفض فكرة تأثير العوامل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية (الزمنية) على النص الديني، وبالتالي، فهي لا تعتبر طبيعة الخلاف والانشقاق الذي بدأ عقب موت الرسول – والبعض يعتبره اغتيل مسموما- واستمرار حالة الاحتراب والتشظيات دون العودة للوعي أو العقل والمنطق.
والغريب في هذا المر، انما بينما تجمع كل الجماعات والطوائف الاسلامية على اعتبار الاسلامدين التوحيد، ودين وحدة البشر وأخوة المؤمنين، ينقلب الجميع على ذلك بقصر تعريف الاسلام في حدود طائفتهم ويمعنون في اعلان حالة حرب بلا هوادة ضدّ الطوائف والجماعات الاسلامية والدينية الأخرى.
ولا يعترف أحدهم بدوره في عملية التدمير الذاتي الشامل.
ان أحد وجوه نقد الفكر الديني الاسلامي هو خدمته عناصر البداوة والقبلية وقيمها البدائية. وبدل الاعتراف بدور البداوة في تحقيق هزيمة العرب أمام الفرس البويهيين والسلاجقة والمغول (بدو أواسط آسيا) وصولا للترك والباكستان، يتم تعريق واقع الهزيمة وتعميق جذورها بشكل أقرب للانتحار الذاتي والجماعي.
فالاسلام المعاصر، في نسخته السلفبة، يدين لفكر ابن تيمية الذي كان شاهدا على عصر الهزيمة التاريخية ومعاصرا لتيمورلنك، بغض النظر عن لقائه به والتوسط لديه. فسلفية اليوم لا يعودون إلى زمن قوة الاسلام، وانما يقتدون بزمن الهزيمة التي لم تقم للاسلام قائمة عقبها.
الهزيمة أمام المغول، تم استحضارها في زمن الهزيمة أمام الغرب الاستعماري، في صورة الوهابية المحدثة، عندما تخذ محمد عبد الوهاب من ابن تيمية مرجعية فكرية، تؤكد الطابع البدوي والقيم البدوية في الاسلام، الذي كان في أصله ثورة على البداوة والجهل. وقد تم توظيف المتغيرات السياسية الأخيرة، وفق لوائح تعاون دولي اقليمي لردّ المنطقة العربية لزمن البداوة، تارة باستخدام شعارات سلفية بدوية متخلفة، وتارة باستخدام شعارات الدمقراطية وحقوق الانسان.
وإذا كانت البداوة قد امتهنت الانسان والمرأة والعقل وحرية الفكر في أصولها القيمية، تستمر العقلية الوهابية في امتهان الانسان والمرأة والعقل والحرية الفكرية والفردية، باسم الدمقراطية الأمريكية طبعا، ودعم النظام العالمي الذي لم يعد جديدا..



[15]
النظم العلائقية ومبادئها..
أمام افتقاد المكان والعائلة، وتراجع العلاقة بالأم والحاضنة الاجتماعية، ما هو منظور العلاقات الاجتماعية وفي مقدمتها علاقة الصداقة؟..
تنبع العلاقة من واقع الحاجة، والأخيرة تتحدد بوجود طرفين: سلبي وموجب، طرف محتاج مستلم وطرف مانح. وعلى مدى التاريخ القديم جدا، شكلت الطبيعة الطرف الواهب المانح لكلّ طفيليات الوجود. ولكن مع تنامي وعي الانسان واستخدام عقله ويديه [كانت بداية ذلك في الحيوانات العلبا ومنها القردة] بدأت مرحلة جديدة من التاريخ تشهد دأب الانسان السيطرة على الطبيعة وظواهرها والتحكم بها وتسخيرها لإرادته، والتي ما نزال في فضائها، مع كلّ التهديد الناتج عن تمادي الانسان في التجاوز على الطبيعة بشكل يصعب معه التنبؤ بالمخاطر الناتجة عن ذلك ومدى امكانية السيطرة عليها.
تدجين الحيوانات واستزراع الحبوب واستخدام النار للطبخ والتدفئة وحرق الفضلات مثل الخطوات الأولى لامبراطورية الانسان والعتبة الأولى للتحضر والعلاقة بالمكان. ولادة المكان الحضري قدم بديلا للطبيعة كحاضنة رئيسية أولية للكائنات الحية على الأرض ومنها البشر. ترتب على المكان الجديد وجود مجموعة/ مجموعات من البشر في مكان واحد، يشتركون في عدد من الأنشطة للمحافظة على المكان واستمرارهم فيه.
العلاقات المادية تبدو هنا هي القاعدة والمبتدأ في علاقة الانسان بأخيه الانسان. فقيام الأفراد بأعمال مشتركة أو متداخلة، يترتب عليها نوع آخر من علاقات انسانية تلعب فيها الأفكار والمشاعر دورا يتجاوز مجرد علاقات العمل والانتاج الاساسية.
اذا كانت علاقات العمل محكومة بظرفها وطبيعتها القابلة للتغير والحركة، فأن العلاقات الانسانية المستندة على التماثلات والتكاملات النفسية والفكرية والتقاريات الشعورية أوفر حظا في الدوام والاستمرار.
وكما شكلت علاقات العمل قاعدة طيبة لعلاقات انسانية حميمة، فأن الأخيرة يمكن أن تقدم قاعدة مناسبة لمشاريع اقتصادية أو اجتماعية مشتركة، ولكن ليس بالضرورة والشرطية.
يمكن اعتبار عنصر الجيرة (السكن المتقارب في المكان الواحد) عاملا آخر تقوم عليه علاقات (جوار) قد تتطور إلى علاقات شخصية أكثر قوة وتوافقا.
إذن، العمل المشترك أو المكان المشترك وما يترتب عليهما، هو المنشأ الأساس لمعظم العلاقات الاجتماعية، أفرادا أو جماعات. – يوفر الانترنت فرصة أخرى لتعارف البشر عبر [facebook, twitter, chatting] للتسلية وتزجية الفراغ، هو أقرب لفكرة المقهى أو الكافيه الأثيري-. وفي الاقتصاديات الحديثة ثمة اتجاه متنامٍ لاختزال المكان وتوفير المصروفات الرأسمالية (الثابتة) دون أن يؤثر على سيرورة العمل أو عوائده. هذه الثيمة الاقتصادية انعكست في الجانب الاجتماعي وتزجية الفراغ، دون مغادرة جدران الحجرة.
لدى المطابقة بين الواقع التكنولوجي المادي وواقع حياة البداوة، نفتقد أبرز عنصرين: المكان، العمل.
فالبداوة هي نقيض الاستقرار في المكان، والبدوي يحتقر العمل. وبالتالي، لا يمكن تصور قاعدة حقيقة سليمة لعلاقات اجتماعية داخل جماعة البدو.
قد يسأل البعض عن طبيعة الرابطة القوية التي تجعل الجماعة البدوية تغزو وتقتل وتسلب دون تخلف أحد عناصرها أو تخاذله أو انقلابه على جماعته. وهل يعكس ذلك نوعا من علاقة يمكن أن تترتب عليها علاقة انسانية أو شخصية متكافئة؟..
العنف هو محور مركزي للجماعة البدوية، وكلّ متعلقات الحياة البدوية وقيمها تنطلق وتتمحور حول العنف. كيف يكون العنف أساس العلاقة؟
العنف حاضنة رئيسة للخوف، والخوف أساس ارتباط تبعي قهري، هو صورة تلك العلاقة.
وماذا وراء الخوف والعنف؟..
وراء الخوف والعنف.. العبودية!..
فالفرد داخل جماعة البدو مقهور على الطاعة والخضوع والانقياد وتنفيذ الأوامر والتعليمات وعدم المجادلة أو الاعتراض أو الاعتذار أو التخاذل، أو التحريض بالضدّ. انه مقهور على كبت مشاعره وخلجاته وأفكاره وقلقه وألمه وخوفه وحبه وكرهه إن خالفا هوى الجماعة. فلا وجود للخصوصية، ولا خروج على الاجماع. (فكرة اجماع اهل السنة والجماعة أو اجماع المشايخ والمراجع، هي جزء من صور البداوة إلى جانب جملة القواعد والأحكام الاجتماعية المطبوعة بالدين).
لا توجد عند البدو محاكم ولا قضاة ولا مجالس نقض. زعيم الجماعة هو الحاكم الأوحد في اتخاذ القرار وحسب لحظته، وفي لحظة يمكن للضحية فقدان حياته أو جزء من جسده، أو الحصول على عفو مشروط.
لذلك يفضل بعضهم الموت في الغزو على قتله غيلة أو بتهمة الخيانة أو التخاذل. وكما سبق القول، لا قبل للقبيلة باحتمال المرضى والضعفاء.
احد خصائص العلاقة الشخصية هو السريّة وصيانة الأسرار..
ولا وجود للسريّة والخصوصية والفردية في الحياة القبلية.. هناك حيث لا توجد بيوت، كذلك لا توجد أبواب.. ولا حراس.. فالحياة والبيوت والقلوب كلّها مفتوحة.. ولا يسمح لأحد صيانة سرّ، والا اعتبر خائنا أو متربّصا بالجماعة.
ومن آثار البداوة وانعكاساتها في حياتنا، عدم اغلاق أبواب البيوت حتى الليل ما قبل السبعينيات، وطابع العلاقات الجماعية المفتوحة، والطابع المشاعي في تداول الأدوات وتبادل الخدمات الاجتماعية. الناس يتبادلون الزيارة في أي وقت، وتدخل جماعة على جماعة دون استئذان أو مراعاة للخصوصيات.
الجماعية والمشاعية تتعدى الأشياء والأشخاص والعلاقات إلى واقع القيم والأخلاق التي لا تخرج عن المنظور الستراتيجي الجمعي للقبيلة. فالاخلاص والوفاء والصدق والشجاعة والايثار والحبّ والولاء تبقى رهينة بإطارها الجمعي للقبيلة، ولا مكان للفرد والشخصية الفردية في بحر ذلك.
هنا يظهر مفهوم الوشاية، عندما يقع أحدما ضحية علاقة شخصية مع أحدهم، ويكتشف أن صديقه المزعوم وشى به لدى جماعته، ليس باعتباره خائنا، وانما بحكم كون ولائه لجماعته أقوى من علاقته بشخص. تراتبية الولاءات وأثرها السلبي على العلاقات الاجتماعية والشخصية، قليلا ما تخطر على البال، ولكنها مسئولة عن كثير من الخراب الاجتماعي الذي يبلط المجتمعات الشرق أوسطية.
ومن انعكاساتها كذلك استمرار ولاية الفتاة لعائلتها أو قبيلتها بعد الزواج، مما يبرر لها التفريط بحياة زوجها وخصوصياته مع عائلته خدمة لأحد أخوتها وأقاربها. الأمر الذي جعل صورة الزواج مجرد صفقة تجارية أو ثأرا قبليا، بحيث تستمر أجواء الكراهة والمنافسة والغدر بين العائلتين. ولا يكاد الانسجام والمحبة تجد لها مكانا بين أطراف الزواج، بشكل أشاع أمنية مستحيلة أن يتزوج المرء فتاة (مقطوعة) مات عنها أهلها حتى ينجو الزواج من التجسس والتدخل في حياته.
في تقاليد البداوة لا توجد صداقة أو علاقة شخصية تربط بين اثنين، لا داخل العائلة ولا داخل القبيلة. ولذلك لا توجد قيمة للانسان الفرد في ذاته وانما مدى خدمته للقبيلة وولائه لها. فالمرأة تطلق في لحظة، والرجل يقتل أو يطرد خارج القبيلة لمجرد سوء ظن أو وشاية، أو رفض تنفيذه الأوامر.
ولا تزال آثار وانعكاسات كثير من تلك القيم تحرث في حياتنا المعاصرة، وتتحكم بها. ومن هذا المنظور ينبغي النظر للاسلام السياسي والسلفية والجماعات الجهادية في خطابها وسلوكها، كاستعادة لقيم وطرز بدائية بدوية بائدة.
ان الصداقة والعلاقات الاجتماعية قيم فردية، ارتبطت بالتطور المدني والثقافي العام، مما لا مكان له في ظاهرة البداوة. رغم أن أقدم نص شعري مدون، يشيد بالصداقة الانسانية كقيمة عليا.. غير بعيد عن موطن البداوة، صداقة جلجامش وأنكيدو في أور السومرية.



[16]
غرائب الاغتراب..
الجزر وأشباه الجزر مناطق بيئية طبيعية، هي نتيجة للتغيرات والتموجات الجيولوجية في باطن الأرض والمناطق القريبة من سطح التربة، وبسبب وجود المياه في محيطها، تحتضن الجزر وأشباهها ثروات طبيعية حيوية (أويكومين) من غابات نباتية وحيوانات مختلفة، كما هو الحال في الجزر الاسترالية والهندية والأمريكية الجنوبية. بينما تختلف بيئة العرابيا عن سواها بكونها امتدادات رملية شبه جافة ومقفرة، رغم انتشار المستوطنات الحيوية والحضرية على شواطئ المياه المحبطة بها، بدء من شواطئ الخليج والبحر الجنوبي والبحر الأحمر غربا.
وباستثناء (اليمن وحضرموت) فأن المناطق الأخرى لم تقدم مساهمة تذكر في اقتصاديات الانتاج المادي. وكان دورها التجاري الدولي يقتصر في جوهره على الجمع والالتقاط من ثمار الطبيعة كالصمغ والمرّ وغيره من الأحجار الأرضية التي تنقلها القوافل نحو الحبشة ومصر والشام في طريقها نحو روما وفارس.
بحسب المؤرخ اللبناني [Philip M. Hittitti] في مصنفه الكبير (تاريخ العرب) فأن تاريخ تلك التجارة يعود إلى الألف الرابعة قبل الميلاد، وكانت مصر الفرعونية وروما أوسع أسواقها، ويذكر أهميتها في الصناعية المصرية النسائية كالعطور ومواد الزينة التي تميزت بها المرأة المصرية منذ القدم. وكان لامتداد خطوط التجارة من الجنوب إلى الشام، أثر في نشأة عديد مراكز الاستراحة على طول الخط، والتي استحال قسم منها إلى مراكز وعواصم تجارية لاحقا بفعل الحاجة والنمو والتطور. وكانت الطائف ومكة وحائل والأنباط والبتراء ومعان وصولا إلى تدمر ودمشق بعضا من تلك المراكز.
وكانت المراكز التجارية تمتع بنوع من الحصانة السياسية والعسكرية من الغزوات العسكرية والاعتداءات الأمنية، ويجد فيها ضيوفها وقتا للراحة واللهو والتعارف والمثاقفة قبل عودتهم لاستكمال رحلتهم شمالا أو جنوبا. يمكن تشبيه أنظمة المراكز التجارية تلك بنوع من الأنظمة المتعارفة المعمول بها في الموانئ والمراكز البحرية التي تتوقف فيها البواخر التجارية للراحة والتبادل وأغراض الصيانة.
وإذا كان هذا حال الشواطئ الجنوبية والغربية، فقد كانت شواطئ الخليج امتدادا سياسيا أو تجاريا للممالك السومرية والبابلية التي تصل البحر الجنوبي، فيما كانت (دلمّون) بمثابة عاصمة جنوبية أو مركزا دينيا جنوبيا حيث يرد ذكرها في ملحمة جلجامش.
تأمل خريطة وتوزيع الاستيطان في العرابيا، يدفع لسؤال حقيقي ملغز، في ظلّ هذه الخريطة السكانية والتجارية، ما الذي يجعل جماعات من الناس تنأى بنفسها عن المراكز الحضرية والمائية، وتعتكف في مغاور الصحراء والمناطق الجافة القاحلة، معتزلة العالم، وهي على أشد القرب منه ومن كلّ الاتجاهات.
البداوة (العربة/ عربن) نمط من الحياة هو نتيجة لجملة من اجتماع عوامل البيئة والطبيعة الصعبة، والتي تدفع أفرادها تقاوم بكلّ امكانياتها للبقاء على قيد الحياة ومضارعة الزمن. والبداوة مشخصة تاريخيا وعالميا في حالة البربر سكان الصحراء الأفريقية الكبرى شمالي أفريقيا، وحالة المغول في أواسط آسبا وغرب شمال الصين. وقد كان للبربر أثر فاعل في الحضارات الأغريقية والرومانية والمسيحية في مختلف قطاعات الفلسفة والسياسة والعسكرية، انعكس في موقفهم المنفتح من الجماعات الثقافية والسياسية المحيطة بهم. ويعيش البربر اليوم حالة نهوض ثقافي واجتماعي وسياسي في تأكيد هويتهم القومية والحضارية الانسانية في امتدادها من ضفاف الأطلسي حتى مناطق النوبة شمالي السودان وجنوبي مصر.
وعلى الصعيد الآسيوي انطلقت هجرات سكانية متعددة من غربي الصين متجهة نحو الغرب الأوربي والشمال والشرق الأوسط، يحددها أرنولد توينبي بين القرنين السابع والثاني عشر الميلادي. وقد التحم المغول في أوربا بالموجات الكيلتية السابقة لهم والبربر من الجنوب في تجذير قيم العمل المادي في الزراعة والحرف والتصنيع التي سادت بها أوربا على كلّ العالم. ورغم استمرار بقايا متفرقة من قبائل المغول والتتر في مناطق السهوب، فقد انمازوا منذ البدء بحسن التنظيم والقدرة على الادارة والقيادة ولهم مملكة واسعة شمال الصين وأكثر من خمس دول في وسط آسيا. ومن امتداداتهم الدولة العثمانية التي حملت إرث الامبراطورية الاسلامية وتوسعت بها منذ العصور الوسطي حتى فاتحة القرن العشرين، وولادة دولة تركيا الحديثة من رحمها.
فالبداوة لم تكن غير مرحلة سبات بدائي، ما تنفك الجماعة أن تنهض وتخلفه وراءها. لكن الغريب ومصدر التساؤل، كما يطرحه توينبي نفسه، هو استمرار البداوة في الشرق الأوسط والعرابيا، وعجزها أو رفضها الخروج منها نحو التطور الاقتصادي الاجتماعي، والالتقاء بالمجموعة الانسانية!.
بدلا من ذلك، ينقل لنا التاريخ صورة (الاعرابي المتربص) كما ترد في النص الفرعونية والأشورية والتوراتية والسبأية، هو أكثر ما يتعارف ويتوارد عن البدو/ (عربن).
يقدم فيليب حتيته رسما لشكل الرأس وقوام البدوي مستقاة من مصادر فرعونية تعود حتى الألف الرابعة قبل الميلاد. لكن تلك الصورة تتناول جماعة سينوية أو مقابلة لسيناء التي كانت عبر التاريخ ساحة لأحداث وأقوام كثيرة ومتقلبة، ولا يمكن الوثوق أو الركون إلى تشخيص جامد وثابت لوجود (البدو) على أبواب سيناء في القرن الرابع عشر. أن كثيرا من أسماء المواقع والمواطن بين فلسطين ومصر متغيرة ومتعددة بحسب الأقوام واللغات والمراحل التاريخية المتعاقبة فيها. وبالتالي، ليس من المنطق العلمي إلصاق صفة أو لغة أو جماعة عرقية ثابتة بالمنطقة. والواضح في تواريخ الفراعنة ظهور الهكسوس على السواحل المصرية بشكل أعجز القوات المصرية عن الاستمرار في طردهم، بعد أن نزلوا في سيناء، وكانوا أقرب إلى البدائية والوحشية قبل أن يتوغلوا في حكم مصر وتتكون منهم أسر فرعونية عاصرت أحداث قصة يوسف التوراتية المعروفة في مصر.
استخدم المصريون الفراعنة بعض جماعات البدو في حماية طرق التجارة عبر سيناء، كما نجح الرومان في الاتصال بهم لنفس الغرض، وكذلك للحصول على أدلاء في حمالاتهم العسكرية، تطورت إلى انشاء جيش من المرتزقة (العرب) كان لهم شأو في الحرب والقتال، مما وطنوا أنفسهم عليه، وقد اشتهر منهم المعروف باسم (فيليب العربي). ويذكر بالمناسبة، أن هيرودس الكبير مؤسس العائلة الهيرودية الحاكمة في فلسطين هو من أهل أدوم (الحجاز)، وقد عينه الرومان ملكا على فلسطين [37ق م- 4 م] وفي أيامه كانت ولادة يوحنا المعمدان ويسوع المسيح، والذي أصدر قرارا بقتل مواليد الأطفال دون الثانية من العمر، للقضاء على يسوع الطفل. وقد تولى بعده ابنه هيرودس أنتيباس [4 م- 38م] وهذا الأخير هو المسئول عن مقتل يوحنا المعمدان لارضاء هيروديا وسالومه الراقصة ابنتها.
ولا يكاد يذكر التاريخ السوري الآرامي شيئا في هذا المجال، مما يمكن تأويله بأحد اتجاهين؛ عدم ظهور ممالك كبيرة في سوريا، وشيوع ممالك عديدة ذات طابع قبلي أو مديني، محاطة بمملكة فرعونية قوية في مصر، وممالك آشورية امبراطورية في العراق. والاحتمال الآخر، تداخل الوجود الآرامي السوري مع القبائل البدوية، عبر (بادية الشام)، وهو مصدر التأثير أو التشويش على حدود أشور كما تردد في سجلاتهم.
وفي كلّ ذلك، تبقى البداوة (عربن) دالة نمط حياة [lifestyle] أكثر منه دالة على عرق أو قوم بعينهم. فكلّ من اتخذ نمط البداوة فقد تعرّب، أو استعرب، بحسب أصلها اللغوي.
البداوة (العرابة) كنمط حياة، لها ثلاثة مواصفات رئيسة: الانعزال وعدم الاختلاط بالبشر، الجمود وعدم قبول أي تغيير أو خروج عن نمط حياتها، العدوانية في موقفها من الآخر، ومعاملاته الخارجية واسلوب تأمين حاجاته.
وفي اللغة السريانية كانت تسمية يوم الراحة والعبادة – اليوم الأخير في الاسبوع (عربايا) بما يقابل [Shabath] عند العبرانيين، وهو يوم يخصص للعبادة ويمتنع فيه الاختلاط بالغير والاعتكاف في المنازل ومداومة الصلوات والطقوس الدينية.
ومن طقوس الصحراء العزلة واعتزال الخلق والحياة والانقطاع للتأمل في الوجود واستكناه الغيب، وفي أيام الاضطهادات المسيحية نمت ظاهرة الرهبنة ملتجئة في أعماق الصحارى ومغاورها، كحال الأديرة المصرية القديمة في غرب النيل وصحراء سيناء وجنوبي فلسطين. ومنها المعروف باسم وادي عربة، ليس بالمعنى المعاصر، وانما بالمعنى الديني ومكان الانقطاع للتأمل الوجودي!.



[17]
الصحراء.. هوية ومرجعية قيمية..
الجغرافيا البشرية لجنوبي الشرق الأوسط محبطة. حالة غريبة ومقرفة من الجمود والعجز والتسليم. لكن النظام التعليمي على العموم حافل بالتزوير والتدليس والتدجين، أي الأدلجة المسبقة [عروبيا، قوميا، دينيا]. في بداية المتوسطة تعلمنا التاريخ القديم: السومري.. البابلي.. الآشوري. الذاكرة الوطنية بحاجة لصور القوة والفخامة والسيطرة. لكننا.. لا في عمر المتوسطة – ولا بعدها- نتساءل أين هم هؤلاء الأجداد القدماء العظماء، وما يربطنا بهم؟.. مسلة حمورابي، ملحمة جلجامش، مكتبة آشور بانيبال. كانت تلك خطوة في بناء داخلنا الوطني الروحي وهويتنا الثقافية الصلبة.
عند دراستي اللاحقة للاقتصاد وتقسيمات التاريخ الاقتصادي، استغربت استمرار نمط البداوة والبداة حتى العصر الراهن، وتمجيد قيم البداوة الطفيلية غير المنتجة والخالية من ابداع أو تطور. كيف يمكن لهوية ثقافية وطنية أو قومية، أن ترتكز على تنميط حالة الجمود والعجز والتقليد والتكرار الغيبي (الغبي)؟ وهل يمكن الأمة وهي تقدس منظومة بدائية جامدة، أن تتطور وتحلم بمضاهاة ركب الحضارة والتقدم والازدهار؟..
هذه الأسئلة وهذا النوع من التفكير جزء من تجربة ذاتية للبحث عن المعنى والقيمة الوجودية. الانسان ليس حشرة تطير من غصن إلى غصن، ولا مجرد كائن حيواني كلّ ما يشغله هو الحاجة والامتلاء والتفريغ، وكمية من الضجيج والتهريج والضحك الذي لا يجدي ولا ينتج.
ان العلاقة بالأجداد والماضي، إذا كان لا بدّ منها، فيجب أن تكون عاملا ايجابيا محفزا للابداع والانتاج والإضافة. وبغيره تفقد تلك العلاقة مبررها المنطقي والموضوعي. أدركت يومذاك، أن ما يدعى تراثنا الثقافي غير المقدس هو جثة هامدة، ولا يجوز تقديس الجثث وعبادة الأصنام. والسلفية نموذج لنقض الذات/ ذاتها. فهي إذ تحارب الخرافات الاجتماعية، تقدس الخرافات والسفاسف باسم الدين، وإذ تدعو لهدم القبور والأوثان والمجسمات المادية، تقدس الماضي والمأثور عن الأسلاف والأجداد، بزعم الابتعاث الديني.
عقول الأبناء أكثر تطورا من عقول آبائهم، وعقول الآباء أنمى وأنفع من عقول الأجداد. والسلفية تلغي القيمة المضافة للعقل عبر الزمن من خلال تحجر المجتمع والحجر عليه وعلى كل محاولة للتقدم. ومن أجل تقديس الماضي ممثلا في بعض رموزه الصورية والفكرية يجري الغاء تاريخ المستقبل. ومن أجل ذلك تظهر أهمية الاغتيال والقتل في المأثور البدوي السطحي والأجوف والمغرور.
سطحي لأنه لا يخاطب العقل ويخالف المنطق.
وأجوف لأنه عاجز عن المواجهة والمناقشة ومبادلة الرأي بالرأي والانفتاح على الآخر، خشية خسران موضع قدمه.
ومغرور لأنه يخاف النقد والاعتراض ولكي يلغيهما، يقطع النقاد والمعارضين بالسيف والرصاص كما يحدث حتى اليوم، في ظل الدمقراطية السلفية والأمريكية.
موقف البداوة من العقل والحداثة، شبيه بموقف البدو من المرأة التي يجري اختزالها إلى جسد سطحي أولا، ثم يجري اختزال الجسد في بضعة مناطق من الجسد، وخوفا من المواجهة يقوم بتغطية كيان المرأة والتعامل معها عبر ثقوب لا غير.
هذا التراث البدوي أنتج على مدى الزمن شخصيات ضعيفة هشة من الناحية النفسية والفكرية، ليس لها بعدُ.. من شيء تفخر به غير الجسد القوي والجسد السليم. وفي مجال التربية يذكر البعض تكرار مقولة (العقل السليم في الجسم السليم)، في دعاية سمجة لتنمية الجسم (ترتبط بدروس الرياضة)، وليس الدعاية للثقافة وتنمية العقل الذي يقتضي بقاؤه فارغا ليبقى سليما – من العبث-.
العجز عن المواجهة أو التغيير يدفع للتكيف مع الحالة. وبدل استجماع خبرات تقنية تدعم عنصر المواجهة والتغيير، يقود التمادي في الضعف إلى تأصيل الظاهرة فكريا واجتماعيا لتبرير الخضوع لها والمبالغة في تمجيدها لحدّ القداسة والتأليه.
تلخص هذه الفقرة الأساس الذي أنتج فكرة الدين والإله، وفي المجال الاجتماعي تنطبق على حالة المرأة التقليدية في العائلة والمجتمع، كما تعكس صورة المجتمع في خضوعه الطويل لحاكم جائر مستبد.
انها في الأساس صورة البدوي العاجز أمام نفسه وبيئته، فاضطر إلى اعتبار البداوة نموذجا يتفاخر به، ثم عمل على تقديسها بالمخلل الديني وربطه بميثولوجيا الغيب وخرافاته.
ما هي الأصالة؟..
الأصالة من الأصل، عكس الاختلاط.
لكن الاختلاط الاجتماعي والفكري يعني الحضارة، وهو العمران بلغة ابن خلدون.
العنصر الكيمياوي [فلز/ لا فلز] في الحالة الذرية لا يمكن الافادة منه إلا بتفجيره. لكن دخوله في مركبات ينتج مواد نافعة كالماء (H2O) مثلا. وباختلاط البشر تتكون الخبرات وتتراكم المعارف وتتشكل قاعدة لنمو الحضارة. وباختلاط رجل وامرأة تتكون العائلة وتتولد أجيال جديدة من البشر، ويحدث تغيير في صورة الحياة. اختلاط الانسان بالعمل يضيف ألوان جديدة للبيئة ويغير وجه الطبيعة. الزراعة والحرف والتصنيع تعني التطور والتجديد والابتكار. فالأصالة بالمعنى الحضاري هي قيمة سلبية جامدة، تؤخر ولا تنفع في شيء.
لكن العرب لا يجادلون في الأصالة، رغم عدم وجودها في وسطهم على الاطلاق. يرى ابن خلدون في البداوة والتوحش مثالا على نقاء اللغة والعادات والقيم!!..
ابن خلدون التونسي [1332- 1406م] مثقف كبير وعالم ومفكر قياسا لعصره، وجانب كبير من عصرنا الراهن، ولكن علي الوردي [1913- 1995] وصمه بالانتهازية، بل اعتبره أكثر ميكافيللية من نيكولو دي برناردو دي ميكافيللي [1469- 1527] صاحب امتياز اللقب.
ففي السنوت الأخيرة من حياته عكف على وضع مصنف يجمع فيه تاريخ البشرية منذ أول بدئها حتى أيامه، يجمع فيه بحسب تعريفه [التاريخ هو سفر أيام الملوك والدول] ما أمكن له جمعه ومعرفته من قصص الأقوام والدول والحكومات. لكن الرؤية الرئيسة لبحثه اعتمدت مركزية الحدث العربي (الدولة العربية الاسلامية).
اتخذ ابن خلدون من فكرة (العصبية) محرّكا رئيسا لتاريخه، والعصبية ثيمة بدوية قبلية أكثر من أي شيء آخر. ويعترف أو يعتبر (النسب) دعامة العصبية، مع ترجيح كفة البداوة والتوحش ضامنا لنقاء النسب وصفاء العصبية. فالمثال المقصود هنا هو بناء الدولة الاسلامية على عصبية (قريش) وسلسلة النسب المحمدي المطلبي العدناني الاسماعيلي.
وفي ظلّ تورطه العصبي راح يحاول ربط دول اليونان والرومان والفرس وسواهم بحسب جداول نسب يشتقها من الاسرائيليات تارة ومن المأثور الشفاهي العراقي القديم تارة أخرى، وهو في ذلك لا يأتي على غير الحروب والصدامات العسكرية وأرقام الخسائر الحربية الكارثية، منتهيا منها – على البارولة الاسلامية- بعبارة (والله أعلم).
ابن خلدون يؤكد هنا عنصر (الأصالة) اليعربية محيلا إياها على نقاء حياة البداوة والتوحش. الأصالة هي مرادف لغوي (ثقافي) للعصبية الخلدونية. وكما ساهمت الأخيرة في تأسيس قوة الدولة، فأن الثانية تحولت إلى مركزية قومية تنبع منها اللغة والعادات والقيم والثقافات، على أساس فردانية الصحراء كبيئة حاضنة للبداوة والقبلية.
فكرة الأصالة والعصبية ومظاهرها الثقافية والاجتماعية ليست اكتشافا خلدونيا في أصلها، ويمكن الرجوع بها إلى عصر التأسيس الفكري والتأليف العربي مع أواخر القرن الثامن الميلادي جنوبي العراق، حيث ظهور المركزية الثنائية في الفكر والثقافة العباسية بين مدرستي (البصرة) العقلية و(الكوفة) النقلية. وشيوع مقولة: كلّ ما اختلفتم فيه فردوه إلى أصله مما تناقله الرواة؛ أو استفتوا فيه أهل البادية، فهم أصفى لسانا وأقل عرضة للهجنة.



[18]
من البحرين إلى النهرين.. تغريبة الماء..
"ان اختلاف الأجيال في أحوالهم، انما هو باختلاف نحلتهم في المعاش."- ابن خلدون
تنتهي أطراف الصحراء العربية شمالا داخل الحدود الحدود العراقية الدولية اليوم، يحدها مجرى نهر الفرات الذي يمتدّ كذراع طويلة حاملا همّ العراق من قبل ظهور البشر. إلى الشرق من نهر الفرات تمتدّ بحيرة كبيرة في تسميتها وأصل نشأتها اختلاف، باختلاف المرجعيات البحثية. فمن معتقد أنها بقايا من بحر النجف، ومن قائل أنها بقية منحسر من مياه طوفان نوح. ومنهم من يقول أن الامتداد الأصلي لعنق الخليج كان يمتد قديما قريبا من موقع سامراء (سرّ من رأى) الحالية شمالي بغداد. ثم حدثت تغيرات جيولوجية ومناخية كانت من أثرها تراجع نسبي تدريجي في جسم المياه، حتى استقرت على ما هي عليه عبر عشرات القرون أو أكثر. ويدعم هذا الرأي التصوير التوبوغرافي لسطح الأراضي العراقية الآخذ في الانخفاض والتحدر من المرتفعات الشمالشرقية نحو الجنوب. ويزداد معدل الانحدار من بعد بغداد بمعدل أكثر.
هذا الرأي يدعم ظهور أقدم المستوطنات جنوبي العراق على حافات المياه أو داخلها، على النمط المتعارف حتى اليوم باسم (الجبايش) التي تعتمد بناء بيوت اصطناعية طافية على سطح المياه بشكل دائمي، تأخذ معه صورة قرية متقاربة البيوت، ويجري التنقل فيما بينها بواسطة قوارب ضيقة نحيفة لا تسع لأكثر من شخص أو أثنين، تدعى [شختورة، شخيتيرة].
نمط الحياة المائية في الجبايش أكثر تعقيدا وغرابة من نمط البداوة الصحراوية القاحلة، ومصدر الغرابة في الحالتين، هو سرّ دافع الانسان لترك الأرض اليابسة المنبسطة الخضراء والانعزال وراء الصحراء الجافة أو داخل الماء، واعتزال بقية البشر.
لكن المقارنة بين النمطين جدير بالأهمية، وسر الجدارة، يتركز في طبيعة الخصائص الاجتماعية والنفسية لكل من الجماعتين. فجفاف الصحراء وقيظها الحارق منعكس في جفاف طبائع البدو وأخلاقهم القاسية الراجحة للعنف باستمرار. بينما تتسم سكان المياه بالنعومة والسلاسة والسلمية على طول الخط. ورغم اتفاق الجماعتين في ميول العزلة ونزعة الخوف والارتياب من الغريب والغير. فأن سلاسة سكان المياه ورطوبة نفوسهم سرعان ما تذيب الحواجز وتربط العرى، تلك التي تبقى عائقا يابسا عند البدو مهما حاول المرء التقرب منهم.
طبيعة البيئة ونمط الحياة والطعام والعلاقات لها اثر مباشر في انماط العادات والسلوك على الصعيد المباشر، يضاف لذلك العوامل الداخلية المتعلقة بالنفس واللاوعي والغيب الديني. مما يترتب عليه وجود اختلافات فكرية ونفسية واجتماعية بين أتباع كل بيئة عن سواها.
ثمة اعتقاد متزايد منذ التسعينيات، بوجود صلة ما بين سكان الأهوار العراقية كامتداد وإرث متصل بالسكان السومريين القدماء، أقدم الجماعات السكانية في المنطقة والسابقين في تأسيس المستوطنات والمدنيات والدول الأولى في التاريخ في الألف الرابعة قبل الميلاد. وتنتشر قرى (قضاء) الجبايش بين محافظتي ذيقار (الناصرية) والبصرة حيث يلتقي مجري الفرات ودجلة عند القرنة مشكلين شطّ العرب الذي يصبّ في ثغر الخليج.
يعتبر توينبي أن السومريين سبقوا المصريين القدماء تاريخيا في الاستيطان والتحضر وبناء الدول والجيوش والفكر الديني، رغم أن ظهور الاثنين كان متقاربا في الزمن. ويرى أن فنون الهندسة والكتابة والفكر الديني انتقلت من جنوبي العراق إلى مصر، بينما يشيد كذلك بجانب الاستقرار والتنظيم عند المصريين مقابل قصر فترات الاستقرار في العراق.
ففي وقت شبه متقارب، بدأت جماعات سكانية تتسم بالتنظيم والتعاون والارادة القوية، في شطف الغرين في جنوبي نهر الفرات ومنطقة دلتا النيل، مؤسسين بذلك أقدم مدنيات زراعية على سطح الأرض. والأسئلة هنا تتركز حول عناصر الخبرة والتنظيم الاجتماعي وفنون القيادة وقوة الارادة والنفس الطويل في العمل. فبزل الغرين عملية شاقة ومتعبة وتحتاج إلى عمل متواصل ولمدة طويلة. ويغتقد توينبي أن العمل كان يجري على وجبات، تشارك فيها مجموعات عمالة بشرية كبيرة، مما يعكس حسن الادارة وقوة القيادة، ولا يخلو من عناصر الاهتمام والرعاية والتمويل للعمال وعوائلهم خلال مدة العمل الطويلة. أي ان المشرفين على العمل كانت لهم مصادر دخل كبيرة ومستمرة [رأسمال متراكم]، إلى جانب عناصر الخبرة والسياسة.
مثل هذا العمل المؤشر تاريخيا في الألف الرابعة قبل الميلاد، يقتضي تاريخا أكثر قدما لوجود السكان في تلك المناطق. وهي الفترة التي سمحت لهم بدراسة ظروف المكان وعناصر جدوى المشروع، ونوعية الخبرات اللازمة لانجاز مثل تلك المشاريع الصناعية الجبارة الأولى.
ان تأمل الخطوات الأولية والدراسات السابفة لبدء تنفيذ حفر قناة السويس مثلا، يكشف مدى أهمية التخطيط والادارة والتمويل والتنظيم والقيادة في مشروع ضخم وغير عادي. رغم أن مشروع قناة السويس الحديث نسبيا مقارنة بالمشاريع الزراعية الأولى في الدلتا، انتهى إلى سحابة من الأزمات والاشكاليات التي غطت سماء مصر ودفعتها في نفق من الأزمات استمرت آثاره وانعكاساته حتى زمن قريب.
أنشأ السومريون مملكة واسعة امتدت شمالا مع مجرى النهرين، وجنوبا نحو الخليج. وعملت على تسويق منتجاتها الزراعية وغير الزراعية خارج حدودها، وكان لها مبادلات تجارية تصل إلى مصر وجنوبي الخليج، رافقها انتقال كثير من مظاهر الحضارة والعلوم والمكتشفات الحديثة مما تحقق على أرضها، كاكتشاف العجلة وشيّ الطين وتقدير الزمن وتقسيمات اليوم والعام وقاعدة الستين في الحساب ومقاييس الفلك والخطوط المسمارية التي انتشرت في ارجاء العالم القديم لمدة طويلة ترتبت عليها تطور اللغات وظهور الأبجدية وقاعدة المربع في البناء، وانشاء المعابد والزقورات والقصور وكثير من فنون الحياة وخصائصها المستمرة حتى اليوم بتغيير طفيف، وليس آخر بوضع الدساتير وصياغة القوانين التي كانت تمهيدا لمسلة حمورابي في العهد البابلي.
وفي الجانب الزراعي استخدم السومريون منظمات المياه وأنشاء السدود في أعالي الفرات حسب تنقيبات الدكتور المهندس العالم أحمد سوسة، الذي ساهم في بعثات تنقيبية في الأراضي العراقية والسعودية في النصف الأول من القرن المنصرم، جمع نتائجها في أربعة كتب قيّمة.
الوركاء.. أور.. أريدو.. الناصرية.. النصر.. نقاط حضرية وتاريخ عميق وعريق.. بينها وبين مركز نجد خط صحراوي مستقيم هو البادية.. لكنه يجمع طرفي نقيض من الحضارة والعمران المدني والمرجعيات الفكرية والدينية المتعارضة.
والغريب.. أن أول خط اتصال العرب بالعراق كان عبر هذه النقطة.. أولى المعارك وبوابات الاختراق. القادسية وذيقار ومعركة الجمل متقاربة من بعضها في علاقة البدو بقلب الحضارة، والذي تخلده حتى اليوم مراكز البطحاء وتلّ اللحم. لذلك نفر العرب من جغرافيا سومر وذيقار، لبناء معسكرات الجيش الجديد في طرف البصرة، من جهة (قضاء) الزبير من آثار الخلافات البدوية.
ما يقتضي التنويه.. ان سومر وحضارتها المؤسسة كانت في فجر التاريخ.. قبل آلاف السنين من الظهور البدوي المتأخر.. عقب السبات العراقي الحضاري منذ الغزو السكندري، غير بعيد من السبات الراهن منذ الغزو الأمريكي، وارتفاع رايات البدو.



[19]
الجماعة الزراعية والجماعة الصحراوية..
تختلف طبيعة الانسان وعاداته وأفكاره ومبادئه القيمية والسلوكية بحسب نوعية البيئة المرتبط بها. ويشكل الغذاء ونوعه وطبيعته أحد خصائص البيئة ذات الأثر الرئيس في الطبيعة النفسية والاجتماعية للشخص، إلى جانب عوامل البيئة الأخرى.
البيئة الزراعية أكثر تطورا من البيئة البدوية غير الزراعية في التصنيف الحضاري. ولكن المهم في ذلك طبيعة الغذاء التي تشكل منتجات الزراعة مكونه الرئيسي، بمعنى تقليل الاعتماد على اللحوم الحيوانية. وكلما انخفض معدل اللحوم وتداولها، لصالح الأغذية النباتية، تتشكل خصائص نفسية وفكرية واجتماعية جديدة، تجعل للجماعة/ المجتمع الزراعي خصوصية واستقلالية مميزة.
أما البيئة الصحراوية أو البدوية فيمكن الاصطلاح عليها بالبيئة الحيوانية. حيث يشكل الحيوان العنصر الأكثر تداولا وورودا في الحياة الصحراوية. بينما يقتصر دور النباتات في بعض الحشائش والاشجار الجافة التي تتغذى عليها الحيوانات، الجمال خاصة. تعتمد حياة البدو بالكامل على الحيوان في الغذاء والشراب والثياب والخيام والتنقل والصيد والغزو.
فإلى جانب عوامل البيئة الصحراوية في صياغة الطبع والتطبع عند الأفراد، يلعب الغذاء (الحيواني) دورا أكثر حيوية في منابت السلوك ودوافع الغرائز وانماط التعبير عنها. ويميز علماء السلوك بين أكلة اللحوم [carnivore] وبين أكلة النباتات [vegetarianism]. ويزداد معدل شراسة السلوك، كلما زاد تناول الشخص للحوم.
هذا الاستنتاج البيولوجي هو أحد شقي مقولة ابن خلدون في توصيف الناس.. "ان اختلاف الأجيال في أحوالهم انما هو باختلاف نحلتهم في المعاش." أما الشق الثاني فيلتقي مع التفسير الماركسي لأثر العمل وأسلوب الانتاج في تحديد شخصية الفرد. ويمكن القول أن مرادف (المعاش) في لغة ابن خلدون، هو (العمل) في لغة ماركس. مع درجة من التحفظ حول مدى اعتبار الالتقاط والصيد (الحياة البدائية) ضمن مفهوم العمل بالتفسير الاقصادي والحضاري، والذي يعتمد أساسا على دور اليد بالتلازم مع الذهن البشري في انتاج سلعة مادية لم يكن لها وجود حرّ لولا جهد الانسان/ العامل. وهو أمر لا يتحقق في حالة صيد الحيوان الموجود أصلا في الطبيعة خارج جهد الانسان.
الزراعة عمل يدوي حرفي، ولكنه يعتمد في الأساس على المعرفة الزراعية والخبرات المتراكمة، في توجيه طبيعة العمل وطريقة التعامل مع التربة والتحكم بكميات المياه (السقي) المتغيرة بحسب كلّ نبات وموسمه. والفلاح/ العامل الزراعي بممارسته للعمل يزداد خبرة ومعرفة بكلّ ما يتعلق بالانتاج الزراعي نحو: تصنيع الأدوات الزراعية وعمل السدود ومنظمات المياه، دراسة ظروف الجو وقراءة الطقس للتهيؤ للمطر والاهتمام بالزمن وحساب الأشهر ومواقيت السنة لارتباط الزراعة والسقي والحصاد وتقليب التربة بمواعيد وجداول زمنية، إذا أخطأها فاته الموسم أو تلف المحصول.
فالزراعة لها دور محفز في يقظة الذهن والوعي وتحفيز العمل الجماعي والاتصال البشري نحو حبّ الحصول على المعارف والأخبار، وارتباطها الصميم بمرحلتي التصنيع والتبادل التجاري وعلاقتها بتطور طرق الاتصال والنقل البحري والبري. وفي هذا المجال، كان المجتمع الزراعي سباقا ومتميزا في صياغة الوعي السياسي والنضال الطبقي عبر تاريخ انتفاضاته وثوراته التي كان لها أثر مباشر في الاصلاح السياسي وتطوير منظومة القيم والمؤسسات المدنية.
يعود تاريخ تلك الانتفاضات إلى أيام سومر عندما ظهرت طبقة سياسية جديدة تفرض هيمنتها على ريع الممالك/ المدن الزراعية دون أن يكون لها دور ومساهمة في العمل والانتاج، مما أسفر عن ثورة شعبية، حاول بعض الملوك والقادة المحليين توظيفها لصالحه، مما حرف اتجاهها إلى صراع أطماع سياسية، انتهت إلى حالة من الفوضى التي انقضت على أهلها.
والظاهرة الأخرى كانت عقب الغزو المقدوني السكندري لبابل في القرن الثالث قبل الميلاد، وبناء معسكره فيها، متخذا منها مركزا تنطلق منه قواته نحو الشرق وتعود إليه. وكان لعسكرة قوات الاسكندر جنوبي العراق مدة تزيد على الثماني سنوات، آثار اقتصادية واجتماعية مدمرة، جراء ما يقتضيه وجود القوات من مستلزمات غذائية وجيوبولتيكية هائلة، انعكست سلبا على كلّ الانتاج وميزان التبادل الزراعي والاقتصادي، وكانت تلك المرة الأولى التي تراجع فيها معدل الصادرات نحو الخليج. والطريف - هنا-، قيام مصادر أمريكية بنشر هذه المعلومة عقب الغزو الأمريكي للعراق (مارس 2003م) وعسكرة ما يزيد عن مائتي ألف –حسب الأرقام الرسمية- من الجيوش الأجنبية على أرض العراق ولمدة لا تقل عن (ثمانِ) سنوات.
ولا تخرج ثورات الزنج [869- 883م] والقرامطة [] في العهد العباسي التي انطلقت من جنوبي العراق – سهل شنعار- عن أسبابها الاقتصاداية والطبقية. وفي العهود اللاحقة للحكم العثماني أو الدولة الحديثة حدثت انتفاضات محلية محدودة من قبل الفلاحين بسبب نقص المياه، أو تجاوز السياسات الحكومية على مصالح الأهلين الزراعية، لم تنل حظا من البحث والتاريخ الاجتماعي والسياسي، ناهيك عن محدوديتها الجغرافية وعجزها عن التحول إلى ثورات شعبية وطنية عامة. ويذكر –في هذا المجال- أن الثورة الكردية العراقية في (أيلول 1961) كانت في الأساس عملية عصيان مدني للأغوات (الأقطاع الكرد) ضد تطبيقات قانون الاصلاح الزراعي الجمهوري الأول، والذي تطور بفعل مضاعفات عشائرية سياسية إلى ثورة قومية عامة. وفي ظل الآثار السلبية للاحتلال واهمال الحكومات اللاحقة للمطالب الشعبية ومستلزمات الاصلاح والتنمية الاقتصادية والاجتماعية، زادت معاناة الفلاحين وتردى الانتاج الزراعي العراقي لحدّ الغياب، لأسباب كثيرة منها تفاقم انحسار مياه الفرات، وكان من نتائج ذلك، انتشار حركات انتحار بعض الفلا حين مع عوائلهم، جراء عدم قدرة الزراعة على توفير قوت عوائلهم.
[الناصرية- أ ف ب: أقدم مزارع عراقي في الناصرية جنوب بغداد على الانتحار تاركا وراءه أسرة مؤلفة من (11) فردا، وذلك بسبب النقص في المياه الذي دفع (مائتي) عائلة للنزوح إلى مناطق أخرى. وبحسب مصادر محلية، فأن حبيب سلمان (54)عاما أطلق النار على نفسه بسبب النقص المستمر في المياه التي يعتمد عليها في الزراعة، مصدر رزقه وعائلته المؤلفة من (11 فردا) بينهم (سبعة أطفال). وكان سلمان يعيش في ناحية الاصلاح جنوب شرق مدينة الناصرية (503 كلم) جنوبي بغداد. وكان صندوق الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف) أشار في وقت سابق إلى تقرير دولي يؤكد "احتمال جفاف نهري دجلة والفرات في العالم (2040) نظرا للتغيرات المناخية وانخفاض كميات المياه والاستخدام المكثف لأغراض الصناعة والاستهلاك المنزلي"/ جريدة القدس العربي ع 7184 ليوم الجمعة المصادف العشرين من يوليو 2012- ص3].
بينما اكتبت ثورات الفلاحين في أوربا أهمية تاريخية ساهمت في صياغة أوربا الحديثة.
يلحظ بالنتيجة ان خصائص التحفيز الذهني والخبرات المهنية والانفتاح للمعرفة والاتصال وهي عوامل لازمة للتطور الاجتماعي، لا مكان لها في الحياة البدوية التي تحتقر قيمة العمل وتعتبر العمل اليدوي أو المعاش اليدوي أمرا مهينا. مفضلة عيه اعتماد التطفل والصيد والسلب والنهب، باعتباره منسجما مع القيم القتالية والفروسية البدنية. وهذا سبب رئيس لجمود نمط البداوة في مرحلته وعجزه عن التغير أو تجاوز ذاته.
لكن إلى أي حدّ يمكن اعتماد هذا المنطق، مبررا لجمود البداوة؟..
مهما كانت العوامل البيئية والمادية، فلا يمكن اختزال عنصر الإرادة [Power Of Will] الذي لا غنى عنه لاستمرار الحياة. سلطان الارادة هنا سلبي الاتجاه، يزداد عزيمة وعنادا على عدم مفارقة النمط البدوي وشظف المعيشة الصحراوية.
فاعزاز البدوي بنفسه هو اعتزاز ببداوته وقيمها. ومن ذلك الأصالة (اللقاحية بلغة هادي العلوي)، والتي تجعل من نفسها ميزة [قوم- ية] تنماز بها عن سواها من الجماعات والأقوام المحيطة. فالبدو في علاقتهم بالصحراء ليسوا مجرد ظاهرة اجتماعية أو اقتصادية محددة، وانما حالة سياسية تستند إلى وعي غير عادي - مضخّم- بالذات، يتمثل في صورة الاعتزاز والفخر وحالة الكبرياء ووهم التفوق والصفاء الاخلاقي. وقد احتضن الفكر الاسلامي فكرة (الأصالة) البدوية بمتعبير (الفِطْرة)، التي عمل على تعميمها على البشرية، تمهيدا لاعتبار نفسه (الاسلام دين الفطرة)، ليس في خدمته النزعات البيولوجية والفسيولوجية للجسد فحسب، وانما بوصفه (دينا للبشرية جمعاء).
وحاولت حركة القومية العربية الحديثة توظيف المأثور البدوي والديني لصالحها كما يظهر في كتابات ميشيل عفلق زعيم حزب البعث وزملائه، ومنها: كان محمد كلّ العرب، فليكن العرب محمدا!، والقومية حبّ وتذكر! (بمعنى الحنين للماضي والعمل لاحيائه) – والمرادفة للعصبية لدى ابن خلدون-، با ينسجم مع المعنى اللغوي للفظة البعث المحيلة على الاحياء، نقلا عن المرادف الأوربي [Renaissance].



