أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فاطمة ناعوت - أسئلةُ -جوجان- الصعبة














المزيد.....

أسئلةُ -جوجان- الصعبة


فاطمة ناعوت

الحوار المتمدن-العدد: 5963 - 2018 / 8 / 14 - 10:05
المحور: الادب والفن
    




من أين جئنا. من نكون. إلى أين نحن ذاهبون.
أسئلةٌ بسيطة. طفوليةٌ جدًّا. غُفْلٌ حتى من علامة الاستفهام: (؟).هكذا أراد لها من أطلقها في وجه العالم! هو ليس طفلا. لكنه فنانٌ. والفنانُ طفلٌ لا يهرُم. لكنّ الأطفالَ حين يسألون كلَّ يوم أسئلةً كتلك، ونحارُ في الإجابة، يضعون علامةَ الاستفهام في صوتهم وفي عيونهم.
الزمان: آخر ليلة في القرن 19. المكان: جزيرة "تاهيتي" الساحرة في جنوب المحيط الهادي. الحدث: قرّر رجلٌ فرنسي في منتصف العمر اسمه بول جوجان Paul Gauguin أن ينتحر. لماذا؟ الحياةُ لم تعد تروقُ له بشروطها التي يرفضها! وخطَّطَ، قبل موته، أن يرسمَ لوحتَه الأخيرة ليعلنَ رفضَه للعالم المتحضر الذي هجر الطبيعة والفطرة الأولى. أرادَ أن تمثّل لوحته تلك حالَ عناق أبديّ بينه وبين الحياة الفاتنة البسيطة التي تطوّقها التقاليد والطقوس والفطرة الطبيعية البكر في جنوب المحيط الهادي. كان جوجان قد هجر أوروبا الصاخبة وجاء إلى الجزيرة تحدوه رغبة التعلّم من مواطنيها الفطريين لعبة مصالحة الطبيعة ومعانقتها والقدرة على الاستغناء عن الرفاه وخصام المدنية والحضارة. ثم صارت تلك الأسئلة توقيعَه الخاص على لوحاته القادمة، بعدما أخفق عن الانتحار. وبهذه الكُنية التي وضعها لنفسه عبر أسئلته الثلاثة، عرّف جوجان نفسه بوصفه الإنسان الذي فقد مكانه وزمانه في هذا العالم. قال إن الحداثة شوّهتِ الطبيعةَ الإنسانية وحرمتها من هُويتها. هجرَ الباريسيات الساحرات ذوات الكعوب الرفيعة العالية، إلى فتياتٍ يتكلمن بلغة الزهور. يشبكن زهرةً خلف الأذن اليسرى؛ حين يبحثن عن حبيب، فإذا وجدنه انتقلتِ الزهرةُ إلى وراء الأذن اليمنى. ترك مدينةَ النور والبارات والمتاحف والحضارة والفنون، إلى حيث جبالٍٍ، قممُها حممُ براكين ونار.
كان غاضبًا من فرنسا، وطنه؛ لأنها هجرت الفطرة وخاصمت الطبيعة وأسلمت نفسها للمدنية والتحضّر والصخب. ولمّا أيقن أن محبوبته باريس لم تُنصت إلى لوحاته الكثيرة التي كان يدعوها من خلالها إلى العودة للماضي بعفويته ونقائه، بل راحت توغل أكثر فأكثر في الحداثة والتمدّن، قرر أن يُلقي في وجهها رسالته الأخيرة شديدةَ اللهجة. ويمضي بغير عودة ويغادر هذا العالم في رحلة دون إياب. صحيحٌ أن محاولة انتحاره أخفقت، لكن لوحته لم تخفق في إلهام الفلاسفة، وأسئلته الثلاثة خالدة لم يمحها التاريخ. تقفُ لوحته الآن في متحف بوسطن للفنون الجميلة بوصفها الأشهر بين أعماله.
تُصور اللوحةُ، المرسومة بالزيت على التوال، مشهدًا من جزيرة تاهيتي الساحرة، بنسائها الخُلاسيات، منخرطات في أعمالهن البدائية بملابس بسيطة وجدائل لم تلوثها أبخرة الماكينات. وفي أعلى يسار اللوحة حفر ثلاثَ عباراتٍ عصيّة:
D OU VENONS NOUS
QUE SOMMES NOUS
OU ALLONS NOUS
وقتها، لم يُلتفت إلى تلك الكلمات إلا كجزء من عمل فنيٍّ شهير، وليس كوصيةٍ أخيرة من فنان مجنون، وفيلسوف، جاء إلى الحياة عام 1848. أما في الركن العلوي الأيمن، فوضع توقيعه وتاريخ اليوم الذي أنهى فيه اللوحة: P. Gauguin 1897. وبعدما أخفق في إنهاء حياته في ذلك اليوم، غادر العالم بعد ستة أعوام في 1903.
في رواية "الشحاذ" لنجيب محفوظ يقول عمر الحمزاوي: "كان الأقدمون يتساءلون أين تذهب الشمس؟ ولم نعد نتساءل." فتجيبه زوجتُه: "بديعٌ أن نتخلص من سؤال!".
لا شك أن معرفة إجابات الأسئلة شيءٌ جميل ومريح في كثير من الأحيان. ولكن ثمة أسئلةً لو عرفنا إجاباتها فقدتِ الحياةُ دهشتَها، وكفَّ الشعراءُ عن الغناء، وتوقف الفلاسفةُ عن النظر إلى السماء، وامتنع الأطفالُ عن الركض وراء الفراشات. أسئلة جوجان تقفُ على رأس تلك الأسئلةِ التي يجب أن تظلَّ أسئلةً. مبهمةً ومُلغزةً وبكماء. هي أسئلةُ الأطفال التي تُعجِز الكبار. وكلُّنا، حالَ الكلام عن الكون، أطفالٌ. وتلك إجابتي عن السؤال الأوسط: (من نكون)، ولستُ أعرف إجابةَ السؤالين الآخرين، ولا أنا شغوفةٌ بمعرفتها. أعرفُ فقط أنه يلزمُ أن نظلَّ أطفالا نسألُ ونرجو ألا نعرفَ. حتى نعيشَ ونُدهشَ ونبدعَ ونحبّ. ولئن كانت مقولة علي ابن أبي طالب: "الإنسانُ عدوُّ ما يجهل" صحيحةً في مستوى، ففي مستوى آخر، نحن نُشغف بما نجهل. ولا نكفُّ عن السعي إليه ومحاولة فك شفرته. فأنتَ إن عرفتَ شيئا مججته. لذا يلزم أن تظلّ الحياةُ لغزًا كي نحبّها. لكيلا نفقدَ شغفَنا بها.