[20]
نجد.. وتهامة.. حتمية الجغرافيا والتاريخ..!
ثمة إشكالية بنيوية في تأسيس الثقافة العروبية أو البدوية، [باعتبار أن المعنى اللغوي للعربية في الأصل يحيل على البداوة (اللا تحضر واللا استقرار)، أو باعتبار أن العروبة كتعليم وجماعة بشرية تستند إلى جذورها وأصولها البدوية]. ومركز التناقض أو الاشكالية، يتمثل في..
مرجعية الصحراء كبيئة جغرافية اجتماعية في الفكر العروبي [العقل العربي عند محمد عابد الجابري] يستند إليها الإرث الاجتماعي والديني.
القول بأن اليمن وأهلها القدماء (!) هي موطن الجماعات السامية (جواد علي) ومصدر انطلاق العرب وانتشارهم في أرض شبه الجزيرة وخارجها لأسباب متعددة وعلى فترات متعددة.
واليمن قديما هي اليمن السعيد أو البلاد السعيدة، من المدنيات الحضارية العامرة، وصاحبة المكانة الاقتصادية والتجارية في العالم القديم، ما زال العمران والزراعة والثقافة سمات بارزة في تعريف شخصيتها. هذه الهوية الثقافية والعمرانية لأهل اليمن تتعرض للالغاء والتعطيل لدى المهاجرين منها، لتلحق بهم هوية أخرى تتصل ببيئة الصحراء ونمط البداوة وقيمها. بحيث ان الفرد العربي، لا يعرف الفصل أو التمييز بين أصوله اليمنية [قبائليا واثنولوجيا] وعقليته البدوية- الصحراوية.
ان الصراع الحقيقي وجذوره الأكثر قدما، بحسب تشخيص ابن خلدون للصراع -بين الحضارة والبداوة-، تكمن هناك على أبواب اليمن، التي تشغلها دولة (السعودية) اليوم، وآثاره مستمرّة، سواء في صورة النزاعات العسكرية على الحدود أو التدخل في شؤون اليمن أو مظاهر الحرب الباردة بينهما بوجوه عدة.
تثبيت نقطة الخلاف هذه ضرورية لفهم وتفكيك مضامين وأبعاد الثقافة البدوية / القبلية التي تأصلت بدين الاسلام في القرن السابع، وعادت للابتعاث مجددا في القرن الثامن عشر من خلال الوهابية، والتي يجري تعميمها وتسويدها اقليميا وعالميا –منذ سبعينيات القرن الفائت- كنسخة دينية وحيدة للاسلام وهوية ثقافية فضلى لـ"خير أمة أخرجت للناس"!.
تبتدئ السيرة النبوية بإرسال الطفل للبادية لتعليمه القيم الأصيلة والفروسية وفن الصيد. هذه الاضافة التي تبدو عفوية، وظيفتها تبيان أفضلية البادية على الحضر، والتي ستتحول إلى مبدأ أساس ومنهاج عمل للصالحين. هكذا يبدأ التجذير والتأصيل والأدلجة والتقنين والالزام.
إذن.. لابدّ من صحراء..!
توصف أراضي شبه جزيرة العرابيا بأنها (الصحراء العربية الكبرى)، ويجري مدّ حدودها بدء من المياه المحيطة من جهات ثلاثة حتى أطراف الأردن وسوريا والعراق. فتتحول الجغرافيا قدرا حتميا يحكم المشرق العربي كلّه، من الجنوب نحو الشمال – وليس العكس، من جهة التبعية-. وباعتبار البيئة الجغرافية عاملا رئيسا في صياغة الشخصية الاجتماعية، فأن سكان هاته البلدان هم جزء من الهوية الثقفية الصحراوية، بحسب الحتمية الجغرافية [Geographic Determinism].
إضافة للصحراء، تستخدم الأدبيات العربية لفظ (البادية) وهي أفضل من الصحراء بنسبة نزول المطر وكونها مناطق صالحة للرعي، فهي منطقة وسطية بين الصحراء الرملية القاحلة والمنطقة الحضرية. لكن الأكثر شيوعا، استخدام لفظ (نجد) للمناطق المرتفعة من الأرض (الهضاب)، ولفظ (تهامة) للأراضي المنخفضة (السهول). ومنها : نجد اليمن ونجد الحجاز، التي تفصلها عن تهامة اليمن وتهامة الحجاز سلسلة جبال السروات. وفي القسم الشمالي منها دعيت بالحجاز، لأنها تحجز بين مرتفعات نجد وسهول تهامة.
تعتبر الجغرافيا من العلوم الوصفية وتعني (وصف سطح الأرض)، والثقافة العربية عموما ثقافة وصفية، يشكل (وصف الظاهر) كيانا رئيسا في مختلف قطاعاتها لغة ودينا وسياسة وعادات وتقاليد وأدبا. الوصف يؤكد على الظاهر والشكل والسطحي والملموس من الشيء أو الشخص، دون اعتبار للمعنى أو الغرض منه. ويجري استخدام (الصفات الظاهرية) في عمليات تقييم الأشياء والأشخاص ايجابا أم سلبا، رغم ما يعتور ذلك من مخالفة للحقيقة أو جرح للموضوع. لكن الأمر لا يقتصر على ذلك، فثمة خاصة نفسية اجتماعية أخرى تلتصق بالتعبير العربي، هي خاصة المبالغة والمغالاة. وباقتران (الوصف) بخاصة (المبالغة) تزداد حدّة الهجاء أو المديح أو الفخر أو الغزل، إلى حدود تتجاوز المنطق والواقع.
دراسة هذه الثيمة في طريقة التعبير والمعاملة، تترجم حجم العنف اللغوي الذي يسم المعاملات والسلوك الاجتماعي اليومي. فلا غرابة أن توصف الثقافة العربية بأنها ثقافة هجائية، أيديولوجية هجومية تتجه للآخر باستمرار، حتى في حالاتها العادية وعندما يفترض أنها محايدة. لكن - الذات- مستثناة دائما، وخارج دائرة الخطاب والقصد والمعنى. فالمتحدث يتناول الآخر ويعنيه، ويستثني نفسه.
وفق هذه الخلفية الأيديولوجية يمكن فهم الأبعاد النفسية للفظة (نجد) دالة الارتفاع والكبرياء والخيلاء والكرامة والاتجاه للأعلى والسماوي، مقابل استخدام لفظة (تهامة) دالة الانخفاض والضعة والانحطاط والدونية والاتجاه للأسفل. معنى (تهامة) لا يعني مستوى أقل في مقياس الطول أو العلو، وانما الانحدار المستمرّ نحو البحر، فهو (منطقة انتقالية) يستمر في الانحدار إلى أعماق المياه التي لا تدرك. وبنفس المعنى، يستمر الارتفاع (في معنى النجد) إلى ما لا نهاية من الناحية القصدية.
ينية لفظة (تهامة) من الثلاثي [ت هـ م] إحالة مباشرة على جملة سلبية في اللفظ والمعني [تهمة، اتهام، متهم]. وتهامة مصدر خماسي مزيد غير مستقر، يتيح للمتحدث التصرف به كما يشاء، وفتح حدود المبلغة واتهام المقابل بلا حدود، كما يظهر من الاستخدامات الشعرية..
عروض تدلت من تهامة أهديت.. لنجدٍ، فتاح البرقُ نجداً وأتهما (حميد بن ثور الهلالي)
أتوعدُني وأنت ببطنِ نجدٍ.. فلا نجداً أخاف ولا تهاما (بلعاء بن قيس الكناني)
فإن تتهموا أنجد خلافا عليكمو.. وإن تمعنوا مستحقبي الحربِ أعرق
مقابل الدالة السلبية لتهامة الساحلية، تنعكس الدالة في لفظة (نجد) من النجدة والعون والمساعدة والاحياء. ومن لا يحتاج للنجدة والعون والحياة. بالإضافة لذلك، توصف منطقة (نجد) بكلمة أخرى هي (اليمامة) نوع من الطيور ( (doveوهي دالة للارتفاع والصعود نحو السماء.
الاعتزاز بالذات والموطن ظاهرة طبيعية قيمة، لكنها إذ تتجاوز حدود المعقول، وتأخذ بعدا جارحا، فثمة شيء غير طبيعي، يقتضي الدراسة والمعالجة. والقيم عموما، مشاعية حرّة، لا فضل لأحد فيها على آخر، إلا في خدمتها للانسانية وحركة التقدم الايجابي. وما زال المجتمع البشري، على مدى تاريخه وتنوع تجاربه الدينية والعسكرية والسياسية عاجزا عن تجسيد قيم المؤاخاة والمساواة والعدل الاجتماعي والتسامح المترددة في خطاباته على استحياء. والمستقبل لا يعود للخلف، ولا يحتمل مزيدا من ألم وجراح.
ان الاختلاف.. سواء في الطبيعة أو البشر، في المظاهر أو الدخائل، الأفكار أو المسالك، هو مسألة طبيعية وسليمة، وعنصر غنى وتكامل ونمو، ولا يجوز فهمها بغير هذا الاتجاه، أو التعامل معها باتجاه سلبي.
وإذا كان البعض يعتبر النص الديني من القداسة، بحيث لا يسمح بما يخالفها، فأن النص الانساني، ممثلا بكيان الانسان، هو أكثر قداسة على الأرض، ولا يقبل أي نص يتعارض مع صالحه. لأنه بدون الانسان، لا قيمة لكلّ ما سواه. الانسان هو سيد الحياة، ومختبر القيم والأفكار والتجارب. والقيمة الحقيقية لكل فكرة أو اعتقاد أو جماعة، مشرطة بخدمة الانسان، والحياة والمحبة غير المشروطة.




القسم الثالث: في علم اجتماع القبيلة..

[21]
قبـيلـة.. قوم..

لدراسة مجتمعات جنوب غربي أسيا، لابدّ من الوقوف أمام وفرة المكونات القبليّة في كل مجتمع، وضعف نسبة التجانس الجنسي والثقافي بين القبائل من جهة، وداخل القبيلة من جهة ثانية.

(القبيلة) هي المجتمع الأكبر لأهل البادية، وعلى رغم أن المصطلح، اندثر في كثير من المجتمعات المعاصرة، سواء في الغرب أو الشرق، فقد قام علماء الأنسا،ب بترتيب قبائل العرب، ترتيبًا تنازليًا باختلاف طفيف بينهم سمّوه بـطبقات النسب، كالآتي:
• الشعب: مثل عدنان وقحطان.
• القبيلة : مثل ربيعة ومضر.
• العمارة: مثل العمارة قريش والقبيلة كنانة.
• البطن: مثل بني عبد مناف
• الفخذ: مثل بني هاشم
• العشيرة: مثل بني عبدالمطلب.
• الفصيلة: مثل بني أبي طالب وبني العباس.
ويمكن إضافة طبقتين صغيرتين على طبقات النسب وهما:
• الخامس: وهو الجدّ الخامس أو الجدّ المشهور الذي تعرف به الأسرة.
• الأسرة: وهي أصغر طبقة في النسب.

ورغم أن علماء الأنساب العرب، يتفقون على ما تقدم من ترتيب طبقات النسب، إلا أن حركات هجرة القبائل، -سواء أكانت طوعًا أو كرهًا-، جعلت هذا الترتيب غير مستقر، إذ ذابت البطون والأفخاذ، وقلما استخدمت مصطلحات العمارة والفصيلة، وصارت وحدة (العشيرة) أكثرها شيوعًا، بل صارت تستخدم، لتغطي معنى القبيلة أحيانًا، بعد أن أصبح هناك خلط شديد، بين البطن والفخذ.
عاشت القبائل في حروب متصلة، ما أن تنتهي من واحدة، حتى تبدأ حربًا أخرى. وكان القانون الوحيد الذي يخضع له، جميع أفراد القبيلة هو قانون الأخذ بالثأر. وكانت الحروب تنشب لأسباب تافهة؛ فقد تسببها إهانة، أو سوء فهم بين شخصين من قبيلتين مختلفتين، أو خلاف على المرعى أو حول امرأة أو طفل؛ فتشتبك العشائر، وينضم بعضها إلى بعض، فتنتشر الحرب بين قبائل كثيرة، وتحدث بينهم مقتلة عظيمة.
ويبدو أن ميل القبائل/ البدو لتطبيع حالة الحروب فيما بينها، تشبه ما يعرف اليوم بـ(مناورات عسكرية)، لكن مناورات القبائل، ليست –مسرحية- ولا تجري بالسلاح الخلب، وإنما هي (معارك حقيقية)، تضع كل فرد في القبيلة/ الشعب، في مغامرة الدفاع عن النفس ومواجهة الموت.
وفضلا عن عناصر الخبرة العسكرية، والتوفر الدائم على اللياقة البدنية والقتالية، فان تلك المعارك، تتولى إضافة حيل فنية وتكتيكات ستراتيجية، وخبرة شحذ الإمكانيات، وأهم منه أيضا، التخلص من الأفراد الأدنى أهلية ولياقة بدانية، في القتال والدفاع عن حياض القبيلة، حسب قانون الانتخاب الطبيعي.
فالحرب القبلية، بمثابة رياضية بدنية دامية، تضمن البقاء للأقوى والأفضل، وتخلص الجماعة من المرضى والضعفاء، ممن يرهقون القبيلة التكافلية، بتكاليف حمايتهم ومعيشتهم، بدل تدعيم إمكانياتها.
ولأنهم كانوا يتحاربون نهارًا، ويتوقفون عن القتال ليلا، ثم يعاودون القتال صباحًا، دعوا وقائعهم وحروبهم (أيامًا)، ذكر منها الميداني في مجمع الأمثال (1322 ) يومًا، ومن أشهر هذه الأيام:
يوم ذي قار: وكان بين بكر والفرس.
حرب البسوس: بين قبيلتي بكر وتغلب.
حرب الفجار: بين قبيلتي كنانة وقيس عيلان وقد شارك فيها الرسول.
داحس والغبراء: بين قبيلتي عبس وذبيان.

ومن علماء العرابيا من يرى: أن هناك تجمعات، أكبر حجماً من القبيلة، يطلق عليها (شعوب). هي فوق (القبائل)، ومثاله: بنو قحطان، وبنو عدنان، فكل منهما شعب. وما دونهما قبائل. فالشعب أكبر من القبيلة، وهو أبو القبائل التي تنتسب إليه، أي يجمعها ويضمها. والبعض يرى أن (الشعوب) صفة للعجم. فهي عندهم مثل (القبائل) للعرب، وقيل لمن يتعصب للعجم: (شعوبي).
وربما استندوا في ذلك لنص القرآن: [وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا]. فقدم (شعوب) على (قبائل)، بمعنى إن (الشعب أكبر من القبيلة)، وان (الشعوب الجمّاع) و(القبائل البطون)، أو (الشعوب الجمهور) و(القبائل الأفخاذ)، أو (الشعوب: النسب البعيد)، و(القبائل: دون ذلك).
وبهذا يكون (القرآن) قد أدخل مفهوما سوسيوسياسيا جديدا في الحياة والفكر العربي، مؤسسا لمفهوم الانتماء والمركزية الوطنية أو القومية/ الإسلامية. وهي اليوم تعني جنساً من أجناس البشر له خصائصه ومميزاته، كالشعب العربي والشعب اليوناني والشعب التركي. أو جزاً مستقلا من أمة واحدة، كالقول: شعب عراقي، شعب سوري، شعب مصري؛ أي وحدة بشرية جغرافية ذات كيان سياسي.
يذكر أن كلمة (شعب) كانت معروفة في الثقافة اليمنية/ (العربية الجنوبية)، كما وردت في نصوص المسند، بمعنى (قبيلة)، وتكتب (شعبن). وحرف النون في آخر الأسم هو (أداة التعريف/ أل في العربية) في لغة اليمن. والجمع منها (اشعب)= (شعوب). ورد في النصوص: [سباواشعبهمو= سبأ وشعوبهم]، أو: (سبأ وقبائلهم) بالتعبير العربي.
ويبدو إن أهل مكة، وقفوا على هذه اللفظة فاستخدموها، وان قبائل حجازية مجاورة لمكة، كانت تستعمل لفظة [شعب، الشعب= قبيلة]. لكن ورودهما معاً في القرآن، دفع العلماء للتمييز بينهما.
وزاد بعض العلماء (الجذم) قبل (الشعب)، وبعد (الفصيلة) (العشيرة). ومنهم من زاد بعد العشيرة (الأسرة)، ثم (العترة).
صار ترتيبها كالتالي: جذم، ثم جمهور، ثم شعب، ثم قبيلة، ثم عمارة، ثم بطن، ثم فخذ، ثم عشيرة، ثم فصيلة، ثم رهط، ثم أسرة، ثم عترة، ثم ذرية. وزاد غيرهم في أثنائها ثلاثة هي: بيت، وحيّ، وجماع. وبحسب علماء اللغة، (الجذم): الأصل في كل شيء. فيقال: جذم القوم أهلهم وعشيرتهم. ومنه حديث حاطب، لم يكن رجل من قريش إلا له جذم بمكة.
وذكر بعض العلماء إن العمارة الحيّ العظيم يقوم بنفسه. وان الفرق بين الحيّ والقبيلة هو إن الحيّ لا يقال فيه بنو فلان نحو قريش و ثقيف ومعدّ وجذام. والقبائل يقال فيها بنو فلان مثل بني نعيم وبني سلول. وذكر أيضاً إن العمارة: الحيّ العظيم الذي يقوم بنفسه، ينفرد بظعنها و إقامتها و نجعتها. وقيل هو اصغر من القبيلة. وفي الحديث: انه كتب لعمائر كلب وأحلافها كتاباً. قال التغلبي:
لكل اناس من معـدّ عـمـارة ..... عروضٌ، إليها يلجأون، وجانبُ
وقد قسم النويري النظام القبلي عند العرب إلى عشر طبقات. وهي..
الجذم: وهو الأصل: (قحطان وعدنان): الطبقة الأولى.
الجماهير: الطبقة الثانية.
الشعوب: الطبقة الثالثة:.
القبيلة: الطبقة الرابعة، وجمعها: (عمائر).
العمائر: الطبقة الخامسة، وجمعها (بطون).
البطون: الطبقة السادسة، وجمعها (أفخاذ).
الأفخاذ: الطبقة السابعة، وجمعها (عشائر).
العشائر: الطبقة الثامنة، واحدها عشيرة، وهم الذين يتعاقلون إلى أربعة آباء.
الفصائل: الطبقة التاسعة، وهم أهل بيت الرجل وخاصته.
الرهط: الطبقة العاشرة، وهم الرجل و أسرته.

ويرى جواد علي في اختلاف تسلسل التصنيف فيما بينهم، دليلا على أنه..
لم يكن تقسيماً ثابتاً.
لم يكن تقسيماً جاهلياً بل كان تقسيماً محدثا محلياً اختلف بين قبيلة وأخرى.
لو كان عند الجاهليين تقسيم واحد لأجزاء القبيلة فما كان من المعقول إن يقع علماء النسب واللغة لاحقا في تباين واختلاف، ولوجب اتفاقهم في الترتيب وفي العدد.
التقاسيم المذكورة إذن، هي من وضع وترتيب وجمع علماء النسب واللغة في عهد متأخر في الإسلام.

كل من فكرة التوزع القبائلي، وفكرة الجهوزية القتالية الدائمة، لم تخضع للدرس والتحليل والمعالجة الفكرية في علم الاجتماع السياسي والفلسفة الاجتماعية، وقد غابت عن أوساط المستشرقين والمنظرين العروبيين، غيابها عن هادي العلوي [1934- 1998م] الذي أبدى اهتماما ملحوظا بالثقافة الشفاهية واللقاحية البدوية، ولكن من منظور ضيق وأيديولوجيا إسقاطية، حرمته من التوسع في دراسة ميدانية للمجتمع القبلي.
فالدافع وراء التوزع القبلي، هو تقسيم الجماعة في مجموعات بشرية صغيرة، بسبب محدودية أسباب المعيشة، من أرض وماء ومواد غذائية، فكل مجموعة صغيرة تتكفل بأمنها وغذائها وتأمين احتياجاتها ذاتيا. والجماعات هذه ذات المرجعية اللقاحية/ الأناركية، ترفض أمرين: [السلطة والخضوع]. مما تطلب منها التصدي لكل محاولة غزو خارجي، حتى لو كان من جماعة قبلية مجاورة، أو أخوان داخل أسرة واحدة. ولمنع هذا الأمر من التحقق، لابد لكل فرد التصدي له.
وقد فسّر ابن خلدون الحالة القبلية بالعصبية القبلية، وربطها بالعنف العسكري والقوة البدنية، وهو ما أحسبه نقلا عن اللاتين المجاور لهم ولثقافتهم، ولنظرتهم للعرب أيامئذ. ولا أدري لماذا لم يفطن ابن خلدون للمجتمع القبلي الامازيغي، الذي لا يختلفون في شيء عن طرز القبائلية العربية الأسيوية.
لقد نسب ابن خلدون القوة الإسلامية الدينمية الخارقة يومها، على العسكرية القبائلية، ونسب الايمان العقائدي إلى فكرة العصبية القبلية، فأفرغ الإسلام من عنصريه الحيويين. وهو بالطبع لا يأخذ بالأصل الديني، ويتبع البراغماتية المادية والمكافيللية الرومانية، في تفسير الظواهر الاجتماعية والسياسية، مما غاب عن الدكتور علي الوردي أكثر من عنى بدراسة ابن خلدون من المعاصرين، فوصفه بالميكافيللية أكثر من ميكافيللي نفسه.
الأمر الآخر الذي فات ابن خلدون الافادة منه، هو طبيعة النظم السياسية المتعارفة في غربئذ، وهما النظام الأثيني الدمقراطي، والنظام السبارطي العسكري. واعتمدت أنظمة روما وبيزنطه الأساس السبارطي العسكري ملقحا بدمقراطية أثينا بالدرجة الثانية.
والنظام السبارطي العسكري كان هو مثال الحركة الإسلامية الحجازية، كما هو دأب النظام القبلي الصحراوي في حماية نفسه وتأمين حاجاته. لأن القبلية مهما بلغت من العنف العسكري، لم تسع للتوسع والسيطرة ومصادرة الراضي وتجارة العبيد والمواشي. وهو أمر ينبغي ذكره، لفهم الظاهرة القبلية، دون حكم مسبق بالإدانة المجانية عليها. والواقع ان جواد علي العروبي، لا يخفي استياءه وسخريته الضمنية أحيانا، في كتابه المعروف، وهو أمر ينافي العلمية الأكادمية طبعا. وقد فوّت علينا بذلك، جهدا، كان سيدعم كتابه من جهة، ويخدم أبناء العرب من جهة أخرى.
وما يؤكد عناية القبلية باللياقة العسكرية من خلال مناورات حية، تفاهة أسباب القتال. وهذا يعني عدم وجود أسباب حقيقية أو أحقاد تاريخية أو صراعات سياسية متوارثة. والقبائل المتقاتلة، كانت تتحالف أيضا في حرب ضد جماعة اخرى. بل تخرج من تحالف إلى تحالف مضاد للأول. وهذا لا يمنع تأكيد سطحية الوعي السياسي والاجتماعي في قبيلة تحدّها الصحراء والبيئة الجافة والسماء الخرساء من كل الجهات. وفيما يذكر التاريخ ظهور شخصيات سريانية وعبرانية ذات بعد ثقافي ديني أو أبدي، فلم يظهر قبل الإسلام زعيم سياسي أو عسكري، يشار له بالبنان. وهذا يفند كل المغالاة في تصوير العنف العسكري والاحتراب الدائم داخل الجماعة العربية، القبلية وغير القبلية.
فكما نؤشر وجود سوء مقصود في تدبيج التاريخ الإسلامي، ثمة سوء أخطر منه، في تدوين تاريخ العرب والقبائل، وبشكل ينسب لها من المساوئ، كما لو كانت وحيدة زمانها. والحق، ان القبيلة العربية ببداوتها وسذاجتها، لا تقاس مقارنة بالقبائل الجيرمانية والبلغارية والسلافية والأناضولية والمغولية والأمازيغية/(وصفهم الرومان بالبربر)، ومنهم ابن خلدون التونسي. تلك القبائل دخلت في خدمة الإمبراطورية الرومانية لتأمين احتياجاتها المعيشية أولا، والقومية ثانية. وهو أمر عفت عنه القبلية العربية نفسا، فقبلت بشظف العيش، وسكنى الصحراء، ورفضت الخضوع لسلطة سياسية أو دينية، فاعتبرناها قاصرة الوعي السياسي.
وقد التقيت بجماعة من غجر أوربا الرحالة طيلة العام بين الشرق والغرب، وسألتهم عن سبب عدم توطنهم في مكان محدد، يلبي احتياجاتهم ويؤمن لهم الاستقرار، وهو ما يسعى الاتحاد الأوربي لإقناعهم أو إجبارهم عليه. فقالوا ان فكرة التوطن والاستقرار مرفوضة مبدئيا في ثقافتهم، وهم يفضلون البساطة والتنقل، على الاستقرار الذي سيجردهم من أهم ما لهم: (الحرية التامة)!.
والعربي البدوي القبلي في الأصل، هو مفطور على الحرية التامة. الاستقرار يترتب عليه نظام وإدارة وسلطة وقانون وتجنيد وخضوع للسياسات والقوانين والتعرض للغزو والاحتلال والعبودية، الدائرة محاورها على طول تاريخ المدنية والحضارة والثقافة، دون ملاحظة تبعاتها المقيتة وثمارها المرّة.
ولهذا، كان لابد من إعادة نظر في منظومات البداوة والقبيلة، بروح علمية إنسانية، ودون أحكام استشراقية حداثية مسبقة. وأخيرا، نعرف أن القبائل التي استوطنت في العراق أو الشام وغيرهما، فقدت كثيرا من قيمها واعتباراتها، وتحولت إلى مؤسسات إقطاعية استغلالية فاسدة، بسبب فقدانها (الحرية) والطلاقة التي كانت تعيشها في صحاراها.
لقد تعرضت للترويض والتدجين، ففسدت وخسرت لياقتها البدنية والروحية، وتحولت إلى عبء على غالدولة والمجتمع، وعنصر تعويق لحركته وتطوره. وهو المنظور الذي استخدمه البعض لتقييم البداوة والقبائلية الصحراوية، فأخطأوا، وأساءوا للجميع.

يبقى أن أصغر وحدة من وحدات القبيلة هي: (الأسرة)= (البيت)، فهي نواة القبيلة و بذرتها وجرثومتها، ومن نموها ظهرت شجرة (القبيلة) التي تختلف حجمها وتختلف كثرة أغصانها وفروعها باختلاف منبت الشجرة والظروف والعوامل التي أثرت في تكوينها. من بذرة جيدة ومن تربة صالحة وماء كاف. و(البيت) هو نواة (القبيلة) عند العرب، بل هو نواة المجتمع في كل مجتمع إنساني.

وقد ذهب الباحثون الأوائل إلى أن القبيلة الجنوبغربأسيوية، ليست بناء هرميا عائليا، ولا تجمع بينها صلة الدم حسب المنظور الاجتماعي لدراسات (الاستشراق)، لمفهوم القبيلة في التوراة، أو قبائل المغول التي اندفعت غربا، في التاريخ الوسيط.
حاول الاستشراق ترسيم خريطة اجتماعية، بحسب أبجديات التوراة، بتصنيف سكان جنوبغربي أسيا إلى [ساميين وحاميين]، أو بني [اسماعيلية وعيسوية] مقابل أولاد يعقوب وأسباطهم الأثني عشر.
ولكن خريطة أسباط اسماعيل الاثني عشر، أو أسباط عيسو، لم تستطع احتواء التعددية والوفرة القبلية، لغير العبرانيين في جنوب غرب أسيا/ بلاد العرابيا. وسوف نجد إلى جانب أولئك: [الهاجرية والقطورية والقيدارية]، مما وردت في خرائط سفر التكوين التوراتي، التي تمثل أقدم التسجيلات الأثنية لسكان المنطقة.
علما أن التوراة وأسفار التاناك الأخرى، تشير إلى الجماعات الجنوبغرب أسيوية بمسميات متعددة ومختلفة، مما قد يكون مسميات جغرافية وبلدانية، لمناطق السكن أو التواجد، أو يكون أسماء زعماء تلك المناطق ومشاهيرهم، وليس تسمية عرقية أو قبلية بالضرورة.
وقد بذل النسابة العرب والمسلمون، جهودا جبارة لتجميع السكان وتصنيفهم، تحت عناوين وأطر اجتماعية اثنوغرافية مختلفة، سعيا لتقريب سكان شبه الجزيرة من بعضهم وربطهم بعنوان رئيسي، مما جعل الدكتور جواد علي، يصف جهودهم تلك، بأنها [محاولة مبكرة لتكوين فكرة القومية].

ولكن تلك الجهود القديمة والمعاصرة، بقيت تصطدم بإشكاليتين رئيستين..
الدراسات الانثروبولوجية للخصائص الجسمانية والثقافية والنفسية التي تؤكد وجود مؤثرات سكانية خارجية رئيسة، من الجنس الأفريقي والجنس الهندي بين سكان العرابيا.
سيادة الخلافات والصراعات القبلية والاجتماعية بين سكان العرابيا عبر الزمن، مدعمة بقيم وتقاليد وأحكام اجتماعية ودينية ترسخ الفرقة والتنافر والتباغض، مما يؤكد اختلافات عرقية غير ودية قديمة استمرت في التأثير على الجوّ الاجتماعي لتلك المجتمعات، التي تعيش حالة دائمة من التوتر والتحفز، لانفجارات عنفية ضد بعضها البعض.
ولا يمكن تفسير عدم تراجع الاختلافات العرقية والثقافية وما يتبعها من خلافات وصراعات عنيفة أمام تقدم عجلة الزمن وصيرورة التداخل والتلاقح والتصاهر الاجتماعي، الحري بتذويب الفوارق وتقريب السكان. بل أن المتغيرات السياسية والعسكرية العنيفة في المنطقة، ممثلة بالتحديات والغزوات الخارجية من جهة، وظهور حركة التوحيد الديني، لم تقرب السكان من مفاهيم وحدة المصير والمصالح المشتركة وتبني عقد اجتماعي او خطاب/ هوية ثقافية سياسية، في مواجهة القوميات الفارسية والتركية واليونانية والرومانية.
وقد رأى الدكتور جواد علي، أن ظهور الإسلام زاد من وتيرة الخلافات والصراعات، ووفر ظروفا وأسبابا دسمة، لمزيد من التشظي والعنف الداخلي. وهنا يرد السؤال عن جدوى ومغزى المبادئ، والأغراض القرآنية الأساسية على أرض الواقع:
فكرة التوحيد.
لسان عربي مبين.
كنتم خير أمة.




[22]
أمّة أمّية..

"هو الذي بعث في الأميّين رسولا منهم، يتلو عليهم آياته ويزكّيهم ويعلّمهم الكتاب والحكمة، وان كانوا من قبل لفي ضلال مبين"- الجمعة 2
"اقرأ كتابك، كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا"- الإسراء 14
"أنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون"- يوسف 2
[ينسب أهل الأخبار نشوء العربية، إلى يعرب بن قحطان بن عابر، أعرب في لسانه، فقيل للسانه (العربية)]- جواد علي
[اصبح الناس جميعا في زماننا هذا، -عالمهم وجاهلهم- في حكم الصّبيان، الذين يتعلمون القرآن، ما عدا نفر ممن أكرمهم الله بفهمه]!- ابن الخطيب

طرز حياة سكان العرابيا كانت محدودة في ثلاث مجالات..
مقتضيات المعيشة، ممارسات الفروسية، الحياة الثقافية.
ولم يعرف بينهم الميل للإسراف أو التعلق، فإذا رغبوا زهدوا، وإذا مالوا لم يستعبدوا أنفسهم لشيء.
ومن ذلكم، كانت عنايتهم بالثقافة والمعرفة، محددة في نطاق الحكمة ودروس الحياة، أو خبرة الحرب والمعيشة، مما يلزم إجادته لأغراض عملية. ونظام الثقافة بينهم مشافهة، يعول على الذاكرة، ومكنة التعبير وحذق اللغة. فكانت مجالات الثقافة، فرصا للمنافسة والمنابزة، والتسلية وإظهار المواهب الخاصة.
ولا خلاف.. في نبوغ العرب في مجالات اللغة وأساليب التعبير، وفي تعارفهم على مستوى عام (ستاندارد) من ثقافة معلوماتية عامة، من باب الضرورات واللوازم، والكثير منهم يجيد نظم الشعر وأوليات الخطابة، ولكن الشعراء والخطباء بينهم، رغما عنه، معدودون متمايزون. فلكل قبيلة ولكل غرض شعراءه المبرزون، ولكل شاعر وباب جمهوره وحفظته ورواته.
مبدأ الشفاهية، أتى على حساب أمرين حضاريين مائزين: التدوين والكتاب، وإجادة القراءة والكتابة.
واليوم، بعد حوالي عشرين قرنا، نحاول تقييم أسلافنا بحسب اعتبارات راهنية، تعارفناها خلال القرن الأخير، ليس إلا. فننظر لهم بحسب الراهن، بازدراء ونقيصة. وننسى، أن الأميّة الحرفية، ما زالت تفترس نصف سكان مجتمعاتنا، رغم مجانية التعليم والمدارس، منذ حوالي نصف القرن. بينما تفوق الأمية الثقافية، لما يزيد عن ثلثي المجتمعات.
فإذا كان أسلافنا قبل الإسلام، لم تعوزهم الكتابة والقراءة، فأن مستوى معارفهم الشفاهية العامة، كان يفضل كثيرين من أبناء اليوم، بكثير. وإذا كان حكماء الماضي وعلماءهم وكهانهم، يتولون نقل المعارف والأفكار، وأدوات المعرفية من بلد لبلد، ويتولون مهمات التنوير والتعليم والتثقيف والتربية؛ فأن مثقفي اليوم وعلماءه وكهنته وتراجمه، لا يكادون يجالسون العامة، أو ينفعونهم لله بالله، لا يثاقفون أحدا، ولا يتثاقفون فيما بينهم، فساهموا في توسيع رقعة الجهل والتجهيل، ونظروا لغيرهم بزراية واستكبار.
هاته النظرة الإستشراقية المريضة، وجدت ضالتها في (النص القرآني) وممارسة إسقاط حضاري، أنتج تفاسير وتأويلا مشوّهة للفظة (أمّي)/ (أمّيين). وكلاهما ذات دلالات مستجدة معاصرة، غير ذات جذور، جعلت مقابلا للتعبير الغربي (illiterate)، وهي بالتعبير الشعبي العثماني: (لا يفكّ الحرف = لا يقرّأ ولا يكتب).
بينما النص القرآني يحيل على نصوص دينية سابقة، ويستعير ألفاظا متداولة من اللغات الآرامية والسريانية والعبرانية، فضلا عن لغات أخرى، وهو حال كثير من المعجم القرآني. ولفظة (أمّي) القرآنية تقابل لفظة (عِمّي) الآرامية في التوراة ومعناها (شعب)، وقد فسّرها السّريان بمعنى (أمم) في إشارة للناس من غير (اليهود).
ويبدو أن أجيال لاحقة من تلاميذ الخطّائين، استنبطوا من ذلكم تجليات أخرى، تحصر الثقافة والمعرفة عموما في (أهل الكتاب) وليس العرفان الديني فحسب. فقيل أن (بصرى وفدك والطائف ويثرب وخيبر) وأمثالها* ذات الأغلبية العبرانية في سكانها، أرفع ثقافة وتمدنا من العرب عموما، في بلاد الحجاز وما يليها.
وكلّ ذلك لا يخرج عن مرامي مشروع الإستشراق الذي أسّس لانحطاط النظرة للعرب والمسلمين عموما. فتداول جيل البعثات والأكادميون الأوائل تلك المنتجات الكولونيالية غير البريئة، لينشروها في بلدانهم الأم، ويبتنوا مشروع الحداثة المعاصرة، والتحديث العربي العصري، على أساس الحطّ من تاريخنا وتراثنا تارة، والزراية بأنفسنا ومجتمعاتنا تارة أخرى.
ولذلك ولد المثقف والحداثي العربي، منعزلا عن واقعه ومجتمعه من جهة، مغتربا وعاجزا عن ممارسة التنوير والتثقيف العضوي، من جهة أخرى. وكما نظر للعامة بعين الزراية والترفع، نظر إليه العامة بعين الاحتقار والغرور الأجوف. فخسر الأثنان مسرحية القرن العشرين ولعبة الحداثة.
خسرت الأمة العربية طاقاتها البشرية، التي عوّلت على عقولها لقيادة المجتمع ونهضته بالاعتماد على الذات، وخسر رواد الاكاديما والحداثة، شرف النهوض بمجتمعاتهم وبلدانهم، كما نجح المفكرون الغربيون في نهضة أوربا وتحديثها من غبار الحقبة المظلمة.
أما دخول الكتابة في بلاد الحجاز، كما توردها مصادر التراث؛ فقد ذكر أبو المنذر هشام بن محمد بن السائب الكلبي*/ [المتوفي سنة 204هـ/ 820م]: أن (بشر بن عبد الملك)، أخا أكيدَر صاحب (دومة الجندل) – شمالي يثرب تجاه العراق والشام-، تعلم الكتابة من أهل الأنبار.
ثم قدم مكة، فتزوج الصهباء بنت حرب بن أميّة، أخت أبي سفيان: صخر بن حرب بن أميّة. فعلّمها لـ (حرب بن أمية) وابنه ، كما تعلّمها (عمر ابن الخطاب) من حرب أيضا، وتعلّمها (معاوية) من عمّه سفيان. وقيل أن أول من تعلم الكتابة من أهل الانبار، قوم من طيء، ثم هذّبوها ونشروها في جزيرة العرب.
وهكذا سرت الكتابة بين العرب، على قلة وضعف. ولما كانت الكتابة بين العرب في أول عهدهم بالإسلام، ولم يتموا إتقانها ومعرفة سائر فنونها، وقع في كتابة المصاحف، اختلاف كبير في وضع الكلمات، من حيث صناعة الكتابة ورسمها.
ولما كان العرب في نهاية البلاغة وغاية الفصاحة، كان أروع ما يلفت أنظارها، ويسترعي انتباهها ويهز مشاعرها، كتاب فصيح بليغ، تخلب بلاغته الألباب، وتدهش فصاحته العقول. فأرسل الله محمدا بالقرآن. لقد كان محمد أديبا خطيبا وبليغا. إذا لزمه موقف إلى الأدب، كان أديب الأدباء. أو إلى الخطابة، كان خطيب الخطباء. أو إلى البلاغة، كان ابلغ البلغاء وافصح الفصحاء.
ــــــــــــــ
• نقلا عن: ابن الخطيب: الفرقان- جمع القرآن وتدوينه..(بتصرف!)-
• المنذر هشام ابن محمد ابن السائب الكلبي [المتوفى سنة 204هـ/ 820م] من صدارة المؤلفين العرب، له عدة مصنفات منها: جمهرة النسب، أنساب الخيل، كتاب الأصنام. وهو ابن الراوية محمد ابن السائب الكلبي [المتوفي سنة 146هـ/ 761م].
• أنظر : جعفر هادي حسن، في طروحاته عن يهود العرابيا قبل الاسلام، منها محاضراته المسجلة (يوتيوب) في بيت السلام بلندن، على شبكة النت.



[23]
مزدوجات سوسيوثقافية..
أو: الحرب في اللغة..

[إذا أردت تطبيق ما عندك من علم في (الأثنولوجيا) وفي (الأنتروبولوجي) وفي العلوم المشابهة الأخرى، على التقسيم الثنائي للعرب، فستجد نفسك حائراً تائهاً، لا مجال لقواعد علمك في هذا المكان. فبين القبائل التي تنتمي إلى (قحطان) مثلاً، تباين كبير في الملامح وفي العقلية وفي اللغة، يجعل من غير الممكن تصوّر وجود وحدة دم، تجمع شمل هذه القبائل، وجدّ واحد انحدر من صلبه هؤلاء، وبين القبائل (العدنانية) اختلاف كذلك في الملامح وفي اللغة.]- د. جواد علي

خلافيات الواقع التاريخي ..
راينهارت دوزي [1820- 1883م] يرى وجود فروق أساسية بين القحطانيين والعدنانيين، اختلافات نفسية بين أفراد الجماعتين. فيما رأى بعض الباحثين في علم الأجناس البشرية [Anthropology] إن السكان الجنوبيين هم من أصل حامي*، وان وطنهم الأصلي هو أفريقيا.
بالإشارة إلى وجود شبه كبير في الملامح، وفي الخصائص البشرية، بين السكان الجنوبيين والقبائل الإفريقية الساكنة، على الساحل الإفريقي من البحر الأحمر والصومال.
فيما رأى آخرون أنهم: مزيج واضح المعالم من أجناس وأعراق بشرية متعددة، منذ أقدم أيامها. فترى فيها قبائل تشبه جماعة [الفيديد/ Weddid] الهندية، وهي من السلالات الهندية القديمة، يسكن بعضها في أرض (سيهان) و (معارة) من حضرموت.
كما نرى فيها عناصر مما يطلق عليها اسم [الجنس الشرقي/ Orientalide Rasse]، وهو الجنس الذي يكثر وجوده بين السكان الشماليين*، وعناصر أخرى تمثل إنسان حوض البحر المتوسط/ Mediterranen Rasse] أو الأجناس الأوروبية، وتتراوح نسبة هؤلاء بين [8 - 12%] من المجتمع.
كما يلحظ إن (القحطاني) السّاكن على السواحل الجنوبية، يختلف في سحنته عن (القحطاني) الساكن في المرتفعات والهضاب، والجبال. وان السّاكن على السواحل المقابلة للسواحل الأفريقية يختلف في ملامحه الجسمية، عن السّاكن على السواحل المقابلة للهند.
وان سكان حضرموت أو عُمان أو مسقط، يختلفون في الملامح والسحن، عن إخوانهم القحطانيين الساكنين في اليمن، وفي نجران، والأقسام الجنوبية من السعودية.
وقد وجد الباحثون بين القبائل الجنوبية، جماعات لها ملامح (آشورية)، وجماعات ذات ملامح تشبه، ملامح سكان آسيا الصغرى، وجماعات ذات ملامح (أفريقية). ووجد الدكتور سليمان أحمد حزين، أن بين أهل شمال اليمن، وبين أهل جنوب اليمن إلى المحيط، اختلافات بارزة في الملامح وفي المظاهر الجسمية. كما وجد هذا الاختلاف بارزاً في بقايا الهياكل البشرية القديمة، التي عثر عليها في العاديات.
وما هذه المظاهر والملامح والاختلافات الملحوظة، من الجماجم وبقية الهياكل البشرية، ومن أشكال التماثيل والصور، ومن دراسات الباحثين الأنتروبولوجيين للقبائل الحاضرة، إلا حكاية واضحة صريحة، عن عملية امتزاج أجناس بشرية متعددة في القبائل الجنوبية، بسبب الهجرات والحروب، والاتصال البحري والتجارة وعوامل أخرى.
ونعرف إن الدول القديمة كانت تنقل البشر نقلا، من مناطق إلى مناطق فتزرعهم فيها، وان أكثر أفراد الجيوش التي كانت ترسل لمحاربة القبائل، أو للتوسع في الجزيرة، كانت تبقى وتستقر في المواضع التي ترسل إليها، فتتطبع بطباع من نزلت بينهم، وتكون في النهاية منهم، أضف إلى ذلك، آثار تجارة الرقيق وبقاياها.

قحطان وعدنان..
يرى جواد علي [1907- 1987م]: أن خلافات القبائل المنسوبة إلى عدنان أو قحطان، المقيمة في الأنحاء الشمالية من جزيرة العرب:[بلاد الشام]، لم تكن شديدة قبل الإسلام؛ بمثل تلك الشدّة التي تحدثوا عنها، بين القبائل التي كانت تعيش في اليمن أو في الحجاز.
ويبدو أن تحوّلات موازين القوى ومعادلات النفوذ، زادت من حدّة طبيعة الخصومة بين [يمن (و) مضر] في الإسلام، وسيما –عقب فتح مكة*-؛ وتضطرم أكثر مع تولي أبي بكر وعمر والصراعات المتوالدة مع تحولات النفوذ والقادة، وصولا لتسرّب السلطة للفرس والترك.

يثرب ومكة.. حضارة وبداوة..
يجعل بعض الباحثين من انقسام العرب إلى قحطانيين وعدنانيين سببا وراء نزاع (يثرب) و(مكة) قبل الإسلام، لاختلاف أصولهم السكانية، واختلافاتهم الدينية، وتنافسهم التجاري. فيما يرجعه آخرون إلى التنازع الطبيعي بين (البداوة والحضارة).
فقد كان أهل يثرب/ أهل اليمن: أصحاب حضارة وملك. أما أهل مكة ومن والاهم، فقد كانوا أعراباً أو شبه أعراب. ومن ثم كانت غالبية (العدنانية): قبائل أعرابية، أي قبائل بدوية، أو قبائل غلبت البداوة عليها. فيما كانت غالبية (القحطانية): قبائل مستقرة أو قبائل شبه حاضرة، أي (تنخت/ تنوخ- ومنهم التنوخيون) في أماكن ثابتة ومالت إلى حياة الحضارة.
ومن هنا اختلفت الطبيعة الاجتماعية والنفسية لدى(أهل يثرب) عن الطبيعة الاجتماعية والنفسية لدى (أهل مكة)، فأسفرعن نزاع وتنافس بين الجماعتين، قسمهما إلى نسبين. ومن هنا قيل: الحضر خلاف البدو، والحاضر خلاف البادي، و (أهل الحاضرة) و (أهل البادية). و (الحاضرة)، خلاف (البادية): وهي المدن والقرى والريف. وبعضهم نسب هذا التقسيم، إلى الجاهلية، إما لتبرئة الإسلام منه، أو لمنحه قدميّة تاريخية.
ولما كان الحضر أرقى فكرياً من أهل الوبر، صارت إليهم السيادة في الغالب، فتحكموا في القبائل العدنانية، وملكوا القبائل المعدية. فحكم [المناذرة والغساسنة وآل كندة] وغيرهم من بني (قحطان)، على أبناء القبائل العدنانية.
ولم يحكم العدنانيون القحطانيين قبل الإسلام. وكان بين يثرب ومكة، نزاع شديد قبيل ظهور الإسلام. فكان الإسلام، محاولة لتغيير الموازين والمعادلات السياجتماعية، برفع مكة على سواها، وتسليط العدنانيين وأهل البداوة على القحطانيين وأهل الحضارة، وفرض ثورة ثقافية ترفع قيم البداوة والفطرة وأخلاقياتهما، على قيم العقل والمنطق والعمل والتوطن.

أنصار ومهاجرون..
ولما لجأ قادة الجماعة المحمدية إلى يثرب*- فيما دعي بالهجرة-، اصطلح على أتباعها الذين تبعوه بالمهاجرين. وقد دامت الهجرة إلى عام الفتح: فتح مكة، أي حوالي ثمانية سنوات. وأما أهل يثرب –القحطانيين/ اليمانية- الذين آووا الرسول ونصروه، فقد عرفوا بالأنصار، لانتصارهم للرسول ولتقديم مساعداتهم له.
وقد استند قرار اختيار يثرب مركزا للجوئهم دون سواها، إلى أمرين:
طلب حماية أهل الكتاب: الذين اعتبر المحمّديون أنفسهم، قريبين منهم في البداية/ العهد المكي؛
استغلال الخلاف التاريخي بين يثرب ومكة، وبين أهلها القحطانيين وأهل مكة العدنانين؛
مما يضمن لهم أمرين بالنتيجة:
توافق المصالح تكتيكيا، والاستعداد الطوعي للقتال، تحت أي عنوان.
عدم خذلانه وتسليمه إليهم.
وقد صيّر هذا النزاع التاريخي، لفظة (الأنصار)، علماً خاصاً على أهل المدينة – المدنية/ يثرب-، حتى كادت تكون نسباً، واصطبغت الدعوة بـ(صبغة يمانية). ولفظة (أنصار) مشتقة أساسا من لفظة (نصارى) والتي يعيد القرآن صياغتها تحت عنوان (أنصار عيسى)/(الصف 14). فيكون (أنصار عيسى) هم (أنصار محمد) الذي استعار الكثير من عناصر النصرانية في دعوته.
وقد رافق العقل التكتيكي كلّ مراحل حركة محمد وسياساته، مما يمكن استقراؤه عمليا [موقفه من أبي سفيان مثلا]، وفكريا في تعاليمه ونصوصه القرآنية. وقصة النسخ وأسباب النزول، صورة تكتيكية لتغيير المواقف والأفكار، بحسب معطيات الواقع وموازين القوى، والمرامي الشخصية، والمرجعية المكّية.

يمانية ونزارية..
في العصر الأموي استعملت لفظة (يمانية) في مقابل (نزارية)*.
النزارية: فتشمل كل القبائل العدنانية.
أما اليمانية: استنادا إلى مرجعية قومية سياسية، لا تأخذ بقصة النبوّة وتفاصيلها إجمالا، معتبرين دولتهم في دمشق امتدادا لنفوذهم السابق في مكة وسيادتهم في قريش. ويظهر إنها تغلبت على لفظة الأنصار وقضت عليها. وهي تعني القبائل التي ترجع أنسابها إلى اليمن.
ويرى بعض المستشرقين - استنادا لعلم الآثار- أن الحكم الأموي كان واقعا تاريخيا، ينتفي إزاءه سياسيا، كلّ ما يشمل مناطق الحجاز وبقية مناطق شبه جزيرة العرب، حيث تنعدم أية دلائل مادية تاريخية على ما يوصف بحقبة (الخلفاء الراشدين). ويمكن القول أن -تلك الحقبة- جرى فبركتها، أو المبالغة في حجمها وآثارها، في أيام العباسيين، لتبرير حكمهم، بعودة السلطة/ الدولة لبني هاشم أو بني طالب.
وهو الخلاف المعروف حول أحقية الحكم بين الصحابة وأهل البيت، واعتبار العباس –عم الرسول- من أهله، وأولى في الحق من ابن العم –علي ابن أبي طالب-، أو الصحابة والاتباع وبقية قريش.
وعلى طريقة التدبيج التاريخي والسياسي، كان الرواة يدعمون رواياتهم بشعر منظوم أو حديث نبوي. ويلحظ سعة وتنوع تلك الأشعار والأحاديث والروايات بشكل يغطى كل مساحة الخلاف وأطرافه ومراحله، وبشكل لا يخلو من المنافسة والمنابزة والتحدي –الحرب الكلامية/ الباردة- الملحوظة في المثال بين العدنانيين والقحطانيين.
ومنه ما أورده ابن حجر والترمذي وابن باجه وصححه ابن حبان: [الخلافة بعدي ثلاثون ثم تصير ملكا!]. رغم أن النبي بحسب الإخباريات لم يوصي بشيء لأحد من بعده، لا في الرّياسة ولا الدين ولا الخلافة أو الملك، مما تشعب فيه النزاع السياسي والخلاف الفقهي المستمران حتى يومنا. [انظر: موقف ابن تيمية الطريف في حسم أمر الخلافة والملك والإمامة!]
وابن تيمية [1263- 1328م] يطعن في (بني امية)/ الملوك/ لجعلهم الحكم وراثة في أبنائهم، كما يطعن في (بني العباس)، الذين قلدوا الأمويين في نظام التوريث. كما يلحظ ان (الطالبيين العلويين) و(الجعافرة) الذين عارضوا العباسيين لاحقا، انشقوا عنهم وأسسوا دويلات وفرق دينية، على أساس التوريث العائلي أيضا، بما فيه فكرة الإمامة، المستقاة من أصول توراتية ومسيحية.

كلب وقيس..
وفي أيام معاوية وابنه يزيد، ومروان بن الحكم، نالت قبيلة (كلب) مركزاً سامياً، وذلك لتزوج معاوية امرأة منهم، هي (ميسون بنت بحدَل)، فأصبحت هي والقبائل التي تؤيدها مقربة عند الخلفاء*، مع أن الخلفاء من (قريش)، وقريش من (قيس)*. مما أغضب قيساً المعروفة بعدائها لـ(كلب).
وقد عرفت المعركة التي وقعت في (مرج راهط)، بين مروان وابن الزبير، بأنها معركة: [قيس (و) كلب]. لأن قيساً حاربت فيها عن ابن الزبير، أما كلب، فقاتلت عن مروان. وقد أوجد هذا النزاع، حقداً كبيراً بين قيس وحلفائها من القبائل، وبين كلب وأنصارها من القبائل، التي تزعم نفسها من اليمن.
وقد اسهم الخلفاء الذين جاءوا بعد عبد الملك، - للأسف-، في هذا النزاع، متأثرين بعاطفتهم وبدمهم من الأمهات، فكان يعضهم يؤيد القيسيين إذا كانت أمهم من قيس، وآخرون يؤيدون كلباً، إذا كانت أمهم من اليمن. ووقعت وقائع دموية بين يمن و قيس، أنهكت العرب جميعاً؛ وكانت من جملة العوامل، التي عجلت بسقوط الأمويين.

صحابة وتابعون..
وهو تقسيم اسلامي آخر، معتبرا أن (الصحابي) هو كل من رأى النبي بالجملة، فجمع بين المعاصرة والمعايشة أو الرؤية، ولكنه ميّز منهم أصحابه المقرّبين منه، المرافقين له: رؤساء أركان دعوته، وهؤلاء عددهم (عشرة)، على غرار أصحاب بوذا العشرة أو حواري المسيح الأثني عشر.
أما (التبابعة) فهم أهل الأمصار البعيدة، التي سمعت بالنبي، واشتاقت لرؤته، وامتنع عليها الأمر لبعد الشقة، فهم أصحابه بالدرجة الثانية، وقد حدد التبابعة بأهل اليمن، وفي ذلك أحاديث.

اخوة عدنان وفارس..
ولم يقف هذا النزاع على التباهي بقحطان وعدنان وبالأيام/ (التواريخ) وبالشجعان/ (البطولات والمغازي)، بل تجاوز ذلك إلى التباهي بارتباط كل فريق، بجماعة من الأعاجم، بروابط الدم والنسب والثقافة، فافتخرت النزارية بـ(الفرس) على اليمانية، وعدّوهم من ولد (إسحاق ابن إبراهيم) وجعلوا (إبراهيم): جدّ العرب والفرس.
وذهبوا أبعد منه، فزعموا أن هذا النسب قديم، وأن قرابة الفرس بالعدنانيين قديمة، وأن الفرس كانت في سالف الدهر تقصد إلى البيت الحرام، بالنذور العظام، تعظيماً لإبراهيم الخليل، وانه عندهم أجلّ الهياكل السبعة العظيمة، والبيوت المشرفة في العالم.
وترتب على هذا وضع نسب للفرس، يصلهم بنسب العدنانيين، فزعموا أن (منوشهر) الذي ينتسب إليه الفرس، هو (منشخر بن منشخرباغ)، و (هو يعيش بن ويزك). و (ويزك) هو (اسحاق بن إبراهيم) الخليل.
أما (يعيش بن ويزك) جدّ الفرس الجديد، فهو (عيسو بن اسحق): Esa وفي العبرانية Usu، ومعناها (مشعر) أو (خشن)، وهو شقيق يعقوب، وجدّ الأدوميين في التوراة وابن إسحاق.
وقد رأينا أن (قحطان) هو (يقطن) أو (يقطان) في التوراة. أما (عدنان)، فلا نجد له اسما في جداول التوراة، أو ضمن ذرية سام وابراهيم واسماعيل. فكيف يصار إلى اضافة زعم جديد لا أساس له ولا صلة.

اخوة عدنان والكرد..
ولم يكتف العدنانيون بقرابتهم للفرس و للإسرائيليين، بل زعموا إن الأكراد من أقربائهم كذلك، وانهم من نسل [ربيعة بن نزار بن بكر بن وائل]، أو أنهم من نسل [ربيعة بن نزار بن معد]، أو أنهم من نسل مضر بن نزار، أو من ولد [كرد بن مرد بن صعصعة بن هوازن]، وأنهم انفردوا في قديم الزمان، لوقائع ودماء كانت بينهم وبين غسّان، وأنهم اعتصموا بالجبال، فحادوا عن اللغة العربية، لما جاورهم من الامم، وصارت لغتهم أعجمية، فذلك على رأي أهل الأخبار، بدء نسب الكرد.
وقد لقي هذا النسب الجديد للكرد، تشجيعاً من بعض (الكرد) في أيام العباسيين، وربما في أيام أواخر الدولة الأموية كذلك. فأيّدوه وانقسموا أيضاً فرقاً، في شجرات النسب، فمنهم من أخذ بشجرة كرد بن مرد، ومنهم من أخذ بانتسابهم إلى سبيع بن هوازن، ومنهم من انتسب إلى ربيعة ثم إلى بكر بن وائل.

احتكار ابراهيم والنبوة..
وقد استغل العدنانيون ظهور الرسول بينهم، فاتخذوا من هذا الشرف ذريعة للتفاخر والتباهي على القحطانيين. وتمسك العدنانيون بأذيال إبراهيم وعدّوه جدّهم الخاص بهم، مع إنه جدّ العرب عامة، كما في القرآن، ونفوا كل مشاركة للقحطانيين في هذا النسب. وقد كان لهم ما يساعدهم في تقوية حجتهم، فقد كان الرسول من صلب إسماعيل والرسول منهم، فإبراهيم هو أبو المختص بهم.

فضل قحطان على عدنان..
زعم القحطانيون أن (ياسر ينعم) منهم، وقد ملك بعد [سليمان بن داود]، وسمي (ينعم)، لأنه ردّ الملك إلى حمير بعد ذهابه. وان (الضحاك) ملك من (الأزد) كان في وقت إبراهيم فنصره. وبذلك كانت للقحطانيين منّة قديمة على إبراهيم وعلى العدنانيين بصورة خاصة.
كما أن القحطانيين:
(1) هم الذين كان لهم شرف نصرة النبي وإعلاء كلمة الله،..
(2) هم الذين كوّنوا مادة الجيش الإسلامي،..
(3) هم الذين آووا الرسول،..
(4) فتحوا مكة.

اختصاص اليمانية بالعمران..
وتعلق (اليمانية) بالأبنية الفخمة وبالمدن الكبرى، فجعلوها من أبنية ملوكهم أو من أبنية أسلافهم. وقد ذكر المسعودي [896- 956م]: إن من اليمانية من يرى أن الهرمين اللذين في الجانب الغربي من فُسطاط مصر، هما قبرا (شدّاد بن عاد) وغيرهما من ملوكهم السالفة، الذين غلبوا على بلاد (مصر) في قديم الدهر، وأنهم من العماليق. كما نسبوا لملوكهم الفتوحات الفخمة في الشرق والغرب.

اخوة قحطان واليونان..
وكان من الطبيعي أن يجعل القحطانيون، (أعداء) الفرس من ذوي أرحامهم، وهم اليونان –والترك- فقالوا: إن [يونان أخو لقحطان]، وإنه من ولد عابر بن شالخ، إنه خرج من أرض اليمن، في جماعة من ولده وأهله، ومن انضاف إلى جملته، حتى أقاصي بلاد المغرب فأقام هناك، وانسل في تلك الديار، واستعجم لسانه، ووازى من كان هناك، في اللغة الأعجمية من الافرنجة، فزالت نسبته، وانقطع نسبه، وصار منسياً في ديار اليمن. وقالوا أيضاً إن الاسكندر من (تبع).

اخوة قحطان والترك..
وأضاف القحطانيون الأتراك إليهم أيضاً، فزعموا أن معظم أجناس الترك، وهم (التبت) من حمير، وأن التبع (شمر يرعش) أو تبعاً آخر ربتهم هناك. و أن (شمر يرعش) هو الذي أمر ببناء (سمرقند).

أنبياء قحطان..
ولرد دعوى العدنانيين: من اختصاص إسماعيل وإبراهيم بهم، لم يكتفوا باتصال نسب قحطان بإسماعيل وإبراهيم، فلا بدّ لهم من شرف زائد، ورجحان على العدنانيين، الذين لم يبدأ ملكهم إلا في الإسلام، فاختصوا (هوداً) بهم، وجعلوه نبياً يمانيا.
ثم لم يكتفوا بنبي واحد، زيادة على الأنبياء، الذين اختص بهم العدنانيون، فأضافوا إليهم (صالحاً) النبي وقالوا: إنه من صميم (حمير) وإنه [صالح بن الهميسع بن ذي ماذن نبي حمير من آل ذي رعين].
وأضافوا إليهم (لقمان) الحكيم، زعموا إنه (لقمان الحميري)، وقالوا إنه كان حكيماً، عالماً بعلم الأبدان والأزمان، وهو الذي وقّت المواقيت، وسمى الشهور بأسماء مواقيتها.

ذو القرنين نبي وشاعر من حمير..
وأضافوا إليهم نبياً آخر من صميم (حمير) سموه: [أسعد تبع الكامل بن ملكي كرب بن ج تبع الأكبر ابن تبع الأقرن]، أو: هو [الهميسع بن عمرو بن زيد ابن كهلان]، أو [الصعب بن عبد الله بن مالك بن زيد بن سدد بن حمير الأصغر]. وقالوا إنه (ذو القرنين) الذي ورد في (القرآن) عنه: [أهم خيرُ أم قوم تبع والذين من قبلهم أهلكناهم إنهم كانوا مجرمين]. وهو الذي ورد اسمه في سورة (الكهف 83): [ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكرا].
وكان مؤمناً عالماً عادلاً، ملك جميع الأرض وطافها، ومات في شمال بلاد الروم، حيث يكون النهار ليلاً، إذا انتهت الشمس إلى برج الجدي. وكان يقول الشعر، وهو الذي بشّر بالنبي في شعره، ولا بدّ أن يكون واضعو هذه الأشعار، من الأنصار وبقية فروع قحطان.
وذكروا إنه كان من أعظم التبابعة وأفصح شعراء العرب، ولذلك قال بعض العلماء فيه ذهب ملك تبع بشعره، ولولا ذلك لما قدم عليه شاعر من العرب. وقالوا: نهى النبي عن سبّه، لأنه آمن به قبل ظهوره، بسبع مائة عام، وليس ذلك إلا بوحي من الله.
وقيل: هو أول من كسا الكعبة، وجعل لها مفتاحاً من ذهب. وأوردوا له أشعاراً لإثبات إيمانه بالنبي، تمنى فيها لو أدرك أيامه إذن لآمن به، ولكان له وزيراً وابن عم، ولألزم طاعته كلّ من على الأرض، من عرب وعجم، ورووا له أبياتاً في البيت الحرام، وكيف كان يقصده، فيمكث فيه تسعة أشهر، وكيف كان ينحر، في العام سبعين ألفاً من البدن.

تعزية مستقبلية..
عودة ملك حمير..
وزعموا فوق هذا كله، إن (ذا القرنين) تنبأ بعودة ملك (حمير)، حيث يظهر (المهدي) منهم، وهو رجل حميري سبئي الأبوين، يعيد الملك إلى (حمير) بالعدل، في هذه الأبيات التي رواها عُبَيْد بن شَرْيَةَ الجُرهمي:
ومن العجـائب أن حـمير سوف تعلى بالقهور
ويسودها أهل الـمـواشي من نضير أو نضور
ويثيرها المنصور مـن جنبي أزال كالصقور
وهو الإمام المرتجى المذكور من قدم الدهور

المهدي المنتظر من اليمن..
وقالوا إن (المنصور)، هو لقب (القائم المنتظر)، الذي سيظهر ليُعيد ملك حمير المسلوب. إلى غير ذلك من أشعار نسبت إليه وإلى غيره من التبابعة، تصوّر حقد (القحطانيين) على (العدنانيين)، وألمهم الشديد لفراق ملكهم، وانتقال الحكم منهم إلى المكيين، وقد كانوا من أتباعهم بالأمس.
فلم يكتفوا بالتعلل بالماضي، وإنما صبروا أنفسهم، وتعزوا بالحديث عن ملك سيعود، وعن دولة ستقوم، وعن (مهدي) يأخذ بالثأر، كالذي يفعله المغلوبون. وان ظهوره سيكون من أرض اليمن.

ـــــــــــــــــــــــــــ
• بتصرف عن: د. جواد علي [1907- 1987م]- (المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام)-!.
• راينهارت دوزي [1820- 1883م] مستشرق هولندي من أصول فرنسية، أستاذ العربية في جامعة لايدن.
• انظر في هذا الصدد الاصحاح العاشر من سفر التكوين التوراتي، واليه استند الغربيون في نظرية الاعراق البشرية واشتقاق مصطلحات: السامية (اهل البداوة)، والحامية (اهل الحضر العاملين بالزراعة والحرف/ جوار الشام والجزيرة) واليافثية (الحضارات المتقدمة شمال جغرافيا الشام والجزيرة/ أوربا وشرق اسيا). وفي (تك 10: 6: ابناء حام: مصرايم وكوش وفوط وكنعان). يذكر ان نسبة اهل اليمن والشام لحام الافريقي استند الى ارتباط الارضين بين الشام وأفريقيا عبر صحراء سيناء، وفرضية ان مضيق باب المندب كان في اصله ارضا متصلة بين اليمن والقرن الافريقي، وأن البحر الاحمر كان في اصله بحيرة، قبل حدوث زلزال او تغير جيولوجي، حوّل الممر الجنوبي الى مضيق مائي رابطا (بحيرة) البحر الاحمر بالمحيط الهندي.
• استتبع ما يدعى (فتح مكة)/(8 هـ) سورة الفتح تغير موازين القوى السياسية بين الجماعة المحمدية وموقعها بين النفوذ التقليدي لكل من (تجار قريش) في مكة و(تحالف يثرب). فقد كان لجوء الجماعة المحمدية الى سلطان بني عبادة في يثرب تكتيكا مراوغا لحمايته –هو او جماعته- من غدر تجار قريش، واستغلالا للعداء التقليدي بين [قحطان وعدنان/ يثرب ومكة]، وتوظيفه لخدمة اغراضه الشخصية. فلما غلب اليثاربة والمحمديون، اهل مكة على امرهم، ادار المحمديون قفاهم لاهل يثرب. ثم حملوا عليهم بمعونة المكيين، في هجمات عسكرية واغتيالات، للاستيلاء على مدينتهم، وتحويلها الى عاصمة سياسية للحكم المكي الجديد، مع الاحتفاظ بمكة عاصمة تجارية/ دينية/(سورة قريش). والمعنى المستشف مما سبق، ان المسلمين والعرب يفضلون مصالحهم الشخصية وأغراضهم المرحلية- التكتيكية- على المصلحة العامة للبلاد والامة والاهداف البعيدة المدى -الستراتيجية-، وهو ما يلحظ حتى اليوم. وقد وصف شوارزكوف صدام حسين في مجلة [Forign Policy Revew] بأنه تكتيكي جيد ولكنه فاشل استراتيجيا. وهو تشخيص عام ينطبق على كل ساسة العرب عموما، بما يعكس فشل السياسات والحكومات العربية.
• اطلق اسم اليمن على عموم جنوبي الجزيرة العربية والتي تتوزع اليوم بين اليمن الشمالي في أقصى الجنوب الغربي، وعُمان/ ظفار في أقصى الجنوب الشرقي، وما بينهما (حضرموت) في الوسط. [انظر تك 10: 26- 30].
• يذكر ان المؤرخ جواد علي [1907- 1987م]، شأن معظم الكتاب العرب الرواد في مستهل القرن العشرين، من القوميين العروبيين على غرار ساطع الحصري ومحمد بهجت الاثري ومصطفى الرافعي واحمد أمين وشكيب ارسلان ومحمد دروزة وعبد العزيز الدوري وغيرهم، ممن قدّم مفهوما شموليا لعروبة فضفاضة، تشتمل على جميع السكان المقيمين، في إطار (دولة الإسلام) التراثية، رغم اختلاف أصولهم القومية وخصائصهم الثقافية والجسمانية، متعلقين تارة بفرضية اللغة (العربية) وتارة بفرضية الأمة (الإسلامية)، والإشارتان من القرآن. ولذلك يستخدم صفة العرب لوصف سكان اليمن وغيرهم من المجتمعات التي اتصلت بجزيرة العرب من الشمال والغرب، مستثنين العجم من فرس وترك وأفغان وهنود، ممن تمسكوا بلغاتهم وتقاليدهم القومية.
• يربط بعض المؤرخين سكان الشام –عرب الشمال-، بأصول يمنية –عرب الجنوب- وهو ما يرد لدى ابن اسحاق النوفلي في قصة انهيار سد مأرب: [كان سبب خروج عمرو بن عامر من اليمن انه رأى جرذا يحفر في سد مأرب، فعلم أنه لا بقاء للسد بعد ذلك، فعزم على النقلة من اليمن، وانتقل في ولده وولد زلده. وقالت الازد: لا تخلف عن عمرو بن عامر، فباعوا أموالهم وخرجوا معه. ثم ارتحلوا وتفرقوا في البلدان، فنزل آل جفنة بن عمرو الشام، ونزلت الأوس والخزرج يثرب، ونزل خزاعة مَرّا، ونزلت أزد السراة (السراة)، ونزلت أزد عُمان (عُمان).]- (سيرة ابن اسحاق/ ق1، ص 29)
• يثرب في جنوبها موطن الأوس والخزرج، وفي شمالها كانت ثلاثة قبائل من العبرانيين. وان أهل "يثرب"، من الأوس والخزرج، وهم من قحطان اليمنية؛ أخذوا ذلك من اليهود النازلين بينهم، ويحاولون التقرب إلى أهل يثرب، للعيش مهم عيشة طيبة. الوارد في كتبهم (تك 10: 25) أن "عابراً"، هو والد ولدين هما "فالج" و "يقطان"، فهو جد أهل يثرب، جدّ العبرانيين والاوس والخزرج، لأن أصلهم من يقطان/ قحطان. وأن علاقتهم لذلك بهم هي علاقة أبناء عمّ بأبناء عم. وكانت يثرب قبل الإسلام مركزا حضاريا واقتصاديا، اشتهرت بتصدير التمور والحاصلات الزراعية، وأنواع خاصة من المنسوجات والعدد اليدوية، مما أثار شهية تجار مكة، للاستيلاء عليها بدلا من قريتهم الجافة الشحيحة، ومصدر معيشتها المحدود: تجارة الصيف والشتاء-(سورة قريش).
• الغساسنة من آل جفنة بن عمرو بن عامر اليمانية، ومنهم كذلك بنو لخم في الحيرة العراقية وملكهم: النعمان بن المنذر بن ماء السماء.
• النزارية: نسبة إلى نزار بن معد بن عدنان بن أدد بن مقوم بن ناحور بن تارح بن يعرب يشجب بن نابت بن اسماعيل، وموطنهم في مكة/ الحجاز، وهم من العرب المعربة.
• لابد من تنويه أن مسميات [خلافة/ خلفاء] ظهرت في وقت متأخر زمنيا، على صعيد الفقه الديني والتاريخ السياسي، وذلك في أيام العباسيين الذين سعوا لشرعنة حكمهم. وهي المرحلة التي شهدت ظهور الكتاب والمصنفات/[وعاظ السلاطين]، وازدحام الرواة والاخباريين، ولم تكن الأموال وموازين الذهب تمنح جزافا، ولا لمجرد تشجيع المعارف، بقدر ما يخدم أصحابها أغراض السلطة ومن وراءها.
• كانت (مكة/ بكة) مركزا تجاريا، على طريق القوافل القديم، من حضرموت إلى دمشق الشام، لا يتعدى تاريخها القرن الرابع الميلادي. و(قريش) اتحاد أو نقابة تجار، ينتسبون لبلدان وأقوام مختلفة، من أطراف الأرض، ولا يمثلون قبيلة أو امتدادا عربيا، كما يرد في المصادر التراثية. وقد سادت قريش مكة –وادي القِرى-، وكان لها نفوذ اجتماعي تجاري في المنطقة، بحكم وضعها التجاري، وحجم قوافلها السنوية. وكان على رأس قريش وتجارتها في أيام محمد: أبو سفيان ابن امية ابن عبد شمس ابن سبأ ابن يشجب بن يعرب بن قحطان، وهم الذين ولوا الشام وبنوا دولتهم بعد مصادرة نفوذهم في مكة. ويرجع أصلهم إلى اليمن. ومقامهم في الشام امتداد لدولة الغساسنة، المسيحية من قبلهم. ومن هنا جاء تحدي علي ابن ابي طالب لنفوذهم، باستيلائه على الحيرة العراقية، عاصمة المناذرة المسيحية، وهم ولد عم غساسنة الشام. وهو مغزى خروج علي من الحجاز للعراق، وبناء دولته فيها، متخذا الحيرة/(الكوفة) عاصمة له، وتحويل حكمه وراثيا في ولده وولد ولده، على غرار استيراث بني أمية الحكم في ذراريهم. ومن نفس المنطلق جاء الحكم العباسي، بوصفه استعادة حكم عدنان النزارية، من أيدي عبس اليمانية، أبعد بكثير من صفة العباسية والنقابة الطالبية. وقد استمرت الحزازات البينية بين العراق والشام، والتنافس السياسي بينهما على النفوذ، وفق تلك الأسس والسياقات المناطقية والمناجزات الشخصية، أيام الولايات العثمانية حتى [سوريا الفرنسية والعراق الانجليزي، البعث السوري والبعث العراقي، الشيعة النّصيرية والشيعة الإمامية]. وكل تلك الخلافات والمناجزات القبلية والمناطقية، السابقة للإسلام استمرت مع الإسلام، وفرضت بصماتها على الدّين، ورسم كلّ منها إسلاما، يناسب سلطتها والنيل من الآخر. وكل ما يفعله الساسة ورجال الإسلام لليوم، تغذية تلك الخلافات القديمة، وابتزاز معاناة السكان المحليين. فكما ظهرت الجعفرية والموسوية، والفرق الباطنية والغنوصية في العراق، ظهرت سلفية حنبل وابن تيمية [1263- 1328م] في سوريا. وهو التقسيم المذهبي والطائفي، الذي تحاول الخرائط الجديدة للشرق الاوسط، ترسيخه عبر مسلسل العنف، والصراعات الدموية، منذ سنوات وعقود.
• إلى أي حدّ يمكن تأويل الحرب الطاحنة التي يقودها الحكم السعودي، للسيطرة على (اليمن/ قحطان) وتدمير شوكة الحوثيين في حضرموت، بالملابسات السوسيوتاريخية بين القحطانيين والعدنانيين، من جهة، وبين يمن الحضارة والعمران، وعرب البادية من جهة ثانية. وسيما الحرب الأخيرة [2016- 2017م] وما انتهت إليه من حصار سعودي خليجي، على بلد (عرباسلامي) بالكاد يجد سكانه ما يكفيهم من غذاء ودواء.




[24]
امة ولسان..

ثمة بديهة عامة، أنه ما من شخص يسمّي نفسه. وما من جماعة بشرية وصفت نفسها بصفة اعتبرت علما لها ودالة عليها، إلا ما ندر. والاسم، أو الصفة، غالبا ما يطلق من الخارج، على الداخل. وبحسب مآرب الداعي وطبيعة صلته بالداخل، يتفاوت معنى اللفظ أو التسمية أو الصفة أو اللقب، في معناه ودلالته.
وهذا يعني، أننا إذا توخينا الدقة في فهم أو تأويل معنى مفردة (عرب) علينا أن نعرف طبيعة الجهة وراء إطلاق هاته التسمية، وطبيعة الظروف المواربة خلفها. على أن لفظة (عرب) غالبا ما كانت صفة للأرض أكثر منها صفة أو تسمية للسكان. وغالبا ما يتم نسبة الناس إليها، فيقال بلاد العرابيا، شبه جزيرة العربية، أهل العربية، سكان العربيا. وفي القرآن، جاءت في محل صفة للسان: (لسان عربي) أو القرآن: (قرآن عربي).
في الغالب، ان وصف الناس بها أو اطلاقها على الجماعة البشرية من سكان الحجاز أو نجد أو العرابيا، شاعت متأخرة، تحميلا أو اسقاطا في كتابات المؤرخين القدماء، ولم تشع بالمعنى السياسي والقومي، قبل تاريخنا المعاصر. وما يزال كثير من أبناء مجتمعاتنا، ينسبون للأرض، التضريس الجغرافي، الاتجاه الجغرافي، المستوى الحضري أو المهني، المدينة، العشيرة والدين والطائفية، من نسبته لصفة قومية بالمعنى العصري الرائج.

لفظة (ع رب)، (عرب)، هي بمعنى: (التبدّي). و(الأعرابيّة) في كل اللّغات (السّامية)، حملت هذا المعنى في أقدم النصوص التاريخية، ومنها النصوص الآشورية. ويقصد بها (البدو) عامة، مهما كان سيّدهم أو رئيسهم. وبهذا المعنى استعملت عند غيرهم-كالبابليين والعبرانيين والاغارقة-.
ويبدو من شيوعها في اللغات الرافدينية المتعددة، تعلقها بطراز المعيشة القائم على التنقل، وعدم اشتمالها على معني قومي، حيث كانت البداوة في جنوبي العراق وغربه وشرقه. ولفظة (عرب/ عربايا/ عربجه) ترد في طرف سيناء ووادي الأردن، كما في لغة الكرد والترك شمال وشرقي العراق حتى أعماق ايران.
واللفظ بهذا المعنى وبهذا الشكل، مصطلح يرجع إلى ما قبل الإسلام، ولكنه لا يرتقي تاريخياً إلى ما قبل الميلاد، بل لا يرتقي عن الإسلام إلى عهد بعيد جدا. فأنت إذا رجعت إلى القرآن، وجدت للفظة مدلولاً يختلف عن مدلولها في النصوص الجاهلية التي عثر عليها حتى الآن، أو في التوراة والإنجيل والتلمود، وما بقي من مؤلفات يونانية ولاتينية تعود إلى ما قبل الإسلام.
فهي في هذه: أعراب: أهل وبر، أي طائفة خاصة من العرب.
أما في القرآن والحديث، فإنها علَم على الطائفتين واسم للسان أهل القرآن، لسان أهل الحضر ولسان أهل الوبر على حد سواء.

ولدى عشيرة (الرولة) وعشائر أخرى، ينقسم سكان الجزيرة إلى قسمين: [حضر (و) عرب]. وتقصد بالعرب (أصحاب الخيام) أي المتنقلين. وتقسم (العرب)، أي (البدو) إلى: (عرب القبيلة)، و (عرب الضاحية)، وهم: [السكان المقيمون على حافات البوادي والأرياف]، وذلك من استيطان بعضهم على حافات الحواضر والمدن. فالبعض يميز (الأعراب) عن (الحضر)، ويعدّهم طبقة خاصة تختلف عن الحضر. والبعض يستخدم لفظة: (عرب) في معنى: بدو وأعراب، أي بالمعنى الأصلي القديم.
ولما توسّعت مدارك الأعاجم وزاد اتصالهم واحتكاكهم بالعرب وبجزيرة العرب، توسعوا في استعمال اللفظة، حتى صارت تشمل أكثر العرب، على اعتبار أنّهم أهل (بادية) وان حياتهم حياة (أعراب). ومن هنا غلبت عليهم وعلى بلادهم، فصارت علَماً على بلاد العرب وعلى سكانها، وأطلق كتبة اللاتين واليونان على بلاد العرب لفظة [Arabae /Arabia] أي: [عربيا] بمعنى بلاد العرب.
واليوم.. إذ تستخدم لفظة (عرب) و (العرب) على سكان البلاد العربية، من الخليج العربي إلى المحيط الأطلسي، ومن جنوبي أسيا الصغرى حتى البحر العربي جنوبا، فإنما تدلّ على البدو وعلى الحضر سواء، ممن يتكلم لغة العرب، لا فرق بين فئة وأخرى، ولا بين بلد وبلد. تتضمن معنى [جنسية (أو) قومية]، أو علم على رسٍ [race]، له خصائص وسمات وعلامات وتفكر، يربط الحاضرين بالماضين، كما يربط الماضي بالحاضر.

طبقات العرب..
قسم الرواة وأهل الأخبار (العرب) من حيث (القدم) إلى طبقات: [عرب بائدة، وعرب عاربة، وعرب مستعربة]. أو: [عرب عاربة، وعرب متعربة، وعرب مستعربة]. أو: [عرب عاربة وعرباء وهم الخلّص، والمتعربة].
كما قسموا (العرب) من حيث (النسب) إلى قسمين: (قحطانية): منازلهم الأولى في اليمن، و(عدنانية): منازلهم الأولى في الحجاز. وقالوا أن (القحطانيين): هم عرب منذ خلقهم الله، وعلى هذا النحو من العربية التي نفهمها ويفقهها من يسمع هذه الكلمة، فهم الأصل.
و(العدنانية): الفرع منهم، وعنهم أخذوا العربية، وبلسانهم تكلم أبناء إسماعيل، بعد استيطانهم في الحجاز، ومصاهرة جدّهم إسماعيل من بني جرهم، فتكلم بالعربية*، بعد أن كان يتكلم بلغة أبيه التي كانت [آرامية، أو كلدانية، أو عبرانية]. فـ(العرب العاربة)، هم من أبناء[أسلاف القحطانيين] المنافسين للعرب (العدنانيين)، الذين هم: (مستعربة) في عرف النسّابين.
و(قحطان) الذي يرد في الكتب العربية، -في الأرجح- هو (يقطان) الذي يرد اسمُه في (سفر التكوين 10: 21- 25) التوراتي، فهو: [يقطان بن عابر بن شالح بن أرفكشاد بن سام ابن نوح]؛ أو هو: [قحطان بن عابر بن شالح بن أرفخشذ بن سام بن نوح] عند نسّابة العرب.
وهذا هو تفصيل الجينولوجي التوراتي: [سام ابن نوح، هو أبو كلّ بني عابر. بنو سام: (عيلام، أشور، أرفكشاد، لود وأرام). وبنو أرام: (عوص، حول، جاثر وماش). وأرفكشاد ولد شالح، وشالح ولد عابر. ولعابر ولد ابنان. اسم الواحد فالج، لأن في أيامه قسمت الأرض. واسم أخيه: يقطان. ويقطان ولد: (الموداد، شالف، حضرموت، يارح، هدورام، أوزال، دقلة، عوبال، أبيمايل، شبا، أوفير، حويلة ويوباب)، جميع هؤلاء بنو يقطان. وكان مسكنهم من ميشا، حيثما تجيء نحو سفار جبل المشرق.]-(تك10: 21- 30).

أما الذي تولى الملك بعد (قحطان) فكان (يعرب)، وكان ملكه باليمن، وقد غلب بقايا (عاد)، ووزّع اخوته في الأقطار، فأقرّ أخاه (حضرموت) على الأرضين التي عرفت باسمه فقيل لها حضرموت، وعيّن (عُمان) على أرض عمان، وولّى (جرهماً) على (الحجاز).
ولا يُعرَف من أمر (يعرب) شيء سوى أن (أم يعرب) هي من (عاد) أو من (العماليق)*، وأن له اخوة من أمّه، هم: [جرهم ، المعتمر، المتلمس ، عاصم ، منبع ، القطامي ، عامي ، حمير] وغيرهم.
و(يعرب) هو منشئ اللغة (العربية)، فهو أول من (أعرب)* في لسانه، ولهذا قيل لسانه: (العربية). وإن (يعرب) هو الذي جاء بولده إلى اليمن، فأسكنهم بها. وإن ولده كانوا أول من بدأوا بـ(تحية الملك)*، فقالوا له: (أبيت اللعن) و (أنعم صباحاً). وانتقل الملك من (يعرب) إلى ابنه (يشجب)، ويقال له (يمن)، ومن ولده: (عبد شمس)، ويقال له: (عامر) ويلقب بـ(سبأ).
وهؤلاء هم الطبقة الأولى من العرب.
أما الطبقة الثانية من طبقات العرب، فهم (العرب المتعربة)، ويقال لهم: [العدنانيون أو النزاريون أو المعديون]. وهم من صلب (إسماعيل بن إبراهيم)، وامرأته: (رعلة بنت مضاض بن عمرو الجرهمي).
هؤلاء انضموا إلى (العرب العاربة)، وأخذوا العربية منهم. و منهم تعلم (إسماعيل) العربية، فجاء نسلهم من ثَم، من العرب واندمجوا فيهم. وموطنهم الأول (مكة)، المهدُ الأول لبني إسماعيل.
وهم يعتبرون (عدنان)* جدّهم الأعلى، كما أن (قحطان) هو الجدّ الأعلى للقحطانيين. ولما كانت الطبقة الأولى من العرب قد بادت وذهبت، تكون العرب الباقية كلها من ولد [قحطان (و) عدنان]. وقد رأينا أن (قحطان) هو (يقطن) أو (يقطان) في التوراة. أما (عدنان)، فلا نجد له اسما فيها.

والطبقة الثالثة هم (العرب المستعربة)* اي القبائل النازلة في حوض العراق من حدود نهر الفرات إلى بادية الشام. فهي تشمل إذن، القبائل النازلة على طرفي الهلال الخصيب، وفي طرفي القوس الذي يحيط بحدود الإمبراطوريتين. ومن المستعربة: [غسان وإياد وتنوخ].
وقد فضلت غالبية هذه المستعربة، السّكنى في أطراف المدن في مواضع قريبة من البوادي والصحارى، عرفت عندهم بـ (الحضر)، فكان في أكثر مدن بلاد الشام، حواضر يقيم بها العرب من تنوخ ومن غير تنوخ. ولا يعرف إذا كانت (الحضر) هي (ضواحي المدن)، لكن الحواضر الاسلامية عموما، تجنبت السكنى في المدن القديمة، وتخذت مساكنها ومعسكراتها على أطراف المدن، قبل أن تزحف المدن على بعضها، وتتمركز الحواضر الجديدة على حساب المستوطنات القديمة، ويتغير اسمها وشكلها بالمرّة.

أما العربية اللسان في (القرآن): [انا انزلناه بلسان عربي مبين]، فهي لغة قريش المتداولة في القرن السابع الميلادي أيام ظهور الاسلام، وهي التي اعتبرت أساسا، بحسبها تعدّل لغات بقية القبائل والأمصار، وهي اللغة الرسمية والدينية في البلاد المسلمة. بينما استمرت اللغات الأصلية للقبائل والأقوام (المستعربة)، في صور اللهجات واللغات المحلية، المتداولة في المعاملات العامة، والعلاقات الشخصية في كل بلاد.

والملاحظة هنا، أنه، إذا كان أهل اليمن وصفوا أهل الحجاز بـ(المستعربة)، فماذا يدعى [أهل العراق والشام] الذين هم أقدم من أهل اليمن تاريخا، ولهم وضعهم وصفتهم المميزة، في بدايات التمدن والاستيطان والحضارة الإنسانية؟.
على أن دخول مقطع (است-) العربي على الكلمة يحيل على العجمة وضدّ الأصالة، وهو يوازي مقطع (aut/aus) في الأمانية والانجليزية للدلالة على الشخص الأجنبي [autlander/Ausländer] بمعنى [Stranger/fremde] الدخيل على سكان البلاد الأصليين.
وما نزال نقول أن [الإستكراد] أو [التكريد] يضادّ الرّوح والأصالة الكردية، ومثله [الإستعراب/ التعريب] ضد الأصالة. فالمستعرب لا يكون عربيا، وإنما يضعه موضع (الهجنة = اختلاط الجنس والانتماء) الذي صنفته الدولة العربسلامية تحت عنوان (الموالي)، أي سكان المستعمرات/(colonies) بالاصطلاح الحديث.

ـــــــــــــــــــ
• بتصرف- عن: د. جواد علي [1907- 1987م]- (المفصل في تاريخ العرب قبل الاسلام)!.
• لا يوجد اثبات لقول النسابة عن مصاهرة اسماعيل بن ابراهيم لجرهم اليمانية، لكن القرينة التوراتية المحاذية لذلك، تشير الى مصاهرة (عيسو بن اسحق بن ابراهيم) والذي يكون اسماعيل عمّا له، لسكان سعير الحثيين أو الحويين، واستيطانه بين ظهرانيهم، بعد نزوحه عن أرض الشام جنوبا. ومن خلال المصاهرة، سوف يعقبهم في سكنى الأرض، وخلافتهم في الحكم: (مملكة أدوم)، وسيكون أبناؤه الأثنا عشر أمراء في الأرض، على التقليد الحثيي. وأدوم، هي الحجاز اليوم. وانما انحاز النسّابة لاسماعيل بسبب الشهرة، أو التقرب من ابراهيم زلفى. ويذكر ان عبد المطلب جذّ محمّد، قد ورث سقاية الكعبة وإمارتها عن طريق المصاهرة أيضا، توريثا من أهل الزوجة، وهو ما ينطبق شكليا على سيرة محمّد وزواجه من خديجة الأسدي ذات الشأن والنفوذ، و بنت عم ورقة بن نوفل قسّ مكة.
• (عماليق) جمع (عمليق): وهو ابن عيسو ابن اسحق ابن ابراهيم من سريته(تمناع) اخت (لوطان بن سعير الحوري) صاحب سعير/(تك36: 22).وعندما تكون جرهم من عمليق، فيعني تأخرها زمنيا. مما يني ان احفاد عيسو البعيدين عنه تحدثوا العربية لاحقا واستولد منهم عدنان بعد عشرة أجيال أخرى، بحسب تصانيف النسّابة. فليس اسماعيل ولا عيسو تحدث العربية، كما يأتي في الاخباريات جزافا.
• (تحية الملك)/ (أما بعد).. وأمثالها من الاساليب اللغوية تنسب في المصادر القديمة للقس بن ساعدة، أول خطيب وأكبر حكيم عرفته العرابيا قبل الاسلام/ (لويس شيخو في شعراء النصرانية)، ونسبتها ليعرب، تفيد اللغة العربية، وليس الشخص.
• معنى (أعرف في لسانه) ربما كانت تفيد معنى (لحن، أعجم، اختلف في نطق حرف أو جهة اصدار الصوت)، فيقال أعجم أو أعرب. وهذا يقتضي معرفة اللغة الأصلية التي أعجم/ أعرب عنها، فقد تكون لغة عيسو الأصلية وهي الآرامية السينائية، وقد اليمنية العبرانية وقد تكون المهرية الحبشية، حسب لغة سعير القديمة.
• (عدنان) لا وجود له في جداول الانساب العربية، وهو شخصية وهمية، صاغها النسابة والرواة لمقابلة جدّ اليمن (قحطان)، وهناك أحاديث لمحمد وعمر تكذب نسبه وتنهى عن الادعاء بالنسب.
• دخول الأقوام والجماعات في الإسلام أو وقوعهم في إطار الحكم الإسلامي لا يجعل منهم (عربا) بالعرق أو الثقافة، وهو المستفاد من الطبقة الثالثة تحت اصطلاح (الاستعراب) الذي يشمل الكرد والترك والفرس والأمازيغ والأفغان والقوقاز، كما يشمل السكان الأصليين في العراق والشام ومصر والسودان والصومال. والعروبة بذلك ليست شعورا قوميا أو رابطة قومية تقارب بين أبناء الأمة الإسلامية، أو المتحادثين باللغة العريية. بل أن استمرار العداوات البينية والصراعات الدموية المحلية، في إطار الإسلام، يجعل سؤال مغزى (وحدة الدين واللغة) ملحا! بينما تعادي دولة الأخرى وتكيد جماعة لجماعة مثلها، دون مراعاة (وحدة الدين واللغة والمصير)، ودون احترام المصالح المشتركة ومبادئ الأمن الإقليمي!.



القسم الرابع: في علم اجتماع الحجاز..

[25]
في علم اجتماع قريش.. قراءة مجردة في راهنية العرب والاسلام..
(لإيلافهم قريش، إيلافهم تجارة الشتاء والصيف)..

(1)
في علم اجتماع العرابيا القديم، تمثل (قريش) حالة متفردة، مقارنة بالتشكيلات والنظم الاجتماعية السائدة. وتفردها نابع من كونها ليست تنظيما [قبائليا- عشائريا]، ولا (شعبا) ذي كيان سياسي مثل أهل اليمن وعُمان. وقد حاول النسابة ادراجها مدرج القبائل، فنظموا لها جدّا أعلى وقصة مصاهرة قبلية، وأحداثا انتهت بها لهذا المكان ولهذا النظام الاداري. وفي نهي كل من محمد بن عبدالله وعمر بن الخطاب عن النسبة إلى عدانان واسماعيل، ما يفصح عن شعث الاقاويل والخرافات، التي لا مكان لها في الواقع ولا حظ لها من حقيقة*.
ومما جاء في سيرة ابن اسحق النوفلي [683- 750م] في معنى قريش معنيان أو ثلاثة..
أولا: سميت قريش من التقرّش، بمعنى (التجارة) والاكتساب. حسب قول رؤبة بن الحجاج..
قد كان يغنيهم عن الشغوش والخشل من تساقط القروش شحم ومحض ليس بالمغشوش
[الشغوش: القمح، والخشل: رؤوس الخلاخيل والسورة ونحوه، والقروش: التجارة والاكتساب، المحضّ: اللبن الحليب الخالص].
وقول أبو جلدة (ابن بكر) بن وائل اليشكري..
إخوة قرّشوا الذنوب علينا في حديث من عمرنا وقديم

ثانيا: سميت قريش لتجمعها من بعد تفرقها ويقال (للتجميع): التقرّش.
ثالثا: النضر: قريش. فمن كان من ولده فهو قرشيّ. (ا. ه. ص93)
أما النضر: فهو: النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة (عامر) بن الياس ابن مضر بن نزار بن معد بن عدنان ، وأمّ النضر : برّة بنت مرّ بن أدّ ابن طابخة بن الياس بن مضر (اخت تميم بن مرّ).
وتفصيل ذلك عند ابن اسحق: ولد مدركة بن الياس رجلين: خزيمة وهذيل. وأمّهما من قضاعة. وولد خزيمة بن مدركة أربعة نفر: كنانة وأسد، وأسدة، والهون. وأم كنانة: عُوانة بنت سعد بن قيس بن غيلان بن مضر. فولد كنانة أربعة نفر: النضر، ومالك، وعبد مناة، ومِلكان.
يقول ابن هشام: ام النضر ومالك وملكان: هي برة بنت مرّ. وأم عبد مناة: هالة بنت سويد بن الغطريف من أزد شنوءة، وشنوءة هو عبدالله بن كعب بن عبدالله ابن مالك ابن نضر بن الأسد بن الغوث. سمّي شنوءة لشنآن كان بينهم، والشنآن هو البغض.
ويقول ابو عمرو المدني: أن أمهم جميعا هي: بنت سعد بن ظرب العَدواني، وعدوان: ابن عمرو بن قيس بن عيلان. قال كثيّر عزّة (من بني مليح بن عمرو من خزاعة)..
أليس أبي بالصلت أم ليس أخوتي لكل هجان من بني النضر أزهرا
رأيت ثياب العصب مختلط السدى بنا وبهم والحضرميّ المخصّرا
فإن لم يكونوا من بني النضر فاتركوا أراكا بأذناب الفوائج أخضرا
وقد ولد النضر رجلين: مالكا ويخلدا. وام مالك: عاتكة بنت عدوان بن عمرو بن قيس بن عيلان. ويضيف لهما ابن هشام البصري المصري: الصلت بن النضر. فيكون عدد اولاد النضر/(قريش) ثلاثة: [مالك، يخلد، الصلت].
فولد مالك بن النضر: فهر بن مالك، وأمه جندلة بنت الحارث ابن مضاض الجرهمي.
وولد فهر بن مالك ابن النضر أربعة نفر: غالب، ومحارب، والحارث، وأسد، وأمهم ليلى بنت سعد بن هذيل بن مدركة.
ويضيف ابن هشام لذرية فهر امرأة هي: جندلة بنت فهر: وهي ام يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة ابن تميم، وأم جندلة هي نفسها ليلى بنت سعد أم بقية اخوتها. (بدلالة) قول جرير بن عطية بن (الخطفي) حذيفة بن بدر بن سلمة بن عوف بن كليب بن يربوع بن حنظلة:
وإذا غضبت رمى ورائي بالحصى أبناء جندلة كخير الجندلِ
فولد غالب بن فهر رجلين: لؤي وتيم. ويضيف لهما ابن هشام: قيس بن غالب. أمهم جميعا سلمى بنت كعب بن عمرو الخزاعي. ويقال لهم: بنو الأدرم.
فولد لؤي بن غالب أربعة نفر: كعب، وعامر، وسامة، وعوف.
أم كعب وعامر وسامة: ماويّة بنت كعب ابن القين بن جسر من (قضاعة).
ويضيف لهم ابن هشام: الحارث ابن لؤي :[وهم جشم بن الحارث في هزان من (ربيعة)]، وسعد بن لؤي [وهم بنانة، في شيبان بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن وائل من (ربيعة)]، وخزيمة بن لؤي بن غالب (وهم عائذة في شيبان بن ثعلبة. وعائذة امرأة من (اليمن) هي أم بني عبيد بن خزيمة بن لؤي). (أ. ه. ص96)
اختلف عامر وسامة: أبناء لؤي، فخرج الثاني إلى أرض عُمان، ومات هناك. (ا. ه. ص97)
فولد كعب بن لؤي ثلاثة نفر: مرّة، وعدي، وهصيص، وأمهم وحشيّة بنت شيبان بن محارب بن فهر بن مالك ابن النضر. فولد مرّة بن كعب ابن لؤي ثلاثة: كلاب، وتيم، ويقظة.
فولد كلاب بن مرة رجلين: قصي، وزهرة. (أزه. ص102) وأمهما فاطمة بنت سعد بن سيل أحد (بني) الجَدَرة، من جعثمة الآزد من اليمن. ويقال خثعمة الأسد. وهو خثعمة بن يشكر ابن مبشّر بن صعب بن دهمان بن نضر بن زهران بن الحارث بن كعب بن عبدالله ابن مالك بن نضر بن الأسد بن الغوث. ويقال خثعمة: بن يشكر بن ميشّر بن صعب بن نضر بن زهران بن السد بن الغوث. وانما سمّوا الجدَرة، لأن عامر بن عمرو بن خزيمة بن جعثمة تزوّج بنت الحارث ابن مضاض الجرهمي – وكانت جرهم أصحاب الكعبة- فبنى للكعبة جدارا، فسمّى عامر بذلك الجدار، فقيل لولده (الجدرة) لذلك.

(2)
يعود ظهور النسابة إلى جملة الظواهر التي اقترنت ببدايات العصر الاسلامي، ما يمكن وصفها بالمنظومات التأسيسية لهيكلية الأمة العربية التي شهدت ولادة جديدة من خلال (الاسلام) المحمّدي. ويمكن مقارنة جداول النسابة بنمط أولي من دائرة تسجيل السكان/ سجلات النفوس، حيث لكل فرد سلسال نسبه العائلي/(أبوي، أموي)/ القبلي حتى آخر ما يمكن توثيقه، حيث يصل لدى البعض، إلى (آدم) أبي البشر، اعتمادا على أنساب التوراه.
ومن الظواهر التأسيسية الأخرى كانت: القرآن، السيرة النبوية، الحديث، مصنفات الشعر العربي، تدوين تأريخ العرب والأمم والبلدان والملوك، ومنها تاريخ البشرية والخلق، مصنفات التفسير وشرح القرآن وتحقيبه وأسباب النزول، ديوان المعارف الفلسفية والعلمية ومنه الترجمات والتعليقات والاضافات.
فبعد تحقق أركان الاستيطان والاستقرار السوسيوسياسي في العهد الأموي، ابتدأت مظاهر التوطين الفكري والثقافي في القرن الثامن الميلادي/ الثاني الهجري، لتسجل نقلة حضارية من الثقافة الشفاهية إلى الثقافة التدوينية التي افتتحها النص القرآني بعنوان: (إقرأ!)، جاعلة من القراءة والكتابة سمة النهوض القومي الجديد والنهضة العربسلامية الجديدة، ومن (الكتاب)/ (النص المؤسس)، أساسا وقاعدة وإطارا ومنظورا للحياة والنهوض بها وتجديد آفاق الفكر والعمل.
ومن الضرورة بمكان امعان النظر في عوامل النهضة وظروفها وأبعادها، في ضوء مستجدات العقل المعرفي المعاصر، وحركة العلوم الاجتماعية والسياسية، بما يكشف جوانب وزوايا من المنظور البانورامي للثورة المحمّدية والميلاد المؤسس للأمة العربية، التي بقيت شاحبة ومشوشة، في عصر التدوين وملابساته الأثنوسياسية.
في هاته القراءة نجد أمامنا جملة عناوين..
مركزية الدعوة/ الحركة/ الفكر.
عنصر التوحيد والاتحاد والاتفاق والتجمع والتبعية لفكر واحد وقائد واحد.
التأكيد على مبدأ التوطن والمركزية/(البؤرة) الجغرافية، ممثلا في المركزية الحجازية/(اقليم الحجاز) موطنا للعروبة والاسلام، وتثبيت ركني الدين والدولة جغرافيا، في (المدينة/ يثرب) عاصمة سياسية/ ادارية، و(مكة) عاصمة دينية/ تجارية.
اقتران الفكر النظري بالتطبيق العملي المباشر.
الفصل بين الجانب السياسي والجانب الديني في مجال العمل والتطبيق والسياسة اليومية لأمور الناس والحكم.
الدقة والحنكة والحساسية والمرونة وبعد النظر وسعة الأفق في الموازنة بين مبدأ (الثورية) الواقعية، ومبدأ (التكتيك) المتدرج في التعامل مع الطوارئ والمستجدات، التي تقتضي منظومة عملياتية أطول لبلوغ الأهداف.
الحرص الدقيق في بناء طبقة (النخبة) متخذة من (الإسوة المحمّدية) مثالا وشعارا وهدفا رئيسا لها.
العمل الدائب، - وهذا هو معنى الجهاد الإسلامي- لاحراز نقلة اجتماعية حضارية تعمل في عدّة مستويات وأساليب:
1- توطين الجماعات الرحّل وتطبيعهم مع مضمار الحياة الحضرية/ الاستيطان والاستقرار.
2- نقلة اجتماعية من مرحلة التعددية القبائلية، إلى الائتلاف والتوحيد الاجتماعي [ديني/ سياسي/ ثقافي] ممثلا في هيئة شعب واحد وأمة واحدة.
3- نقلة حضارية ثقافية عامة، ومن الغريزة والهوى إلى العقل والعقلانية، ومن الشفاهية إلى التدوين، ومن حال اللقاحية والاناركية إلى حال النظام والخضوع لسلطة مركزية.
4- نقلة جغرافية ثقافية، من حياة الانغلاق داخل الصحراء ومحيط العرابيا، للانفتاح على المحيط الأثني حوالي العرابيا، وتشجيع حركة المعاملات والمبادلات التجارية والثقافية.
لقد لخص شعار (التوحيد) كل فلسفة الحركة المحمّدية، بدقة وايجاز لا مثيل له. وهو توحيد يبدأ بالفكر/(الديني)، ويستمر منتقلا متدرجا في الاجتماع والجغرافيا والتاريخ والاقتصاد والسياسة.
وقد استغرق النبيّ ثلاثة عشر عاما من حركته في محيط مكة، لم يغادرها. انقسمت الحقبة المكية إلى مرحلة الصمت والاعتكاف والتأمل وبناء العائلة والجماعة الضيقة والنخبة، قبل بدء مرحلة الجهورية والاعلان ودعوة الناس عامة، وانقسمت الدعوة إلى مرحلتين، مرحلة التبشير والتسهيل والمرونة، ومرحلة الانذار والوعيد والحسم.
وما أزعج الارستقراطية القريشية المكية، هو سياسة الانذار والوعيد والحسم، التي فهموا منها نزعة للتسلط والزعامة، مما يتنافى مع الدستور المكّي القريشي ذي الادارة الذاتية والزعامة الجماعية، الرافضة لمبدأ الملك أصلا: [قريش لَقاح، لا تَملك، ولا تُملَك!].
لكن اضطهاد قريش لمحمّد وأتباعه، ساعد في نقل الحركة من الطور النظري التبشيري النذريري إلى طور العمل الثوري المباشر، كما تمثل في المرحلة اليثربية، وتبلور ظروف انتقال الحركة مراتب متقدمة للأمام..
1- ظهور فكرة اختيار الزعيم القائد للحركة.
2- اختيار النخبة القيادية/ الاستشارية/ النيابية/ الصف الأول المحيط بالزعيم، ويتكفل بمهمات (الحكومة).
3- اختيار النخبة القيادية البديلة، والتي تتولى قيادة الحركة ومتابعة مهمات الزعامة من بعد الزعيم، وهي ترد في الاخباريات تحت عنوان اختيار (العشرة المبشرة)!. والواقع العملي، انها تتص بالادارة والحكم الدنيوي وسياسة الامة على الأرض والمداولات اليومية والستراتيجية.
4- انشاء دار القضاء، للبت فيما يستجد بين الناس من خلافات واشكالات وسوء فهم وأسئلة حول الدين والحياة والخلق.
5- بيت المال الاشتراكي، الذي ينظم اليات مشاركة الاغنياء في تغطية ابواب الانفاق للفقراء والمرضى والأرامل.
6- انشاء الجيش العربسلامي، وهو الهوية العسكرية والأداة الضاربة، التي تتولى مهمات الحماية للحركة والمدينة والمجتمع المديني والمسلم. ويلحظ العناية الخاصة للزعامة في اختيار الامراء والقادة، بحسب المهمات والاهداف والظروف البيئية. ولكن عنصر الضبط والتشويش تفتوت على مستوى القاعدة، وسيما اندفاع أعداد كبيرة من جماعات الرحّل للانضمام للجيش، في العام الثامن للهجرة، طمعا في المغانم، وليس القناعة الدينية.
اقترن العام الثامن بجملة ظروف ومستجدات ستراتيجية وطارئة، اهمها: دخول مكة في الاسلام، وفاة محمّد في العام التالي.
المستشف من الاخباريات حول ظروف موت النبيّ، أنها كانت مفاجئة، وغير متوقعة، ولم يكن به مرض أو وهن، أو عرض من عوارض الهرم والشيخوخة. لكن وطأة المرض المفاجئ، أو حالة التسمّم، كانت من الشدّة والخطورة أن منعت النبي من مواصلة مهامه الدينية والسياسية من جهة، أو تخصيص مجلس زعامة بديلة يتولى الأمور، ويمنع حصول فراغ سياسي ديني.
وقد ترتب على موت محمّد المفاجئ، جملة انعكاسات، كان لها أثر سلبي على كل مشروع الحركة. ذلك فضلا عن ظهور
استحقاقات ادرية وسياسية ستراتيجية كانت تقتضي حلولا نظرية وعملية اجرائية مباشرة، لصيانة عنصري النظام والضبط.
ويمكن تلخيص تلك المستجدات المترتبة على توحيد مكة والمدينة، وهي نقلة نوعية كبرى في تاريخ الحركة، بما يلي..
1- تنظيم علاقة مكة بالحركة، اداريا وسياسيا ودينيا وعسكريا.
2- اعادة تنظيم علاقة اهل يثرب بالحركة وقيادتها، في ضوء ظهور منابزة ومنافسة، بين أولوية وأفضلية مكة أو يثرب، في الحركة الاسلامية، وهي حساسية قديمة، استحث المستجدات تنغيمات على الوتر القديم.
3- حاجة المنضمين للجيش إلى تربية دينية وتأهيل عقائدي، بما يناسب سمات وهوية الحركة الاسلامية.
هاته الامور وغيرها، بقيت مهملة ومنقوصة، جراء حالة موت محمّد المفاجئ، وبالمقابل، نجمت حالة شبه فوضى في أكثر من صعيد ومكان، جراء غياب الزعامة وعدم ظهور زعامة وقيادة بديلة تتنكب مهماتها وتسدّ الفراغ السياسي والحركي الطارئ.
وهنا، يبرز أثر وذكاء الشخصية العمرية في التصرف ورتق الأمور قبل استفحالها وانقلاب كل شيء وضياع جملة المنجزات اتاريخية العظيمة خلال قرابة ربع القرن.

(3)
إذا كانت الحجاز -اقليميا- ذات خصائص بيئية متميزة، وتوفرها على أكبر نسبة من المدن والمراكز الحضرية المتقدمة اجتماعيا وثقافيا واقتصاديا، في محيط العرابيا، فأن (قريش) -اجتماعيا- ذات خصائص سيوسيوثقافية ارستقراطية تنظيمية لا مثيل لها، في محيط العرابيا، ولا خارجه.
والواقع، ان ظاهرة (قريش) تستحق دراسات مستفيضة، للامعان في خصائصها والالمام بجميع مظاهرها ومزاياها التي ما زالت شبه غائبة عموما. وفي هاته المداخلة، اشير إلى أمرين:
اولا: التنظيم الاجتماعي.
ثانيا: الجانب الدستوري.
وثمة مؤشر آخر، هو (الحكم الذاتي/ الادارة الذاتية)، أتناوله في مناسبة أخرى.
اولا: التنظيم الاجتماعي..
قول (قريش) يعني (مجتمع مكة)/ (المجتمع المكي)، الجماعة البشرية المستوطنة والعاملة في مكة.
استناد الاجتماع المكي قائم على أسس مدنية، ذات قوام مهني- اقتصادي تجاري. وهو أمر ينطوي على غرابة في محيط جغرافي يتكون من تجمعات وتشكيلات قبائلية قديمة، نادرا ما طرأت عليها تغيرات تخفف من طابعها، أو تؤثر في قواعدها الاساسية.
تتكون مكة من عوائل قرابية كبيرة نسبيا، يمتهن معظمها التجارة الخارجية، وأقلها يمتهن الزراعة والحرف والخدمات الدينية. قد تكون لتلك العوائل أصول قبلية أو حضرية عريقة، مثل أصول بني عبد شمس اليمنية. ولكن قد تكون بعض العوائل من خارج محيط العرابيا، كالشام أو أفريقيا أو أسيا أو روما.
فكون مكة مركزا تجاريا، يجعلها مفتوحة لحركة القوافل، ومرور التجار بها ذهابا وإيابا، كانت القوافل تستريح أسابيع وأشهر، قبل مواصلة رحلتها التجارية شمالا أو جنوبا. ولذلك توفرت مكة على خدمات مبيت وطعام وسهر، لتلبية حاجات التجار والزوار.
هاته الخدمات السياحية بلغة اليوم، تنعكس في مظاهر الانفتاح الاجتماعي، ووجود قطاع خدمي انتاجي لادارة مراكز المبي والمطاعم والخمارات والنوادي الليلية. وهذا يعني وجود مصادر دخل اضافية وسعة أنماط المعيشة والعمل، ذلك فضلا عن مستلزمات صرامة النظام وحفظ الأمن، ومعالجة التصرفات غير المناسبة والمسيئة.
ليس من اليسير تصور كل هذا النشاط المعقد اقتصاديا والمتنوع اجتماعيا والمتفاوت ثقافيا، دون وجود حكومة مركزية وصرامة قانونية عسكرية، وعقد اجتماعي وثيق، وامكانيات على الضبط والربط والملاحقة الجزائية داخل حدود مكة وخارجها.
سرّ هذا الكيان الصارم التنظيم والادارة هو قوة انسجام المجتمع المكي، كعوائل وقطاعات جعلت انتماءها لمكة أولوية الاولويات في وجودها، وجعلت خضوعها للدستور المكي المقنن، اداريا واخلاقيا، صنوا لخضوعها لحكومة أو شخص حاكم.
ان التعبير الاجتماسياسي لوصف الاجتماع المكي هو [وحدة اجتماعية]/(توحيد). ان سرّ أي قوة اجتماعية أو ثورية يكمن في فكرة الوحدة. والوحدة أن تتصرف مجموعة أفراد كأنها فرد واحد. ان تتحرك الجماعة البشرية حركة شخص واحد. وهذا هو معنى العائلة.
ومن هذا المعنى/ السرّ العائلي، ولدت كل أنماط التصانيف والتنظيمات الاجتماعية عبر الزمن، من القبيلة والقوم والشعب والطائفة والحزب والقومية والجيش والدولة. وكل هاته التصانيف والتنظيمات تعتمد وجود رأس هو الأب، هو المركز والبؤرة، ووجود جسد هم أفراد الاسرة، الطائفة، الحزب، الشعب، القومية، الدولية، الجيش.
فلا دولة بلا رأس. ولا جيش بلا قائد، ولا شعب بلا زعيم روحي، ولا حزب بلا قائد منظر ومنظم، ولا قبيلة بلا حكيم مقتدر، ولا طائفة بغير كارزما. لكن الرأس والقائد والزعيم والكارزما لا تقوم على فراغ، وكما أن ربّ الاسرة يستمد مكانتهمن الرباط العائلي، فلا من قانون أو مبدأ نظامي بقوة الرباط العائلي يجمع ويوحد افراد الجماعة المختارة.
رئيس القبيلة يعتمد (مصلحة) القبيلة وبقاءها قاعدة لخضوع الناس لرأيه. الاقطاعي يضع مصلحة الأرض وتأمين المعيشة مبررا لسلطته. الملك يبني سلطته وشرعيته على أساس (دولة). الزعيم الديني يتخذ نص (الدين) قاعدة لسلطته، رئيس الحزب يؤسس دستورا ونظاما داخليا للحزب، يجعله رباط المجموعة الحزبية.
والاجتماع البشري منذ باكورته، اعتمد مبدأ البقاء ومغزى الديمومة، اساسا لقيام العائلة الصغيرة والعائلة الكبيرة التي تضم عوائل نامية تحت جناحيها. وعندما تزايدت المخاطر الخارجية وتهديدها لحياة الانسان، ابتكر الناس فكرة اجتماع مزيد من العوائل والأفراد وتنمية الجماعة لتتوفر على قوة وامكانيات أكبر للدفاع عن نفسها، وتامين حاجاتها، وهكذا بدأت مسيرة التمدن.
وهذا ما بلغته مدنية (مكة) الاجتماعية التجارية، ولم تبلغه جماعة (يثرب) التي بقيت منقسمة بين شمالها وجنوبها، بين المزارعين اليهود والفبائل اليمنية النصرانية. وذلك لعدم اكتشافها مبدأ أو عنصرا يوحدها، ويؤالف بين مصالحها واحتياجاتها، وعندما وجدت (محمّدا)، وجدت فيه ضالتها، عامل توحيد شمالها بجنوبها وصهر مكوناتها وخلافاتها في دستور حركته ودعوته الدينية.
ولذلك كان موقع محمد وجماعته المركزية في نقطة الوسط، بين القطاع اليهودي والقطاع اليمني. اردوه زعيما لهم ولمدينتهم، ليزدادوا ه توحيدا وائتلافا وقوة، ليضاهوا وحدة مكة المدنية وينافسوها. ارادوه في المشورة والقضاء وشاركوه في أموالهم وأحوالهم. فأهل يثرب المجتمعون في الأرض، والمنقسمون في الفكر والشعور، أدركوا حاجتهم وضالتهم. فالحاجة نصف الوعي، والوعي نصف الحلّ.
نظر محمّد في أحوال سكان الجزيرة، ومدّ نظره في مساحات بلادهم الشاسعة، وتأمل في تجمعاتهم وانقساماتهم القبلية واحضرية، وصراعاتهم وغزواتهم التي يسمونها (الأيام والمغازي)، بمثابة تاريخ مفاخرهم، ومفاخر انقضاضهم على بعضهم وانقراضهم معا.
ثم عاد ونظر في انظمتهم السياسية، فقارن بين أهل اليمن، تلك الحضارة والمدنية والممالك القديمة، وأهل عُمان وانزواءهم في أقصى أرضهم، ونظر إلى سكان الحجاز وقارن بين الطائف والقطيف، وبين يثرب ومكة. كما هاله فوارق البدو عن الحضر، وفظاظة البدو عن ثقافة الحضر.
وإذا كان كل ذلك صرم أربعة عقود من عمره وتجواله في الأرض، أدرك محمّد ما ينقص سكان الجزيرة المقيم هو بينهم. أدرك حاجتهم لشيء يوحدهم ويجمعهم. شيء يؤالف بين قلوبهم وأفكارهم، ويجعل منهم رجلا واحدا، وعائلة واحدة، تتشارك في سرائها وضرائها، وتتكالتف في مهماتها وملماتها، وتتعاون في سبيل تسديد حاجاتها وتحسين أحوالها والارتقاء بين أمم الأرض، حتى يكونوا (خير أمّة..)!.
لقد كان للنموذج المكي الحجازي، أهمية مقارنة في كشف عيوب سكان الجزيرة وما ينقص اجتماعهم السياسي. لكن بلوغ مرتبة الادارة الذاتية، ومعرفة الناس ما لهم وما عليهم دون تفريط أو افراط، مرحلة متقدمة من الوعي التنظيمي والتطور المدني الاقتصادي والاجتماعي. ولا بدّ أن تسبقها مرحلة الدولة والدستور والحاكم.
القبيلة الجزيرية، لم تتطور لتشكيل اتحاد قبائلي يجمع كل مكونات الجزيرة في اطار كيان سياسي اجتماعي موحد، منسجم ومتماسك من داخله، وصارم حاسم من خارجه. وعدم وعي مشروع محمّد وهضم أفكاره من وراء فكرة (الائتلاف والتوحيد) ترك العرب حتى يومنا هذا، يفتخرون بالقبائلية ويتشظون لمزيد من القبائلية والعشائرية الداخلية، ثم تتمرد قبيلة على قبيلة والقبيلة الفتاة على القبيلة الأم، وتناوئ قبيلة وعشرية بنت قومها، حتى تستجير بالعدو الطامع ضد شقيقتها، وتجير الغازي المغتصب، وتتمنى زوال بقية القبائل والعشائر والبلدان.
هذا هو فكر محمّد، هذا معنى التوحيد، هذا مغزى (الاسلام). فكم هي نسبة الفهم والايمان والاتباع والتطبيق والالتزام. الجواب في قراءة مجردة في راهنية العرب والاسلام!.
الله أني قد بلّغت..!

(4)
القبائلية: سمة لمجتمعات الصيد والرعي أساسا. وهي الطابع الأول والأساسي الذي ابتدأت منه الجماعة البشرية/ علم الاجتماع البشري، السابق للمدنية والتوطن. والقبيلة في أساسها هي العائلة. ولذلك وصف المعنيون القبيلة بالبناء العائلي الهرمي الذي يبدأ بشخصية (الأب) وينتهي بالأبناء والاحفاد وأحفادهم، نظريا.
القبائلية عند العرب، والقبيلة العربية اليوم، هي خارج هذا التعريف والتوصيف تماما، ولا علاقة لها به من بعيد أو قريب. القبيلة العربية أو العرابية/(كائنة في المحيط الجغرافي للعرابيا)، لا تستند إلى قوام أبوي أو أموي، وليس أبناؤها وأفرادها من رحم واحد أو ظهر واحد.
ولعلّ أي قراءة في الاخباريات، تبين افتراق أخوين وانصراف كل منهما إلى أرض بعيدة، وتشكيله جماعة خاصة به، أو انضمامه لجماعة يصادفها في طريقه. ولا يمتنع بعدها أن تجد جماعة الأخ القبلية، تغزو جماعة قبلية لأخيه أو دائرته القرابية. بل أن تمرد أبناء على أبيهم، أو على ظروف بيئة ذويهم يدفعهم للهجرة وتشكيل تجمعات قبلية مستقلة.
فالقبيلة عند العرب/- في علم الاجتماع العربي-، هي اطار تنظيمي اداري اجتماعي يضم مجموعة/ مجموعات من البشر المنضمين والخاضعين لوصاياه ونظمه، خضوعا مطلقا. والقبيلة المستقلة اداريا وسياسيا، هي منظومة اجتماعية ومنظومة سياسية ومنظومة عسكرية ومنظومة اقتصادية في وقت واحد.
ليس للقبيلة جيش خاص، وانما القبيلة كلها هي (جيشها). وليس للقبيلة طبقة راسمالية وطبقة شغيلة، وانما القبيلة كلها تعيش حياة شخص واحد، منفتحة على بعضها اقتصاديا واجتماعيا، ويشتركون في الاموال والثياب والطعام وكل ممتلكاتهم، مع احترام الخصوصيات الاسرية، أو الزواج الخاضع لتنظيم دقيق.
إذن، القبيلة نظام اجتماع بشري كامل قائم على الاستقلالية والادارة الذاتية. وهو يتكفل بحماية نفسه، وتلبية كل احتيجات أفراده، الصغيرة والكبيرة. ودور زعيم القبيلة هو دور أبوي قيادي، في رعايته للجميع دون تمييز، ولكنه لا يشترط أن يكون أبا بيولوجيا للفرد. ولذلك يتساوى افراد اسرة زعيم القبيلة مع كل فرد آخر عند المعاملة لدى زعيم القبيلة، وفق مبدأ (الكل سواسية أمام القانون)، والقانون هو الزعيم.
وتوزيع المهمات داخل القبيلة يخضع للكفاءة والجدارة والفروسية والنزاهة، أي للمقومات الشخصية البدنية والاخلاقية، وليس للصلات العائلية، وهذا ينطبق كذلك على خلافة الزعيم، التي لا تشترط في أفراد عائلته، وانما تكون مفتوحة للجميع، وهي تتم بالانتخاب والتصويت والاقتناع والاجماع، وليس بالاغتصاب او القهر.
في حالات نادرة، عندما تتوفر خصائص القيادة في الابن يمكنه أن يخلف أباه، والقيادة القبائلية عموما، ليست أمرا ترفيا، ولا تخلو من اشكالات ومواقف عسيرة ومسؤوليات تعرضه للهلاك وامصادرة والسجن في وقتنا الراهن. لذلك يتجنب كثيرون ترشيحهم أو قبول مركز زعامة القبيلة، سيما في يومنا، حيث يحرص الفراد على وظائفهم ومصالحهم الشخصية، أكثر من مضيعة وقتهم للغير.
ففي حين مثل القبيلة والقبيلة العربية تحديدا، مرحلة متقدمة في الادارة والتنظيم الاجتماعي ومقدمات التمدن البشري، إلا أنها في نفس الوقت، بقيت تأنف الاستيطان والاستقرار، واستمرت ملتصقة بسكنى الخيام وطراز التنقل الدائم أو الموسمي، مما حدا الاستشراق، بوسمهم بالبداوة. ومن منظوري، البداوة شيء والقبيلة شيء آخر، بينهما مشتركات، ولكن مفترقاتهما أكثر.
والبداوة عموما، في تعريفها العالمي من البدائية، وهي حالة سابقة للحضارة والمدنية. وهو أمر لا ينطبق، كذلك، على البداوة العربية ذات الظروف والمبررات الخاصة. ولا يشين البداوة أو القبيلة العربية انحيازها لبيئة الصحراء والرمال والنفود، ورفضها الاقتراب أو الاندماج في حياة الحضر والمدن.
حياة التنقل مرتبطة بحياة الرعي، وشحة المياه والخضرة في بلاد العرب، مما يضطرهم للتنقل المستمر، حسب مصادر المياه والكلأ. لكن تنقلها ليس مفتوحا بالمطلق، وانما ينحصر في أبعاد جغرافية معروفة لكل قبيلة، وثمة شبه اتفاق بين الجماعات القبلية والبدوية في تفهم موضوع موارد المعيشة.
والغالب ان حركة التنقل تكون موسمية، كاملة أو جزئية. ويمكن مقارنة اثار هاته الظاهرة في حياة مزارعي القرى، ممن تنعزل اراضيهم الزراعية عن سكناهم، فتجدهم في مراسم الحراثة والزرع والحصاد، يقيمون في أكواخ وعرازيل مصنوعة من القصب والأعشاب، ينقطعون خلالها عن سكناهم في القرية.
والقرية/ كريات/ جوره/ كرم، المقترنة بمضمار الزراعة، هي مرحلة تالية لضمار الرعي المتمثل بالقبيلة، أو مضمار الصيد المقترن بالبداوة. فهو تصنيف يستوجبه اختلاف نمط المعيشة،ونمط المعيشة يرتبط أساسا بالبيئة الجيومناخية، وعوامل المياه والحرارة.
ومن هذا المنظور، ينسب البعض ظهور البداوة في شبه جزيرة العرابيا إلى الانقلاب المناخي الحراري الذي رافقته تغيرات جيولوجية طوبوغرافية، فقدت معها التربة عناصر الخصوبة والتماسك، واختفت المياه وجفت الوديان جراء الحرارة الاستوائية وشحة المطر. وهو أمر، قد تكون له صلة بقصة الطوفان المذكورة في النصوص الشعرية والدينية القديمة.
وقد ذكر الدكتور احمد سوسه الذي شارك في ابحاث جيولوجية في العرابيا في ثلاثينيات القرن العشرين، عن قناعته بوجود وديان عميقة واسعة كانت مجاري انهار عظيمة وسط صحارى العرابيا قبل التغير المناخي، أو عقب الطوفان العظيم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في حديث (تضطرب نسبته لعبدالله ابن مسعود أو ابن عباس): انه لما بلغ عدنان قال النبيّ: كذّب النسّابة مرتين أو ثلاثة. وروى عن عمر الخطاب قوله: انما ننتسب إلى عدنان وما فوق ذلك لا ندري. وعن عروة بن الزبير قوله: ما وجدنا أحدا يعرف ما بين عدنان واسماعيل. وقال السهيلي في الروض الآنف: وما بعد عدنان من أسماء مضطرب فيه./[الروض الانف 1/ 1؛ أ. ه. ص23]




[26]
تاريخ مكة ..
(1)
من اليمن إلى مكة..
جرهم وقطوراء يومذاك هم أهل مكة. وهما ابنا عم، ظعنا من اليمن. وكان لهم فيها ملك يقيم أمرهم. ولما نزحا عنها شمالا ورأيا مكانا ذا ماء وشجر نزلا فيه. وكان على رأس جرهم مضاض بن عمرو، وعلى قطوراء السميدع.
ولما توفي اسماعيل ولى البيت بعده أبنه نابت، ثم خلفه بعده مِضاض ابن عمرو الجرهمي، فبغى واستحلّ خلال من الحرمة وظلم وأكل مال الكعبة الذي يهدى إليها، فقام عليه بنو بكر بن عبد مناة بن كنانة وغُبشان من خزاعة، فنفوه منها.
فخرج عمرو بن الحارث بن مضاض الجرهمي بغزالي الكعبة وبحَجَر الركن فدفنها في زمزم، وانطلق هو ومن معه من جرهم – عائدين- إلى اليمن (أ. هـ. 109)
نزل مضاض بمن معه من جرهم بأعلى مكة بقعيقعان [بالضمّ ثم الفتح: هو إسم جبل بأعلى مكة. وبينه وبين مكة اثنا عشر ميلا على طريق الحوف إلى اليمن. دعي القعيقعان لأن جرهم كانت تجعل فيه نسبها وجعابها ودرقها فكانت تقعقع فيه. وقيل أن مضاض بن عمرو (في قصة بغي جرهم على قطوراء) خرج في كتيبة سائرا إلى السميدع ومع كتيبته عدّتها من الرماح والدّرق والسيوف والجعاب يقعقع بذلك معه/ 108].
ونزل السميدع بقطوراء، أسفل مكة بأجياد [موضع بمكة يلي (الصفا) من جبل أبي قبيس].
فكان مضاض يعشّر من دخل مكة من اعلاها. وكان السميدع يعشّر من دخل مكة من أسفلها. وكلّ في قومه، لا يدخل واحد منهما على صاحبه. (أ. هـ. ص107)
ولارتباط مقامات الناس بطبيعة الأرض، جاء ردّ معاوية على قول عبد الرحمن بن خالد بن الوليد: أما والله لو كنت بمكة لعلمت، فقال له معاوية: كنت أكون ابن أبي سفيان ينشقّ عني الأبطح [الوادي الواسع]، وكنتَ أنت ابن خالد منزلك أجياد أعلاه مَدَرَة [قرية مبنية بالطين واللبن]، وأسفله عَذِرَة. (الامتاع والمؤانسة/ ج3/ ليلة 39/ ص485)
[هامش العبيدي: تزوج اسماعيل من جرهم حسب الرواية العربية، فجرهم أصهاره. وقطوراء نسبة إلى قطورة زوجة ابراهيم بعد وفاة سارة، وقد اعتبرها العرب من عمومة جرهم. بيد أن زوجة اسماعيل المصرية وقطورة زوجة ابراهيم كانتا من سكان سيناء بحسب مصادر التوراة، وقد وظفها النسابة العرب، لتجذير قريش وايجاد رابطة نبوية تربطهم بأصل ابراهيم الكلداني جدّ شعب العبرانيين، امتداداً نحو قريش وبني هاشم بهذه الطريقة الفهلوية!]

(2)
استبداد جرهم على سواهم..
ثم ان جرهما وقطوراء بغى بعضهم على بعض. وتنافسوا الملك بها. وكانت ولاية البيت – الكعبة- بيد جرهم دون السميدع. وفالتقا الجمعان وتقاتلا حتى قتل السميدع، ثم عقدو صلحا ووأسلموا الأمر الى مضاض... فكان الذي بين مضاض والسميدع أوّل بغي بمكة فيما يزعمون. وكانت جرهم ولاة الكعبة وحكام مكّة، لا ينازعهم ولد اسماعيل في ذلك لخؤولتهم وقرابتهم، وحرموا أن يكون فيها بغي أوقتال (وكانت مكة لا تقرّ فيها ظلما ولا يغيا، ولا يبغي فيها احد إلا أخرجته، فكانت تسمّى الناسّة [الناسّة: السوق الشديد (الزحنة والاكتظاظ)، والتناس هو السير الشديد. قال ثعلب: الناسّة من أسماء مكّة لقلة مائها، فكانت العرب تسمى مكان الناسّة لأن من بغى فيها أو أحدث، أخرج عنها]، ولا يريدها ملك يستحلّ حرمتها إلا هلك مكانه، فيقال أنها ما سمّيت بكة، إلا أنها كانت تبكّ عنق من يحدث فيها [والحديث ضد العتيق/ الامتاع والمؤانسة للتوحيدي]!!). فلما ضاقت مكة بولد اسماعيل انتشروا في البلاد، لا يعادون أحدا ولا يناوئونه (النوء والمناوأة المفاخرة والمعاداة). (أ. هـ. 108)
ثم أن جرهما بغوا بمكة وظلموا من دخلها وأكلوا مال الكعبة وهداياها (أ. هـ. 109). فلما رأى بنو بكر ابن عبد مناة بن كنانة، وغبشان من خزاعة ذلك، أجمعوا لحربهم وطردهم من مكة، فآذنوهم بالحرب فاقتتلوا، فغلب بنو كنانة وخزاعة، ونفوا جرهم من مكة.. فخرج عمرو بن الحارث بن مضاض بن جرهم بغزالي الكعبة وبحجر الركن فدفنها في زمزم. وانطلق هو ومن معه [عائدين] إلى اليمن. (أ. هـ. 109)
وذكر ابن الأثير أن جرهما لمّا بغوا واستحلوا حرمة البيت، ظلموا من دخل مكة، حتى قيل أن إسافا ونائلة [وهما من قبيلة جرهم: إساف بن بَغْي، ونائلة بنت ديك] زنيا في البيت، فمسخا حجرين. (الكامل في التاريخ/ ج1- ذكر هدم قريش الكعبة)

(3)
استبداد خزاعة بالولاية..
كانت خزاعة قد أقامت بتهامة بعد تفرّق أولاد عمرو بن عامر من اليمن.
فلما نزل الرعاف على جرهم أفناهم، فاجتمعت خزاعة على إجلاء من بقي منهم، ورئيس خزاعة يومها عمرو بن ربيعة بن حارثة. فاقتتلوا،
فلما أحسّ عامر بن الحارث الجرهمي بالهزيمة خرج بغزالي الكعبة والحجر الأسود يلتمس التوبة، وهو يقول: لا همّ أنّ جرهما عبادك، الناس طرفٌ وهم تلادك، بهم قديما عمّرت بلادك، فلم تقبل توبته. فدفن غزال الكعبة ببئر زمزم وطمّها وخرج بمن بقي من جرهم إلى أرض جهينة، فجاءهم سيل فذهب بهم أجمعين.
وولي البيت بعد جرهم: عمروا بن ربيعة الخزاعي، وقيل: عمرو بن الحادث الغسّاني، ثمّ خزاعة بعده. (الكامل في التاريخ- ج1)
ثم أن غبشان من خزاعة وليت البيت دون بني بكر بني كنانة، وكان الذي يليه منهم عمروا بن الحارث الغُبشلني. وقريش يومذاك حلول وصرم[بيوت مجتمعة منقطعة من الناس، وهم الفرقة من الناس ليسوا بالكثير]، وبيوتات متفرقون في قومهم من بني كنانة. فوليت خزاعة البيت يتوارثونه كابرا عن كابر، حتى كان آخرهم حُليل بن حبَشيّة (بفتح الحاء أو ضمّها) بن سلول بن كعب ابن عمرو الخزاعي.
ثم أن قصي بن كلاب خطب إلى حُلَيل بن حبشية ابنته حُبّى، فرب فيه حليل فزوّجه، فولدت له: عبد الدار، وعبد مناف، وعبد العزى، وعبدا. فلما انتشر ولد قضيّ وكثر ماله، وعظم شرفه، مات حليل. فرأى قصي أنه أولى بالكعبة وبأمر مكة من خزاعة وبني بكر.
فتشاور بنو قصي وبنو كنانة (أ. هـ. 111) على اخراج خزاعة وبني بكر من مكة، فاجابوهم... وخزاعة تزعم أن حُليل بن (حبشية) أوصى بذلك قصيّا، وأمره به حين انتشر له من الولد ما انتشر، وقال: أنت أولى بالكعبة، وبالقيام عليها، وبأمر مكة من خزاعة. فعند ذلك طلب قصيّ ما طلب، ولم يسمع ذلك من غيرهم [أي من بني عبد المطلب وكان ابن اسحق مولى لهم]، فالله أعلم أي ذلك يزعمون.

(4)
الناسّة، وبكّة..
وكانت مكة لا تقرّ فيها ظلما ولا بغيا، ولا يبغي فيها احد إلا أخرجته، فكانت تسمّى الناسّة [الناسّة: السوق الشديد (الزحنة والاكتظاظ)، والتناس هو السير الشديد. قال ثعلب: الناسّة من أسماء مكّة لقلة مائها، فكانت العرب تسمى مكان الناسّة لأن من بغى فيها أو أحدث، أخرج عنها]، ولا يريدها ملك يستحلّ حرمتها إلا هلك مكانه، فيقال أنها ما سمّيت بكة، إلا أنها كانت تبكّ عنق من يحدث فيها [والحديث ضد العتيق/ الامتاع والمؤانسة للتوحيدي].
وقيل: بكّة إسم لبطن مكّة. لأنّهم – يتباكون- فيها، أي يزدحمون، قال عامان بن كعب بن عمرو بن سعد بن زيد مناة بن تميم..
إذا الشّريبُ أخذتْه أكّه فخلّهٍ حتى يبُكّ بَكّه -نظم ركيك موضوع لتجذير اللفظ-
ومعنى الشطر الثاني: أي يخليها إلى الماء فتودحم عليه. وهو موضع البيت والمسجد.

(5)
حفر بئر زمزم..
بينما عبد المطلب بن هاشم نائم في (الحِجْر) إذ أتى فأمر بحفر زمزم، وهي دفن بين صنمي قريش [إساف ونائلة]، عند منحر قريش. وكانت جرهم دفنتها حين ظعنوا من مكة. وهي بئر اسماعيل بن ابراهيم التي ورد منها حين ظمئ وهو صغير.، فالتمست له أمّه ماء فلم تجده، فقامت على (الصفا) تدعو الله وتستغيثه لإسماعيل، ثم أتت (المروة)، [جبلان بمكة بين بطحائها والمسجد. أما الصفا فمكان مرتفع من جبل أبي قبيس يفصله عن المسجد سهل وادي هو طريق وسوق. ومن وقف على الصفا حاذى (الحجر الأسود) و (المشعر الحرام). والسعي بين الصفا والمروة من شعائر الحج في الاسلام] ففعلت مثل ذلك. وجاءها جبريل، فهمز (نَقَر/ حَفَر) الأرض بعقبه فظهر الماء. [أ. ه. ص106]
ــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: سيرة ابن اسحق النوفلي



[27]
كعبة مكة..
(1)
كان أهل كل دار يتخذون في دارهم صنما يعبدونه، فإذا أراد الرجل منهم سفرا تمسّح به حين يركب، فكان ذلك آخر ما يصنع حين يتوجّه إلى سفره، وإذا قدم تمسّح به، فكان ذلك أول ما يبدأ به قبل أن يدخل على أهله. (أ. ه. ص85)
وكانت العرب قد اتخذت مع الكعبة (طواغيت)، وهي (ص86) بيوت تعظمها كتعظيم الكعبة. لها سدنة وحجّاب، ويهدى لها كما تهدى للكعبة، وتطوف بها كطوافها بها، وتنحر عندها.
فكانت لقريش وكنانة –العزّى- بنَخْلة [نخلة الشامية: وديان لهذيل على ليلتين من مكة، يجتمعان ببطن قرّ وسبومة. وهو واد يصب من الغمير، واليمانية تصبّ من قرن المنازل وهو على طريق اليمن، مجتمعهما البستان/ معجم البلدان- 5/ 277] وكان سدنتها وحجابها بنو شيبان من سُليم بن منصور ابن عكرمة بن خصفة بن قيس بن غيلان، حلفاء أبي طالب من بني هاشم. (ا. ه. ص86)
(2)
وكانت (اللات) لثقيف بالطائف، وكان سدنتها بنو معتّب من ثقيف [صخرة بيضاء أحدث من مناة، وكا شخص يهودي يلت السويق عندها، تعظمها قريش وسائر العرب].
وكانت (مناة) للأوس والخزرج ومن دان بدينهم من أهل يثرب، على ساحل البحر من ناحية المشلّل بقُدَيد [مناة صخرة لهذيل، أقدم الصنام كلّها، على ساحل البحر من ناحية المشلّل بقديد بين المدينة ومكة، وكانت جميع العرب تعظمها] قال فيها الكميت بن زيد (من بني أسد بن خزيمة بن مدركة):
وقد آل قبائل لا تولي مناة ظهورها متحرّفينا
فبعث النبي إليها أبا سفيان بن حرب، وقيل عليّ بن عبد مناف، فهدمها.
وكان لحمير وأهل اليمن بيت يقال له (رئام).
وكانت (رضاء) بيتا لبني ربيعة بن كعب بن سعد بن زيد مناة ابن تميم.
(ذو الكعبات) لبكر وتغلب: ابني وائل وإياد بأرض سَنْداد [منازل لإياد نزلتها لما قاربت الريف بعد لصاف وشرح، وهو أسفل سواد الكوفة وراء نجران الكوفة./ معجم البلدان 3/ 266].
بين الخورنق والسّدير وبارق والبيت ذي الكعبات من سنداٍ
بيت لأعشى بني قيس بن ثعلبة، ويقال للأسود بن يعفر النهشلي [نهشل ابن دارم بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم] وهو من بني حارثة بن سلمى، يكنى أبا الجراح وكان أعمى من شعراء الجاهلية [الشعر والشعراء/ 152] وفي رواية لأبي محرز خلف الأحمر..
أهل الخورنق والسّدير وبارق والبيت ذي الشرفات من سٍنداد (إ. هـ. 90)
(3)
لما توفي اسماعيل ولى البيت بعده أبنه نابت، ثم خلفه بعده مِضاض ابن عمرو الجرهمي، فبغى واستحلّ خلال من الحرمة وظلم وأكل مال الكعبة الذي يهدى إليها، فقام عليه بنو بكر بن عبد مناة بن كنانة وغُبشان من خزاعة، فنفوه منها. فخرج عمرو بن الحارث بن مضاض الجرهمي بغزالي الكعبة وبحَجَر الركن فدفنها في زمزم، وانطلق هو ومن معه من جرهم – عائدين- إلى اليمن (أ. هـ. 109)
ولما كانت جرهم أصحاب الكعبة، تزوّج عامر بن عمرو بن خزيمة بن جعثمة بنت الحارث ابن مضاض الجرهمي، بنى جدارا في الكعبة، فسمى عامر بذلك جادرا، وقيل لولده" الجدرة لذلك. (إ. هـ. 103)
ثم أن جرهما بغوا بمكة وظلموا من دخلها وأكلوا مال الكعبة وهداياها (أ. هـ. 109). فلما رأى بنو بكر ابن عبد مناة بن كنانة، وغبشان من خزاعة ذلك، أجمعوا لحربهم وطردهم من مكة، فآذنوهم بالحرب فاقتتلوا، فغلب بنو كنانة وخزاعة، ونفوا جرهم من مكة.. فخرج عمرو بن الحارث بن مضاض بن جرهم بغزالي الكعبة وبحجر الركن فدفنها في زمزم. وانطلق هو ومن معه [عائدين] إلى اليمن. (أ. هـ. 109)
ثم أن قصي بن كلاب خطب إلى حُلَيل بن حبشية ابنته حُبّى، فرغب فيه حليل فزوّجه، فولدت له: عبد الدار، وعبد مناف، وعبد العزى، وعبدا. فلما انتشر ولد قضيّ وكثر ماله، وعظم شرفه، مات حليل. فرأى قصي أنه أولى بالكعبة وبأمر مكة من خزاعة وبني بكر. (أ. هـ. 111)
(4)
يزعمون ان أول ما كانت عبادة الحجارة في بني اسماعيل. أنه كان لا يظعن ظاعن من مكة ظاعن منهم، حين ضاقت عليهم، والتمسوا الفُسح في البلاد (الأرض)، إلا حمل معه حجرا من حجارة الحرم تعظيما للحرم. فحيثما نزلوا وضعوه فطافوا به كطوافهم بالكعبة، حتى سلخ ذلك بهم إلى أن كانوا يعبدون ما استحسنوا من الحجارة وأعجبهم. حتى خلف الخلوف (تتالت القرون) ونسوا ما كانوا عليه واستبدلوا بدين ابراهيم واسماعيل غيره، فعبدوا الأوثان وصاروا إلى ما كانت عليه الأمم قبلهم من الضلالات.
وفيهم على ذلك بقايا من عهد ابراهيم يتمسكون بها: من تعظيم البيت والطواف به والحج والعمرة والوقوف على عرفة والمزدلفة وهدي البُدْن والاهلال بالحج والعمرة، مع إدخالهم فيه ما ليس منه. فكانت كنانة وقريش إذا أهلوا قالوا: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، إلا شريك هو لك، تملكه وما ملك. فيوحدونه بالتلبية، ثم يدخلون معه أصنامهم ويجعلون ملكها بيده. (ابن هشام- ص82)
(5)
كان في قبائل مضر بن نزار بن معدّ بن عدنان [ولد مضر بن نزار رجلين: الياس وغيلان. وولد الياس ثلاثة نفر: مدركة (عامر) وطابخة (عمروا) وقمعة، وأمّهم خندف (الهرولة في المشي) وأسمها ليلى بنت حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة. ويزعم النسّاب أن خزاعة من ولد عمرو بن لحي بن قمعة بن الياس/ إ.هـ- ص79- 80]
ثلاث خلال:
1- الإجازة بالحجّ من عرفة، وكان ذلك إلى الغوث بن مرّ بن أدّ، وهو صوفة.
2- الإضافة من جمع إلى مٍنى، وكانت إلى بني زيد بن عدوان. وآخر من ولي ذلك منهم أبو سيارة عميلة بن العزل بن خالد.
3- النسيئ للشهور الحرم، فكان ذلك إلى القلمس وهو حذيفة بن فقيم بن كنانة، ثم إلى بنيه من بعده. ثم صار ذلك إلى أبي ثمامة وهو جنادة بن عوف بن قلع بن حذيفة. وقد عادت الأشهر الحرم إلى أصلها (في الاسلام) فأبطل النسيئ. (الكامل في التاريخ- ج1)
(6)
الحجّ..
[كلمة (حجّ) العربية مشتقة من اليونانية (hallius) والتي منها أيضا ( holly) أيّ: مقدس].
كان الغوث بن مرّ بن ادّ بن طابخة [نسبة إلى المطابخ (موضع في مكة ذكر فيقصة تبّع) : شعب بأعلى مكة حيث اصطلحت جرهم وقطوراء وأسلموا الأمر إلى مُضاض، فلما جمع أمرها إليه وصار مكلما على مكة نحر للناس فأطعمهم، فاطّبخ الناس واكلوا/ ص108] بن الياس بن مضر يلي الاجازة (موضع سوق عند عربفات كانت إجازة الحج تؤذن فيه) للناس بالحجّ من عرفة، وولده من بعد. وكان يقال له ولولده (صُوفة) [نسبة إلى رداء صوف كان يأتزر به لخدمة الكعبة،وقيل أنما أمّه ألبسته ذلك نذرا للخدمة]. وكانت أمّه امرأة من جرهم، كانت لا تلد. فنذرت لله أن هي ولدت أن تجعله عبدا لخدمة المعبة، والقيام بأمورها، فولدت الغوث. وكان يقوم على الكعبة في الدفر الأول مع أخواله من جرهم، وولده من بعده حتى انقرضوا.
قال مرّ بن أدّ لوفاء نذر أمّه..
إني جعلت ربّ مٍن بنيّه ربيطةً بمكّة العليّه
فباركنَّ لي بها أليّه واجْعله لي من صالحٍ البريّه
وكان الغوثُ بن مرّ – فيما زعموا- إذا دفع بالناس قال..
لا هُمَّ إني تابع تباعه إن كان إثم فعلى قضاعة [يظهر الوضع في البيت بغرض النيل من قضاعة ندّ جرهم، ويقال أنه كان من قضاعة من يستحلّ الأشهر الحرم، فجعل إثمه عليهم]
كانت صوفة تدفع بالناس من عرفة. وتجيز بهم إذا نفروا من مٍنى. فغذا كان يوم النّفر أتَوا لرمي الجٍمَار. ورجل من صوفة يرمي للناس، لا يرمون حتى يرمي. فكان ذوو الحجات المتعجّلون ياتونه فيقولون له: قمْ فارمٍ حتى مرمي معك، فيقول: لا والله، حتى تميل الشمس.
فيظلّ ذوو الحاجات الذين يحبّون التعجّل، يرمونه بالحجارة ويستعجلونه بذلك، ويقولون له: ويلك! قمْ فارمٍ!، فيأبى عليهم، حتى إذا مالت الشمس قام فرمى، ورمى الناس معه.
فإذا فرغوا من رمي الجٍمار وأرادوا النّفر من منى، أخذت صوفة بجانبي العَقضبة، فحبسوا الناس وقالوا: أجيزي صوفة، فلم يجز أحد من الناس حتى يمرّوا. فإذا نفرت صوفة ومضت، خُلّي سبيل الناس فانطلقوا بعدهم. فكانوا كذلك حتى انقرضوا.
فورثهم من بعدهم بالقُعْدَدٍ (أي رجل قريب من الجدّ الأكبر)، بنو سعد بن زيد مناة بن تميم. وكانت من بني سعد في آل صَفوان [ابنُ جناب بن شٍجْنة بن عُطارد بن عوف بن كعب ابن سعد بن زيد مناة بن تميم] بن الحارث بن شٍجْنة. وكان صَفْوان هو الذي يجيز للناس بالحج من عرفة، ثم بنوه من بعده، حتى كان آخرهم كَرٍبُ بن صَفْوان الذي أدرك عهد الاسلام.
زقال الشاعر أوس ابن تميم بن مَعْراء السّعدي..
لا يبرح الناس ما حجّوا مَعَرَّفَهُم حتى يقال: أجيزوا آلُ صَفوانا [أ. هـ. 112- 113]
(7)
الأشهر الحُرُم..
كان للعرب ثمانية أشهر حُرُم من كل سنة، يسمونها (البَسْل). يسيرون خلاله إلى أي بلاد العرب شاءوا لا يخافون منهم شيئا. و(البسْل) في اللغة من الأضداد، وهو الحرام والحلال والواحد والجمع والمذكر والمؤنث [لسان العرب].
تأمّلْ فإنْ تُقْوٍ المُرَوْرَاة منهمو ودارتها لا تُقْوٍمنهم إذا نَخْلُ
بلاد بها نادمتهم وألفتُهم فإنْ تُقْوٍيا منهم فأنّهمو بَسْلُ
ينسب البيت إلى زهير بن أبي سلمى، يعني بني مرّة [زهير اأحد بني مُزَينة بن أدّ بن طابخة بن الياس بن مضر، ويقال: زهير بن أبي سلمى من غطفان، أو حليف في غطفان]. (إ.هـ. 101)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
• المصدر: سيرة ابن اسحق النوفلي



[28]
أصل قريش..

أصل تسمية قريش..
سميت قريش من التقرّش، بمعنى التجارة والاكتساب. قال رؤبة بن الحجاج..
قد كان يغنيهم عن الشغوش والخشل من تساقط القروش
شحم ومحض ليس بالمغشوش
[الشغوش القمح، والخشل رؤوس الخلاخيل والسورة ونحوه، والقروش التجارة والاكتساب، المحض اللبن الحليب الخالص]

وقال أبو جلدة اليشكري (ابن بكر) بن وائل..
إخوة قرّشوا الذنوب علينا في حديث من عمرنا وقديم
قال ابن اسحق: سميت قريش لتجمعها من بعد تفرقها ويقال للتجميع التقرّش.

النضر: قريش. فمن كان من ولده فهو قرشيّ. (ا. ه. ص93)
ويقال: فهر بن مالك: قريش. فمن كان من ولده فهو قرشيّ.

ولد مدركة بن الياس رجلين: خزيمة وهذيل. وأمّهما من قضاعة.
ولد خزيمة بن مدركة أربعة نفر: كنانة وأسد، وأسدة، والهون. وأم كنانة: عُوانة بنت سعد بن قيس بن غيلان بن مضر.
فولد كنانة أربعة نفر: النضر، ومالك، وعبد مناة، ومِلكان. وأمّ النضر : برة بنت مرّ بن أدّ ابن طابخة بن الياس بن مضر (اخت تميم بن مرّ). وسائر بنيه لامرأة اخرى.
ويقول ابن هشام: ام المضر ومالك وملكان هي برة بنت مرّ. وأم عبد مناة هالة بنت سويد بن الغطريف من أزد شنوءة، وشنوءة هو عبدالله بن كعب بن عبدالله ابن مالك ابن نضر بن الأسد بن الغوث. سمّي شنوءة لشنآن كان بينهم، والشنآن هو البغض.

ولد النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة (عامر) بن الياس ابن مضر بن نزار بن معد بن عدنان [روى عن عروة بن الزبير قوله: ما وجدنا أحدا يعرف ما بين عدنان واسماعيل. وقال السهيلي في الروض الآنف: وما بعد عدنان من أسماء مضطرب فيه. روى ابن عباس انه لما بلغ عدنان قال (النبي): كذّب النسابون مرتين أو ثلاثة.والأصح في هذا الحديث أنه من قول ابن مسعود. وروى عن عمر الخطاب قوله: انما ننتسب إلى عدنان وما فوق ذلك لا ندري.(الروض الانف 1/ 1) – أ. ه. ص23] رجلين: مالكا ويخلدا. وام مالك: عاتكة بنت عدوان بن عمرو بن قيس بن عيلان. (ا. ه. ص94)

قال ابن هشام (مضيفا): الصلت بن النضر بن كنانة 0 فيما قال ابو عمرو المدني- وأمهم جميعا بنت سعد بن ظرب العَدواني، وعدوان: ابن عمروا بن قيس بن عيلان. قال كثيّر عزّة (من بني مليح بن عمرو من خزاعة)..
أليس أبي بالصلت أم ليس أخوتي لكل هجان من بني النضر أزهرا
رأيت ثياب العصب مختلط السدى بنا وبهم والحضرميّ المخصّرا
فإن لم يكونوا من بني النضر فاتركوا أراكا بأذناب الفوائج أخضرا
فولد مالك بن النضر: فهر بن مالك، وأمه جندلة بنت الحارث ابن مضاض الجرهمي.
فولد فهر بن مالك أربعة نفر: غالب، ومحارب، والحارث، وأسد، وأمهم ليلى بنت سعد بن هذيل بن مدركة.
قال ابن هشام: وجندلة بنت فهر، وهي ام يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة ابن تميم، وأمها ليلى بنت سعد. (بدلالة) قول جرير بن عطية بن (الخطفي) حذيفة بن بدر بن سلمة بن عوف بن كليب بن يربوع بن حنظلة:
وإذا غضبت رمى ورائي بالحصى أبناء جندلة كخير الجندلِ
فولد غالب بن فهر رجلين: لؤي وتيم. ويضيف لهما ابن هشام: قيس بن غالب. أمهم جميعا سلمى بنت كعب بن عمرو الخزاعي. ويقال لهم: بنو الأدرم. (ا. ه. ص95)
فولد لؤي بن غالب أربعة نفر: كعب، وعامر، وسامة، وعوف.
أم كعب وعامر وسامة: ماوية بنت كعب ابن القين بن جسر من قضاعة.
ويضيف لهم ابن هشام: الحارث ابن لؤي (وهم جشم بن الحارث في هزان من ربيعة)، وسعد بن لؤي (وهم بنانة، في شيبان بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن وائل من ربيعة)، وخزيمة بن لؤي بن غالب (وهم عائذة فيشيبان بن ثعلبة. وعائذة امرأة من اليمن هي أم بني عبيد بن خزيمة بن لؤي). (أ. ه. ص96)
اختلف عامر وسامة أبناء لؤي، فخرج الثاني إلى أرض عُمان، ومات هناك. (ا. ه. ص97)
فولد كعب بن لؤي ثلاثة نفر: مرّة، وعدي، وهصيص، وأمهم وحشيّة بنت شيبان بن محارب بن فهر بن مالك ابن النضر. فولد مرّة بن كعب ابن لؤي ثلاثة: كلاب، وتيم، ويقظة. فولد كلاب بن مرة رجلين: قصي، وزهرة. (أزه. ص102) وأمهما فاطمة بنت سعد بن سيل أحد (بني) الجَدَرة، من جعثمة الآزد من اليمن. ويقال خثعمة الأسد. وهو خثعمة بن يشكر ابن مبشّر بن صعب بن دهمان بن نضر بن زهران بن الحارث بن كعب بن عبدالله ابن مالك بن نضر بن الأسد بن الغوث. ويقال خثعمة: بن يشكر بن ميشّر بن صعب بن نضر بن زهران بن السد بن الغوث. وانما سمّوا الجدَرة، لأن عامر بن عمرو بن خزيمة بن جعثمة تزوّج بنت الحارث ابن مضاض الجرهمي – وكانت جرهم أصحاب الكعبة- فبنى للكعبة جدارا، فسمّى عامر بذلك الجادر، فقيل لولده (الجدرة) لذلك.
و(أضاف) ابن هشام: ونعم بنت كلاب، وهي أمّ سعد وسعيد، ابني سهم بن عمرو ابن هصيص بن كعب بن لؤي، وأمها: فاطمة بنت سعد بن سيل.
فولد قصي بن كلاب اربعة نفر وامراتين: عبد مناف،(أ. ه. ص103) وعبد الدار، وعبد اعزّى، وعبد قصي، وتخمُر، وبرّة. وأمّهم: حُبَّى بنت حُليل بن حبشيَّة بن سلول ابن كعب ابن عمرو الخزاعي.
فولد عبدُ مناف – واسمه المغير بن قصيّ- أربعة نفر: هاشم، وعبد شمس، المطلب، (وأمّهم عاتكة بنت مرّة بن هلال بن فالج بن ذكوان بن ثعلبة بن بُهثة بن سليم بن منصور بن عكرمة)، ونوفل بن عبد مناف (وأمه واقدة بنت عمرو المازنية، مازن بن منصور بن عكرمة).
وبهذا النسب خالفهم عتبة ابن غزوان بن جابر بن وهب بن نسيب ابن مالك بن الحارث بن مازن بن منصور بن عكرمة.
(ويصيف) ابن هشام لولد عبد مناف: أبو عمرو، وتماضر، وقلابة، وحيّة، ورَيْطة، وأم الخثم، وأم سفيان، بني عبد مناف (الغيرة) بن قصي بن كلاب.
فولد هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب أربعة نفر، وخمس نسوة: عبد المطلب، وأسد، وأبا صيفيّ، ونضلة، والشفاء، وخالدة، وضعيفة، ورقية، وحيّة. وأمّ عبد المطلب ورقيّة: سلمى بنت عمرو بن زيد ابن لبيد (ابن حرام) بن خداش بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار (النجار هو تيم الله بن ثعلبة بن عمرو بن الخزرج بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو ابن عامر) وأمها: عميرة بنت صخر بن الحارث بن ثعلبة بن مازن بن النجار. وأم عميرة: سلمى بنت عبد الأشهل النجارية. (أ. ه. ص104)
ولد عبد المطلب بن هاشم عشرة نفر وست نسوة: العباس، وحمزة، وعبدالل، وعبد مناف (أبو طالب)، والزبير، والحارث، وحجلا، والمقوّم، وضرار، وعبد العزّى (أبو لهب)، وصفية، وأم حكيم البيضاء، وعاتكة، وأميمة، وأروى، وبرّة.
العباس وضرار: أمهم نثيلة بنت جناب بن كليب بن مالك بن عمرو بن عامر ابن زيد ابن مناة بن عامر – وهو الضحيان- بن سعد بن الخزرج بن تيم اللات بن انمر بن قاسط بن هنّب بن افصى بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن يزار- ويقال: أقصى بن دعميُّ بن جديلة- .
حمزة والمقوّم وحجل وصفيّة: أمهم هالة بنت وهيب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بنمرة بن كعب بن لؤي.
عبدالله والزبير وعبد مناف وبقية النساء (عدا صفية): أمهم فاطمة بنت عمرو بن عائد بن عمران بن مخزوم بن يقظة بن مرّة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر
الحارث: أمه سمراء بنت جندب بن حجير بن رئاب ابن حبيب بن سوادة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة.
عبد العزي (أبو لهب): أمه لبنى بنت هاجر بن عبد مناف بن ضاطر بن حبشية بن سلول ابن كعب بن عمرو الخزاعي.
ولد عبدالله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي، محمدا. وامه (امنة) بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي ابن غالب بن فهر بن مالك بن النضر. (أ. ه. ص105)
ــــــــــــــــــــــ
* المصدر: عن سيرة ابن اسحق النوفلي.



[29]
(القرآن)..

(1)
(القرآن).. كتاب العرب الأول، كما (التوراة) كتاب العبرانيين الأول. هكذا أريدَ له أن يكون ويعرَف بين الناس. ولم يكن -الناس- حين ظهوره، على عناية بمثله، أو حاجته، فلم يجد اهتماما، بل لقي اعتراضا وتبخيسا من وجهاء القوم وكبار الناس. وهؤلاء هم المتعلمون والأغنياء والحكام المحليّون.
وقد بقي (القرآن) وأهله غرباء مهمَلين على هامش مكة وأهلها، حتى كاد الأمر أن يضمحل ويزول، قبلما تتبلور آليات الدولة واستراتيجية العنف المركزي، المتمثل ببناء قوة عسكرية، يقودها أمراء، تصدر إليهم الأوامر والتعليمات، من رأس الدولة والزعيم الديني الأعلى.
ومع استراتيجية العنف السياديني، تظهر ضرورة التحول الجغرافي والسكاني –تغيير المسرح والجمهور- الى حاضنة متقدمة. وعلى خلاف الحاضنة الاجتماعية المكية، استقبلت الجماعة المستجدة بالرعاية والاحترام والدعم..[ألم نشرح لك صدرك، ووضعنا عنك وزرك، الذي أنقض ظهرك، ورفعنا لك ذكرك؟.. ألم يجدك يتيما فآوى، ووجدك ضالا فهدى، ووجدك عائلا فأغنى!..*]- (الشرح 1-4، والضحى 6- 8).
وكان المفترض، بعد (فتح مكة)/ (العام التاسع للهجرة) عودة المسلمين إلى موطنهم التاريخي، وموطن جدودهم (عدنان واسماعيل). ولا يرد سبب عدم ذلك، وسوف يموت محمد نفسه في (يثرب) ويدفن بعيدا عن زوجته الأولى وعمّه أبي طالب.
أن اتصال مكة بالكعبة المتخذة مركزا للدين الجديد وطقوسه الرئيسة، لا يترك عذرا لعدم اتخاذه عاصمة، والميل عنه للأقل أهمية ودلالة تاريخية. وفي حال، وجود قرار مسبق في المر، مما لا احتمال له، كان الأولى ترسيم مركز مستقل عن كل من (مكة قريش) و(يثرب يهود)، لتكون عاصمة الدين الجديد الذي كان يسعى في مشروع الدعائي لقطع كل صلة بالماضي الجاهلي.
من الممكن القول، أن عدم الاهتمام ببناء (عاصمة) يؤكد غياب فكرة (الدولة) والحكم في أصل الدين الجديد. وفكرة بناء منزل للرسول بجانب مسجد قباء، كان تابعا لمحاولة اغتياله المشهورة، ليس إلا. وكل ما جرى لاحقا، في سقيفة القس بني ساعدة، كان شأنا عمريا محضا، وإحداثا في النص بما ليس منه.
المسكوت عنه، أو المحذوف من سطور التاريخ، يتأكد في قرار نقل العاصمة إلى (كوفة) العراق، على خلفيات الخلاف بين علي وعمر، وعدم رضاء الأول بمحدثات الثاني، واختياره الخروج من تلك التربة إلى ما هو ابعد، شمالا.
قرار نقل العاصمة الحجازية إلى العراق، ما يزال لغزا، ترتبت عليه عواقب وخيمة، ولكن العوامل والمبررات التي كانت وراء هي أكثر وخامة. بل هي تتعدى الإطار الشخصي الذي تورده كتب التراث، إلى جملة الدين وأصوله وإملاءات الرسول، ما خلا العائلية منها.

(2)
ملاحظة أولى..
يقسم المعنيون فترة الابتداء تلك إلى قسمين: وهما أساس دراسة كل ما يتعلق بالإسلام، بينما تجاوزهما والتعتيم عليهما وعلى تفاصيلهما، أساس الخلط والخبط واللبط، في أفهام العرب وأحوالهم اليوم.
والقسم الأول هو المكان الأول، والفترة الزمنية الاولى، المعروفة بمرحلة (مكة/ بكا)، ويحددها المؤرخون بثلاثة عشر عاما، ابتداء من أول بزوغ الفكرة. ولم يتجاوز عدد أتباعها خلالئذ، المائة شخص. في هاته المرحلة، استخدم القرآن الدعوة السلمية والإعلام الدعائي، عندما كان يوعز لأصحاب الأصوات الموسيقية تلحينه، وغناءه في مراكز الأسواق ومفترقات الطرق، لاجتذاب الناس واستعطافهم، وسيما النساء وضعفاء الحال، إضافة إلى الترويج القسري لشخصيات وأفكار يرفضها المجتمع التقليدي. بينما تراجع أثره ودوره في العهد السياسي التوسعي، وضع الحركة أمام مسؤوليات لا عهد لهم بها: مثل الإدارة والسلطة وإدارة المال العام والقضاء.
والقسم الثاني، هو الفترة اللاحقة عقب ترك مكة إلى [الحبشة ويثرب]، عندما توزع المائة شخصا أخيرا بين حبشة النجاشي المسيحي وهم (سبعون شخصا)، والعدد الأقل البقية انتشروا في الأطراف، حتى أذن لهم يهود يثرب وبنو ساعدة بالإيواء بينهم.
في وقت لاحق، تحول (القرآن) إلى مركز حركة اجتماعية سياسية، ذات طابع ومضمون عسكري، حملت اسم (الإسلام). وبالاسم الجديد وقوته العسكرية المحركة، سوف ينتشر الفكر القرآني/(القيادة المكية)، والخطاب القبلي/ (الحاشية والأداة التنفيذية) من مدينة لما يليها.. لتتسع خارج الحجاز أولا، ثم خارج شبه جزيرة عرابيا.
الملاحظة الثانية من البحث..
التركيز على تقسيم الدراسة والتفكير بين اثنين كلا على حدة..
- القرآن ككتاب ودستور شامل جامع مانع وما يتعلق به على حدة..
- الإسلام كحركة سياسية توسعية وما يتعلق به على حدة..

هذا الفصل ضرورة دراسية منهجية، كما هو ظاهرة تاريخية زمنية، أوقع الخلط واللبس بينهما، العرب والمسلمين في مزيد من حيص بيص حتى اليوم. هذا الفصل أيضا، سيكون ضرورة لتصنيف التيارات والحركات الظاهرة عبر الزمن، داخل الإشكالية الإسلامية، حيث عوّل بعضها على (القرآن) الكتاب، وعوّل الآخر على (الإسلام) الحركة، مما انعكس على أزمة الهوية والخطاب المسلم.
من غير إقرار بخلافية أصلية وخط مزدوج في أساس الدين الجديد، عن ينتهي الخلاف البنيوي داخل الفكر/ الحركة/ المجتمع الإسلامي. الخلافية الإشكالية هنا تمثلت بالخطّ العمري الذي يتجاوزه أثره في الإسلام أية شخصية أخرى. وفضلا عن جملة الإضافات والمحذوفات النصية والفقهية التي يقوم بها، ثمة البناء السياسي والعسكري للدولة الدينية. ولعل إهمال المؤرخين لدوره في (الغزوات)، إقرارا بدور غير عادي له، يتمثل في كونه المهندس المصمم وصاحب الفكرة في توفير الموارد من خلال الغزو، وهو المتصدي الأكبر لمشروع التوسع العسكري الإمبراطوري ودفعه الجيوش شرقا وغربا، كما هو معروف، بينما لم تتعد حروب أبي بكر، إعادة تجميع قبائل العرابيا تحت راية الإسلام.

(3)
الملاحظة الثالثة..
تكشف نصوص القرآن وسيرة ابن اسحاق النوفلي، أمرين تم بخسهما في واقع الفهم والدراسة وهما..
- رفض قريش ووجهاء العرب وأشخاص الدعاة الجدد لأسباب وجيهة الاعتبار..
- رفض أهل الكتاب التفسير والرواية المنسوخة لأسفارهم وقصصهم الدينية والتاريخية..
ففي البند الأول استغرب أهل قريش مطالبة نفر من –المتمردين من قاع المجتمع- السيادة على المجتمع وفرض سلطاتهم وأفكارهم. بينما وجد أن الجزء الأعظم من (قرآن مكة) يتناول نسخ قصص وشخصيات العبرانيين والمسيحيين، بطرق تخالف نصوصهم الكتابية، وتراوغ تعاليمهم الدينية والروحية.
وما يزال المسلم المعاصر في عصر الانترنت وسيولة المعارف، وتوفره على أدوات القراءة والدراسة، يستند الى المرويات القرآنية المشوهة عن العبرانيين والمسيحيين، وينعتهم بأسماء محرفة ومدلسة، يجادل بها ويتفاخر، دون ان يراجع المصادر القديمة والنصوص المنقول عنها، ويقرأها قراءة محايدة من غير أحكام مسبقة.
علما أن المصادر التي نهل عنها القرآن ليست الإسفار الكتابية القانونية المعروفة لليوم لدى أهلها، وإنما هي المصادر التأويلية الشفاهية من مرويات التلمود المشوهة أو الأسفار غير القانونية في المسيحية، بما فيها الأناجيل المزورة والمحرفة المعروفة عند الدارسين المعنيين.
وعندما لا يجد المسلم مصداق مرويات القرآن عن أهل الكتاب في كتبهم القانونية الحالية، يتهم الكتب بالتحريف والتزوير. ويفوته أن التزوير هو اللاحق والأصل هو السابق، وكتب أهل الكتاب سابقة تاريخيا وثقافيا ومثبتة بكل المعايير، بينما (القرآن) لاحق ومحدث، وهو الذي اخذ عن سابقيه وتطرق لأحوالهم وأخبارهم التي وصفها بـ(احسن القصص)!..

(4)
قرآن يثرب..
وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله ولله ميراث السموات والأرض. لا يستوي/(يتساوى) منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل، أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد، وقاتلوا، وكلا وعد الله الحسنى، والله بما تعملون خبير. من الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له وله أجر كريم- (الحديد 10- 11)
فاليوم لا يؤخذ منكم فدية، ولا من الذين كفروا، مأواكم النار هي مولاكم وبئس المصير-(الحديد 15)
الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل، ومن يتولّ فأن الله هو الغني الحميد. لقد أرسلنا رسلنا بالبينات، وأنزلنا معهم الكتاب والميزان، ليقوم الناس بالقسط، وأنزلما الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس، وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب، ان الله قوي عزيز- (الحديد 25)
لئلا يعلم أهل الكتاب، ألا يقدرون على شيء من فضل الله، وان الفضل بيد الله، يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم- (الحديد 29) /
ان الذين يحادّون الله ورسوله كُبِتوا كما كُبِت الذين من قبلهم، وقد أنزلنا ايات بينات وللكافرين عذاب مهين. يوم يبعثهم الله جميعا فينبئهم بما عملوا، احصاه الله ورسوله ونسوه، والله على كل شيء شهيد- (المجادلة 5- 6)
أأشفقتم ان تقدموا بين يدي نجواكم صدقات، فإذ لم تفعلوا، وتاب الله عليكم، فأقيموا الصلاة وأتوا الزكاة وأطيعوا الله ورسوله والله خبير بما تعلمون- (المجادلة 13)
لن تغني عنهم اموالهم ولا اولادهم من الله شيئا، اولئك اصحاب النار هم فيها خالدون- (المجادلة 17)
ان الذين يحادّون الله ورسوله اولئك في الاذلين- (المجادلة 20)
لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الاخر يوادّون من حادّ الله ورسوله ولو كانوا اباءهم أو أبناءهم أو اخوانهم او عشيرتهم..- (المجادلة 22)
هو الذي أخرج الذين كفروا من اهل الكتاب من ديارهم، لأول الحشر، ما ظننتم ان يخرجوا، وظنوا انهم مانعتهم حصونهم من الله، فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب، يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين، فاعتبروا يا اولي الابصار. ولولا ان كتب الله عليهم الجلاء، لعذبهم في الدنيا ولهم في الاخرة عذاب النار. ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوه، وم يشاقّ الله فأن الل شديد العقاب- (الحشر 2- 4)
وما أفاء الله على رسوله منهم، فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب، ولكن الله يسلط رسله على من يشاء والله لى كل شيء قدير. ما أفاء الله على رسوله من اهل الرى، فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، كي لا يكون /(المال) دولة بين الاغنياء منكم، وما اتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا، واتقوا الله ان الله شديد العقاب. للفقراء المهاجرين الذين اخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله اولئك هم الصادقون. والذين تبوأوا الدار والايمان من قبلهم، يحبون من هاجر اليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما اوتوا، ويؤثرون على انفسهم ولو كان بهم خصتصة، ومن يوق شح نفسه فاولئك هم المفلحون. والذين جاءوكم من بعدهم، يقولون ربنا اغفر لنا ولاخواننا الذين سبقونا بالايمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين امنوا ربنا انك رؤوف رحيمز الت تر الى الذين نافقوا، يقولون لاخوانهم الذين كفروا من اهل الكتاب لئن اخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع احدا ابدا وان قوتلتم لننصرنكم والله يشهد انهم لكاذبون. لئن اخرجوا لا يخرجون معهم ولئم قوتلوا لا ينصرونهم ولئن نصروهم ليولن الادبار ثم لا ينصرون. لأنتم اشد رهبة في صدورهم من الله ذلك بأنهم قوم لا يفقهون. لا يقاتلونكم جميعا الا في قرى محصّنة او من وراء جدر، بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى، ذلك بأنهم قوم قوم لا يعقلون. كمثل الذين من قبلهم قريبا ذاقوا وبال امرهم ولهم عذاب اليم- (الحشر 6- 15) /
المقصود بهم اليهود، والاشارة الى البيعة الاولى والثانية مع اهل يثرب، الامر الذي سرى على بقية يهود الجزيرة ومنهم يهود خيبر الموصوفين هنا بعدما جرى لاخوانهم في يثرب وما كان بينهم من نجاوى – اتفاق سري- وردت الاشارة اليها في سورة المجادلة (7- 10).
لا تتخذوا عدوي وعدوكم اولياء تلقون اليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق، يخرجون الرسول واياكم، ان تؤمنوا بالله ربكم ان كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي، تسرون اليهم بالمودة وأنا اعلم بما اخفيتم وما اعلنتم، ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل. ان يثقفوكم يكونوا اعداء ويبسطوا اليكم ايديهم والسنتهم بالسوء، وودّوا لو تكفرون. لن تنفعكم ارحامكم ولا اولادكم يوم القيامة يفصل بينكم، والله بما تعملون بصير-(الممتحنة 1- 3)
عسى الله ان يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة، والله قدير والله غفور حكيم. لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم، ان تبروهم وتقسطوا اليهم، ان الله يحب المقسطين. انما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين واخرجوكم من دياركم وظاهروا على اخراجكم، ان تولوهم ومن يتولهم فاولئك هم الظالمون- (الممتحنة 7- 9)
يا ايها الذين امنوا اذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن، الله يعلم بايمانهن، فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن الى الكفار، لا هن حل لهم، ولا هم يحلون لهن، واتوهم ما انفقوا[أدفعوا مهورهن لذويهن ممن لم يدخلوا في الاسلام]، ولا جناح عليكم ان تنكحوهن اذا أتيتموهن اجورهن ولا تمسكوا بعصم الكوافر، واسألوا ما انفقتم وليسألوا ما أنفقوا، ذلكم حكم الله يحكم بينكم والله عليم حكيم. وان فاتكم شيء من ازواحكم الى الكفار، فعاقبتم فاتوا الذين ذهبت ازواجهم مثل ما انفقوا، واتقوا الله الذين انتم به مؤمنون- (الممتحنة 10- 11)
يا أيها الذين امنوا لم تقولوا ما تفعلون. كبر مقتا عند الله ان تقولوا ما تفعلون/[عدم الوفاء بشروط البيعة من قبل بعض اليثاربة]. ان الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص/ [يعني عدم خروج بعض الانصار للقتال مع المهاجرين وقد يكونوا نفرين او أربعة من كبار السن كما في الرواية]- (الصف 2- 4)
يا ايها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب اليم. تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وانفسكم. ذلكم خير لكم ان كنتم تعلمون- (الصف 10- 11). وفيها يستشهد بموسى وعيسى عطفا على موقفه، لكنهما لم يتخذا السيف وسيلة للتبليغ وفرض انفسهم على الناس.
مثل الذين حمّلوا التوراة ثم لم يحملوها، كمثل الحمار يحمل اسفارا/[مثال يعفور]، بئس مثل القوم الذين كذبوا بايات الله- (الجمعة 5) – لعدم التزامهم ترك البيع والشراء يوم اجمعة حين انشغال المسلمين بالصلاة، وله مردود اقتصادي وخسارة على تجار المسلمين. لكنه لا يشير بالمقابل، لاستمرار تجارة المسلمين يوم السبت بينما اليهود عاكفون للعبادة!.
هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا، ولله خزائن السموات والارضن ولكن المنافقين لا يفقهون. يقولون لئن رجعنا الى المدينة ليخرجن الاعز منها الاذل، ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين- (المنافقون 8)/ وكلها تقريع وادانة لاهل يثرب لعدم ايمانهم بمحمد وخدمته بانفسهم واموالهم وكل ما يملكون.
انما اموالكم واولادكم فتنة، والله عنده اجر عظيم. فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا واطيعوا وانفقوا خيرا لانفسكم، ومن يوق شح نفسه فاولئك هم المفلحون. ان تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم- (التغابن 15- 17)/ لاحظ الموقف من الاولاد والاموال، وافتقاد محمد لكليهما، وإذ حرمهما سن تشريعا لمصادرتهما تحت عنوان الايان والشريعة..
سورة الطلاق مرتبطة بسورة الممتحنة في خصوص تنظيم الاحوال المدنية لظهور مشكلة نساء بغير رجال ورجال بغير نساء في مجتمع الهجرة، مما استدعى تشريعا لمنع الفوضى والتغابن.. ومثلها سورة التحريم المختصة بتنظيم معاملات النساء وامورهن، بما فيه الموقف من نساء النبي وتنظيم السلوك الاجتماعي تجاه بيته ونسائه، وفيما بين نسائه.
يا ايها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير- (التحريم 9)/ وهي محشورة هنا لا مكان لها في نص يتناول الامور النسائية، وهي مكرورة في سور اخرى..

(5)
جاءت حركة النبي وصحبه خارج مكة بعد ثلاثة عشر عاما من بدء الرسالة، وهي الحقبة التي اصطلح الدارسون عليها بالاسلام المكي و(القرآن) المكي، تمييزا عن الحقبة التالية، وتغير اللغة والأداة والاسلوب خلالها. ذلك الاختلاف الذي اجتهد المتداخلون في تعليله وتأويله، وذهب المدافعون منهم، لاختصاص الحقبة المكية بالتبشير والانذار، والحقبة الهجرية بالعمل والتطبيق.
ويميز تدبيج القرآن بين [م= مكية] و [د- مدنية] في استهلال السورة وملحقا بالبسملة. وفضلا عن تمييز سورة كاملة الى (م. د.)، فأن ثمة سورا من كلا الجانبين، تخللتها أعداد من حقبة مختلفة، سواء حسب الموضوع أو الحكم أو غيرهما.
واقع الحال ان الحقبة الهجرية اليثربية اقترنت بظهور شخصية (زيد بن ثابت الأنصاري) الذي يعينه النبي كاتبا للوحي، ويجعل داره ملاصقا لداره، ليكون حاضرا عنده فور الضرورة. بينما عرفت الحقبة المكية (تعدد) كتاب الوحي.
وسوف يبقى (زيد بن ثابت الانصاري) الكاتب الأوحد والمعتمد الرئيس المسؤول عن تدوين القرآن في عهود ابي بكر وعمر وعثمان. وينسب اليه المؤرخون والدارسون القدماء، التصرف في تنميق (السجع) في أواخر الآيات، وادخال الأحرف الثمانية والعشرين في استهلال بعض السور، سيما المدنية، كالبقرة.
الدارسون المعاصرون، يرون ان العهد الهجري هو عهد بناء الدولة، وما تقتضية من تشريعات وآليات وبيت مال وبناء جيش وشعب. ويلحظ هنا التركيز على (توحيد) الأوس والخزرج، من القبائل اليمنية النازحة، القلاطنين جنوبي يثرب، مع قبائل العبرانين الثلاثة المؤتلفة في القسم الشمالي من يثرب. ثم توحيد كلّ من شمالي وجنوبي يثرب تحت تسمية (الانصار): لنصرتهم النبي واتباعه، من اهل (المدينة)، مع المسلمين الوافدين عليهم، والمصطلح عليهم بالمهاجرين.
فـوحدة [الانصار + المهاجرين] هم لبنة أساسية وقاعدة مركزية لبناء المجتمع السياسي الاسلامي الأول. وقد فصلت نصوص (القرآن) أسس العلاقة والتكافل بينهما في تشريعات واضحة. والحري بكل من ينضم للمجتمع الجديد الخضوع والالتزام حسب تلك التشريعات القرآنية.
فالدولة الاسلامية المحمدية تأسست وتبلورت ورأت النور في (المدينة)/ يثرب، باتحاد عرب اليمن مع عرب العبرانيين، ومن التحق بهم من (أعراب/ رحل) في صفوف الجيش الاسلامي الأول. وليس دقيقا ولا تأريخيا، اصطلاح (المجتمع المكي) بوصفه -نواة- المجتمع والشعب والامة الاسلامية الأولى.
علما ان (مكة) المدينة قاتلت ضدّ الحركة الجديدة التي ولدت في حاضنتها ولم تتقبلها، ولم يدخل الاسلام السياسي الى مكة الا في العام الثامن الهجري والمؤرخ بسورة الفتح، مع بقاء القيادة الاسلامية في العاصمة المركزية الأولى (المدينة)، والتي تحتضن رفاة النبي وأول (مسجد قباء) ابتني فيها.
وقد بقيت المدينة مركزا وعاصمة للدولة الاسلامية الاولى في عهود [ابي بكر، عمر، عثمان] طيلة اربعة عقود من الزمن تقريبا. حتى خروجها من جغرافيا الحجاز وشبه جزيرة العرابيا في عهد علي ابن أبي طالب الى (الحيرة) العاصمة العراقية القديمة في ايام (المناذرة)، ثم (الكوفة) بعد اكتمال بنائها على طرف منها.
وقد مرّ معنا ان الجغرافيين يرسمون خطا وهميا، بين رأس خليج العقبة/ جنوبي سيناء، ورأس خليج العرب/ جنوبي العراق، فكل ما دونه يتبع جزيرة العرب، وما تجاوزه يتبع الشام والعراق. فيكون قرار نقل العاصمة الاسلامية المركزية، خارج جغرافيا الجزيرة مبكرا، وتترتب عليه مسائل واعتبارات كثيرة، على مختلف الصعد، ومنها أيضا مؤشرات انتقاض (الاسلام).
ومن المنظور الاسلامي البحت، أعتبر خروج العاصمة والمركزية الاسلامية من مهدها الأول خطأ استراتيجيا بالمفاهيم الحديثة [سياسي/ عسكري/ عقائدي]، وبداية عزل (الاسلام) عن جذوره المحلية وأصوله – القرآنية المحمدية-، وتهميش العرب والحجازيين من ولاية الأمر.
وهو ما تبلور تماما في دولة آل العباس، التي جمعت، الى جانب الانتاج الحضاري والفلسفي المسلم، الجانب الثاني الهدام في مسائل العقيدة والدولة. هذا الفرز الاصطلاحي والسياسي، على قدر من الاهمية، لعاماده من قبل الأجيال المقبلة، للتخلص من القراءات المشوهة والمنافية للحقيقة الموضوعية التي التصقت بالاسلام والعرب، حتى الآن.
لا ينفصل قرار علي –في نقل المركزية الجيوسياسية القومية-، عن ملابسات العهد العثماني. ولكن، خلاف النظرة السائدة المتمحورة حول اغتيال عثمان في (المدينة اليثربية)، يرتبط القرار بما صنعه عثمان خلال عهده، وهو (توحيد القرآن). وهو السبب الحقيقي لكل الفوضى والانتفاضة المفتعلة ضدّه من قبل جماعات في مصر والعراق.
ولعل أدبيات التاريخ الاسلامي القديمة والمعاصرة، لم يتسن لها ايلاء نظرة مستقلة، لا نعدم أصولها ومبادئها في جملة الطروحات المنسوبة لابن السوداء: (عبدالله بن سبأ)، والذي قد يكون – إسمه- وهميا، لكنه ليس شخصية وهمية اطلاقا، كما سعى البعض لادعاء ذلك، ومنهم الدكتور طه حسين.
واقع الحال، ان الاسلام المعاصر، أو: (إسلام ما بعد علي!) والمؤرخ بالنصف الثاني من القرن الهجري الأول، هو صياغة مفصلة وبنيان نقضي واضح، رسمت خطوطه وهياكله الاساسية، أفكار المدعو -ابن السوداء-. والغريب، ليس نسبة هذا الشخص الى (سبأ) وهي نسبة بني أمية فحسب، ما يرد في روايات، ينهى (علي) عن تصديقه أو اتباعه، فيما تم تطبيق طروحاته عمليا من قبل علي نفسه ومن بعده!.
ان ابن السوداء الذي يحاول البعض تهميشه وشطبه من ارشيف التاريخ ومسؤولية الأحداث، هو (شرارة) الهجوم الفكري والسياسي على (جوهر) الاسلام ومركزيته العقائدية، والذي يشكل في العصر الحديث، النموذج المثالي المؤسس والمحرك لفلسفة الاستشراق الحديث، الذي بدأ دبلوماسيا مزدوج اللغة، وتكشف عريه في باكورة الالفية مع لويس برنار وهنتغتون والحركة الصهيومسيحة التي تقود السياسة والسيادة الخارجية الأميركية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
* وكلّ شي فعلوه في الزبر- (القمر 52)
* انه لقرآن كريم. في كتاب مكنون- (الواقعة 77- 78)



[30]
اشكالوية زمكانية..

(1)
لوحة الإسلام المعروفة اليوم لم تولد قطعة واحدة أو منظومة جاهزة مرة واحدة، وإنما تشكلت قطعة قطعة، لحظة بلحظة، ومرحلة عقب مرحلة، عبر سيرورة زمنية طويلة وصيرورة جغرافية متفاوتة، تداخلت فيها ظروف متنوعة، وأفراد من البشر وجماعات لها خصائصها ومصالحها، فضلا عن حركة الأحداث والأفكار، المتصلة هي الأخرى بزمكانات متفاوتة وطويلة المدى، على صعيد النص المدون.
وفي سيرورة النشوء والتبلور التي اقترنت بظاهرتين مترادفتين..
سيرورة الدولة والحكم وتطورها عبر المدرج المعروف من دولة المدينة إلى الإمبراطورية ثم إلى الدويلات المستقلة بذاتها.
تدوين النص الديني والسيرة والحديث وفقه الفقهاء، وبشكل ينسجم ويدعم ويبلور/ يبرر سلطة الحاكم ويعتبر بعوامل بيئته.
لذلك.. كان التراث الإسلامي ينمو ويتراكم ويتنوع، مع سيرورة الزمن وصيرورة الحكم وامتداده. ولو أنه بقي في إطار يثرب ومكة، لم يتجاوز في كمه ونوعه ارث محمد وخلفائه، والثقافة الزمنية المحدودة لجغرافيا وسط غرب الجزيرة.
نستنج مما سبق، أن الدراسات والأبحاث التي تعاملت مع ثيمة (الإسلام) أو أحد (عناصره)، خارج سياق النشوء والتطور، والأصول النابع منها والعوامل الفاعلة فيه، هي إضرار بالموضوع أو تضليل بالقارئ لا غير. ولابد.. عندما يعاد النظر في المكتبة التراثية والجهد التأليفي، فرز الركام الذي سطرته جيوش مرتزقة الكلام عبر الزمن، حتى يومنا هذا.

(2)
لقد انعكس المضمون الثوري الراديكالي للنص المنعكس عن/، والمرتبط بالإرث القبلي البدوي الاجتماعي التقليدي في تغييب القراءات النقدية التحليلية والبحثية الابستمولوجية في الإسلام. فجاء المنظور السياسي للإسلام كدولة وسلطة حكم، اجهازا تاما على دور العقل النقدي والمؤسس، الذي عقل العرب والمسلمين في نهاية حظائر البشر.
وإذا جازف أحدهم في اجتراء(*) النقد والتحليل الجاد، ألقمت كتاباته النيران ومنعت من التداول، فضلا عما لحق بأصحابها ومتداوليها من عسف ونكد وهمجية. وهو ما يبرر انشقاق الدولة الإمبراطورية في دويلات مستقلة، وفرق مذهبية متناقضة، خارجة على النص والإجماع، لا يربطها بالإسلام سوى الاسم.
وقد كان لشخصيات المؤلفين المتنافسين والفقهاء العاجزين الدور الأبرز، وراء ممارسات التنكيل والتسفيه والمصادرة. مما جعل الدولة بالنتيجة عرضة لتغير أهواء الفقهاء وتياراتهم المذهبية، مما ساهم في إضعاف مركز الحاكم وتنافذ البويهيين والسلاجقة في الحكم وتغريب الحكم والإسلام عن أصوله الأولى.

(3)
لقد كان خروج العرب والإسلام من دائرة مكة والحجاز، مجازفة سياسية/ ثقافية غير محسوبة. وكان أولى تحديد أمرين مبدأيين على جانب الأهمية، في أساس الدستور الإسلامي:-
أولا: تحديد العاصمة وحدود الدولة الأساسية وعدم تجاوزها تحت أي ظرف أو مبرر، بشكل يساعد على تقوية اساس السلطة على مستويات القيادة والقاعدة من جهة، ومن جهة ثانية، يوفر قاعدة أساسية يمكن العودة إليها وعدم المساس مهما اختلفت ملابسات الظروف لاحقا، فلا تنعكس على أساس الدولة وجوهر الحكم.
أن تجاوز هذين المبدأين في الإرث المحمدي المباشر، يؤيد فرضية البعض(*) حول عدم سعي نبي الإسلام لإنشاء دولة، ودولة الراشدين كانت بدعة عمرية، سرعان ما انقلبت ضد أصحابها.
ثانيا: أولوية تدوين النص الديني الذي خلفه نبي الإسلام، في مركز الحركة وعهدها الاول. وكان التدوين والتوثيق الأصلي، سوف ينقذ النص الإسلامي، من كثرة الأيدي والتداخل الزمني، عبر ثلاثة أحقاب سياسية: [راشدية، أموية، عباسية]؛ وعدة عواصم ومدائن: [مكة، يثرب، دمشق، بغداد، بصرة، فسطاط]. ويمكن القول: بحسب الفرضية السالفة، ان عدم عناية محمد بتدوين [القرآن] في عهده، يمكن ان يفند دعوى وجود كتاب خاص منسوب له، يتم تجميعه لاحقا باسم [مصحف/ قرآن] بجهود خلفائه وتابعيه.

(4)
وهاته القراءة تسعى لتفكيك الظاهرة الإسلامية إلى أربعة عناوين رئيسة كالتالي..
- القرآن وكل ما يتعلق به وما ترتب عليه.
- رجال الإسلام وكل ما يتعلق بهم ومساهماتهم.
- الأحداث الظرفية والتاريخية وانعكاساتها في صناعة التراكم الإسلامي.
- الأفكار الظاهرة عبر التداخل الثقافي والبيئي وانعكاسها في صناعة المشهد.

التوقف لدى كل عنوان سابق في ضوء الأدوات المعرفية والمستحدثات البحثية والمدارس التحليلية النقدية، أمر لابد منه، للخروج بنتائج، غير مسبقة، ولا مخططة سلفا؛ فلا تكون مجرد تكرار أو تزويق لفظي وإنشائي. فالغاية من البحث هي خدمة الإنسان والانطلاق بالعقل لآفاق أوسع وأسمى، وليس عبادة الجمود والدوران حول النص.

ـــــــــــــــــــــ
• د. سيد القمني يعلّق على الرسائل المحمدية لبعض الملوك قائلا: [الملحوظة الأهم أن الرسالة لم تطلب من أقيال حضرموت واليمن الخضوع السياسي، لأنه كان نبيا، لا مقيما لدول وحكومات، الرسالة طلبت الخضوع الديني دون أن تتدخل في الشكل السياسي والإداري القائم في بلادهم، بل مع اعتراف لتلك البلاد بالاستقلال السياسي واستمرار هذا الاستقرار..]/ص56- كتابه: انتكاسة المسلمين الى الوثنية- ط1/ 2010. وفي مكان آخر يقول: [النبي خاطب هرقل معظما له بوصفه (عظيم الروم)، ولم يقل عن نفسه انه عظيم العرب. لأنه كان نبيا لا ملكا. ولأن النبي ما كان منشغلا بالأمر كرجل سياسة مثل هرقل، إنما كان منشغلا بتبليغ ما أمره الله بتبليغه ليس أكثر ولا أقل، ودونما تفريط أو إفراط. فان النبي لم يطلب من هرقل التبعية السياسية ولا تغيير أنظمة الحكم الرومانية، السياسية أو الاقتصادية أو الإدارية، إلى نظام حكم إسلامي، لعدم وجود هذا النظام، فلم تكن الدولة وأنظمة الحكم ضمن اهتمامات الإسلام ونبيه.!]/ ص57- ن. م.[النبي كان يعلم أن الدين شأن، والدولة وسياساتها شأن آخر، ولم يعلن الإسلام للناس يوما انه دين ودولة.(..) لو كان شأن الدولة هو المطلوب إسلاميا، ما رفض النبي صيغة الملك التي عرضتها عليه قريش، بل أن الواضح في القرآن هو رفضه لصيغة الملك كشكل من أشكال السيادة على الدولة، فقال: أن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها، وجعلوا أعزة أهلها أذلة!]/ ص58- ن. م.
• تسلسل سورة الأحزاب بحسب ورودها القرآني هي الأخيرة، وقد جاءت قبل موت النبي بعامين؛ وكان يمكن جمع السور على يد محمد وعلمه، بدل الخبط والتلبيس الذي صنفت فيه كتب، بعضها يبرّر وبعضها ينظر، وبعضها يتضمن التهم والانتقادات والجروح، التي يحاول الأكثرية تغييبها، وتعليم الناس ان القرآن الحالي هو هو كما كان دائما، بينما كان دور عثمان بن عفان في جمعه، سببا مباشرا للفتنة وطريقة قتله الشنيعة، وانقسام العرب وضياع الدولة والإسلام من يومه.
• عن ابن تيمية.. [عن محمد بن الحسن –صاحب ابي حنيفة-، انه قال: اتفق الفقهاء كلهم من الشرق والغرب، على الإيمان بالقرآن والأحاديث التي جاء بها الثقات، عن رسول الله في صفة الربّ عز وجل، من غير تفسير ولا وصف ولا تشبيه. فمن وصف شيئا من ذلك، فقد خرج مما كان عليه النبي وفارق الجماعة. فأنهم لم يصفوا ولم يفسروا، ولكن آمنوا بما في الكتاب والسنة، ثم سكتوا. فمن قال بقول جهم، فقد فارق الجماعة. انتهى]- مجموع فتاوي شيخ الإسلام ابن تيمية- جمع وترتيب: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم- منشورات الملك فهد بن عبد العزيز.




القسم الخامس: في علم اجتماع العروبة..

[31]
(المدينة).. القرية.. البداوة..

(1)
التقسيم الاسلامي للاجتماع الجزيري يصنفه في ثلاثة أنماط عمرانية أو مستويات حضارية..
1- المدينة
2- الحضر
3- البداوة
بانتقال النخبة الاسلامية من مكة إلى يثرب، خرجت من مستوى -القرية-، إلى مستوى أكثر رقيا عمرانيا، وهو -المدينة-. وقد جعلت المدينة (يثرب) ذات الرقي العمراني المتمدن، والاستقرار الاقتصادي القائم بذاته والمكتفي بحاجاته، والمدعوم بالتعددية الثقافية والدينية.
ان مجتمع المدينة، إذن، هو مجتمع مدني، ذي نظام اجتماعي وإداري، قائم على التنوع والانفتاح والشاركة الايجابية، وله هوية مشتركة نابعة من تكوينه المركب، ومستندة إلى خصائصه الذاتية، شكلت صورته نحو الخارج. فالمجتمع اليثربي يضم مكوّنات اجتماعية قطعت شوطا في التقدم لبناء مجتمع مديني قابل للتطور والازدهار.
ولنا دلالتان في الأقل على ازدهار (يثرب) مقارنة بغيرها في محيط الحجاز أو غرب الجزيرة..
أولا: انفتاحها للأفكار والظواهر المستجدة، بدل مجتمع (مكة) القروي ذي الأفق المحدود والمنغلق سوسيوثقافيا.
ثانيا: تمثيلها الخارجي في صورة وحدة اجتماعية مدينية واحدة ومتماسكة.
فاندفاع محمد وأصحابه الى (يثرب) استند إلى عدّة مبادئ حضارية، لم تتوفر في الاحتمالات الأخرى التي حاولت الجماعة تجربتها كبديل للموطن المكي، دون توفيق. ويلحظ ان أسباب الرفض توزعت بين الانغلاق الاجتماعي أو انحسار الأفق الفكري.
فقد كانت صورة محمد بن عبدالله في مجتمع مكة/(ارستقراطية تجارية) ، صورة اليتيم المعدم، والشخص محدود الامكانيات، ووغير المدعوم بمركز اجتماعي أو قوة من قوى النفوذ. ولا يرد هنا شيء عن نظرة المكيين لشخصية المرأة ذات المركز التجاري، ومكانتها داخل سلطة القرار المكي والتحالفات التجارية. مع الخذ بنظر الاعتبار ان تفكير الجماعة المحمّدية بالهجرة من مكة، جاء عقب وفاة خديجة (556- 620 م).
لقد كان بمكنة محمد الذي أثبت جدارة في بداية استلامه قافلة خديجة بنت خويلد الأسدي، تطوير مركزه التجاري واستثماره لدخول الأرستقراطية التجارية للمجتمع المكي، وكان ذلك – حتما- سيغير من مسيرة الأحداث عقب وفاتها، كما كان يمكن استثماره، لتدعيم وترويج رؤيته الدينية أو الدينسياسية.
ولا يخالجني – شكّ- بقدرة محمد على النجاح في هذا المضمار، وقيادة منصة الأرستقراطية المكية التجارية، وتسخيرها لصالج بناء زعامته الحركية الراسخة. وكان ذلك سيختزل الكثير من الظواهر والمعوقات التي اجتمعت ضدّه، عشوائيا، وبفعل سياق طبيعي، لحماية كل جهة لمواقعها الاجتماعية والاقتصادية.
لكن هاته المعطيات لا ترد في سياق السير وامرويّات والأخباريات والمدوّنات، وذلك لأسباب أيديولوجية متعددة المنابع. كما أن النظريات التأريخية التقليدية، كانت تقوم على النقل والوصف والترجيح، ولا تتضمن عناصر الجدل والمناقشة وتعددية الاحتمالات والروايات أو زوايا الأحداث التي تدخل في باب فلسفة التأريخ.
وعلى الرغم من/، -أو نتيجة لـ/-، دالة الاسهاب والأطناب والتكرار، التي تغلب على مدوّنات التاريخ العربسلامي، والمغالاة في ايراد تفاصيل في أمور دقيقة، ذات طابع عائلي أو شخصي أو نفسي؛ يسدل المؤرخ ستارا ثقيلا على ذهن القارئ، أو يصيبه بالاعياء، فضلا عن دغدغة بعض التفاصيل المذكورة، لمكامن خلفيات حسيّة أو فكرية او اجتماعية معينة، تبتزّ عناية الشخص وتستبدّ بكيانه، فيستعجل تكوين موقف ونظرة شخصية، خلال القراءة، سوف تفرض أرجحيتها على عقله وتجعل ما يأتي بعدها على مستوى من الهامشية، بله التأويل القسري لصالح النظرة الحكمية التي سبق للقارئ الانحياز إليها قبل نهاية الكتاب.
لكن قراءة هادي العلوي [1934- 1998م] حول رؤية المشاعية الاشتراكية للحركة المحمّدية، سوف يفنّد اهتمام محمّد بالتجارة والتراكم المالي لتسلق الارستقراطية المكية. وهذا سوف يعني أن بذور المشاعية الاشتراكية مبكرة في شخصية محمّد وفكره، وسابقة بكثير لاطلاق حركته الاجتماعية الدينية.
لكن مبرر صمت التاريخ عن مصير تجارة خديجة، وعمل محمّد بالتجارة، يبقى لغزيا. وكل من اللغز والصمت عنه، لابد أن يخفي وراءه، أمرا ذا شأن. لقد عانت حركة محمد الأولية من حروب متداخلة متعددة المستويات ومن جهات متنوعة لا يجمعها جامع، بله تفتقد مبررات مواقفها الضدّية والعنيفة. ولعلّ دلالة ذلك انتهاؤها للعدم.
فالحرب المكية العارمة ودسائس تجارها وقاموس التنابز والتقريع، انتهى في دخول محمد وجماعته إلى مكة بعد ثمانية اعوام لمناسبة الحج، بدون قتال. فما غرضية الغزوات والحروب السابقة إذن؟. ومحمّد لم يجعل (مكة) لحركته، بقدر ما حفظ (كرامتها) الجاهليّة في عهد الاسلام، دون أن يمسّ رموزها الثقافية وشعائرها الدينية رغم وثنيتها.
ان اتخاذ (يثرب)/ المدينة عاصمة سياسية للنهوض الجديد، كان احتراما، لشعار (لَقاحية) أهل مكة: [مكة لا تحكم ولا تخضع!]. ذلك الشعار الذي من أجله رفضت كل عروض روما وشخصياتها السابقة في الملك والسيادة على العرب. فما مغزى اعتراض الارستقراطية المكية، ومطالبتها بالجاه والمكانة والتشبث بعربة الحكم، بعد استتباب الأمر للزعامة المحمّدية، وأنصاره الأولين.
بقيت (مكة): - قرية!-، وهكذا ورد وصفها في القرآن. وهو المعنى المؤكد بصيغة التفضيل: (أمّ القرى)، لتمييزها النسبي. وربما كان ذلك إضافة لاحقة، لتبرير انحياز عثمان للهجة قريش في تثبيت لغة (المصحف). وهذا يفنّد طبعا، المعنى المعجمي التأويلي للفظة (قِرا): بمعنى (جوع). لأن كرم طيء في أعالي نجد كان معروفا بين العرب، ولم ينافسهم أحد لليوم. والمعروف، ان (مكة) وأهلها: (قريش)، يعتاشون على سواهم سواء من تجارة الصيف، أو تجارة الشتاء من ايرادات وفود حجاج مكة وأسواق خطابتها ومعارضها التجارية، التي جرى إحياء بعضها خلال العقود الأخيرة.
أما النقطة الثالثة، خلاف يثرب المدينة ومكة القرية، فهي ظاهرة الأعراب/ البداوة، وهم سكنى الخيام أو جماعات الرحّل. ومحمد وأصحابه في الرعيل الأول، هم من أصول قروية تجارية حسب الهوية المكية، انتقلوا إلى طراز حياة المدينة. لكنهم لم يكونوا مدنيين في ذاتهم، كما أنهم لم يكونوا بدوا أعرابا. وكان محمد يحذر من البداوة: (طراز عيشهم)، لأنها تورث غلظة الطباع/ (التطبّع السلبي). وهذا ينسجم مع جوهر فكرة الرحمة والتعاطف مع الفقراء والمعدمين والمستضعفين.
ما مدى وضوح هذا التقسيم، واعتماده منهجا اجتماعيا اصلاحيا تجديديا من قبل الحركة المحمّدية، أمر لايبدو واضحا، ولا أثر له في سياسات لاحقيه من ساسة ورجال دين.
ولكن الملاحظة، أنه بسبب هذين العاملين الاجتماعيين الأخيرين: سوف يتم مصادرة الحركة المحمّدية والانقلاب عليها من فوق وتحت، لتغيير مجراها وجوهرها الاجتماعية وفلسفتها الاشتراكية الانسانية. لقد تم الاطاحة بمحمد وأصحابه المقربين، واستيلاء أهل مكة/ (القرويين) على صدارة الاسلام، من جهة الزعامة. وسرقته من قاعدته الاجتماعية والأصلية، لصالح الأعراب من البدو الرحّل، الذين زحفوا لدخول كتائبه القتالية، وشكلوا أساس جيش الاسلام الجديد، منذ العام الثامن للهجرة، أي مع دخول مكة وتأكيد زعامة أبي سفيان في العهد الجديد.
فالاسلام الأموي والاسلام العباسي، هما الاسلام الامبراطوري العسكري، المتمثل بدول روما وبيزنطه، والحكام العباسيي استعار الكثير من ترف شواهين الفرس وبذخهم، مما فتح جيوب الفقر والعوز والاستغلال وأسواق الرقيق والنخاسة على آخرها. فكان ذلك تجسيدا لإسلام اللاإسلام ؛ إسلام ضدّ الاسلام، بحسب تعبير الصادق النويهي.

(2)
القرية عربيا..
القرية لفظ عربي مشتق عن الآرامية [كِرْيَاتْ] بمعنى: مستوطنة بشرية، أي: أرض محددة يقطنها مجموعة من البشر تجمعها روابط قرابة أو عمل أو ضرورة اجتماعية. وقد تنوعت القرى الآرامية بين الأصول الزراعية أو الرعوية أو الحرفية أو العسكرية أو الدينية أو الحاجات الأمنية، وقد تكون عائدة إلى أصول قبلية أو أثينية أو دينية محددة، منغلقة في الغالب.
فالقرية العربية أو الجزيرية، هي أقدم من التدوين العربي، وتنتسب لأصول ما قبل عربية، أرامية أو عبرانية أو سبأية أو أمهرية. ومهما كانت أصول سكان القرى الاجتماعية والمهنية، فالغالب أنهم من أصول مدنية وخلفيات حضارية، دفعتها ظروف معينة لتغيير سكناها والاستيطان في مكان آخر. ولذلك فهي التي تطبع المكان بطابعها، الزراعي أو الحرفي أو التجاري أو الرعوي.
ولا بدّ لكل مقاطعة أو اقليم، يتكون من عدد كبير من -القريات-، من مركز تجاري أو إداري أو ديني، تجتمع فيه في مناسبا محددة، لأغراض التداول أو الاحتفال أو التبادل التجاري. وسوف يتطور هذا المركز ليأخذ سمة ما يدعى في يومنا بالعاصمة أو مركز الاقليم أو -المقاطعة.
ويلحظ أن الطائف جنوبي مكة لم تكن قرية، انما كانت بلدة، وهي مما قصدها محمّد للاقامة قبل يثرب، وهي مركز بني قطيف. وكلمة (بلدة) تقابل كما هي اليوم معنى (town): وهي موطن اجتماعي أكبر من قرية [village] وأدنى من مدينة [city]. وثمة ما يوصف بأنه: ضاحية: (coutryside).
ان كلا من: البلدة: (town) و الضاحية: (coutryside)، غير مستقلة بذاتها. فالبلدة تتعلق بوجود عدد من (القريات)، ولتشكل مركزا اداريا/ تجاريا/ دينيا/ ثقافيا لها، فهي مركز القريات أو نقطة التقائها أو عاصمة المقاطعة. وحيثما توجد بلدة، لابدّ من وجود كيانات استيطانية من صنف (القرى). وقد تتطور (قرية) ما وتنمو وتزدهر، متجاوزة حدودها القبلية والحرفية اجتماعيا، للتحول إلى مركز القرى المحيطة بها.
وعندها تتنافس البلدة الجديدة مع القيمة، أو تصلان إلى اتفاق تخصصي، فتكون احداها مركزا تجاريا أو أداريا، وتتخصص الأخرى دينيا أو ثقافيا. وتطور الاستيطان ظاهرة طبيعية لا ينبغي أن تغيب عن البال، فما من قرية تبقى قرية أو بلدة لا تتطور إلى (مدينة) إلا في حالات الجمود والانحطاط.
أما الضاحية، فهي تكون تابعة لمدينة كبيرة أقدم منها أو أكثر منها تطورا عمرانيا واداريا، وأكبر منها من جهة المساحة والسكان. والضواحي تنشأ غالبا على حدود أو هوامش المستوطنات الكبرى، مستفيدة من خدماتها ومنتجاتها وظروفها المدنية والحضارية، بحيث تشكل مستقبلا امتدادا ثقافيا وعمرانيا للمدينة.
ومعظم المدن العربية المعاصرة، وسيما (عواصم الدول والأقاليم) هي مدن كبرى، اشتملت جملة من الضواحي السكانية التي التصقت على حدودها، خلال الزمن، لسبب أو آخر، حتى اندمجت مع المدينة الأم ، وصارت جزء منها. والمثال الأبرزعربيا لذلك هو: (القاهرة)/ (Cairo) ويقابلها في الغرب لندن/ (London). وتنقسم كل منهما إداريا إلى المدينة الأم: (القاهرة/ لندن)، والمدينة المتسعة: (القاهرة الكبرى)/ (لندن الكبرى).
وقد لا يكون محتملا وجود (الضاحية) في الاستيطان الجزيري القديم، وذلك لعدم وجود مدن كبرى. وأغلب المدن هي بلدات نامية ومزدهرة، أكثر مما يمكن تصورها بالأفق المعاصر. ويبدو أن (يثرب) تمثل مثالا فريدا من نوعه ومستواه، من جهة الانتاج الزراعي والاكتفاء الاقتصادي الذاتي والتنوع السكاني، وتجاوزها الأطر القبلية المحدودة. لكنها في نفس الوقت لم تكن مركزا تجاريا، وانما تعمد لنقل منتجاتها إلى مراكز وأسواق خارجها، لغرض التسويق والتبادل السلعي.
ان مثل هذا التخصص يقتضي وجود فئة اجتماعية حرفية تمتهن التجارة والتسويق، ولو توفرت يثرب على طبقة التجار، لتحولت إلى مدينة متقدمة كبرى، ولتسنى لها تدعيم موقعها بقيادات ادارية مركزية، يرتفع بها إلى مستوى (العاصمة). وربما كان احتضانها للجماعة المحمّدية ذات البرنامج السياسي المركزي، من بنات هذا التصور.
ذلك أن السؤال الذي يرد هنا، هو عدم توطين الجماعة المحمّدية على حدود المدينة، من أحد الجهات، وانما تم تخصيص مكان لها في وسط المدينة، بين شمالها العبراني وجنوبها اليماني. بل أن بعض المهاجرين سطنوا بين ظهراني السكان وشاركوهم المسكن.
وكان ضمن الجماعة المحمّدية، تخصصات تجارية معروفة وعلى درجة من الشهرة والكفاءة، كما هو معروف. فكان بمكنة عدد من أصحاب الخلفيات التجارية، إضافة قطاع التجارة والتسويق لمدينة يثرب، وتتحول بذلك إلى مدينة كبرى، في زمانها. وهي امتياز وتطور محسوب للطرفين، لأهل المدينة: (الأنصار) والمسلمين: (المهاجرين)، وبما يدعم مستوى العلاقة والتآلف، وينتج مجتمعا نموذجيا، ونمذجا استيطانيا للمدينة الجزيرية الاستيطانية، التي لن تتطور وتظهر عبر تاريخ الامبراطورية الاسلامية قبل العصر الحديث.
وليس من الواضح حجم التغيرات الدمغرافية والاستيطانية في محيط الحجاز، واتجاه حركة التنقلات السكانية البينية، أو تحول السكان الرحّل للاستيطان في القرى والبلدات والمدن، بما فيها تلك المستوطنات التي تتعرض للمجازر والتصفيات الجسدية، ومدى تغير طابعها الديني أو القبلي أو العمراني.
لكن المؤكد، ان فكرة الاستيطان والعمران، كانت جزء مضمنا داخل الحركة المحمّدية الأصلية، بجانب الجوهر السوسيقتصادي السياسي.

(3)
السكان الرحّل/ البداوة..
إذا علمنا أن الجزء الأكبر من سكان العرابيا هم من سكان المستوطنات، وبحسب رالتدرج العمراني الطبيعي [قريات، بلدات، مدن]، فأن نسبة السكان الرحّل/ البدو، هي الأقل دمغرافيا عبر التاريخ. أي أن البدو يمثلون أقلية دمغرافية، منذ قبل الاسلام حتى اليوم. ولم يحصل ان شكل البدو: القبائل المترحلة، أغلبية في نسيج سكان العرابيا.
توزعت مواطن البدو في وسط شبه جزيرة العرب، وفي المساحات الصحراوية أو الديمية خارج الاقاليم والمدن. وكان الأرجح في اختيار الأماكن، تك البعيدة عن مناطق النفوذ السياسي، أو احتمالات الغزو الخارجي. وتعرف هاته الأماكن بالنفود والبوادي.
بدو العرابيا: لا يمثلون ظاهرة طبيعية أصلية أو جماعة بدائية وحشية، في ضوء التصورات الاستشراقية لظاهرة البداوة عالميا. وأؤكد هنا، الاختلاف الجذري بين البداوة الأسيوية والبداوة الأوربية والبداوة الأفريقية والبداوة الأمريكية. ولا يوجد نموذج قياسي مشترك، يمكن تطبيقه عن أولئك جميعا، إلا من باب وحيد وفريد، هو ظاهرة الترحّل، ونبذ الاستيطان الثابت.
ويلحظ المؤرخون العرب، ان البدو العرب أو الأعراب، كانوا يعيشون بداوة موسمية، فهم يسبتون خلال الشتاء، وغالبا لهم أماكن ثابتة يشتون فيها، وأماكن محددة يصيفون فيها دوريا وسنويا. وهذا ينفي عنهم صفة البداوة الكاملة. أنهم بعبارة أخرى، بدو/ رحالة، بإرادتهم، وبشكل انتقائي صارم.
والجانب الآخر في قراءة بداوة العرابيا، أنهم لا يمثلون ظاهرة قبلية أو عرقية أو دينية. وحسب التصنيفات القبلية لسكان العرابيا، تجد ان أبناء القبيلة يتوزعون مستويات مختلفة من الاستيطان، فمن طيء وتميم وكعب وغيرها من يقطنون المدن ومنهم يقطنون القرى أو ما بينها من بلدات، وذلك منذ زمن عريق، سابق للاسلام ومن بعده، ولكنهم من بين البدو من ينتسب لهاته القبائل وغيرها.
فلا يمكن وصف تميم أو طيء أو أسد بكونها قبائل بدوية رحّل. فالترحّل خيار شخصي وظرفي، له مبرراته وأغراضه، وهو ظاهرة نسبية، وليس ظاهرة مطلقة. كما تختلف جماعات البدو، عن بعضها بحسب قربها من المدن وصلتها بسكان المدن، ونوعية تلك المدن.
هاته الصلة الجغرافية والاجتماعية بالمدن وأهلها، يؤثر في مدى غلظة طباع البدو وألفتهم، ينعكس على أفاقهم الاجتماعية والثقافية، أو انغلاقهم المطبق. فإطلاق صفة مركزية، على كل جماعات الرحّل، أو تعميمها على نسيج سكان العرابيا جناية علمية، وغياب للمصداقي والعقل والمنطق، يتحمل تبعاته الاستشراق وتلاميذهم العرب والمسلمون.
يمكن القول، ان الاسلام ساهم في تقليص مساحة البداوة الاجتماعية، ليس لانخراطهم في (الاسلام) وانما أكثر منه، تجنيدهم في الجيش المسلم، الذي أتاح لهم، أو فرض عليهم، الالتزام بالأوامر والتعليمات، والخضوع للقادة وإطاعة الواجبات والوصايا الدينية، فضلا عن الالتقاء بالتنوع السكاني والثقافي والبلداني، وانتهاء كثيرين منهم، إن لم يكن الأغلبية، للاستيطان واعتياد حياة الحواضر والمدن.
وقد عملت الدولة السعودية منذ بواكير القرن العشرين على توطين جماعات الرحّل داخل حدودها، وابتنت لهم مستوطنات دعيت بـ(الهجر)، واحدتها (هجرة)، تتوفر على أراضي زراعية ومصادر مياه وفرص للتعليم والتمدن. وبالتالي، فأن ظاهرة البداوة في العرابيا، هي اليوم طراز ثقافي وإرث تقليدي أكثر منه طراز معيشة. وبعضهم، من سكان اليوم، يتخذ له أراضي في البادية، يهرع إليها لأيام أو وقت محدد، يستلذ بنقاء الهواء وبراءة الطبيعة وهدوء الصحراء، بعيدا عن ضجيج المدن والتكنولوجيا والمواصلات العصرية.
وكان من المفترض قيام البلاد العربية الأخرى بتوطين جماعات الرحّل داخل حدودها، وتشجيعهم بقبول التوطن والتمدن وبرامج التعليم والتثقيف، بدلا بقائهم على هامش البلاد. وفي العراق، تم شمول الجماعات الرحّل بالتجنيد والسوق للحرب خلا الثمانييات، واعتبروا (مواطنين) أسوة بأهل المدن والقرى، وهي تجربة عملية لأشراكهم في التحولات الاجتماعية والحياة الوطنية.

(4)
كان من نتائج التوسع العربسلامي شمالا وشرقا وغربا، انتقالات سكانية من داخل محيط العرابيا، إلى البلدان المضافة للحكم العربسلامي. ويمكن تصنيف تلك الانتقالات تحت عنوانين رئيسين من زاوية الصيغة: هجرات اجبارية، وهجرات اختيارية. أما من زاوية نوعية السكان فقد شملت صنفين رئيسين: هما أهل الحجاز، والأعراب الرحّل.
الهجرات الطوعية كانت مدفوعة بالطمع والحصول على الأملاك والأراضي والعبيد والجواري؛ والهجرات القهرية، واختصت بالجماعات الرحّل وبعض الجماعات القبلية، فقد استندت إلى قرار عمر ابن الخطاب، بتوزيع جماعات الأعراب وبعض التجمعات القبلية خارج محيذ العرابيا، سواء لأغراض التوطين أو توسيع المجتمع العرابي المسلم في الأمصار الجديدة، أو تخلصا من حركات التمرد والعصيان المحتملة، سيما وأن القرار العمري جاء تابعا لما عرف تاريخيا بظاهرة (الردّة) في أيام أبي بكر.
إضافة لذلك، يمكن القول، ان جماعات من سكان العرابيا، اختاروا الابتعاد عن مركز السلطة، وتأمل احتمالات أفضل في البلاد الجديدة. وقد تكررت هاته الظاهرة بين أواخر القرن التاسع عشر حتى ثلاثينيات القرن العشرين، هربت خلالها كثير من الجماعات القبلية والبدوية من محيط العرابيا نحو العراق والشام.
من منظور علم الاجتماع العربي، يمكن القول أن الجماعا الرحّل وذوي الأصول البدوية، تحولوا/ توزعوا في الظاهرة القبلية والعشائرية. وأن القبائل والعشائر تحولت للاستيطان في (قرى)، وحاول كثير منها احتراف الزراعة والصيد والرعي.
وفي الحالة الخيرة، تحول زعماء القبائل والعشائر إلى زعماء للقرى، أو الجماعات القروية، وحلّت حرفة الزراعة، محلّ حرفة (الغزو والنهب)، وصار ريع الزراعة بديلا للغنائم، مع اعتبار حصة زعيم العشيرة/ القرية الذي أخذ صورة (الاقطاعي).
وعندما صدر قانون الاصلاح الزراعي وتقنين الحدّ الأعلى للملكية في العراق، انتسف النظام الاقطاعي من أساسه، واستتبعه هرب كل من الاقطاع والفلاحين، رؤساء العشائر وأفراد القبيلة نحو مراكز المدن والعاصمة، في عملية ثأرية انتقامية مشتركة، من كل من الدولة والمجتمع والتمدن. وبالصورة التي فرضت طابعها التقليدي المتخلف، على المدن والحواضر العراقية التي كانت في العهد الملكي، تحتضن آمالا خصبة للتطور العمراني والاجتماعي.
وفي عملية تناص تاريخي دائري، نجد أن الفئات التي كان لها دور في مصادرة الإسلام وتشويهه من الداخل والخارج، عقب وفاة النبيّ، هي نفسها التي ستصادر برامج التحديث والتنمية الوطنية، وتحرم الامة العربية الاسلامية بالجملة، من فرص التحرر والتطور وتجاوزها واقعها المزري.
واليوم.. من الخليج إلى المحيط عامة، وفي الجمهوريات الوطنية من العراق حتى ليبيا، يواجه بلدان الشمال مشكلة عويصة، شبه مستحيلة الحلّ. يحيلها الساسة الجدد، وثقافة الناشئة، تقليدا لأبواق الاعلام الكولونيالية، على الحكام الوطنيين السابقين، وبرامج الحكم والتنمية الاجتماعقتصادية، التي تعرضت للحصار والتعويق داليا، على يد الجماعات العشائرية والدينية، وخارجيا بفعل السياسات والاجراءات الامبريالية، باعتبارها، بلادا خارج التحالف الرأسمالي الغربي.
وبدل مراجعة الذات وتحمل امسؤول الأخلاقية/ وطنيا وقوميا ودينيا، يتم اجترار قاموس شتائم ولعنات، ضد الحكومات، وننسى، - وهذا يخص انخب الثقافية والسياسية- أثر العقلية والثقافة الأناركية، التي يسميها هادي العلوي (لقاحية- مشاعية)، في توجيه السلوك الاجتماعي والعدائي لكل ما يتعلق بالدولة والنظام والدستور والقانون والحضارة والتمدن.
لقد مضى على اغتيال الدولة الوطنية التقدمية في العراق منذ [20 مارس 2003م]، أكثر من خمسة عشر عاما، تعاقبتها عدة حكومات وتشكيلات وزارية وبرلمانية، تطورت خلالها البلاد من سيئ إلى أسوأ، وانحطت أمور السكان إلى حدّ لا مثيل له في العصر، بما فيها الصومال وأفغانستان.
تعترف فئات الحكومة وممثلوها بفشل العمل الحكومي، وعدم خروج مشاريع الحكومة وقراراتها إلى حيّز التنفيذ، أو تعرضها للرفض والجمود اجتماعيا، لكنها لا تجرؤ على تحديد الظاهرة السوسيثقافية الأصلية في طبيعة الغلبيات السكانية المشكلة للمدن، وذلك لأن جماعات الحكم الدينية وقواعدها الطائفية والعشائرية، تلعب الآن دور القاتل والمقتول، دور الحكومة والمعارضة الداخلية. وفضلا عن الخلافات الساخنة بين أجنحة الحكم والتلاوين الحزبية، بله قادة الحزب الواحد، وفي صدارتهم الحزب الحاكم الذي استحل دور الأحزاب القومية الشمولية، يستخدم رجال الدين وجماعات المرجعية، جماهير البسطاء، مادة ضغط غير مباشر/ غير معلن، للانتقام من تمرد الحكومة على مراسيم طاعتها. فيضيع العباد والبلاد تحت طاولة الرياء السياسي والديني، وموائد النفاق الاجتماعي والتوافقي. وبكلمة واحدة، ان البلاد تنقض على نفسها، تنتقم من نفسها. وبينما يزداد الحكم هشاشة، يزداد الشعب هزالا، والبلاد تولغ في الانحطاط!.



[32]
الأم والأمة.. (أو- الحاضنة الاجتماعية)..
"يتامى نحن في بلد بلا أبناء".

(1)
أحد خصائص الحاضنة الاجتماعية الرئيسة، هو (الاحتضان) الذي يرتبط بالأم ويحيل على الوطن، والقاسم المشترك بينهما هو المرأة. و[الحنين والدفء] حاجات نفسية حسية، تعبّر عن تلك الحاجة للحضن والاحتضان والحاضنة.
هذه الثلاثة على اختلاف تمثلاتها [أم- عشيرة- وطن] تتلخص في دالة القبول* والرعاية غير المشروطة. فالأم تقبل وليدها بدون شروط مسبقة، وتسبغ عليه رعايتها وحضانتها، بغض النظر عن لونه وشكله وجنسه، سواء كان كاملا صحيحا، أو معوقا مشوها مريضا.
يختلف الأمر بالنسبة للوالد، الذي – قد- يرفض منح أبوته للأبن في حالات معينة، بالاستناد لشروط محددة، ومنها أن [الابن حزام/ ظهر أبيه]، أي سند وشريك له في السراء والضراء، وعند عدم الالتزام بهذا المبدأ، تتراجع الصلة بين الاب والابن، لحدّ التلاشي أو البراءة.
ويلحظ أن (الأم الوالدة) هي التي تنسب أبناءها لوالديهم، كما يفاد من الكتب التراثية، سيما في ظل تعدد الزيجات عند الجنسين بين العرب، وخشية اختلاط الانساب. والنسب الأصيل لا يقتصر على تسمية الوالد، وانما يضاف له اسم الوالدة،، للتمييز بينه وبين أبناء الأب من نساء أخريات.
فاسماعيل ابن هاجر المصرية، واسحق ابن سارة العراقية، كلاهما من أب واحد هو ابراهيم. لكن النسبة للأب هنا ضعيفة وغير وافية، ولا تغطي ما بين الأخوين من خلاف. فكان اسماعيل أبا العرب، - بحسب جداول الانساب العربية-، واسحق أبو العبرانيين*. والأمتان في خلاف وتنافر، أسبابه غامضة وغير مبررة، اليوم.
فالحنين للأم في زمن الطفولة، واستعادته مع بدايات الهرم والشيخوخة، هو في جوهره تعبير عن عمق الحاجة للقبول والمحبة والرعاية غير المشروطة. وفي صميم وجود كل فرد، هو أن يكون مقبولا مرغوبا محبوبا، موضع اعجاب وعناية واهتمام من وسطه الاجتماعي، أو من شخص قريب منه.
وإذا كانت المدنية قد اختزلت الكثير من تقاليد الرعاية والاحتضان النفسي للطفل والبالغ على السواء، فأن حدب الأوربيين واهتمامهم بعالم الحيوان، هو تعويض عن تلك الحاجة وافتقادها لدى الانسان أثر تعقد النظم الاجتماعية والاقتصادية في المجتمع الحديث.
ان الربت على رأس الحيوان وتلميس عنقه أو ظهره يجعل منه كائنا أليفا دافئا، عكس خصائص الوحشية والعدوانية التي تتملكه عند تعرضه للاستفزاز أو التهديد أو الجوع. فالحيوان في الثقافة الغربية، - خلاف الثقافة العربية-، هو جزء أساس من البيئة الاجتماعية والمجتمع المدني، يؤخذ بنظر الاعتبارا في التشريعات القانونية والصحية وتخطيطات المدن والاسكان. يقول أحد الأوربيين: من لا يحب الحيوان، لا يحب الانسان!. والحيوانات سواسية لديهم، لكن المفضل أكثر هو (الكلب).

(2)
لا مجال للمقارنة – من وجهة نظري- بين الغرب والشرق. فمفهوم التطور والتدرج واكتساب التجارب والخبرات في العقلية الغربية غير محدود، ولا تعوقه عوائق، على خلاف محدودية التطور الاجتماعي في الشرق وعدم تمرحله، وطبيعة العقلية الانتقائية والمزاجية الطاغية عليه.
وعلى رغم ان فكرة النجاسة- موروث عبراني قديم يسبق الميلاد-، فقد استعاره العرب، وقدسوه في ثقافتهم بغير تمحيص حتى اليوم، جنبا إلى جنب النظرة والموقف من المرأة. مع مفارقة حياة البداوة وتماسها المباشر مع الطبيعة والحيوانات والاوابد، مما يقتضي تراكما أوفر من الخبرات والألفة مع مفردات الطبيعة، مقارنة بأهل الحضر.
وفي مذكراته عن مدة خدمته بين العرب، امتدح لورنس [1888- 1935م] الشريف حسين بن علي [1854- 1931م] آخر امراء الحجاز المستقلة، لسعة درايته بعالم الحيوان، وعوالم الحشرات والزواحف، بشكل يجعل منه أحد خبراء المتاحف الطبيعية الانجليزية. لكن هاته المعرفة التي قد تنبع من مقتضيات (الطب الشعبي)، لا تنعكس عمليا على النظرة العربية للحيوان، ولا تشكل حالة عامة على الاطلاق.
على العكس منه، ينفر البدوي/ العربي من الحيوانات ناهيك عن ازدراء البدو للزراعة والعمل الزراعي واليدوي عموما. بينما كان العمل واليد والعقل هو عماد الحضارة والمدنية الأوربية، كما يصفها أرنولد توينبي [1889- 1975م].
أهمية هذه الفقرة، تؤكد مركزية العلاقة بالآخر، في بناء النسيج الاجتماعي، على قاعدة من الانتماء الانساني والانسجام النفسي، محلى بالشفافية والانفتاح. فالمشكلة البنيوية في الشخصية العربية، هي الانتقائية والمزاجية والهشاشة والخيلاء. هشاشة بناء وتكوين الشخصية الاجتماعية، تمتدّ إلى هشاشه نظراته للبيئة والمجتمع، وبالتالي هشاشة علاقته بالمحيط، وفي ضمنها الانسان.
لا كيان للصداقة، ولا كرامة للانسان عند العرب. أقرب الأصدقاء ينقلب في لحظة إلى عدو ذميم. والعكس بالعكس. الأخ والأب وابن العم والصهر، ينقلب عدوا – في لحظة- بسبب سوء فهم أو اختلاف وجها نظر، أو عدم تلبية حاجة، أو عدم تطبيق قاعدة (أنصر أخاك ظالما أو مظلوما).
هذا الواقع المر والهش بين الانسان والانسان، هو كذلك بين القبيلة والقبيلة، وبين العشيرة والعشيرة، وبين البلد والبلد الجار، وبين الجار والجار والمسلم والمسلم. وبعد وقوع الخلاف والتنافر، يتم التأسيس له وتبرير الأسباب والمبررات، وصولا لتأبيده وجعله موقفا استراتيجيا وتاريخيا، كما يحصل بين الحكومات والأحزاب عادة.
ومن المفارقات، قيام نائب رئيس جمهورية العراق بزيارة مفاجئة إلى طهران، بعد شهرين فقط، من حرب ايران التي امتدت ثمانية سنوات، واصرار الطرفين على رفض الهدنة والحوار. وعندما اندلعت الحرب الثانية، تخذ العراق من ايران حليفا، أستأمنه على أسراره ومدخراته الحربية.
بالمقابل، استمرت القطيعة والحرب الباردة بين بغداد ودمشق – جناحي حزب العربي- من عام 1970م حتى اليوم، وفق أسس ومبادئ الهشاشة القومية وشظف الانتماء عند العرب. ومراجعة منظومة العلاقات البينية في الشرق الأوسط، في أي مستوى من مستويات العائلة والعشيرة والطائفة والمذهب إلى الثرية والمدينة والدولة والعالم، يكشف انعدام الود بين متجاورين. هذه الاشكالية البنيوية في تكوين الشخصية العربية تؤكد هشاشة قاعدة البداوة في ذاتها، التي أنتجت هذه الشخصية.

(3)
أين هو مكان الحاضنة الاجتماعية النفسية في دائرة القبيلة؟..
والظلم من شيم النفوسِ فإن تجدْ ذا عفّةٍ، فلعلّةٍ، لا يظلمُ
والظلم هنا دالة غير مقصودة في ذاتها، تشير إلى القوة والرجولة والصرامة والقسوة والغلظة، كرها في مضادّاتها، أكثر مما هو حبّ أو ميل إليها، وهي أنظمة مجتمعية متوارثة، لا دور للفرد فيها، سيما في النظام الاجتماعي، غير التزام الأعراف والتقاليد، والتجويد فيها درجة تجعله موضع مديح وثناء وشهرة. وكم من النساء حتى اليوم وفي عالم الغرب، تميل للرجل القوي مفتول العضلات، كما في موضة زواج الفنانات من لاعبي الكرة وأبطال القوى، مثل شاكيرة وغيرها. وثمة فهي لا تقتصر على العرب، ولا تمثل ظاهرة بدائية أو مؤقتة، لقصرها على قيم القبلية والبداوة.
ان عقلية القبيلة ترفض الضعف والنعومة ومظاهر الحاجة على اختلافها، فكيف بالحاجات النفسية، الغائبة عن القاموس اللغوي لها. على العكس منه تمجّد الثقافة القبلية مفاهيم الشجاعة والإباء والتحدي والمقاومة الجسدية وتحمّل الصعاب والظروف غير الاعتيادية. ويعتبر التعبير/(الشكوى) عن الألم والخوف والمرض، مستنكَرا، يخلّ بقيم الرجولة والبطولة والفروسية.
مظاهر القوة والعنف ترفع من معنويات القبيلة وصيتها وتبعد عن أذهانهم أفكار الخوف والتخاذل والألم والحاجة. قوة المعنويات الملحوظة في أجواء الحرب والتدريب العسكري وفرق الموت شرط رئيس للتقدم والشجاعة وعدم التفكير بالتراجع أو الخوف.
ملأنا البرّ حتى ضاق عنا... وماء البحر نملأه سفينا
وإنا نورد الرايات بيضا.... ونصدرهن حمرا قد سقينا
إذا بلغ الفطام لنا صبيّ... تخرّ له الجبابر ساجدينا*

(4)
من مضاعفات ثقافة القوة والشجاعة، واقع العزل داخل العشيرة بين النساء/(الحرملك، الحريم) والرجال، الاناث والذكور. وفي معسكر النساء يكون مكان الأطفال الذكور حتى سنّ معينة، وعندما يشتد ساعد الصبي ويتعلم الخروج لوحده ليلا أو الدفاع عن نفسه واتقان تمارين الفروسية والمنازلة ينقل إلى معسكر الرجال.
يمكن القول، أن معسكر النساء أكثر مرونة واستيعابا للحاجات النفسية والجسدية في حالات الرعاية والمرض والخوف. لكن المرونة هنا لا يسمح بها إلى حدود التمادي، بحيث تزعزع واقع القبيلة/ القوم. وتلعب النساء المسنّات دور الحرس (الثوري) لضغط المشاعر وكبث الآلام وعدم السماح بالصوت المسموع مهما كان دافعه- جوع، برد، خوف، مرض، ألم-.
هذه الصورة العسكرية لنموذج البطل القبلي، يترتب عليها خصائص اجتماعية ونفسية تنتظم مظاهر السلوك والخطاب النموذجي الملزمة داخل مجتمع القبيلة. وبتعميم هذا النموذج تتحول القبيلة إلى صورة كتيبة عسكرية مجندة، لا يمكن التمييز بين أفرادها.
يتعارف مجتمع العشيرة على لون محدد للثياب وطراز محدد ثابت لكل عشيرة أو قبيلة. ولتوجس الجماعات البدائية عموما من الظواهر الطبيعية وحركات النجوم والقبائل، يجري تفضيل اللون الأبيض للرجال، واللون الأسود أو الألوان القاتمة للنساء، لخفض معدل الجاذبية والإثارة.
ومن الفضائل المتعارفة طول الصمت الذي يشير للحكمة والصبر، ونبذ المزاح والضحك، وخفض الصوت عند الكلام. ويلحظ شيوع الشعر بين العرب، على اختلاف أنواعه، ويفضل منه الفخر والحماسة والحكمة والفروسية، ويليه الغزل والرثاء والهجاء وآخره المجون والإضحاك. فالكلام على عواهنه والاصدار بلا سبب مبرر، يحسب على السفه، وهو من قلة (خفة) العقل، الذي تستهجن لأجله المرأة.
كثرة الكلام تودي بمكانة صاحبها، فلا يؤخذ برأيه في أمر، ويستبعد من حضور جلسات الحكم ومداولة الأمور المهمة. وفي حالات استثنائية، تمكنت بعض النساء الصموتات الحكيمات من احتلال مكانة لائقة في مجالس الحكم. ومنهن من نبغ في الشعر أو الفروسية أو الحكمة. فالصفات والفضائل النبيلة ترتقي بأهلها، بغض النظر عن عوامل الجنس واللون والأصل. والعكس بالعكس أيضا.

(5)
التشابه في الطباع والخصائص والعادات والثياب وغير ذلك من مظاهر الحياة والنشاط البشري، يؤكد أهمية قيمة التشابه والتكرار كقيمة قبلية، لتأكيد وحدة القبيلة وقوة الولاء لها وتقليل التنابز والفوارق الطبقية والعرقية بينها. خلاف ذلك، يعتبر الاختلاف وعدم المشاركة في التقاليد والمناسبات والأنشطة، دالة عصيان وتمرد وخروج على الاجماع، مما يستوجب الحساب والعقاب الجماعي.
ينسب إلى عمر بن الخطاب قوله: كلّ من أدخل في هذا الأمر ما ليس منه، فليس منا، وفي قول آخر.. أضربوا عنقه!.
وفي أوساط التشدد السلفي المتجددة، يلحظ تأكيد ومبالغة في استخدام العبارات والصيغ والنماذج التقليدية الغابرة في كلّ شيء، والزام الناس بتداولها، ومنه عبارات التحية، التي يختزلها هؤلاء في عبارة واحدة، لا تقتصر في نصها على (السلام عليكم/ عليكم السلام) وانما بالنص التكميلي المكرر [السلام عليكم ورحمة الله وبركاته] وعلى المتلقي الردّ بالمثل دون قطع العبارة، حتى لا يعتبرها السلفي إهانة أو اختزالا للرحمة والبركات.
هذا الخطاب الاعلامي يختزل المعاني الحقيقية للنص/ الجوهر؛ ويكتفي بالمسموع والتمثيل الأدائي الاستعراضي/ المظهر، مما لا يصدر من القلب ولا يقترن بمشاعر الودّ.
في ظلّ هكذا أجواء مسرحية أو تمثيلية، أين يكون مكان الذي لا يشارك في المسرحية أو الفيلم، لا بدور رئيسي ولا كومبارس، ولا حتى حارس ستارة؟.. فالوعي ومفاهيم الارادة والمسؤولية المتعلقة بثقافة الفرد، غير مسموح بها، في ظل قاعدة الصورة النمطية التقليدية للجماعة/ (مفهوم الآداب العامة) أو (ثقافة القطيع).
بضعة أنفار في المدينة تعرضوا لآثار عقوبة مقاطعة جماعية لأنهم لم يرافقوا الرسول في احدى غزواته ولم يستأذنوه للبقاء؛ وكان منهم كبار السنّ ممن تلزمهم الرعاية، وكانت المقاطعة تشمل امتناع الكلام والمعاملة والتحية والعِشرة الزوجية. وكان بعض الأشاوس قد تبرعوا أمام الحاكم بقطع أعناقهم.
مثل هذا السلوك يبرر فرض ضريبة (الذميين) في الدولة الاسلامية، جراء عدم خروجهم للقتال، رغم أن الدولة وراء منعهم من الخروج مع المسلمين.
ففي نظام القبيلة لا مكان للاختلاف، ولا مكان للمختلف. فالقبيلة لا تقبل التنوع والاختلاف والتعدّد. حتى لو كان الاختلاف والتعدد والتنوع يصبّ في صالح غنى المجتمع والجماعة الانسانية.
تختلف القبيلة العربية في هذه النقطة عن القبيلة العائلية العبرية. ان رابطة الدم العائلية لدى اليهود تشكل حاضنة اجتماعية (أموية) لكلّ العبرانيين، ورغم انتشارهم في البلدان، يجتمع أبناء الجالية محتملين بعضهم بعضا في ضعفاتهم وفقرهم وظروف احتياجهم/ (غيتوات). هذه الرابطة الاجتماعية الضامنة، لا وجود لها في نظام متشابه تكراري هش التركيب.
هذه المنظومة القبلية بكل خصائصها السلبية انعكست في الفكر الديني المنعكس عنها، والضامن لديمومتها وخلودها. وبفعل اجتماع القبلي والديني في الإرث التربوي المتخلف، ورث النظام السياسي العربي المعاصر تقاليد القبيلة التكرارية وعقيدة رفض المختلف، فانعدمت مظاهر الحرية والمساواة من داخل -المجتمع، وامتنعت أسباب حرية التعبير والرأي الآخر في الشارع والصحافة والزعامة.
يتساءل البعض، بارتياب واضح، فيما إذا كان الاسلام كدين وراء الوضع الكارثي والتخلف المهين الذي تتهاوى في أطرافه بلدان الشرق الأوسط. الواقع ان طبيعة النظام القبلي البدوي القائمة على التكرار السطحي والقيم المظهرية الساذجة هي سبب تخلف الاسلام، وامتداداته في المجتمع المعاصر.
وفي ظل عجز البيئة القبلية عن احتضان أبنائها والانفتاح الحضاري والانساني أمام اختلافاتهم وألوانهم الفكرية والدينية والسياسية، يتزايد معدل الهجرة والاقامة العربية والاسلامية في المهجر، حيث تتوفر أجواء التسامح والتكافؤ والمساواة على أساس الانسانية، والانسانية فحسب!.
ـــــــــــــــــــــــ
* المرحلة الأمومية/ الأمومية (المطرياركية) سبقت المرحلة الأبوية (البطرياركية) عقب الاستيطان واحتراف البشر للزراعة. النظام البطرياركي اختزل دور الأم من ناحية القيادة ، ولكنه لم يستطع الغاء دورها ووظيفتها باعتبارها المصنع الوحيد المنتج للبشر. فالنظام الأبوي هو نظام انتهازي، لا يستغني عن المرأة/ الأم ولا يمنحها حقها الطبيعي [باخوفن/ حق الأم] المناسب في الجماعة الاجتماعية والاقتصادية. ولغرض إحكام سيطرته، وقطع أي أمل لها في قيادة الدفة، فقد تحولت من قائدة ورئيسة، إلى خادمة وعبدة وأمة وملكة يمين، تحتكم برغبات الرجل وإرادته. النظام البدوي – القبيلة عند العرب- هو نظام بطرياكي ذكوري في كل مفاصله [أب- عائلة- قبيلة]؛ والأب البدوي متعدد النساء دون أن تحظى احداهن بمكانة المرأة السيدة/ أو السيدة الأم/ الأم الكبيرة، كما هو في الثقافات الأفريقية عامة. المرأة في التراث العربي توصف بأنها (أم ولد) ولكنها لا توصف بأنها (زوجة فلان أو أمرأته)، بينما يمكن وصفها بجاريته وأمته وخليلته وعبدته [ترد عبارة شائعة: كانت تحت فلان!]. وهذا يجعلها أقل شأنا من (انسان) من جهة الحقوق والكرامة. لذلك يلحظ أن تكريم المرأة منوط بابنها [أمك ثم أمك!]، وليس بالزوج أو الرجل الذي عاشرها وأنكحها وأنجبت له أولادا يحملون اسم الرجل/ الأب.
* الأصل في مصطلح (القبيلة) هو القبول/ القبول المتبادل للأشخاص داخل الجماعة - القبلية. أما مصطلح (العشيرة) فيمتح من دالة الرقم [10/ عَشرة] والتي تقابل معنى (كردوس) في تدرج التقسيمات العسكرية داخل وحدات الجيش، لما يقتضيه سهولة التنظيم وسرعة الحركة وخفة النقل في مجموعات صغيرة، بدل التحرك في جحافل كبيرة. وثمة صلة لغوية وثيقة بين لفظ الرقم العشري ومعنى (عِشرة) من التعايش والمعايشة ووحدة المعيشة أي الأكل والنوم، والتي توصف في المأثور الشعبي بـ(العِشرة والملح/ العِشرة والزاد). وتنقسم (القبيلة الواحدة) إلى (عشائر عدة) متوزعة في الأطراف، بينما مركز القبيلة في موطن آخر. ومع النمو السكاني تنقسم العشيرة نفسها إلى عشائر متعددة، قد يتخذ بعضها مسميات خاصة وتتشكل بذلك منظومات قبلية وعشائرية جديدة، تبدأ بالنمو والانقسام بدورها. ويعرف أن العشائر يمكن إعادتها من جهة النسب إلى مرجعيات قبلية معروفة، كما يتم – لدى النسابة- ترجيع كل قبيئلة إلى أصولها القبلية أو العائلية الأبوية الأقدم. وهو موضوع خاضع للجدل والاختلاف على الدوام، وهو أقرب لتخمين والتشكيل منه إلى الواقع والحقيقة التاريخية.
* الغالب هو وصف العبرانيين/ اليهود بأنهم أبناء يعقوب ابن اسحق/ (بنو اسرائيل)، ولا يدعون أبناء أسحق نسبا. أما نسبة العرب/ قريش إلى (اسماعيل)، فهو زعم معنوي من قبيل النسبة إلى (ابراهيم: أبي الانبياء)، وليس نسبا تاريخيا، ولا يأخذ به النسابة المحققون. وفي أحاديث منسوبة لمحمد وعمر، كل ما بعد عدنان فهو كذب!. ويذكر ان (قريش) هم أهل مكة، أما سكان نجد وشرقها وجنوبها وشمالها، فمن أصول ومشارب متعددة ومتفرقة.
* فكرة البطولة والقوة تتعالق بمسألتين على قدر من الأهمية هما: بنيوية الخوف في ذات البدوي/ العربي/ المسلم/ الخوف من الطبيعة والمستقبل والغريب؛ ومركزية اللغة والبلاغة/ (المبالغة) في تشكيل العقلية والثقافة العربية/ الصورة الاعلامية الخارجية بين الامم.




[33]
مصادر المعلومات العربية..

(1)
العرب: أمة وشعب وثقافة ولغة وبلاد، ذات جذور تاريخية عريقة، ومكانة ذات خصائص مميزة، عرفت بها عبر الزمن، وهي من الأمم والثقافات واللغات القديمة في تاريخ العالم. وقد مرّ العرب بمراحل متباينة من صعود وهبوط، فعالية وتهميش، وكان لهم في نهوضهم أثر وأهمية، كما في هبوطهم أثر وخطورة.
ولسبب أو آخر، عاني العرب: [اصطلاحا واجتماعا] من اهمال وتغييب واجحاف، على الصعيد النظري والاجتماعي. وما بين النظرات العدائية والطامعة للآخر، وبين سمات الفخر والكبرياء والإباء التي تسم الشخصية العربية، لم يظهر في تاريخها القديم والحديث، ما يمكن الاصطلاح عليه بعلم اجتماع عربي، أو منظومة معرفية نظرية لانسكلوبيديا العربيا.
وفيما يجد القارئ في المكتبة المعرفية اليوم، معارف وافية عن كل أمة وشعب من أمم أوربا وشعوبها، من أقدم جذورها الكلتية وسيرورتها التطورية حتى الآن، وبشكل يستمرّ توثيقه وأرشفته، من قبل مؤسسات وطواقم متخصصة تعنى بهذا الجانب، بقي العرب خارج دائرة الأرشفة والتوثيق، بل غابوا عن الانسكلوبيا والتأسيس النظري، الاجتماعي والسياسي والثقافي.
ولا يتوفر اليوم أمام الباحث، من سجلات العرب ودواوينهم، غير ما سطّره الأجانب/ الغربيون أساسا، عن العرب، ومن منظورهم السياسي الأيديولوجي، أي ما يمكن أن ينتفعوا منه، وما يساعدهم في اختراق العرب، ويسهّل بلوغ أغراضهم فيهم.
مثل هذا الكلام، لا يغفل عن ما سطّره القدماء من تصانيف بدائية، لا تخلو من جهل وإغراض وعلل، وما دبّجه المتأخرون في القرن العشرين، في ضوء المعارف الغربية ومكاتب الاستشراق، فاعوزه الاخلاص والدقة، والمعرفة الاختبارية والمماحكة المعيشية، والإرث التربوي الذي يتلقنه المرء من العائلة والمحلة، والثقافة المحلية والتراث الوطني.
فإذا كانت الموسوعية النقلية البدائية القديمة، وقعت ضحية فهمها للسان العربي والشمولية الإسلامية، فأن مؤلفات المحدثين وقعت ضحية المناهج الأكاديمية، ورؤى الاستشراق وعقدة الأدلجة الغربية، التي بدونها لا يحصل الطالب على الدّرجة العلمية، واجازة الاختصاص وتدريسه.

(2)
ولم يعن لجيش المؤرخين والأكادميين العرب بمختلف اختصاصاتهم، التنبّه، في إعادة النظر في إرثهم الأكاديمي، والبدء في تأسيس علوم تاريخ واجتماع وآثار ودين واقتصاد وسياسة وتربية، وفق منظور شرقي عربي عروبي، يعود بالمعلومة والواقعة والفكرة إلى جذورها الشرقية والبلدانية الأصيلة، نازعا عنها قشور القراءات والتصورات والأدلجة الغربية.
وقد تلقنا تلقينا هجينا، على مستوى الثقافة والأكاديما والإعلام، أن نقرأ النص بحسب ما يتضمنه من إشارات غربوية وأسماء ومصطلحات أجنبية، واعتبرنا ذلك سمة رقي معرفي وعقل علمي اكاديمي.
ولم يعن لكل أولئك، أنهم، انما يمتحون من ثقافة أجنبية معادية، ويرسخون عقلية تبعية كولونيالية، ويخدمون الماكنة الامبريالية، التي كان خنوع الشرق ومهادنة الهند والصين ومراوغة العرب، أدوات صعودهم وتسلطهم، ليس على كلكل الشرق منذ القرن السادس عشر، وانما جملة الكرة الأرضية والفضاء الخارجي والمجال الكوني، الذي لا يجرؤ أحد على تعرضه- مثل أشياء كثيرة اليوم- دون رخصة وشروط امبريالية غربية وامريكية مذلة، أو مستحيلة.
لقد درج العلم القديم والاستشراقي، على اعتماد القراءات المعكوسة والمضادّة، فقرأ الإغريق من خلال ما كتبه عنهم الرومان والمصريون، وقرأ المصريين من خلال كتابات الإغريق والرومان عنهم، وقرأ الفرس من خلال ما كتبه عنهم الإغريق والرومان، وقرأ العرب من خلال ما كتبه عنهم الفراعنة والاشوريون والفرس، وقرأ الهند من خلال ما سطره عنهم الرومان والفرس والعرب. فالعدوّ هو المؤرخ الأول لعدوّه. وفيما لا يعترف الغرب بكتاباتنا وأفكارنا، فلما تزل كتاباته وأفكاره ونظرياته عنا، هي أساس تعليمنا وثقافتنا المدرسية والاجتماعية والدينية.
لبث العرب خلال ذلك زمنا، يقتدون بلقاحيتهم الشفاهية، ويأنفون من شغل اليد والقلم. والعالم اليوم، لا يقتدي بالشفاهي والموروث الشعبي، ويستهجن الميثولوجيا الماورائية؛ ما لم تكن مدونة بالحرف والنقش، على الصخر والجلد والورقة. فتمّت قراءات سومر والفراعنة، وبابل وأشور، من خلال الحفريات والمستكشفات الأثرية. بينما اعتبرت ميثولوجيا جزيرة العرب ذلك، من علامات النحس والشؤم، فانتبذتها.
وما زلنا نحن لليوم، نتعرف على أنفسنا، ونبحث عنها، من خلال أساطير الغربيين والأجانب، المنمقة والمدبجة بطرز الاكاديما ولغة العلم وقواعد المنطق والديالكتيك، حتى استحلّت في العقل الثقافي العربي والشرقي عموما، محلّ المقدّسات والتقاليد، التي سخرت منها الثقافة الأكاديمية العلمانية العربية، سيما في أجيالها الأولى.
والأدهى منه.. أن أبناء الشرق والإسلام اليوم، يذهبون إلى الغرب لدراسة الشرق والاسلام والعروبة، ويحصلوا على مؤهلاتهم العربية والاسلامية من مؤسسات غربية، أسبغت على نفسها سمات التفوق العقلي والعلمي، ضمنا للتفوق الكولونيالي الامبريالي لبلدانهم، في القرون الخمسة الأخيرة، وكانوا من قبل، لفي قرون مظلمة.
والواقع، ان حملة الشهادات الغربية، لا يتعرفون للعلوم التخصصية، وانما للمنظور الغربي لتلك العلوم والمعارف. والمعروف، ان كل بلد أوربي يؤسس مؤسساته الأكاديمية وفق نزعة فكرية بلدانية مؤدلجة، تمايز المدارسة الفرنسية عن الألمانية عن النجليزية عن الايطالية عن الروسية واوربا الشرقية، وهذه كلها تتمايز، ولا تصل مبلغ الشهادات الأمريكية اليوم، في زمن التفوق الأمريكي. بينما يغيب الشرق تماما، ولا يعادل شيئا أزاء الغرب.

(3)
لقد تغير العالم اليوم، في مرحلة ما بعد الحداثة.
فبعدما كان القرن العشرين منقسما للغرب الرأسمالي والشرق الاشتراكي، فأن التفرد والانفراد الأمريكي بالسيادة والقرار العالمي، والمستعدي أمور السياسة والاقتصاد والجيش ليملأ كل مجالات المعرفة والانسكلوبيديا، أخذت الفجوة تظهر بوضوح بين جانبي الأطلنطي، وأدركت أوربا، أنها ليست أفضل مكانة من الروس، ولا الروس من بقية العالم، بالمنظور الأمريكاني.
ترتب على هذا، ليس الوحدة الأوربية والتلاحم، لمواجهة الغول الجديد، ولا التقارب مع الروس والصين والهند، لغلق المنافذ والتضييق السياقتصادي، لاجبار واشنطن على التنازل لهم عن جزء من الكعكة؛ انما مالوا في ذلك ميل العرب، لاستعادة النزعة القومية البلدانية، ونفحها لتحتل اطارا امبراطوريا. ويجد المقيم في الغرب، هذا التأكيد القومي والبلداني، في الانتاج والترويج الاقتصادي، حتى لمواد الخضرة والمعلبات.
وإذا كانت الدعاية الأمريكية قد غزت العالم في القرن العشرين، بثياب الكاوبوي الجلدية، وسيارات الشيفروليه العريضة الطويلة، والانتاج السيمائي والاعلامي لهوليود، ثم ألحقت بها منتجات المكدونالد والوجبات السريعة واحتكار برامج الأطفال واللعاب الالكترونية التدميرية، مما أصبحت جزء من اللاوعي والمخيال العالمي.
فأن المجتمعات الأوربية تعتز بتفاصيلها البلدانية، في الثياب والمأثورات والاقتصاد، بل أن القرى والمديريات البلدية، تروج لسكانها، على أهمية ترويج المنتجات المحلية، ودعم اقتصاديات السوق المحلية سواء في القرية أو المديرية، وعدم الخروج عن محيطها البلدي السكاني لغرض التبضع.
وهو نظام ثقافة اجتماعية/[اقتصاد محلي واكتفاء ذاتي]، متبع في القرية النمساوية/ الألمانية.
مع اعتبار واضح، للتسوق المحلي، دالة للانتماء المحلي لمجتمع القرية والناحية والمديرية. والمغزى من ذلك، ان كل بلد أو مجموعة ثقافية، يعيد بناء نفسه من جديد، ويتبع سياسة جديدة، لاستعادة القوة والصدارة، للتحول الى امبراطورية، اقتصادية أو سياسية أو ثقافية.
وهذا هو مغزى قرار لندن من البركست/ (23 يونيو 2016م)، رافضة تسجيل منتجاتها تحت ماركة أوربية/ (made in EU). وعلى صعيد سياقتصادي تحاول انجلتره تطوير نهج رأسمالي انجليزي يميزها عن غيرها. وهو ما تخطط له بلدان أخرى في أوربا.
وقريبا، ستظهر نمادج رأسمالية قومية متباينة. ولن يستمرّ النظام الاقتصادي العالمي وفق سياقه الحالي طويلا. بل قد لا يتاخر الوقت، وقوع الحرب الغربية الثالثة، متوسلة لذلك بذريعة تنفجر في بلد هامشي ضعيف، يكون ميدانا لتفريغ شحنات القوى المتصارعة والمتنافسة، والمختنقة منذ داخل جلودها.
فالسياسيون الغربيون يدركون ان العالم الآن غير مستقرّ، وأنه يمرّ بمرحلة انتقالية صعبة، ليس بين الشرق والغرب، انما بين الغرب والغرب نفسه، وهذا هو محور الصراع السابق في حربي النصف الأول من القرن العشرين. وقد لا يمرّ نصف القرن الحالي، بغير اندلاع حرب رأسمالية- رأسمالية داخل الغرب نفسه، يتم معها، تفريغ القوة الأمريكية من شحناتها.

(4)
نعم.. علينا أن نكتب تاريخنا بيدنا. ونؤسس ثقافتنا ومناهجنا وقواعدنا البحثية بقدراتنا العقلية والفكرية واختباراتنا المبيئية والمعيشية، إذا كنا أهلا لذلك. أما إذا كانت امكانياتنا العقلية ناكصة دون ذلك، وتكويننا البيئي الاجتماعي والنفسي قاصرا عن الارتفاع بأبنائه عن درجات اللياقة الفكرية القيادية والسيادية، فمن المؤسف أن نعمل وكلاء اعلانات ومروجي بضائع في سوق العولمة الامبريالية.
ان العالم ليس سيئا، ولا الشرق متخلفا، وليس التفوق خاصة بالبشرة البيضاء والعيون الزرقاء، ولا المعرفة والحكمة رهنا بالغريزة وقصرا بالمعيشة والتعليم البراغماتي، انها أكبر من ذلك وأعمق وأسمى. وقد حان اليوم الذي يستعيد الشرق فيه حكمته ورؤيته التأسيسية اتي ولدت منها الحضارة والمدنية والدين، قبل أن تنقشع ثلوج اوربا عن يابستها.




[34]
تأطير ايديولوجي..

(1)
مشكلة القراءات التاريخية، هي صعوبة استحضارها شبكة الظروف والبيئات، والعوامل المتفاعلة في حقبة الدراسة أو التاريخ المحدد. وفي حال التوفر على مصادر ونصوص توثيقية كافية، كما في حالات الإغريق والرومان والمصريين، يهون الأمر، أما حين تنعدم المدوّنات الموثوقة، لكل حقبة بحقبتها من خلال مؤرخين معاصرين، أو تنعدم نهائيا، كما في حال العرب، فان المهمة تبدو أقرب للاستحالة.
ولا يفهم سبب غياب معلومات تاريخية وراهنية، عن شبه جزيرة العرب، في مدوّنات الأمم والحضارات المجاورة لهم، كالمصريين والرومان والفرس، بسبب ضعف تماحك أهل الجزيرة مع الخارج، أو لغيره. لكن السلوك البدائي للعرب والمسلمين، في تدمير الآثار والمكتبات –[تحريق/ تغريق]- كان في غير صالح العرب والمسلمين، اليوم وعلى المدى البعيد.
فتغييب تاريخ العرب وأصول الإسلام، لا يمكن التعتيم عليه، وتزويقه -لاحقا- بالإنشائيات والمزوّقات البديعية. وإذا كان جيلنا والسابقون لنا، لم يقتنعوا بالتسطير المدرسي، فمن المستحيل بقاء الجيل التالي لنا، على هامش التاريخ والحضارة.
وقد حاول رواد القرن العشرين، ابتناء هوية أيديولوجية عروبية، تغطي على هشاشة الهوية والنسيج الاسلامي، الذي عوّم الشعور الوطني والانتماء القومي، لصالح حكم امبراطوري عائلي. فتعرضت تجربتهم للتهميش والتغريب والتدمير، من المحلي والاقليمي والعدوّ الخارجي، معا.
والطريف، ان الذين اتهموا المشروع العروبي والقومي بالتغريب، كانوا وما زالوا، أكثر انحيازا للإمبريالية، ولم يألوا جهدا في إنفاذ السياسات العدوانية الكولونيالية، حتى الدمار الشامل لبني جلدتهم وأخواتهم في العروبة والدين. لماذا؟؟؟؟. هل هذا هو الخطاب القرآني، أو المشروع المحمّدي في القرن السابع الميلادي، أم انحياز ديماغوجي ضدّهما؟..
وإذا كان قسطنطين الأول [272- 337م]، استخدم شعار المسيحية، لتدميرها من داخلها؛ فهل يحتذي بعض ساسة المسلمين، خطوته، لتدمير الإسلام، وربط حوض المتوسط بشماله، للفوز بزعامة مأجورة على مجتمعات من العبيد. قسطنطين استخدم الدين لتقريب أطياف النسيج الاجتماعي الروماني من بعضه، وبناء أمة رومانية، تكون قاعدة اجتماعية قومية لتوطيد دولته الامبراطورية، ووضع حدّ لنزاعاتها الداخلية.
وهذا هو الأساس الذي استند إليه المشروع المحمّدي بتقريب الجماعات القبلية والحضرية من بعضها لبناء أمة واحدة، تنتصر لنفسها، وتصمد أمام رياح الخارج. فكيف كانت رؤية الساسة المعاصرين لمعادلة الأمة والدولة؟.. كيف أصبح (الاسلام) التوحيدي، بكل مستوياته وأبعاده، عامل تمزيق للأمة وتدمير للدولة العربية؟.. وهل يكفي العجز عن تقعيد الأصول، مبررا للتسليم للخارج، وخدمة سيناريوهاته التدميرية للمنطقة؟.

(2)
نحن اليوم، في العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، نحتفل بغياب المشروع القومي العربي، وتدمير أسس وقواعد البلدان والأنظمة والمجتمعات والثقافات الرائدة له. ويحتفل المحتفلون بفوز البلدان والأنظمة الرجعية المتقنعة بشعارات دينية بالبقاء، دون التفات للهيمنة الكولونيالية الإمبريالية المطلقة في كل حذافير المنطقة، بضمنها أساسيات العقيدة والعبادة، بينما تعرّضت الأنظمة الثورية ذات المشروع الوطني والقومي للزوال، لتهديدها مصالح الغرب.
ورغم كل ذلك، ما زال المشروع البديل غائبا، وأرجو أن لا يكون أمريكيا أو غربويا. لكن الأنظمة الرجعية التي قوّضت مرتكزات العروبة والإسلام، بعيدة كل البعد عن المساهمة الفكرية، أو الانكشاف عن فكرة أو مبدأ، يبرّر وجودها وممارساتها حتى اليوم.
لقد كان الحكم العثماني، أكثر رحمة وأصالة، في المجال الديني والعروبي، من حقبة ظهور حكومات وأنظمة عربية محلية، برّرت وجودها بالتبعية الكولونيالية والإمبريالية، والحكم عنه بالنيابة، وهي تجربة لها سابقاتها في ملوك الغساسنة والحيرة قبل الإسلام. لكن قيام واستمرار هكذا أنظمة، كان في غياب الوعي الجماهيري، وتغييب الإرادة الشعبية والكرامة الوطنية. والعمل على استعباد المجتمعات، في عصر حظر العبودية، بسياسات الحديد والنار، ووحشية العقوبات المنسوبة للدين.
لقد صوّرت تلك الأنظمة الكولونيالية الإسلام في أبشع صوره، صورة العنف الوحشي وغياب الإنسانية والتمدن. ومع عماء المدنية الغربية، وجماعات حقوق الإنسان الكولونيالية، عن تلك الممارسات المهينة، عملت الحكومات التي تتبنى (الشريعة) إلى ترويج ممارسات: البتر والحدّ والقمع غير المتحضر. لقد أوصلت الأنظمة الرجعية العرب إلى حضيض اليأس، ليس بقراتها، وإنما بتحالفها مع أعداء الإنسانية، لتخدم الدعاية الصليبية الغربية في تشويه الدين العربي، وتفريغه من جوهره الانساني ودينميته السياسية على صعيد الراهن. فإذا كان محمّد وصحابته، مشروعا ثوريا، للحدّ من الطغيان والاستبداد العالمي، كان ممثلو الإسلام المعاصر، عبيدا ودهاقنة.. للطغيان والاستبداد المعادي للإنسانية.

(3)
أمامنا اليوم ثلاثة اصناف من المصادر العربسلامية:
تصانيف تراثية من حقبة الدولة العربسلامية.
كتابات المستشرقين ودراساتهم المبكرة منذ القرون الوسطى لليوم.
كتابات المؤرخين المعاصرين ومحاولاتهم في إعادة كتابة التاريخ وفق اسس علمية/ أيديولوجية، تحتمل المنطق والإقناع.

لكن كل هاته المصادر والتراكم لا تخلو من فراغات وأسئلة وتحديات قهرية، وبشكل لا يحقق الإقناع من جهة، ولا يكفي لتشكيل خطاب أو هوية عصرية جديرة أو وافية. وأجد ضرورة لتأشير ملاحظاتي النقدية السريعة والوجيزة، بحسب التعاقب..
1- اختلاط الخرافة بالوضع بالتدليس لأغراض معينة.
2- اختلاط البحث العلمي المعرفي الجادّ بسياسات الاستشراق، التي تجمع بين منهجية احترام الثقافات المحلية والقومية من جهة، وتوظيفها في ضوء المركزية الاوربية والمصالح الكولونيالية.
3- اختلاط البحث العلمي الجاد، رغم اشكاليات العقلية العربية ومحدودية الحريات، بمبادئ المشروع العروبي القومي، الذي كان لما يزل مؤمنا بقدرة العرب على استعادة الإمبراطورية العربسلامية، وبالتالي، عودة التواصلية الحضارية العصرية، واستكمال الحضارة العربية الإسلامية من العهد العباسي.
ولا ينكر ان الغرب الاستعماري، كان يدعم مشروع استعادة العرب لوضعهم الإمبراطوري، في شرق المتوسط وجنوبه. ولكن خذلان المشروع وانكساره، كان بفضل الجماعات الإسلامية التي ناجزت المشروع العداء، ووجدت فيها بعض الأطراف المعادية، وسيلة وجسرا لتحقيق مكاسب استراتيجية.
وأقول هنا بالنتيجة، في إطار المراجعة الفكرية، أن انحناء التنويريين والعلمانيين العرب* للإسلام الرجعي/ (إسلام اللا إسلام)، كان خطأ ستراتيجيا، انعكس دمارا عليهم وعلى الأمة. ولو أنهم انتهجوا طريق مصطفى كمال أتاتورك والحبيب بورقيبه وجمال عبد الناصر والشاه رضا بهلوي، لاختلفت صورة حاضرنا اليوم، وكنا أكثر أملا في حضارة المستقبل.
بينما كان انشقاق العلمانيين العرب على الآخرين، نحرا مقصودا، غير قابل للغفران، لمشاريع العلمانيين اللبراليين الناجزة، وبفضل الازدواجية الفكرية والرياء العربي المعاصر، تم إفشال البهلوية والبورقيبية والاتاتوركية، وتضييع الدولة الوطنية المدنية.
وهذا هو مغزى التقريع الذاتي في رثاء نزار قباني لجمال عبد الناصر[1918/ 1952- 1970م]:
قتلناك يا آخر الأنبياء..
قتلناك،
وليس غريبا علينا قتل الصحابة والأولياء!..
وهو معنى شمولي ومتشعب وعميق، ولا يستثني أحدا، كما يقول قرينه مظفر النواب من واقع نفس الصرخة. فإلى متى يبقى تقريع الذات والندم المتأخر، والبحث عن التبرير، والخلاص من الخارج، ديدن أمة لا تتعلم ولا تعقل منطق الوجود. وكلّ ذلك رهن شيء واحد: التحرر من عقلية البداوة وأمراضها المستعصية!.
نحتاج إلى شجاعة حقيقية، أولا: لمواجهة الذات، وثانيا: لتحديد العوامل والجهات المسؤولة عن إفشال مشروع النهوض العربي وتدميره. وكلاهما يرتهنان بالفرد العربي والوعي العربي. عندما ينتهي الفرد من إشباع حاجته الغريزية والنفسية والقبلية والمادية، ويكتشف في نهاية الرحلة، تفاهة كلّ ذلك، وينتبه لمكانته مقارنة بأبناء الأمم والمجتمعات الأخرى، عندها سيبدأ التفكير بمستوى وعي مختلف، منتقلا من وعي الجسد، إلى وعي الذات؛ من الكبرياء السطحية والكرامة الخارجية الهشة، إلى الكبرياء والكرامة الحقيقية في داخله.

(4)
فالفرد العربي هو هدف المشروع الكولونيالي والامبريالي والرجعي المحلي. ولذلك تم تسخير ثالوث [سياسة- دين- بطن] لمحاصرته وترويضه وتدجينه، وانتهى مقعيا على أربع، مفتخرا بلذائذ الغريزة، مغيبا عن أسئلة الوطن والأمة. لا يهمه اين يعيش، بقدر ما يهمه كيف يعيش، لا يهمه الآخرون، تهمّه غرائزه وعقده الاجتماعية والنفسية. وهذا هو المذبح الذي جيّش الغرب عليه عشرات ألوف العراقيين. ليس من باب معاداة الحكومة والوطن، وإنما من باب الجوع النفسي وعقد النقص والجاه وغريزة الثأر والانتقام.
عدم احترام النظام العربي للفرد الإنساني الوطني، ثقافيا وسياسيا، أوجد فراغا نفسيا وفكريا داخل الشخصية وتكوينها الذاتي، هو عقدة النقص والتحجيم والتهميش. وطالما أن الواقع التاريخي المتصل والسائد لا يسحمح بفرصة الخروج عليه أو التنفس في فضاء حرّ كريم، تتحول أزمات الذات إلى عقدة تدميرية، عقدة تدميرية مضاعفة، نحو الداخل والخارج. وعمليات الانتحار الجهادي هي أمثلة لتلك الذوات المأزومة، التي لم تجد متنفسا إنسانيا كريما، في واقع تاريخي مأفون، له تجاره وطبقاته الاقطاعية المعششة، تحت عناوين متغيرة ومتنوعة، فانتهى لعملية انتحار انتقامي. فالعملية الجهادية الذاتية هي (انتحار شخصي) في ثقافة وعقيدة تحرم الانتحار، ومن هنا جاء تخريج الانتحار الجهادي، بفذلكة غير قليلة، لا يبعد أن تكون تخريجا كولونياليا أيضا. ولذلك اتجهت كل عمليات الانتحار، نحو المجتمعات الإسلامية أولا، وغالبا.
وإزاء الواقع المزري والميئوس الذي يتمرغ فيه الفرد: العربي والمسلم، بين مهانات الداخل/ ذات ناقصة، وبين معاناة الهجرة واللجوء/ ذات ممسوخة، لم يحتمل النظام العربي، مسؤولية ممارساته اللامسؤولة، فانضمّ، أيضا، إلى منصة الكولونيالية والامبريالية، لتجريم أفراد -(الوعاة)- المتمردين عليه وعلى السيادة الكولونيالية، وقذفها بتهمة (الإرهاب)، التي هي قرينة بهما، المؤسسين والرواد للعدوان ضدّ الإنسانية.
من المؤسف أن يأتي وعي الجماهير متأخرا. وأن يحتاج الاجتماع الانساني والتراصف الجماهيري زمنا طويلا، ليصل درجة درجة السخونة، يكون خلاله أعداء البشر، قد وطّدوا دعائم مكائنهم الاقطاعية والإمبريالية. وفي أفضل الأحوال، سيكون الرواد والمؤسسون قد تقاعدوا وماتوا، وستدفع الأجيال التالية عنهم فواتير التاريخ.
يكفي الانسانية عارا، أنه بعد مرور قرون على الممارسات الكولونيالية وجرائم محور البشر واستعباد المجتمعات وتجارة الرقيق والابادات الجماعية لأعراق ومجتمعات ومصادرة حياتها وأوطانها، فأن (فردا واحدا) من موظفي الكولونيالية وعساكرها لم يتعرض لمحاكمة وقصاص على صعيد رسمي، وعدد الذين نالوا القصاص الشعبي الثوري، لا يستحق الإشارة. بل لم يخطر لأحدهم – ما عدا استثناءات فرنسية- الاعتذار للشعوب وللضحايا، بنص صريح ولغة واضحة، أو دفع تعويضات دائمية /(مادية ومعنوية) لهم.
ان الحداثة، كانت أكثر تزويقا، منها حقيقة تمدن إنساني. فالكولونيالية الانجليزية والفرنسية، وما سبقها هي منتجات حداثية، والامبريالية الأمريكية منتج حداثي، لكنه استند إلى تيار فاضح لمشروع الحداثة المزيف. ليس من منظور قيمي أخلاقي، وانما لصرف الرأي العام عن المعارف والثقافات الانسانية التي ترتفع بالفرد والمجتمع، ودفع البشرية إلى مستنقعات ما قبل التمدن والحضارة التي توعّد بها بوش الصغير العراقيين.
فهو ينطق عن مشروع أمريكي ضد سكان الأرض غير الأميركان، ومتخذا من صدام والعراقيين، مفتاحا تنفيذيا للفردوس الإمبريالي.

(5)
في ازاء [امة (و) دين] تستند الى (اللغة)، محكومة بالهشاشة والضبابية والعنف، كما هي حتى الان!، لا بدّ من إشارة إلى حجم الجهد المبذول في إطار (مشروع التعريب) و(مشروع إعادة كتابة التاريخ)، المتبعين منذ أواسط القرن الثامن الميلادي حتى اليوم، وبرعاية سياسية مؤدلجة مباشرة من قبل السلطات الحاكمة، عبر مراحل الحكم العربي والإسلامي المتحاقبة؛ وصولا لاستحياء مشاريع التعريب والقومية العربية في القرن العشرين، واستحياء سياسات الأسلمة في القرن الواحد والعشرين.
ثمة ثلاثة مراحل تاريخية، احتلت فيها مسألة [الذات والهوية والأمة] مرتبة السؤال، واستلهمت الفكر والتأليف والتراكم المعرفي، هي على التوالي:
القرن التاسع الميلادي وما بعدها، هو بداية عصر التاليف العربي، وتقعيد المعارف والعلوم والمصطلحات..
بدايات القرن العشرين ونشأة فكرة القومية العربية..
بدايات القرن الواحد والعشرين، وبروز (أزمة الهوية والخطاب) عقب سقوط الدولة الوطنية، وإحباط الايديولوجيات القومية والعروبية والماركسية، في قيادة الشرق الأوسط للألفية الجديدة.

ولكل واحدة من هاته المراحل سماتها البيئية، وخصائصها الظرفية السياسية، وعوامل الشدّ والجذب الفاعلة فيها.
كانت المرحلة الاولى مرحلة التاسيس اللغوي والتقعيد النظري للعلوم والمعارف، ومن ضمنها فقه الدين والدين السياسي. ومن بين ذلك، يمكن القول أن مجالات اللغة والتاريخ والدين السياسي، كانت تتجه وتصبّ في خدمة فكرة الامة. واعتمدت لذلك سياقات مسخرة ومرسومة بدقة بحسب المعادلات التالية..
لغة (عربية) – دين (إسلام) – سلطة سياسية عليا (العباسيين)...

ولغرض فهم الخصائص والآليات، يقتضي قراءة المعادلة بالمعكوس. بمعنى أن (الغاية) المسبقة هي التي اقتضت الآلية العملية، وحددت (الوسيلة)، وبما لا يترك شكا في أحقية آل العباس وأفضليتهم في امتلاك السلطة، ومثل كل سلطة، كان في نصب عينها وفكرها، امتداد نفوذها إلى الأبد.
وقد اعتمدت لأجل ذلك جملة أفضليات وأولويات إطارا ومنهجا للعمل والقياس..
أفضلية العرب على سواهم من الأمم..
أفضلية الإسلام على سواه من الديانات والمعتقدات..
أفضلية قريش على سواهم من العرب..
أفضلية آل العباس على سواهم من قريش..
إلى هذا المنظور احتكمت كتابة مصنفات التاريخ والفقه الديني والسياسي، بحيث تحقق الغاية المرجوة. والواقع ان فهم المنظور العباسي، ينبغي أن يحتكم إلى قراءة تلك الفترة الشائكة، على عدة مستويات: قومية وسياسية ودينية.
وبقدر ما كان قرار عثمان بن عفان بتوحيد (القرآن) ضرورة تاريخية وستراتيجية في تلك الظروف، كان التنظير العباسي القومي والسياسي، على جانب من الأهمية الستراتيجية، جراء حراجة تلك المرحلة السياسية وعدم وضع معالجات فكرية مناسبة لها. ويمكن تلخيص تلك التحديات السياسية والفكرية المفتوحة في ثلاثة..
ملابسات فتنة عثمان وعدم معالجتها معالجة عقلية جادة.
ملابسات الحكم الأموي ومناهجها السياسية والدينية التي أثارت تحديات جديدة دون معالجة التحديات السابقة، بضمنها موقفها من الرسول وفتنة عثمان وخلافات الصحابة والعائلة.
مشكلة (الموالي) و(أهل الكتاب) في النظام السياسي الديني الجديد، وما يلقونه من تهميش لا يناسب فعاليتهم الاقتصادية والاجتماعية وحجمهم المتزايد في المجتمع.
ربما كانت المعالجة اللغوية والدينية هي الأيسر، في مجال الضرورات الملحة، أمام شبه استحالة التوفيق السياسي والقومي، والذي تخذ من مجال التاريخ ومصنفاته أساسا وإطار لتوصيل رسالته واستقاء مبادئه.
ويلحظ هنا، فيما كان للموالي وغير العرب دور أساسي في مجالات التأليف والتنظير في مجالات [اللغة، الدين، المعارف العامة]، فأن مجال التاريخ كان شبه محتكر لمؤلفين عرب أساسا، أو من ثقاة الحكم.
وفيما سمحت السلطة بنسبة من المرونة في التأليف الديني، كان التصنيف التاريخي خاضعا لاشتراطات محسومة، لا تشكك أو تتساهل في تبيان دور العرب وأفضليتهم، وبشكل يصل به التطرف، إلى اعتبار العرب الأصل الذي خرجت منه بقية الشعوب والأمم، بما يوازي المنظور التوراتي التوحيد للأعراق والأصول السكانية: [آدم، نوح، سام، ابراهيم].
وكان لابد للمنظور الديني تدعيم الفرضيات والطروحات السياسية، حيثما اقتضت الضرورة وبرزت الحاجة، ومنها الفرضية الشائعة حتى اليوم، باعتبار (الإسلام) دين الله، ودين الدنيا والآخرة. وبالتالي فأن آدم كان مسلما، وكذلك كل ذريته، ومنهم ابراهيم (حنيفا مسلما). هاته الفرضية الإسلامية تعني بالضرورة شرطية اللغة العربية باعتبارها لازمة دينية لا يقوم بغيرها.
وأمام الضوابط والروادع المشتركة في فقه الإسلام، فأن أي تشكك في الفرضيات النظرية السابقة، اللغوية والثقافية والسياسية، سوف ينسحب على مجالات الدين والإيمان.
فالتعلق باللغة العربية يتضمن النص الديني، كما ان الخطاب الديني يتضمن الولاء اللغوي الأممي على حد سواء.
أن المثال الوحيد المبذول في هذا المجال هو فكرة (شعب اسرائيل) المتضمنة في كتابها الموسوعي المؤدلج المعروف بالتاناك أو التوراة كما تعورف في تلك الأيام. لكن العرب – عموما- وقفوا عاجزين عن استنساخ تلك الفكرة، فشلهم في إنتاج (كتاب) يضاهي (الكتاب).
وأقصى ما ورد في هذا المجال هو القول (كنتم خير أمة أخرجت للناس)، ذات البناء الإنشائي الرومانسي، أكثر منها واقعا اجتماعيا أو حقيقة تاريخية أو فرضية/ فريضة دينية. وهي على العموم، ليست شيئا بالقياس لنص التوراة: (تكونون لي شعبا وأكون لكم إلها) أو (كونوا قديسين كما أنا إلهكم، يهوه قدوس).
وبينما عانى العبرانيون من اضطراب وتذبذب في المجال العسكري والسياسي، اقتضى تدخل إلههم (يهوه) المسمى (: ربّ الجنود)، اعتمد العرب والمسلمون على قدراتهم العسكرية والقتالية الصرفة، من غير معونة إلهية، فضلا عن عدم التردد في مخالفة النصوص، والأوامر الدينية والسلطوية في ساحة المعركة، كما اشتهر من قصة خالد بن الوليد مثلا.

(6)
لم يتح لمؤلفي تلك الحقبة المبكرة، وضع منظور قومي أو اجتماعي لمفهوم الأمة، رغم توفرهم على أدوات السلطة ذات الإطار الإمبراطوري يومذاك، وهو أمر لم يكن أدنى منه متاحا للعبرانيين، عندما صاغوا أفكارهم وبلوروا رؤيتهم القومية، عن (الشعب المختار) السائدة حتى اليوم، وبرعاية الامبراطوريات العالمية.
وفيما كان العبرانيون وما زالوا، بحاجة للاستعانة بقوة عظمى توفر لهم الحماية والأمن، لم يكن العرب والمسلمون، يعانون في هذا الجانب. وبالتالي، فأن معادلة الامكانيات والنتائج، لم تكن متساوية أو منسجمة في الحالين، لا قديما، ولا حاضرا.
من جهة أخرى، تركز الجهد الفكري على مسألة (مكانة) العرب مقارنة بسواهم، وإغفال التعريف الاصطلاحي بماهية العرب وأصلهم العرقي أو اللغوي. لقد اكد أهل ذلك الزمان على قدمية اليمن، وتفوق أهلها حضاريا وثقافيا، على كل سكان الجزيرة. ولكنهم لم يذهبوا إلى استقصاء جذور اليمن، أو استقصاء فكرة النسبة لليمن ودراستها.
وعندما يقال أن جذور سكان اليمن تعود للهند أو أفريقيا، فهو يسقط فكرة (اللقاحية) و(الأصالة) التي يصف بها العرب أنفسهم. ونعرف أن (المفاخرة والمباهاة) هي مركز جوهر العروبة وشعور العربي بذاته وانتمائه. ناهيك عن النظرة الفوقية السائدة في التراث العربي والثقافة الشفاهية لبقية الأمم عامة.
وقد ضمن الدكتور جواد علي بحثه إشارة ضمنية لتجارة الرقيق، التي عرف بها البدو والمراكز الحضرية في غرب آسيا، والتجارة هي الأساس المنهجي الذي اعتمده الباحث فيليب حتيته في كتابه:[History Of Arab]، في التعويل على العوامل الاقتصادية في قراءة الواقع الاجتماعي.

(7)
هذا القصور النظري التاريخي في تعريف العرب، انعكس على الباحثين المعاصرين في أعقاب الحركة الدستورية عام (1908م) وبدايات تجليات فكرة العروبة والقومية في التاريخ المعاصر. وعلى غرار سابقيه، كانت الغرضية المسبقة عنوان مساعيهم، ممثلة في ثلاث نقاط..
تأكيد مكانة العرب المميزة ولقاحيتهم العرقية –الأصالة القومية-.
تاريخهم المجيد، وأفضليتهم على سواهم بالحضارة والدولة والدين والأخلاق.
ربط القومية بالدين، والانتماء باللغة.
ربط العرب بالسامية، واعتبار أن اليمن اصل العرب والسامية.
أحقية العرب في حكم أنفسهم، وامتلاك دولة وحكومات عربية.
ومع وحدة الأطر والسياقات والأفكار الممثلة للباحثين والمؤرخين المعاصرين، كان للبلدانية أثر محدود وملحوظ، بشكل مباشر أو غير مباشر، في الحركات والتيارات السياسية والثقافية المترتبة عليهم.
ويذكر، في سياق المعارضة، انه، كما كان للمؤلفين من أصول غير عربية ومسلمة دور ريادي في قيادة التأليف والتنظير قديما، كان للمسيحيين العرب والاستشراق الأوربي، دور ريادي في قيادة التأليف والبحث القومي والإسلامي المعاصر.
ونعرف ان علاقة الاستشراق بالعرب والإسلام تسبق القرن العشرين والسادس عشر، فكانت طروحاتهم وأبحاثهم مادة جاهزة للباحثين العرب، سيما أولئك الذين درسوا وتخصصوا في جامعات الغرب. لكنهم بالمقابل كانوا اكثر تحفظا وأقل حرية في معالجة نقاط وموضوعات معينة.

(8)
أما التأليف الراهني، مع انتهاء تجربة الدولة الوطنية والخطاب القومي العلماني، فلعله للمرة الأولى، يتصدى لأسئلة أساسية ملحة، من منظور ابستمولوجي اجتماعي لا يقف أمام إشارات حمراء، مع وجود ثلة من الكتاب، تحاول استيعاض خلل خطاب سابق، لا تريد التفريط به كلية.
أن مشكلة البحوث والتآليف الراهنية، هو غياب التأطير والتوثيق البرامجي، الذي كانت المؤسسة الرسمية تتولى العناية به، عبر أجهزة متخصصة، أو عبر مجلاتها الفكرية والاكادمية، والتي ما الت تحفظ تراثا غنيا، صالحا لتفريغه في منشورات المطابع ودور النشر المعنية.
لكن واقع المطابع ودور النشر الحالية غير بريئة من أمراض العصر العربي التي يتصدرها الفساد، مما يدفعها لتكرار المكرور في منشوراتها، وتراجع النوع الاكاديمي، وتحول الجامعات إلى مدارس مهنية، يقتصر دورها على منح درجات علمية فارغة.
وما زال البحث الاكاديمي وغير الاكاديمي مقتصرا على تكرار المراجع والمصادر المعروفة والمكررة، دون اجتراء التعامل مع الابحاث والطروحات الجديدة، التي لم تخضع بعد (للفلترة الايديولوجية) أو الاحتواء من جهة معينة، تسبغ عليها شرعية الغطاء.
لذلك يقتضي الأمر من المؤسسات الالكترونية والمتخصصة، التصدي لانشاء موسوعات متخصصة بحسب مجالات البحث، وتوثيق التراث الجديد، واصداره ورقيا، في كتب او مجلات، ليكون في متناول القارئ والمكتبة العربية، ليس اليوم فحسب، وانما للمستقبل.
ـــــــــــــــــــــ
• ثمة خطآن ستراتيجيان وقع فيهما المثقف التنويري العربي، أولهما الانحناء للاستشراق الغربي دون تمييز جوهره الكولونيالي، فجعل ثمة نفسه وغيره ضمن التبعية وطابور الغزو؛ وثانيهما الانحناء والتواطؤ مع الأصولية الدينية، متجاوزا مواقفها من العقل والعلمانية، ومسيرة الاضطهاد والملاحقة والتصفيات التي قادتها ضد حرية الفكر والرأي والنشر وأتباعها. وثمة صنف ثالث من المثقفين العرب، أولئك المتطوعين في خدمة الاعلام الرسمي/ (الاقطاع الثقافي والأكاديمي). ويمكن القول، ان المثقف في غالب الأحيان، لا يختلف عن أفراد البسطاء، عندما يضعون حاجاتهم المعيشية والحسية معيارا لترسيم مواقفهم وطرز حياتهم. أما المثقف الثوري والمستعد للتضحية والكفاح، فلا مكان ولا أثر له في العصر الأمريكي.




[35]
وحدة ثقافية وتعددية قومية..
(وحدة وتنوع..)

(1)
ملاحظتان رئيستان تنماز بهما المنطقة الموصوفة من المحيط للخليج، أولاهما: عراقة التاريخ، وثانيهما: تعدد أقوامها وأصولها الأثينية.
ان المفهوم المشاع عن القومية، باعتبارها جماعة تنتسب الى عرق واحد وجدّ واحد، هو زعم مدحوض ولا أساس له من صحة أو واقع. والغالب أنه استنتاج توراتي محض، مثل فكرة (الساميّة) المزعومة هي الأخرى بلا صحة او إمكان واقعي.
ثمة مقاربة فكرية بين ظاهرة القبيلة، والظاهرة القومية، من مخرجات الثقافة الغربية. وفي إطار ثقافتنا، تنتفي فكرة القبيلة الأبوية – المنحدرة من جدّ عريق أو عائلة نووية، تفرعت وتصاهرت فيما بينها، قياسا على قصة ابراهيم التوراتية، هي الأخرى.
ثمة خاصتان لابدّ منهما لاعتماد فكرة/ قصة ما قرينة فكرية او منطقية، تكون أساسا لبناء فكري أو نظرية. وهما: منفعتها العلمية في الواقع الطبيعي، وواقعيتها التاريخية!. ومعظم القصص الدينية غير تاريخية، ولا التاريخ وظيفة الدين، بقدر توخي حكما أخلاقية أو أغراضا دينية.
وما زالت عادات العرب لا تشجع المصاهرات الداخلية، وتشير جداول الأنساب وسجلات الإخباريات إلى الأصول القبلية/ العشائرية والجغرافية لفلان وعلان، المنضم لقبيلة أخرى.
فضلا عن ميل القبائل العربية لتشكيل أحلاف واتحادات، لأغراض دفاعية أو اقتصادية أو غيرها.
كما ان تسمية القبيلة قد تكون نسبة لحادث أو مناسبة، أو موضع جغرافي أو رمز حيواني أو ديني، أو صفة جسمية أو ملكة أدبية.
أن إصرار الغربيين على أدوات [المنطق والقياس] وفرضها في أبحاثهم، ترتب عليه في العموم، إسباغ اعتقاد، يمنح الثيمات المدروسة عمقا تاريخيا. ومن جانب آخر، ثمة من علماء التوراة واللاهوت، من يؤكد غلبة الاختلاط والمصاهرات الخارجية على بني إسرائيل. وأن وصفهم باليهود لا يتعدى (هوية ثقافية)، أو إتباع شريعة موسى.
فالسبعون شخصا من ابناء وأحفاد يعقوب، تزايدوا في مصر الى حوالي ثلاثة ملايين في زمن موسى، يشير لأمرين: المبالغة، والاختلاط. ولا نغفل هنا أهمية الرموز الدينية والروحية لفلسفة الأرقام المعتمدة في الكتابات الدينية.
والكتاب الغربيون عموما، يعمدون إلى ترسيخ تلك المفاهيم الافتراضية، فيشار لقبائل بلغارية وجيرمانية وغالية أو فاندال، فيما الغالب أنها مسميات جغرافية أو تضاريسية، وليست عرقا أو نسبة قبلية.
أما لفظة (عرب) الواردة في (القرآن) بصيغ متعددة، فيختلف معناها في لغات المنطقة القديمة، فهي عند قدماء المصريين بمعنى: (الشرق)/ (شراقوه)، وعند السريان: (جماعة/ اجتماع)، وعند العبرانيين: (سكان الصحراء/ بدو).
لكن اللفظة ترسخت في الأدبيات الإسلامية، وجعلت صفة عامة على أهل (القرآن). على ان الضرورة، تستدعي التمييز بين [الحضر = عرب]، وبين سكان الصحراء: [بدو = أعراب]. ويشير جواد علي إلى أن سكان شبه الجزيرة، لم يتعارفوا على دعوة أنفسهم بالعرب، كما هو شائع اليوم، وانما كانوا يدعون أنفسهم بحسب مسمياتهم القبلية أو الدينية أو الجغرافية. فيقال فلان من كندة أو بني ركاب أو بني أسد أو حمير.
واليوم في ظل الانحطاط العام والإرث السيء للنظام السياسي العربي، يقرف البعض من وصفه بالعرب، فضلا عن الأطياف الأثينية والدينية داخل المنطقة. وهذا يزيد من شرذمة المحيط السوسيوجغرافي وتحويله إلى كانتونات ودكاكين صغيرة، منقسمة على بعضها، وفريسة لابتلاع الحيتان المحيطة بهم.

(2)
وأرى، لغرض التوصيف العلمي والسياسي، ان لفظة (عرب) ليست دالة قومية عرقية، بقدر ما هي (دالة ثقافية) للاستدلال على الجماعات السكانية القاطنة في المحيط الجغرافي من المحيط للخليج.
والتي شكلت وحدة سوسيوسياسية على مدى قرون طويلة. وبالتالي فأن تفكيك هاته الوحدة الجغرافية وتفتيتها اجتماعيا وثقافيا، لن يصبّ في صالح الأصدقاء، وسيزيد من دمار أهليها، ولن يشفع لهم اختلافهم القومي أو الديني أو اللغوي لصيانة استقلاليتهم.
فباستثناء الكرد في شمال العراق، ولبنان الفينيقية، لم يتنامى وعي وطني/ قومي لدى المكونات الأخرى، بحيث تتبنى خطابا سياسيا مستقلا بها، يؤهلها للاستقلال، أو المشاركة الفيدرالية في المحيط الإقليمي.
الامازيغ أكبر مجموعة ثقافية قومية تشمل ثلثي الشمال الأفريقي، من المحيط الاطلسي جنوبي المغرب حتى شواطئ البحر الأحمر، في منطقة النوبة على الحدود المصرية السودانية. لكن الثقافة الأمازيغية وهويتها السياسية ما زالت في بداياتها، وتفتقد لكادر ثقافي فكري يغطي جوانب تاريخهم السياسي والسوسيوثقافي.
ورغم ان ثمة أعداد من الأدباء والمثقفين العرب من أصول أمازيغية وكردية وتركمانية، فأن مبلغ الوعي الثقافي/ الاجتماعي/ السياسي لديهم هو موضع تساؤل. ويفترض البدء في اعتماد لغتهم/ لغاتهم القومية في الكتابة الأدبية والعامة، والترويج لها عبر قنوات إعلامية خاصة بهم، وإقامة مهرجانات سنوية دورية لدعم التنمية الاجتماعية والثقافية. ومع ذلك فأن فكرة كيان سياسي ما زالت وئيدة.
ولعلّ تجربة جنوب السودان المسيحي، تأكيد لعدم النضج السياسي والوعي الاجتماعي/ المجتمعي، لتمثيل حكم سياسي مستقل، رغم الباع الطويل، في العمل المسلح، لكن الشعور الأثيني والعمل العسكري والحكم الذاتي المستقل، هي أشياء مختلفة، رغم ما يجمعها من منطق.
ويشكل أقباط مصر، أكبر جماعة أثينية دينية في المحيط العربي، تمتلك الكثير من الخصائص الذاتية السوسيوثقافية وعناصر الاستقلالية والمرونة السياسية في التعامل الخارجي، فضلا عن صرامة نظامها الداخلي، لكن مشكلتها الأصلية تكمن في تحسبها البالغ لمحاذير المجازفة على صعيد الخارج، فضلا عن صعوبة تحقيق توافق داخلي حول هوية الكيان السياسي المستقل، كليوسي او علماني ذي هوية قبطية، على غرار لبنان العلمانية المارونية.

(3)
أما الأثينيات والطوائف الأخرى ومعظمها في العراق، فيشكل (الشيعة) أكبر جماعة طائفية ذات خطاب ثقافي ووعي اجتماعي سياسي عريق، لكنهم يفتقدون خاصتين بنيويتين رئيستين: اولهما عجزها عن الاستقلال الذاتي عن الخارج، وثانيهما: فشلها في تجربة الحكم والإدارة الذاتية.
لقد عانت هاته المجموعة كثيرا عبر التاريخ، وأسست لنفسها تراثا بليغا من المظلومية والتحريض السياسي، ولكنها حين تواتيها فرصة السلطة لا تجيد استخدتمها، او ترجمة ذاتها الجمعية على محك الواقع.
وسواء في العهد العباسي الأول أو البويهي، او الصفوي او الراهن، ينتهي امرها بيد غيرها، وتعجز عن امتلاك ارادة سياسية مستقلة بنفس قوة خطابها الديني وتجييشها الاجتماعي. فهي مثال للحركة السوسيوسياسية الفاشلة على صعيد التكتيك والارادة.
وبكلمة واحدة لا يوجد شيعي سياسي، فضلا عن عجزها عن فصل الديني عن السياسي. ولعل فشل تجربة علي وأبنائه في الحكم، بقيت تطاردهم على قارعة الزمن.
أما الكلدان والاشوريون والسريان في العراق وسوريا، فيعانون من تفكك النسيج والتراجع الثقافي، والعجز عن الاحتفاظ بكنائسهم، وبعدما ضيّعوه من فرص التاريخ، فلن يتبقى منهم غير مجموعات أثرية رمزية على غرار الأزيدية والشبك ، منغلقين داخل أنفسهم.

(4)
خلال ذلك تبقى المنظومة العربية هي الأكثر نضجا وتكاملا وتبلورا، وليس لها غير معالجة آفتيها المدمرتين: امتلاك السيادة والاستقلالية، والتحرر من التبعية والطفيلية، وامتلاك طبقة نفوذ سياسي مخلصة لهويتها الوطنية ومرتبطة بعمقها الشعبي القومي، ولا تكون أداة سمسرة دولية واقليمية.
التفريط بالعربية الآن، هو هدر لأربعة عشر قرنا من الجهد البنائي والمنظومات المؤسساتية الراسخة في أكثر من صعيد. وما علينا اليوم، غير إضافة ما يقضي التعديل، وتعويض الفراغات الهيكلية والمجالات الشاغرة التي لم يطرقها الأولون.
ولكون الدولة الإمبراطورية العربية التي قامت على أساس ديني، كانت علمانية الإدارة سياسية الحكم، منفتحة دينيا وقضائيا على مختلف المذاهب والاجتهادات الطائفية، سيما في الأمصار والدويلات.
فان تلك الملامح قابلة للتطوير والتحديث، وبناء مجتمع اجتماعي منفتح مرن، وتحقيق نهضة فكرية علمية إنسانية، ومنظومات اقتصادية مكتفية ذاتيا، وقادرة على إدارة شبكة صلات تجارية وتعاون اقتصادي وثقافي مع عالم الشرق وحوض المتوسط الأدنى.
وإذا كانت مشكلة العرب السلطة وهشاشة عناصر الحكم. فان المجتمع العربي يعاني من هشاشة الشخصية الاجتماعية لأفراده، وميلهم الفكري للغريب والأجنبي، الذي يلبي لديهم مظاهر الطفيلية واللامبالاة، والهروب من أزمات الذات.

(5)
مسؤولية علم الاجتماع العربي اليوم، ترميم خرائب الماضي، وتقويم هياكل القوى الاجتماعية وطاقاته البشرية، سيما النشء الجديد، والكوادر الفكرية والعلمية التي لابد من مساهمتها في مشروع البناء والتنمية والترميم، بعدما يتجاوزون في أنفسهم عقد الماضي.
مشكلتنا اليوم ليست سهلة. ففي الحالة الأوربية، كانت ثمة قوى سياسية وبرجوازية وعناصر كنسية، دعمت مشروع التنوير، فكريا أو فرديا. ولكن ما من مجتمع أو حكومة عربية، تجازف بدعم مشروع نهضة فكرية، يتوجس منها المجتمع الديني في الداخل، ليس أقل من توجس الغرب الرأسمالي الكولونيالي.
وتبقى مسألة الاستقلالية الفكرية والتنظيمية، شرطا لنجاح المشروع، وتحاشي تكرار تجارب الماضي، الحكومية والسياسية والثقافية، التي انتهت تحت أقدام الغرب. ان المراوغة السياسية والتكتيك الفني، من قبل الضعيف، لن يكتب له التوفيق.
وهذا يستدعي من العاملين في المشروع، قوة التماسك والتلاحم والاتفاق الفكري والاجتماعي والسياسي، لتوفير ضمانة ذاتية، لبناء المجتمع من داخله. وفي هاته المرّة، سوف يراهن السياسي والديني على نفسه، وبقدر خدمته للمشروع، يكسب نفسه!.. وبقدر استعدائه، يخسر كل شيء!.



[36]
العروبة.. القومية..

(1)
لا أعتقد أن أحدا ما على سطح الأرض، يعاني (حيرة) في تعريف انتمائه الاجتماعي، مثل الانسان العربي. والانسان العربي اصطلاحا تاريا ومعاصرا، هو المولود من سلالة عرفت الوجود في بلاد العربيا. وبلاد العرابيا هي تلك البقعة في نهاية جنوبي غربي قارة آسيا، تفصل عن قارة أفريقيا، محيط مائي ضيق هو البحر الأحمر، وتعرف لدى مؤرخي الجغرافيا بشبه جزيرة العرب.
لكن الجغرافيا ليست كل شيء. فالجغرافيا ولدت بعد بطليموتس. والتاريخ ليس كل شيء. فالتاريخ لا يذكر من غير هيرودتس*. وكلّ من هيرودتس وبطليموتس أغريقيان. والاغريق قوم لا يعرف لهم أصل، ولا جذور انحدروا منها، ووجودهم لا يتجاوز القرن السابع أو الثامن قبل الميلاد في أقصى تقدير. وقد رافق هيردوتس حملة الاسكندر المقدوني [356- 323 ق. م.] العسكرية في القرن الثالث قبل الميلاد، وجاء بطليموتس متأخرا عنه.
لكن الاغريق أول من عنوا بتسجيل تاريخ العالم، وصفوا فيه كلّ ما رأته اعينهم من أقوام ومظاهر اجتماعية وجغرافية، وما تناهى لأسماعهم ومعرفتهم من أخبار وروايات أهل الأرض عن أنفسهم وغيرهم. وسوف يحذو مؤرخو العهد الاسلامي حذو الاغريق واللاتين في تسجيل تاريخ الراهن والماضي باستخدام الوصف والروايات.
ولفظة العرب أقدم من عهد هيرودتس وبطليموس اللذين نقلاهما عن سواهم. ولا يوجد دليل أو احتمال ان احد الاغريق ابتدع هاته التسمية واطلقها على بلاد وجماعة سكانية معينة، حتى أصبحت علما عليهم، مثل فارس أو القبط، وغيرهم. وقد وردت في تسجيلات الفراعنة والأشوريين بمدد تتراوح بين الآلاف من السنين حتى القرون قبل الميلاد.
عرف الفراعنة العرب بتسميتهم (عربا)، بوصفهم اهل الشرق، أي سكان شرق وادي النيل. وشوق وادي النيل هي شبه جزيرة سيناء المنفتحة على حوض الأردن المطل على وادي عربايا وشبه جزيرة العرب والجزء الشمالي لها الممتد بين شواطئ شرق البحر المتوسط وحوض النهرين المرتبط بحوض الخليج العربي المتصل بالبحر العربي والمحيط الهندي عبر مضيق عُمان/ هرمز.
وقد استندت علاقة سكان النيل بسكان العرابيا إلى قطاعين: التجارة والجيش. فقد كانت قوافل التجارة تخرج من جنوبي العرابيا على شواطئ البحر العربي الجنوبي، من نقطة تتوسط المسافة بين عُمان في أقصى الشرق المحدد بالماء/(مضيق عُمان)، وبين (عدن) في أقصى الغرب المطلة على نهاية ماء خليج عدن/ (مضيق باب المندب).
أما النقطة الوسطية المحتشدة بالتضاريس والتفاصيل فتعرف -تاريخيا- بـأرض (حضرموت) لوعورتها وانقراض سكانها القدماء جدا، أما أهل اليمن بيعرفونها بأرض (شبام) باللغة اليمنية القديمة التي هي لغة المسند، التي ما زالت سائدة في البلاد كلهجة محلية، وكلغة أصلية قومية في بعض مدن الجنوب.
من تضاريس حضرموت كانت تنطلق طرق التجارة العالمية في أصل التاريخ، وامتدت أكثر من أربعة ألاف عام، قبل أن تظهر الملاحة البحرية التجارية في عهد الاسلام، وتتبعها ملاحة القرصنة الغربية مع بدايات عصر النهضة، وتعاقب فيها أغلب أقوام أوربا والغرب بدء بالبرتغال وهولندة والدنمارك وبلجيكا حتى ظهور انجلترا وفرنسا والولايات المتحدة الأميركية. وعلى ذكر خاصية المركزية الجغرافية في التجارة والاتصال ووسائل الارتباط بين الغرب والشرق، ما زالت بلاد العرابيا نقطة ترانسيت طرق الاتصال البرية والبحرية والجوية، التلفونية والالكترونية بين جانبي الكرة الأرضية.
كما ارتبط ذكر العرب عند الفراعنة بالعمليات العسكرية، سواء بالتحرشات الحدودية في غرب سيناء تارة، أو تجنيد بعض العرب في القوات العسكرية المصرية، لامتيازهم باللياقة البدنية والقتالية العالية. وفي هذا المجال جاء ذكر العرب في تسجيلات الأشوريين، متعلقا بالتحرشات الحدودية. أما اللياقة البدنية عند العرب، فقد انتبه اليها الرومان أيضا وكانوا يستفيدون منهم كمقاتلين وأدلاء في بعض المرات.
وفي كل تلك المصادر والاشارات التاريخية، كانت لفظة (عرب) هي تسميتهم والدالة عليهم. أما أصل اللفظة ومعناها، فهو مما عني به المؤرخون واللغويون المسلمون في عصر التأليف، ولم يخرجوا فيها برأي حصيف. وقد تطرق فيليب حتيته [1886- 1978م] لبعض الاشارات السالفة، بينما ذكر جواد علي [1907- 1987م] الاشارات التوراتية في كتب العبرانيين الدينية، والتي تتفاوت في الاشارة القومية بلفظة (عرب)، أو الاشارة الفردية بلفظة (اعرابي) ذات الدلالة على سكنى الخيام والجماعات الرحل.
ان الاحالة على البداوة وسكني الخيام وحياة الصحراء ليست معنى لغويا، وانما هو دالة اجتماعية ثقافية اقترنت بشخص أو ظاهرة معروفة. وهذا يعني ان لفظة العرب على جماعة بشرية معينة كانت قائمة قبل ورودها عند الكاتب العبراني، بغض النظر عن زمن تدوين كتبهم.
أما المعنى اللغوي فيرد في الاصطلاح الفرعوني أو لغتهم القديمة بمعنى: [عرب = شرق]، وكل من سكن شرق النيل من غير المصريين الفراعنة، دعوا (عربا). وما زال أهل سيناء ووادي الأردن وسكان المشرق يعرفون بالعرب. ولا يعرف مصدر لفظة (أمزيغ- أمازيغ)، إذا كانت لها جذور فرعونية قديمة، بوصفهم سكان (غرب) وادي النيل من غير المصريين. وأمازيغ احد ثلاثة من أصل (سبعة) أعراق قومية عريقة، يتشكل منها نسيج الاجتماع المصري الراهن.
أما المعنى اللغوي الآخر للفظة (عرب) فهو من الآرامية السريانية: [عروبه = راحة/ عطلة] وهي ترد في قاموسهم الديني في تسمية اليوم السادس أو العطلة الدينية في نهاية الاسبوع، والتي استبدلت بيوم (الجمعة) في التاريخ الاسلامي. ويمكن القول ان: [عروبه = يوم مقدس]. ولهذا الاصطلاح دلالة انثروبولوجية كبيرة، في الربط بين تسمية عرب البادية، وعدم ميلهم لممارسة عمل أو الكدّ اليومي من أجل المعيشة، وما ندعوه بقيم احتقار العمل بالتعريف المعاصر.
وقد سبق الاشارة في (علم اجتماع البداوة) احتمالية ارتباط جذور البداوة وأصولها بتقاليد دينية أو جماعة دينية معينة مثل الأحناف/ الأحناث أو الربّانيين والمنقطعين عن الدنيا، على غرار (الأسيينين) في وادي الأردن، والمعروفين اليوم بـ(جماعة قمران).
فقد كان الرحّالة: فرادى أو جماعات، في حالة تنقل بين نقاط: حضرموت ونجد حتى الأنبار على الفرات حيث معبد (نفّر) القديم، وشمالا نحو دمشق حيث معبد (حران). وفي الخط العرضي ما بين: عمان والبحرين حتى صنعاء والحجاز. وذلك قبل ظهور مراكز دينية وحضرية في: مكة وبصرى والقدس والبصرة، لتحلّ محلّ سابقاتها.

(2)
لكنني لاحظت في مصادر المؤرخين السابقة عن (العرب) غياب مصدر لايتيني يعود إلى ميثولوجيا الرومان واتصالهم بالفينييقين. والرواية ترد ضمن الميث الديني أو الملاحم التفسيرية لنشأة أوربا وهو الذي أستعرضه في الصفحات التالية..
تقول الاسطورة اللاتينية ان حاكم صور الفينيقية كانت له فتاة جميلة اسمها (عروبا) تلعب في الحدائق وبين الغابات، وكان ملك اللاتين (زيوس) معجبا بها وراغبا فيها، وقد فشلت كل محاولات خطبتها من أبيها. وذات مرة خطرت له فكرة، وهو يعرف حبّها للتجوال في الغابات، وصداقتها للحيوانات، فأخذ صورة (ثور) واقترب منها يلعب معها، حتى إذا صعدت صهوته انطلق بها طائرا إلى جزيرة في البحر، حيث عاد إلى هيئته البشرية، فشعرت الفتاة بالجناية والخيانة وصرخت طالبة العودة لذويها. لكن زيوس الذي حم بها طويلا، اختطفها واحتفظ بها لنفسه زوجة، فأنجبت منه، فدعي نسل زيوس منها باسمها (عروبا)/ (أروبا)*، والتي تعدلت في اللغات الراهنة إلى (أوربا).
ورغم التناص اللفظي والصوتي بين (عروبة) و (أروبا/ أوربا) لا نجد لدى المحدثين، غربيين أو شرقيين، محاولة للاشارة أو الذكر والاهتمام، أسوة باهتمامهم بأمور وظواهر، تخدم اسطورة تفوقهم وامتيازهم على البشرية. وفيما يتم على مدى تاريخهم الثقافي والديني والسياسي، التبجح والمباهات بأساطير الاغريق والرومان، التي تلبّست الديانة والثقافة المسيحية، ومسخت حقيقتها وجوهرهها الشرقي، يجري اختزال هاته التفصيلة التي تمسّ أصول اجتماعهم البشري العرقي والثقافي.
لكن هذا لا ينفي هيمنة الملامح والعوامل المشتركة بين مجتمعات حوض المتوسط الشمالية والجنوبية والشرقية، والذي تعارف عليها علماء الأجناس بالأصول الفينيقية التي سادت الملاحة والتجارة في حوض المتوسط قرابة الألفي عام. ويتميز أفراد الفينيق بالنحافة والطول المتوسط والوجوه الطولية وسمرة البشرة والشعر الأسود. ولا يعرف سرّ تسميتهم بالفينيق وهو دالة الحمرة [Phenik/pink] في اللغات الأوربية. ولغرض تأمين نفوذهم التجاري، قام الفينيقيون بفتح عدة مراكز/ موانئ بحرية، ونقلوا إليها جماعات من سكانهم، سواء على السواحل الجنوبية في ليبيا وتونس وسواحل الجزائر والمغرب، أو امتداداتها الشمالية على السواحل الشرقية لشبه جزيرة ايبريا وجنوبي فرنسا وايطاليا والعود نحو انطاكية وطرابلس حتى صور. وذلك فضلا عن سكان الجزر عموما في حوض المتوسط، ومن ذوي البشرة السمراء وطلاقة المزاح والاريحية الاجتماعية المنفتحة غير العنصرية ضد الأجانب وطواقم التجارة البحرية.
وفي عصر الهجرات الشمالية، يستقر كثيرون من عرب أفريقيا في الاقاليم الجنوبية لبلاد أوربا التي تغلب عليها الطبيعة الزراعية في اسبانيا وايطاليا أو التجارية البحرية في جزر جنوبي ايطاليا سيسيلي والبندقية وجنوبي فرنسا. بينما ينزح بالمقابل مواطنون من بلدان جنوبي أوربا للاستيطان والاستقرار في السواحل الجنوبية للمتوسط في المغرب وتونس، وإلى حدّ ما الجزائر والجزر البحرية.
فتقارب اجواء المناخ وتداخل الجغرافيا والتاريخ، وقرابة الامزجة والطباع والاعتقاد بوحدة الأصول والمصير، يجمع اولئك السكان في وحدة اجتماعية جيوثقافية، تتحدى عوامل المركزية الغربية والسياسات الستراتيجية التي أسس لها عصر النهضة، لأقامة فصل جيوسياسي بين الشمال والجنوب والشرق، ذوي الخصوصية الثقافية التي رسختها عشرات قرون.
ان ايطاليا وفرنسا هما البلدان الوحيدان الذان يتبنيان فكرة الوحدة المتوسطية المتكاملة: سياسيا واقتصاديا وثقافيا، وهذا هو مضمون الوحدة الفرنكوفونية، اتي بدات باريس العمل بها منذ القرن الثامن عشر، عندما بدأ تنافس البحريتين الانجليزية والأميركية للسيطرة على حوض المتوسط الستراتيجي، وذلك قبل شق وافتتاح قناة السويس/ (1869م) في عهد الخديوي اسماعيل، والذي بينما كان يتفاوض مع جهات فرنسية لاستحصال قروض، سارع الصهيوني بنيامين دزرائيلي فور معرفته بجهود مصر، بفضل الجاسوسية الانجليزية، باستغلال الموقف وتقديم عرض للخديوي بشراء (51%) من اسهم القناة نقدا، في جوّ من السرّية التامة، قام بتأمين قيمة الأسهم من أصدقائه وبني ملته عائلة روتشيلد، وكان ذلك أبرز انجاز لأول رئيس حكومة انجليزية من أصل يهودي، أثلج صدر الملكة فكتوريا وأسكت معارضيها على ترشيح اليهودي.
سيطرة انجلتره على قناة السويس لم يكن معناه وقوع مصر تحت الاحتلال الانجليزي المباشر وفقدانها الاستقلال وحرية الارادة. ولا غرو ان تنزل القوات الانجليزية في مصر عام (1871م) ويبدأ الخط التراجعي العكسي لمشروع محمد علي باشا لبناء دولة قوية متطورة في مصر، في وقت كانت البلدان الأوربية في صراعات بينية لاثبات وجودها.
وبدل أن يدفع مشروع السويس نهضة مصر للأمام كان سقوطا في الهاوية، التي لم تستطع الخروج منها إلا لفترة وجيزة في عهد عبد الناصر لتعود مصر في عهد السادات للتبعية الغربية الانجلواميركية، وتقود قاطرة المنطقة وتاريخها المعاصر على طريق الانحطاط والتبعية.
كانت مصر أول محطة متوسطية جنوبية لحملة نابليون خارج أوربا. حاول نابليون توحيد كل أوربا في امبراطورية واحدة، وخاض حروبا دموية باهظة التكاليف، في وقت لم تكون فيه المجتمعات الأوربية قد امتلكت الوعي السياسي لضرورات وحدتها الستراتيجية بدل التفتت في أقاليم وقوى متعددة سوف تعيدها لنزيف الحروب والصراعات الامبراطورية الرومانية القديمة.
وفي البدء حقق نجاحا ملحوظا، حتى لو كان تكتيكيا مع القادة الألمان الذي استخدموا المفاوضات بدل الحرب، وكان الشاعر والفيلسوف الالماني الكبير فولفغانغ فون غوته سفير بسمارك لدى نابليون، الذي اعجب هو الاخر بشخصية الفيلسوف وسعة معارفه ومعرفته باللغات والآداب.
وكما كان حلم ادولف هتلر أن يطأ برّ جزيرة انجلتره ويقود عملياته الحربية على أرضها، وطأ نابليون البر الانجليزي وخاض معاركه على أراضيها، ولكنه، لسبب أو غيره، انكسر جيشه في منطقة واترلو جنوبي مدينة لندن. فظهر الجزء الثاني من مشروعه الامبراطوري لضم حوض المتوسط، مبتدأ من مصر.
ولا يمكن البت بدون بحث ميداني وأرشيفي جادّ ونزيه، في مدى الصلة بين مشروع محمد علي ومشروع نابليون، لكن فرنسا كانت وبقيت الدولة الداعمة الأولى لمصر الباشوية، وثانيهما ايطاليا، قبل أن تدخل انجلتره دزرائيلي تحت مصر وتفسد كل المشاريع وتقلب كل الطاولات على أعقابها.
ولم أر حتى الان، ربطا سياسيا أو مجرد إشارة، لدور دزرائيلي صديق روتشيلد، وعلاقته بالمشروع اليهصهيوني الذي سيخطط له روتشيلد بعد أربعين عاما بالاتفاق مع اليهصهيوني النمساوي تيودورها آرتسل ورئيس والحكومة الانجليزية بلفور، الذي سيسارع للمصادقة عليه بغير اطلاع اعضاء الحكومة، ويحمله بنفسه مساء ذلك اليوم لأخذ موافقة روشيلد وآرتسل الذي كان في زيارة للندن، وفي اليوم الثاني عرض على الحكومة، وهو القرار الذي نسف الجزء الثاني من امكانية قيامة العرب، وليحكم بالنتيجة سيطرة انجلتره على حوض المتوسط والبحر الأحمر حتى المحيط الهندي. وكانت بريطانيا قد أحكمت نفوذها خلال ذلك على مياه ومضائق وموانئ الجنوب والخليج العربي حتى الهند واستراليا. وكما كان اليهود جباة امبراطورية فكتوريا في البحار والموانئ حول العالم، فضلا عن كونهم من موظفي كولونياليتها في بلاد أسيا والعرب تحديدا، فقد كان لهم ان يلعبوا ذلك الدور التقليدي، في خدمة مصارف لندن، العائدة ودائعها الأصلية لعائلة روتشيلد حتى اليوم، من موانئ حوض المتوسط وادارة قناة السويس حتى باب المندب.
لقد ناقش آرتسل وروتشيلد احتمالين لقيام دولة صهيونية في المنطقة، هما: (فلسطين، أرتيريا). وكان هوى آرتسل أريتريا وهو الاحتمال الذي بقي راجحا، ردحا من الزمن، في مناقشات الحركة الصهيونية بين غرب أوربا والولايات المتحدة الأميركية، التي كان يهودها المموّل الأكبر للتبرعات اليهودية لتنفيذ الحلم اليهصهيوني.
تقع أرتريا في داخل القرن الأفريقي المطل والمهيمن على باب المندب من الساحل الشرقي. وذلك يضمن للجمارك البحرية جمركة السفن والبضائع الداخلة والخارجة من المضيق الذي يبلغ عرضه (13 كم) لا غير. لكن أهمية دزرائيلي الستراتيجية كانت أبعد من نظر آرتسل وفريقه، في السيطرة على البحر الأحمر من شماله، ومدخله في جنوبي البحر المتوسط، وبالشكل الذي يترتب عليه السيطرة على شبه جزيرة سيناء وضمها لامبراطورية الدولة اليهصهيونية الناشئة.
فالمستقبل الاقتصادي لدولة اسرائيل التي تروج لها الدعايات الأميركية ليست في أسواق الشرق الأوسط الصغير والكبير، وتوقيع حكومات العرب على اتفاقيات اعتراف وتعاون تجاري معها. وانما هيمنة اسرائيل على حركة الملاحة التجارية بين الغرب وجنوبي العالم. ولذلك قامت اسرائيل، فورا عقب توقيع ميثاق اوسلو بتدمير البنى التحتية لمدينة غزة الساحلية، والتي حصلت على قرض بخمسين مليون دولار من فرنسا لبناء ميناء كبير، يهدد الامن القومي الاسرائيلي الاقتصادي، ويعثر مشروع هيمنتها البحرية الذي قامت من أجله، لخدمة نفسها في اطار الحماية والرعاية الغربية والتعاون امشترك بينهما.
هل تملك عائلة روتشيلد دولة اسرائيل، كما تمتلك وتستحوذ على ودائع البنوك الأوربية والأمريكية، وبضمنه صيرفة رأس المال العالمي؟.. هذا السؤال لا يجيب عليه أحد، بما فيه روتشيلد نفسه. ولكن من غيره شخصا وعائلة، ما قامت قائمة اليهود في الغرب، ولا استقامت قامة اليهصهيونية ومؤسسها المحامي والصحفي النمساوي الشاب آرتسل، في لقائاته مع رؤساء الحكومات والسلاطين والملوك، ليس لسواد عينيه، وانما لغة المال والبنوك التي كان يتكلم بها، والصفقات التي كان العثمانيون والالمان وغيرهم يحلمون باقتناصها في مساومات وسمسرات سياسية قد يتجاوزها التاريخ، مثل صفقاته ولقاءاته المتعددة مع السلطان عبد الحميد الثاني، اللاعب الرئيسي في القبول باستيطان اليهود روسيا وأوكرانيا وبولونيا، وتشريد عرب فلسطين من موطنهم التاريخي. ولا نستغرب ان تكون الدولة السوفيتية أول من يعلن اعترافه بالدولة الاسرائيلية، معتقدة أنها ستكون لاعبا منافسا للغرب، من خلال بني غوريون، كما هو الدور الذي ما زالت تلعبه مع العرب.
قناة السويس والاحتلال الانجليزي العسكري لمصر كان بداية مسلسل الويلات والغزوات العسكرية التي دخلت مصر، لطرد الانجليز، أو الحصول على حصة في الغنيمة. ولولا الوجود العسكري الانجليزي الصهيوني ومصادرة قناة السويس لم تحدث معارك أيطالية أو ألمانية أو فرنسية ولا أمريكية، ذات الدور المزدوج.
بل أن جملة التعرضات العسكرية في شمال أفريقيا ووسطها بين القرنين التاسع عشر والعشرين، كانت نتائج تعقيدات وملابسات سياسية واقتصادية، للحد من الهيمنة الانجليزية في أفريقيا ومنطقة العرابيا. ولعل كثيرين، لا يعرفون عن الصفقات والاتفاقات الداخلية بين البلدان الأوربية على اقتسام العالم فيما بينها، والتي ضربتها انجلتره عرض الحائط، بشطارة تحايلها وبراغماتيتها السياسية اللاأخلاقية التي ورثتها اليوم لربيبتها واشنطن.
وعندما نجحت الولايات المتحدة في تحجيم النفوذ الانجليزي حول العالم بما فيه بلاد العرب، استعادت البلاد الغربية الأخرى شيئا من روحها الأصلية، لانتهاز الفرصة المناسبة، أو اللعب بين سيقان وثغرات الهيمنة الأميركية لتحقيق أغراضها القديمة، ومنها مشروع الفرانكوفونية، بالاعتماد على وسائط جيوثقافية وتعاون سياقتصادي، بدل اللغة العسكرية والهيمنة الامبراطورية، مستفيدة من دروس الاتحاد الأوربي، وسياساته وبرامجه. ولكن عليها قبل ذلك، تحييد لندن، وطرد الثعلب الانجليزي خارج الملعب، أو حصره في (حديقة الحيوان).

(3)
من هم الفينيقيون؟.. وهل هم عرب؟!..
الفينيق/ [Phenik/pink] لها دالة الحُمرة، وهي لون البشرة. تلتقي مع مسمى وطني آخر، في الالجغرافيا العربية هي (دولة حمير) في تاريخ اليمن، وهي ثالث سلالات حكمها بعد (معين وسبأ). و(حمير) لفظ بلغة المسند اليمنية الصلية بمعنى (أحمر) بحسب قواعد اللغة السبأية.
وبنو الأحمر – كما يدعون اليوم/ (حمير) تاريخيا، كان لهم حكم الأندلس بعد سقوط الحكم الأموي في دمشق. وبنو أمية هم من بني سبأ اليمنية، الذين أفل نجمهم في صدر الاسلام، لصعود أهل الحجازيين، عرب الشمال، وهذا يوضح أيضا أهمية تعلق أبي سفيان بقصبة الحكم وامارة، ليس طمعا شخصيا، وانما انتصار لتاريخ اليمن ودور أهلها المباشر وغير المباشر في ظهور القوة العربية الحجازية.
على الجانب الآخر، يقدم تاريخ العبرانيين رواية أخرى في هذا المجال، تتمثل في الشقيق التوأم ليعقوب ولد اسحق من زوجته رفقة، والمسمى (عيسو)، وسرّ ما بينهما من تنافس وصراع بكورية، يضفي عليه العبرانيون صفة ولبوسا دينيا، للانفراد بالامتيازات والبركات الالهية، وبالشكل الذي نسخه عنهم الغرب الامبراطوري.
عيسو وعائلته الكبيرة كان يقطن في أرض كنعان، قبل أن ينزل جنوبا، في أراضي الحوريين الواقعة شمال اليمن وجنوبي منطقة الحجاز، حيث أن له زوجة وجارية من بينهم. منطقة الحوريين ومملكتهم يومذاك، سيكون لها اسم (عسير)/ (تهامة). ولفظين (عسير) لها اتصال باسم (عيسو)، ولها دالة على كثافة الشعر. فكلمة (عيسو) معناها: (مشعر، كثيف الشعر). وكذلك هي (عسير) بلغة قديمة، قد تكون السبأية او لغة المسند،وقد تكون ارامية أو فينقية قديمة. ولكنها بالتصريف العربي، تتضمن تقديم وتأخير حرف، فضلا عن حرف (سين) غير الملفوظ بالعبرانية.
لكن (عيسو) سيكون له اسم ثاني، كما أن يعقوب، يكون له اسم (اسرائيل). والاسم الثاني لعيسو هو (أدوم)، وهو اسم القبيلة التي ستتفرع من نسله. والمنطقة التي تتوزع فيها تلك القبيلة وفروعها ستدعى: منطقة (أدوم)، والمملكة التي سيحكمها أحفاد عيسو ستدعى مملكة (أدوم) كما ترد تفاصيلها في كتاب التاناك العبراني.
تمتد حدود (مملكة أدوم) من شمالي اليمن شمالا حتى جنوبي الأردن وشرق سيناي. (أدوم) لفظ صفة معناها (أحمر)، وهي صفة لون بشرة (عيسو)، وسوف يطلق اسم (أدوم) على البحيرة/ البحر المحاذي لها ولتهامة من جهة الشرق، اسم (بحر أدوم) أي (البحر الأحمر). وسوف يرد اسمه في الخرائط العثمانية اسم (بحر القلزم)، أي الأحمر بالتركية. وفي خرائط أوربية سيرد اسمه (Pink See).
فألفاظ: [فينيق، أدوم، قلزم] = (أحمر): صفة اللون. وكلها دوال لمدلول واحد، لكن السؤال الوارد حول التحقيب والقدمية هو: هل الفينيقيون أقدم من (عيسو الأدومي)؟.. أم أن (عيسو الأدومي) أقدم عهدا من ظهور الفينيقيين؟.. وبصيغة أخرى، هل ينتسب (عيسو) للفينيقيين؟.. أو أن (الفينيقيين) ينتسبون إلى (عيسو)؟.. هذا ما يخص أهل لبنان وصور ذات التاريخ العريق.
لكن القراءة اللونية، سوف تمتدّ من سواحل المتوسط الشمالية حتى خليج عدن، بما فيها البحر والسكان القاطنين على الساحل الغربي، الموافق للحجاز وتهامة اليوم والمملكة السعودية والجمهورية اليمنية.
لا توجد صلة واضحة بين الفينيقيين والعرب من جهة العرق والانتماء. ويعتقد غير قليل أن الفينقيين ليسو عربا. والاراميين سكان الشام وشمالي الفرات ليسوا عربا، بحسب الجداول الجينولوجية. ولذلك يوصف الحكم العربي الحجازي لبلاد الشمال بصفة الغزو قديما، ولفظة الاحتلال في القاموس المعاصر.
نسابة العرب اصطلحوا على أهل اليمن بلفظة (قحطان)، واهل الحجاز بلفظة (عدنان) والحجاز تمتد شمالا حسب حدود (أدوم/ Edom) حتى شرقي سيناء، واطلق على سكان الشام/ (سوريا) بلفظة (كنعان) وهي التسمية الواردة في كتاب العبرانيين. وكل من هؤلاء يمثل طبقة معينة متفاوتة زمنيا وعرقيا من جدول طبقات العرب، باعتبار أن أهل اليمن هم أصل العرب. وأصل أهل اليمن من بابل الكلدانية عندما توزعت منها الأمم وانتشروا أقواما ولغات متباينة حول الأرض، حسب المصدر التوراتي.
من المؤكد أن الأدوميين من نسل عيسو هم السكان القدماء لاقليم الحجاز/ (أدوم)، والذين تصاهروا مع الحوريين وأاندمجوا فيهم وتشاركوا في الأرض. وربما وصل قسم منهم إلى اليمن. لكن المصدر اتوراتي يؤكد أيضا ان موطن عيسو الأول كان (كنعان)، قبل أن تنمو عائلته وينزح جنوبا مع الساحل الشرقي للبحر الأحمر اليوم.
من الملاحظات الميدانية اواضحة، نجد أن أكثر الجماعات والبلاد حماسا قوميا فكريا وعاطفيا للعروبة هم أهل اليمن واهل سوريا، يليهم شرق السودان. من الحاضنة السورية خرجت أقدم الطروحات السياسية القومية المحتجة على التتريك العثماني، وأوائل الحركات القومية الأيديولوجية ضد الاحتلال والانتداب الكولونيالي، ومنها أوائل المنظرين والمؤرخين في تاريخ العرب والقومية العربية. وليس مصادفة أن تجتمع عصبة القوميين العرب/(العروة) في بيروت، وليس في القاهرة التي جمعت محمد عبده وجمال الأفغاني اللذين أصدرا مجلة (العروة) من باريس.

(4)
يقال بوجود (كعبات) متعددة في بلاد الجنوب، وان (كعبة مكة) ليست الوحيدة، وصفة الكعبة هي التكعيب: أي الزوايا السبعة، وهذا يميزها عن زقورات سومر ومعابدها ثمانية الأضلاع والزوايا. وصفة الكعبة أو أمثالها من معابد قديمة، فضلا عن كونها موضعا دينيا مختصا بالعبادة واحتضان مواسم الحجيج، هو اشتمالها على تعددية الالهة، وهذا ما يجعلها مقابلا للأكروبول/ مجمع الآلهة في أثينا. ففي كل زاوية وركن منها موضع إله في هيئة (صنم/ وثن)، بغض النظر عن دلالات تلك الأصنام والأوثان، وفي العموم، هي رموز سماوية، ولها أو لكل منها وظيفة/ وظائف محددة في الوجود. مع اختلاف طرق وطقوس عبادته، وطبيعة صلته بالبشر.
وفضلا عن كعبة مكة، كان ثمة (كعبة نجران) وكعبة النجاشي في الحبشة، ومثلها في اليمن وايران، بعضها يعدها (سبعة) والبعض يزيدها إلى (22) كعبة. والسؤال هنا، لماذا (كعبة مكة) هي التي سادت وغيرها بادت، ولماذا اختصها الاسلام بالبقاء واعتبرها مرجعية رمزية مقدسة دالة عليه، على غرار (القدس) عند العبرانيين والنصارى.
ان ظهور الجماعة العربية، بهذا المسمى المحدد والواضح، واعتبارهم وحدة عضوية ذات كيان سوسيوثقافي سياديني، ارتبط بظهور الاسلام، والتأسيس القومي الذي اضطلع به رواده وقادته الأولون. ورغم ورود تسمية العرب في مصادر توراتية وانجيلية تسبق الاسلام بقرون وعشرات قرون، لكن وجودا قوميا أو حركة ثورية ذات خطاب وأيديولوجيا خاصة، لم يظهر قبل القرن السابع.
ألم يسبق ظهور قادة وملوك وكهنة ورجال دين من قبل. لقد ظهرت دول وممالك في أطراف بلاد العرابيا من كل الجهات، ولكنها بقيت ممالك اقليمية ذات حدود قبلية جغرافية، سواء ممالك اليمن:(معين، سبأ، خمير، كهلان)، أو مملكة الحوريين وأدوم، أو مملكة نجد المناذرة والغساسنة، لكنها لم تتوفر على وعي وخطاب قومي جامع لكل القبائل والالأطياف السوسيوثقافية في محيط جيوسياسي معين.
فضلا ان الأكديين والأموريين والاشوريين والفراعنة، الذي بنوا امبراطوريات عظمى وقوية في أيامها، لم يكن لهم خطاب قومي اجتماعي، او مشروع توحيد المكونات الاجتماعية والثقافية في قالب ومنظومة أيديولوجية تكون نواة لبناء أمة ذات ولاء وانتماء فوق قبلي وطائفي.
هذا يضع أمانا سؤالين: أولهما: لماذا التوطن الحجازي وليس غيره؟.. وثانيهما: لما أهل الحجاز/ (ادوم سابقا) هم رواد الأمة العربية ومشروع توحيد القبائل والثقافات والعقائد والولاءات في قيادة مركزية وخطاب وانتماء موحد، على صعيد الداخل والخارج.
لماذا لم تتبلور ممالك اليمن وقياداتها عن ظهور مشروع توحيد سكان شبه الجزيرة بحواضرها وبواديها، وبقيت معتكفة في زاويتها البحرية؟.. لما لم تتبلور كنعان الارامية والفينيقية عن الدولة المملكة، بما فيها ممالك تدمر والحيرة؟.. وعندما كانت مملكة داود، بحسب مرويات التاناك تعقد اتفاقات مع ممالك صور وأرام دمشق، لتوسيع مملكته أو بناء امبراطورية عبرانية حسب تعبير أحدهم، لماذا لم يخطر لملك أرام دمشق تبني مشروع وحدة شعبية سياسية تواجه ممالك الاغريق ومقدونية والروم، بدلا التحالفات الحربية الهشة والمؤقتة، ولأغراض شخصية أو بغية الغنائم.
ان فراس سواح ينتقد الظاهرة الامبراطورية، يؤيد نشأة ممالك اقليمية أو دول وطنية جيوسياسية محدودة. ولكنه لا ياعرض حول موقف هذه الدول ومصيرها في مواجهة السياسات الامبراطورية والكولونيالية الدولية. وتجربتنا العربية بما فيها الدول الوطنية وحكومات الكانتونات، تتحمل مسؤولية الضياع والانحطاط والخسائر والهزائم التاريخية في مواجهة الهيمنات الامبراطورية العالمية.
ان فكرة السلام والوداعة جميلة ودافئة، عندما تكون تحت حاضنة رعوية، ونحن جميعا نعتز بأيام طفولتنا حتى بدايات شبابنا، ونصف العالم بالجمال والدفئ والتكامل، وننسى أننا كنا يومها تحت جناح رعاية العائلة، لا نتحمل مسؤولية المعيشة ولا ندفع الفواتير، ولا نتحمل مسؤولية المواجهة مع السلطات ومؤسسات الحكومة.
الفرد في خيمة القبيلة يتوفر على حماية القبيلة والفرد تحت خيمة الحزب يتوفر على ضمانات وامتيازات الحزب، وحاشيات الحكومة تتمتع بالامان الاقتصادي وافضل فرض التوظيف والدراسة والسفر. لكن الفرد عاري القفا سوف يشبع معاناة وقهرا لتأمين الحدّ الأدنى من مستلزماته. واليوم عندما تنكشف الرأسمالية الكولونيالية عن وحشيتها واختزالها القيم الخلقية والانسانية والروحية، وتدفع البشرية الى حالة من التسخير العبودي لتأمين أطماعها وتجفيف احتمالات الرفض والتمرد والخروج عن طاعتها، فهل من دائرة أو منظمة أو جمعية أو دولة أو دين، يستعد لحماية الفرد/ الفراد الرافضين لنمط التوظيف أو الاقتصاد أو التداول المالي أو الخطاب السياسي والثقافي الموحد الذي يفرضه البنك الدولي ومؤسسة النقد الدولي وتحظى البلدان الرافضة والمترددة بالمروق والعقوبات الاقتصادية؟..
هذا الاستخفاف بالشعوب والبلدان لم يحصل عندما كان ثمة الاتحاد السوفيتي والمعسكر الاشتراكي وحلف في المواجهة. كانت المعسكر الاشتراكي ملجأ للمتضررين من الجانب الاخر. وعندما كان المرء في بلد من وضع يهدد وجوده وانسانيته كان ثمة دول ملجأ، تحميه من خلال ميثاق حقوق الانسان واللجوء. أما الان، فهل ثمة بلد أو جهة معينة تقبل شخصا يرفض الرضوع لسياسات العولمة، وباسم الدمقراطية الغربية المجوفة. ثمة اشكالية اختناق صناعي كبيرة اليوم، تهدد بانفجار لا مفر منه، يتزايد ويضطرم مع القرار الامبريالي بتهميش الاحزاب والتيارات والافكار ذات الاتجاه الاشتراكي والاجتماعي الانساني أو ما يسمى باليسار. في العشرين سنة الأخيرة، حرمت احزاب اشتراكية في اوربا الغربية من الحكم، رغم فوزها في الانتخابات، لمحاصرته من قبل جماعات يمينية، تتحالف فيما بينها وتسرق حقيبة الحكم من الفائز، كما هو الحال في المانيا والنمسا. وعندما فاز احزب الشيوعي في اليونان، فتعرض لتحديات غربيةكادت تطيح بكل الدولة. لماذا؟..
عندما يتضايق المرء على الرض يرفع يديه للسماء.. والذين يضطهده ابليس يهرب لربه، والعكس بالعكس. واليوم لا يوجد بديل. وكل من الصين وروسيا تلعبان على الحبل، وتراوغان لعدم استفزاز شرطي العالم.
فلا بد من قوة امبراطورية بديلة، تدفع الامبريالية الغربية لمعرفة حدودها، وعدم التمادي في صلاحيات وسلطات شمولية، لا يستطيع الرئيس الأمريكي فرضها داخل بيته.
من هذا المنطلق، ظهرت الحركة الاسلامية لتحجيم استبداد وتمادي القوتين السائدتين في العالم يومذاك. وهذا ما نحتاجه اليوم، أكثر من قبل، للحفاظ على عرق الانسانية من الانزياح والانسحاق تحت أقدام التاجر والقرصان العسكري. وكما ان ربّان المركب والباص يوازن توزيع الحمل حسب سلامة مركز الثقل، فا عالم اليوم المائل إلى جهة واحدة، في غاية التطرف والاستبداد العالمي، من قوة مقابلة، تعيد التوازن للمجتمع الانساني، فلا يوجد في العالم الحر والشريف، شيء اسمه (زي موحد) كانت الراسمالية وما زالت تنتقد التجارب الاشتراكية بسببه، بينما تفرض هي زيها الموحد في أكثر خصوصيات الشعوب والبلدان والأفراد، ولا تترك مجالا للرأي الاخر، والذوق والمعتقد المغاير.
انحناء روسيا والصين واليابان والمانيا امام الامبريالية، وضع ذريعة منطقية بأيدي الحكومات الأخرى، للانحناء والتقاط البركات الامبريالية، متجاوزة جميعا مصالح الافراد والشعوب. من المؤسف أن يمر العالم بحالة غياب وعي وغياب ارادة ومبادرة، كما هي بداية الالفية الثالثة. وبينما تم توجيه ضربات استباقية لقوى عربية واسلامية وعالمثالثية، تحت ذرائع (محور الشرّ)، فأن بقية البلدان ما زالت قادرة على الصحو وامتلاك مبادرة، حماية المستضعفين والمستهدفين والمهانين، أفرادا وبلدانا وحكومات وأحزابا وعقائد.
قد تكون هذه مرحلة انتقالية، لا ترسم نهاية العالم الشرقي، نهاية الشيوعية والاشتراكية والاسلام الثوري، انما نهاية الغرب والراسمالية ومشاريعه الامبراطورية اللصوصية المنافية للانسانية والمبادئ القانونية الدولية والاخلاقية. وعلينا أن نتولى مبادرة تحرير أنفسنا، لكي لا نكون غنائم وضحايا مكررا، في التوزيع الدولي المقبل.

(5)
لماذا القومية..
[نحن العرب، لم نتخلف عن فضائح العصر..
حيث حققنا أعلى درجات الاستهلاك دون
انتاج، وحققنا للآخرين غايات التقدم، على
حساب دمائنا في حروب التخلف. وكانت
جريمة القرن -اسرائيل- ترسخ بقاءها في
طل الخطاب الاستهلاكي المهيمن، تشارك
بموجب الجغرافيا البشرية ذات البعد العرقي
والطائفي، في إكساب هذا الخطاب حصيلة
كل عناصر الارهاب.]— غالي شكري

القومية هي مستوى من الوعي الاجتماعي لدى جماعة أو جماعات بشرية متعايشة في محيط بيئة معينة، تتوفر من خلاله على شعور مشترك ومشاعر مشتركة، بانتمائها لبعضها وللبيئة الجغرافية الكائنة في محيطها منذ عرفت نفسها. وبحكم الانتماء البيئي والاجتماعي لزمن طويل، اشتركت في جملة خصائص نفسية وفكرية واجتماعية متقاربة، وارتبطت بجملة عوامل سوسيوثقافية وسياقتصادية ومقومات دينتاريخية مشتركة، يجعل مسألة وجودها واستمرارها، ازدهارها وانحطاطها، مسألة مصيرية وتحديا تاريخيا، وما يصيب جزء منها، ينعكس على بقيتها.
والشعور القومي، هو حالة قائمة ومتعارفة لدى كل الشعوب والأمم على سطح الأرض عبر التاريخ، سواء تم تعارف ذلك بهذا المصطلح الحديث نسبيا، أو بدونه. والمتعارف تاريخيا، ان بعض جماعات البشر، نسبت نفسها عرقيا إلى جدّ واحد أو سلالة، اعتبرت هي المحيط الاجتماعي الجامع بينها، بوصفهم (بني...). ومن لم يخطر أو يتوفر لهم هذا الزعم، نسبوا أنفسهم لمصدر/ (أب) سماوي أو فلكي، كما في الميثولوجيا الرومية التي تنسب أهل روما للأله (مارس).
وقد عنيت قبائل العرب بنسبة أنفسها لجدّ قبلي هو الأب الأعلى لأفراد قبيلته المدعوة باسمه أو برمزه أو لقبه. وفي وقت لاحق، اتفق عدة قبائل، ذات خصائص وقواسم ومصالح مشتركة، بأن جدودها كانوا أخوة ينتمون إلى جدّ أعلى مشترك، وهكذا وصولا للتقسيم الأخير لسكان العرابيا إلى أولاد قحطان وموطنهم الأصلي في (اليمن)، وأولاد عدنان وموطنهم الأصلي في (الحجاز). وهكذا.. وصولا إلى مشروع توحيد أبناء اليمن والحجاز ونسبتهم لأب أعلى أكثر قدما، ليكون ذلك هو (يعرب) الذي عرب/ تعرب/ استعرب بلسانه: أي بطريقة نطقه لبعض الحروف أو الكلمات وهو ما يتعارف اليوم باللكنة واللهجة، ودعاها القدما بالحرف أو اللغة. فاللغة قديما كانت تعني (لهجة)، واللغات عموما، متقاربة ومتشابهة وخارجة من بعضها، كما هو الفكر الديني. ولكل منها جذر واحد مشترك، يتطور ويتغير ويتبلور مع حركة الزمن.
فالقاسم الثقافي لسكان اعرابيا هو (اللغة) بتعدد لهجاتها، عندما ترسخت ملامحها الخاصة واختلفت عن لغة المسند والأمهرية والارامية والعبرانية والسريانية؛ والقاسم الاجتماعي لسكان العرابيا هي القيم والأعراف والعادات والتقاليد المتشابهة والمتقاربة، فضلا عن قناتها بوجود إله أعلى لكل ما في الكون والطبيعة والأرض؛ والقاسم الجغرافي هو حدود شبه جزيرة العرابيا التي انسجموا مع خصائصها وتأقلموا مع ظروفها ومناخها وتغيراتها. أما القول بالحضر والبدو، أو المناطق الزراعية والمناق الجافة، فما من بلاد كلها خضراء، ولا بلاد كلها صحراء وجفاف. ولكل منها مميزاتها وخصائصها، فوائدها ومضارها، وكذلك هي طبيعة الحياة الاجتماعية والمادية.
وجود العرب في موطنهم التاريخي قديم، وكما عرف الهنود والفرس والاغريق والروم والفراعنة والأحباش كل في بلاده، عرفوا بها شعوبا أو ملوكا، حضارات أو امبراطوريات، عرف العرب بين أولئك. وذلك كما ترد اشارات عنهم في مدونات الجوار التاريخي.
لكن العرب لم يخرجوا من محيطهم الجغرافي، ولم يتجاوزوا بيئتهم في مجال الحركة والاستيطان والتجارة. وكان لكل قبيلة وعشيرة ومجموعة بشرية حدود بيئية ومواضع مرتبطة بنشاطهم وحركتهم، وكان تحديدها يستند إلى مسميت الجبال والوديان والتلول والشواخص الأرضية، كما يتحدد بجوارهم القبلي والعشائري والديني أحيانا. وما من قبيلة أو عشيرة كانت بلا أرض [قبلية/ وطنية/ قومية] خاصة بهم. وحتى اليوم عند ذكر (طيء) يشار إلى مواطنها القديم في اواسط نجد وتفرعاتها في الأنبار.
وقد ذهب بعض المؤرخين والمشتشرقين إلى المسألة العرقية في أصول سكان العرابيا، وذلك بتحديدها بين العرق الهندي وتخذوا لذلك أمثلة في بعض اهل اليمن، والعرق الأفريقي الشرقي وأمثلته في بعض أهل جنوبي الحجاز. لكن ذلك لا ينفي وجود عرق عربي: نسبة لشبه جزيرة العرب، كما أن تداخل العروق وتلاقح الأجناس بحكم المعاملات والمبادلات من الظواهر الطبيعية والعادية والصحية في علم الاجتماع البشري، وما من شعب أو بلد يتكون من خلاصة عرقية صافية، بما فيهم سكان الصين واليابان.
ثمة أقوام سعت للحفاظ على وحدة عرقية أو [نقاء دم]، قديما أو حديثا، وكان لهؤلاء التخلص ممن لا تنطبق عليه مواصفات جسمانية معينة، أو تشذيب الجماعات البشرية الكائنة في حدودها السياسية، كالمجازر والكوارث التي قامت بها الدولة العثمانية في أواخر عهدها، وطردت كثيرا من السكان القدماء في اسيا الصغرى جنوبا.
لكن الأصل في الانتماء ليس المواصفات الجسمانية، ولا لون البشرة ولون الشسعر وطول القامة، وانما العامل الثقافي وعنصر الانتماء الوطني والقومي. فماذا استفاد العثمانيون والترك من تلك المجازر التي ما زالت تلاحقهم تاريخيا، بينما ثلث سكانهم لا يجدون قوتهم في وطنهم القومي.
اعتقد ان للوطن والقومية جوانب ودلالات أعمق وأكثر أهمية من الشعارات والدعاية الاعلامية. والبلاد العربية لها أرقام خطيرة في سجلات المهاجرين واللاجئين، ومن المناطق المرشحة لهجرات سكانية كبرى خارجها، بينما تتوافد عليها هجرات مقابلة من بلدان أخرى، أكثر فقرا وخلفيات اشكالية.
تركيا لا تسمح بالوافدين على مجتمعها لغرض الاستيطان، وهذا ما يعانيه التركمان في البلدان المجاورة لها، وسيما في بلاد العرب، بعضهم من اصول عثمانية استقرت في تلك البلدان بحكم الوظيفة، ولم تعد بعد التقاعد أو وفاة الأب. وبعضهم من اصول اسيوية من غرب الصين وجنوبي روسيا، وهي المعروفة بالجمهوريات التركمانية الاسلامية الخمسة. ويشكل التركمان القومية الثانية بعد الفرس في ايران التي تتشكل من قوميات أو أعراق رئيسة.
ولا يوجد في محيط شبه جزيرة العرابيا أصول ثقافية غير عربية، وذلك بالمقارنة مع بقية البلدان العربية التي تعاني من تعددية ثقافية وقومية، ترتب على بعضها تعددية الانتماء أو هشاشته. ذلك رغم ان المجموعة العربية عموما، والاسلامية خصوصا، تتحرج التعرض لهذا الأمر. ويشكل العراق ظاهرة إشكالية بائسة في هذا المجال، تحكمت به وحكمت مصيره عبر التاريخ، بينما تضطرد خريطة واقعه المجتمعي سوء.
نظريات المجتمع امدني والسياسي في أوربا وأمريكا تستند للاندماج والانسجام وتوحيد مناهج التربية والخطاب السياثقافي، وهذا هو المشخص بأيديولوجيا المركزية الغربية، والثقافية المركزية الأمركية. ومن العالم العربي والاسلامي، تنفرد السعودية باعتماد منهاج ثقافي سعودي وطني.
ولابد من اعتماد منهاج ثقافي مركزي يحدد عامل الانتماء والمواطنة والولاء للوطن الأمّ، وبشكل يقود التفريط فيه للتأثير عن مبادء انتمائه الوطني والقومي. وتزداد ضرورة ذلك، لعوامل عدّة، منها..
1- غياب مفهوم واليات الامن القومي الستراتيجي العربي، والمفترض تطبيقه قوميا، بوصفه الدرع الواقي للهوية والاصالة الوطنية.
2- غياب مفهوم واليات الامن الاقليمي الستراتيجي الاسلامي، واذي يشكل دعامة وحماية لبناء مجتمع وعالم اسلامي، له خطاب ثقافي مركزي دفاعي محصن شعبيا ورسميا، وعلى كافة المستويات والقطاعات.
3- اشكالية الاناركية وضعف عناصر المجتمع المدني وتوقير النظام والمجتمع ومبادئ الاخوة والمساواة والعدالة.
4- هشاشة مفاهيم المواطنة والانتماء في الشخصية والثقافية العربية عموما.
5- التأثير السلبي لعامل الدين والتعددية الأثينية في تهميش وتهشيش فكرة الانتماء الوطني.
6- مواجهة الغزو الفكري والثقافي الغربي الشامل.
7- مواجهة تحديات العولمة، ومنها الاثار والتاثيرات الخطيرة لشبكة الانترنيت وادمان الناشئة عليها.
8- الحدود غير المحددة لمعنى التبعية للاملاءات الامريكية وتوصيات المؤسسات الدولية الخاضعة لها.
9- تنامي المهجر العربي خارج الوطن الأم، وسيما في بلاد الغرب، التي يعود بعضها للجيل الخامس والرابع.
10- استمرار استقبال البلاد العربية لوفود غير عربية من الخارج، سواء للعمل أو الدراسة أو المعيشة.
11- اعتماد بعض بلدان الجوار العربي لبرامج تهجير عرقي وعقائدي لاختراق البلاد والمجتمعات العربية على المدى البعيد، وتمثل بلدان المشرق العربي/ الأسيوية الهدف والضحية الأكبر لتلك البرامج.
ان تجربة الدولة والمجتمع المدني خلال القرن العشرين، كانت بائسة في بلادنا، والبلدان التي عادت لعهود الاحتلال، تعيش حالة مأساوية، ولا تتوفر لها امكانيات النهوض بنفسها ثانية، أو الاعتماد على الذات لمعالجة الاشكاللات واخلخلات والجراح التي افترست جوانب الدولة والمجتمع ومختلف القطاعات والطبقات والمؤسسات النتعلقة بها. ولابد من خطوة ستراتيجية لتوفير اطار وحاضنة عربسلامية اقليمية، تمنعها من الاعتماد على بلاد اجنبية اوربية أو أمريكية، وهي اتي كانت وراء مصائبها والمستفيدة منها.
ما نزال على اعتاب قرن وألفية جديدين. وبدل اجترار مخلفات ومخاطر الهزيمة والانحطاط، علينا الاستفادة من الاخطاء، ومعالجة عناصر الخلل التاريخي، وتبني ستراتيجية موحدة للنهضة والبناء الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والاتفاق/ الاتحاد/ الانسجام/ التعاون معا، لبناء عالم عربي/ عالم اسلامي له استقلالية كاملة وحصانة ذاتية ومركزية ثقافية، بين المركزيات الدولية التسعة التي ترسم لوحة المستقبل.
اننا لا يمكن أن نستمر هكذا. وهذه ليست خلاصة شخصية أو فردية. أنعا كائنة في أعماق كل كائن عربي، كل كائن بشري في المحيط العربي. والهروب للخارج، هو احد افرازات هذا الشعور المستعصي على الاعلان والمناقشة والحل. ورغم أهمية وحقيقانية ودافعية الشعور القومي في المشروع الاسلامي، فأنه تعرض لقمع سياسي مباشر قبل نهاية قرنه الأول. وهي الحقيبة التي رافقت رواج التأليف والتصنيف. وعلينا تشخيص حقيقة نقدية لبني العباس، أنهم ساوموا على جوهر الحركة الاسلامية، من اجل كعكة الحكم، ولولا جانب من النهضة العلمية والفلسفية، لكان صيتهم التاريخي في الحضيض.
نعم. كان العهد الأموي عربيا قوميا، ولكن العهد العباسي، اعتبر كلّ من يأتي على ذكر القومية والعروبة شعوبيا. والشعبيّة من منتجات العهد العباسي بامتياز. والآفة الثانية التي نافست (الشعوبية)، وتاجرت بها هي (الطائفية). والطائفية هي (قبائلية) على أساس ديني. الغرب أغلق باب الطائفية بحكم (الهرطقة). وكانت (البابوية الكاثوليكية) من القوة الامبراطورية، بحيث تلجم من يخرج عليها. ولكن الاسلام السياسي الثوري الحاكم، لم يهتم ببناء (مرجعية اسلامية مركزية)، وهو نقص بنيوي خطير تآمر عليه الجميع، لنسف جوهر ما يزعمون بناءه من الخارج. وجمع السلطتين الدينية والسياسية، أو جمع السلطات والحكم الشمولي بالمصطلح المعاصر، خدم مبدأ الاستبداد الشخصي/ (دكتاتورية الحكم)، على حساب جوهر الأيديولوجيا الاسلامية. اولئك صار هدفهم الحكم وترهات السلطة والجاه، بينما كان مشروع محمد بناء (أمّة) ذات خطاب قومي وكيان سياسي متماسك داخليا. لكن مشروع محمد تعرض للنسف بتوسع النفوذ خارج شبه جزيرة العرابيا، قبل أن يشتدّ عود الاسلام ويقوى ذراعه.
وكان العراق هو ضحية أطماع العباسيين، وما زال حتى اليوم غارقا في مستنقع الطائفية والتهم القومية باسقاطات فكرية غربية معاصرة. ولا غرو أو غرابة أن تتناغم الطائفية الشيعية مع الشيوعية الأممية مع القومية الكردية ضد عروبة العراق وكل مشروع او حركة قومية عربية في العراق.
وطالما أن الأحزاب الحاكمة تسطو على بعضها، وتمسخ سابقاتها في السلطة، تجد حزب الدعوة الحاكم يجتهد في استخدام أوراق مستعارة لم يسبق له تداولها قبل وصوله الحكم وعجزه عن نوال شرعية حقيقية. وأعدد هنا تلك الأوراق والمراحل في كلمات..
1- التاريخ الحضاري للعراق بدالة سومر/ (خطابات نوري المالكي).
2- تكرار مفردة [وطن/ وطنية]/ (خطابات المالكي).
3- تأكيد عروبة العراق/ (عهد العبادي).
كل من لبنان وأفغانستان والصومال، لم تفرط لحظة بوطنيتها وولاءها الوطني، وهي التي سبقت العراق في محنها، وبقي العراق الضحية التاريخية لسمسرة بني العباس، والتي تتحمل المسؤولية الأأساسية في انتاج فكرة (الطائفية) التي يزعم هادي العلوي أنها (قدر) الشرق.
(الطائفية) ليست قدرا، انما أحد وجوه خيانة الذات، كراهة الذات، وهروب الانسان من ذاته. وأكرر دائما في هذا الباب، ليس فزورة علي الوردي عن (ازدواجية الشخصية) العراقية، انما صراحة مظفر النواب [ت 1934م]: [كلّ منا يحمل في الداخل ضدّه!]، والتي يصوغها عبد الأمير جرص [1964- 2003م] بوضوح أكثر: [أني معي دائما في الرأي أختلف!].
نحن العراقيين نولد ونتناسل محملين بأمراض وراثية مستعصية على العلاج. وهو المرض الذي أدركه أوائل قادة العراق الحقيقيين مع بداية تأسيس الدولة العراقية في عشرينيات القرن العشرين، وذلك هو المشروع الذي تم تكليف الجنرال الكردي بكر صدقي بالقضاء عليه دمويا. وبقيت أدبيات السياسة العراقية تتهم انقلاب (1936م) بالغموض، خشية النطق بالحقيقة. لذلك انفرط محمد مهدي الجواهري [1900- 1997م] عن تأييد الانقلاب، عندما اتضحت له تفاصيله. ولنفس الغرض، تم سرقة تمثال عبد المحسن السعدون -ليلا- من قاعدته في الباب الشرقي، بواسطة زمرة ملثمة في عهد نوري المالكي. وعبد المحسن السعدون [ - 1926م]، هو رائد الوطنية العراقية، وأول وطني عراقي يدفع حياته ثمنا لوطنيته، بدل المساومة، التي ستصير لاحقا، -تكتيكا- سياسيا للبقاء في الحكم.
و(الطائفية) بمجساتها الاقليمية التقليدية والكولونيالية المعاصرة، كانت وراء فشل مشاريع الدولة الوطنية العراقية في القرن العشرين، وهي المسؤولة عن الشق الكبر من برامج المعارضات السياسية والعنفية لحكوماتها المتعاقبة، باستخدام براقع وشعارات ديماغوجية غربية، بما فيها تجييش الداخل والخارج، اقليميا ودوليا ضد نظام البعض وصدام حسين، حتى النتيجة الأخيرة للحكم الوطني العراقي العربي في [مارس 2003م].
لا يكاد يوجد بلد في العالم، وسيما الغرب الذي يتخذه كثيرون (قدوة مقدسة)، بلا هوية وطنية قومية وخطاب ثقافي وطني، هو المعيار الأساسي والخط الأحمر للحصول على وثيقة الانتماء وشهادة الجنسية والمواطنة. ولكن بلدانا عربية كثيرة ينقصهما ذلكم الهوية الوطنية والخطاب الثقافي لاقتناء حق المواطنة والوثائق الرسمية.
ان الشرط الوحيد لنوال تلكم احقوق والوثائق هي شهادات الميلاد التقليدية. ولكن ماذا عن الهوية الثقافية ومركزية الخطاب الوطني؟.. لذلك يجد أبناء البلدان العربية (حرية) في مهاجمة بلدانهم وحكوماتهم في الخارج. علما أن تسريب (معلومات) وطنية لجهة خارجية يمثل جريمة في القانون. ومن بلاغة البعض، تسويغهم تسريب المعلومات الأمنية والخيانة الوطنية نوعا من [حرية الرأي والفكر والتعبير] المحظورة في بلدانهم، حسب المياق الدولي لحقوق الانسان. وكأن التمادي في تلك الحريات إلى حدّ الخيانة اوطنية والوشاية بمعلومات أمنية وسياسية، حرية متاحة في متاح الأوربيين أنفسهم، وأنظمتهم اللبرالية الدمقراطية، ولا نقول الشيوعية الاشتراكية ذات الانضباط العسكري والحكم الحديدي الصارم.
هكذا يكذب بعضنا على ذاته، لتسويغ ما تسول له نفسه أو مصلحته الطارئة، باعتماد مبدأ [ألوطن أول القتلى!], لا بدّ من قتل الوطن، لكي تسقط بقي الجدران والمحظورات أمام المواطن العربي، مع مغادرة بلده. وهذا لا يشمل كل البلدان العربية، ولكن بعضا محددا، وهو معروف جدا.
اتاح المهجر حرية نسبية للمهاجرين، سيما من الجيل الثاني وما بعده، لإعادة النظر في ثوابته اوطنية والقومية والدينية والطائفية. والنسبة العظمى من المهاجرة، لا يفرطون بانتماءاتهم الغربية لعيون بلدانهم الأم، والتي لا تتعدى صلتهم بهم (مركزا للسياحة) في أحسن الأحوال.
لكن جوهر الاشكالية يبقى في تشكيل هيكلة بلداننا وهوياتها الثقافية القومية. ولا يجوز التمادي في اعتبار الأممية (الاسلامية) مبررا لالغاء الشعور القومي العربي، والعربي فقط. لأن الايران والباكستاني والهندي والفغاني والماليزي والسنغافوري والبنغالي والبوسني والصومالي، لا يجد في اعتزازه وانتمائه الوطني والقومي تحديا لانتمائه الديني أو خروجا على نص كتابي.
والاسلام ليس وحيدا ولا سابقا في هذا المجال. فالمسيحية ديانة عالمية يدين بها أكثر من نصف سكان العالم، وفي مختلف القارات والأنظمة والدول. ولم يرد مرة، ان يتعارض الدين مع القومية. بل أن القبطية المصرية كانت سياجا متينا ودعامة تاريخي لحماية وطنيتها في مواجهة الحكم البيزنطي وغير البيزنطي.
وكان الاحرى القول، لماذا لم يندمج الاقباط في بيزنطه وكلاهما أرثوذكس، في مواجهة روما الكاثوليكية. بل أن مبرر العرب في اعتزازهم القومي، ماثل في اعتزاز الشخصية والثقافة الايرانية بانتمائها القومي وكبريائها القومية، التي تجعلها تتحدث اللغة العربية وكل لغة أجنبية بالنسبة لها بلكنة ولحن مفضوح، لتمييز نفسها وعدم الذوبان في ثقافة غيرها.
لماذا يتحدث المستعربون الروس، لغة عربية صافية، ولهجات عراقية أو لبنانية لا يمكن تمييزها عن الناطقين بها، وهم محدثون في ذلك، بينما يصر الايراني نطق العربية بصورة تثير السخرية، سواء في نطق الحروف داخل اللفظة، أو التطرف في موسيقى العبارة؟..
وقد مرّ معنا، ان المستشرقين الروس، ينسبون الطبري والبخاري وابن سينا وغيرهم من علماء وكتاب مسلمين، إلى ايران والجمهوريات السوفيتية المسلمة، دون ذكر الدولة العباسية والحكم الاسلامي. علما أن الشيوعية الأممية لا تعترف بالقوميات، ولكن تجيز لنفسها الاعتداد بقوميتها شعورا وانتماء وثقافة.
ــــــــــــــــــــــــ
مجلة الوطن العربي: مجلة اسبوعية اخبارية تصدرها شركة (الوطن العربي الدولية المحدودة)- باريس- مطابع الاهرام التجارية بمصر- ع868- يوم الجمعة 22 اكتوبر 1993م- غالي شكري: مواجهات/ الخطاب الاستهلاكي (1) من جريمة القرن إلى فضيحة العصر- ص39



القسم السادس: العرب والقرن العشرون..

[37]
العرب اصطلاحا..

(1)
وردت لفظة عرب في (القرآن) في مجال الإحالة على اللغة: (لسان عربي مبين)*/(النحل 103)، ووردت في مصادر اخرى بمعنى البداوة والتوحش. وفي المصادر القديمة تمييز بين لفظتي [عرب، اعراب]، والثانية كما يلحظ على وزن جمع: [فعل- أفعال، سبب- أسباب].
لكن الثقافة الشفاهية استخدمت (عرب) بمعنى (الحضر/ سكان القرى/ المستوطنين)، واستخدمت (أعراب) بمعنى (البدو/ جماعة دائمة الترحال ولا تقيم في مساكن ثابتة). وفي حديث موضوع: [نحن لا نزرع ولا نصنع]. حيث تقتضي الزراعة علاقة مستمرة مع الارض، تشتمل جملة عمليات ضرورية: الحرث - الغرس - السقي - الرعاية - الحصاد - تحضير الارض للموسم التالي.
بينما الصناعة هي العمل اليدوي والحرفي، والاعتماد على الذات، في تأمين المعيشة ومستلزمات الحياة، كما عرفت في اليمن ويثرب وخيبر وانحاء الشام والعراق ومص



#وديع_العبيدي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- انتبهْ!.. الوطنُ لا يُباعُ وَلا يُستبدَلُ.. وَلا يُطرَحُ للإ ...
- ما بعد الحداثة/ ما بعد الانسان..
- نحو علم اجتماع عربي..
- محاضرات في لاهوت العولمة
- (المسيح الثائر) في اسفار الشاعر الاشتراكي المصري أمل دنقل
- (المسيح واللصوص) للأديب والفنان الاشتراكي نجيب سرور
- (اعترافتان في الليل، والاقدام على الثالثة) للشاعر الاشتراكي ...
- منفيون في جنة ابليس
- مقامة الثامن من أوغشت..
- باسكال: بين الشك والايمان
- الميّت الماشي- قصيدة الأديب الاشتراكي توماس هاردي
- انا عندي حلم/ I Have a dream رائعة المناضل الانساني مارتن لو ...
- (سلطان الكلمة) قصيدة للاهوتي الالماني مارتن لوثر
- في علم اجتماع الفرد- خمسون حديثا عن الواقع واللامعقول واللغة
- (تعزية..) للشاعرة النمساوية الملكة ماريا فون هنغاريا
- (ايكو هومو).. قصائد للفيلسوف الالماني فردريك فيلهيلم نيتشه
- قرار ترامب ورجسة الخراب في القدس ..!
- قصيدة (تكسّب) للشاعر الانجليزي جيفري شوسير
- (بنت الرياض..!)
- موقف اخلاقي من العولمة.. (5)


المزيد.....




- تمساح ضخم يقتحم قاعدة قوات جوية وينام تحت طائرة.. شاهد ما حد ...
- وزير خارجية إيران -قلق- من تعامل الشرطة الأمريكية مع المحتجي ...
- -رخصة ذهبية وميناء ومنطقة حرة-.. قرارات حكومية لتسهيل مشروع ...
- هل تحمي الملاجئ في إسرائيل من إصابات الصواريخ؟
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- البرلمان اللبناني يؤجل الانتخابات البلدية على وقع التصعيد جن ...
- بوتين: الناتج الإجمالي الروسي يسجّل معدلات جيدة
- صحة غزة تحذر من توقف مولدات الكهرباء بالمستشفيات
- عبد اللهيان يوجه رسالة إلى البيت الأبيض ويرفقها بفيديو للشرط ...
- 8 عادات سيئة عليك التخلص منها لإبطاء الشيخوخة


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - وديع العبيدي - في علم اجتماع الجماعة- خمسون حديثا عن الانسان والانتماء والابداع