#فاطمة_ناعوت (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المتحف الكبير … هديةُ مصرَ للعالم
- نادي الشرق الأدنى للأرمن
- قواعدُ الرجال … يا نساء العالم!
- ه. ق. … أقصر رسالة في التاريخ!
- على أبواب الجامعة: كهف الفيلسوف، وحبل الفيل
- الخوف من الخوف
- لماذا الأوغاد لا يسمعون الموسيقى؟
- من الذي جرح ساقها؟
- كتاب الأخلاق … يا وزير الأخلاق
- كارما… المسيحيُّ في قلب المسلم
- لكي لا ننسى صناع الهلاك!
- خطأٌ مطبعيٌّ ... بالقلم الكوبيا
- محمد صلاح ... وجه مصر … من وجوه الفيوم
- باقي زكي … مفتاح كسر صهيون
- جدتي … المعمارية الأولى
- زحام في بيتي ... ولا أحد
- ابتهلوا أيها الأئمة … وسوف نقول آمين!
- أمي … تموت مرتين!
- المصريون
- رمضان … شهرُ الأقباط


المزيد.....




- كونشيرتو الكَمان لمَندِلسون الذي ألهَم الرَحابِنة
- التهافت على الضلال
- -أشقر وشعره كيرلي وحلو-..مشهد من مسلسل مصري يثير الغضب بمواق ...
- الإيطالي جوسيبي كونتي يدعو إلى وقف إطلاق النار في كل مكان في ...
- جوامع العراق ومساجده التاريخية.. صروح علمية ومراكز إشعاع حضا ...
- مصر.. الفنان أحمد حلمي يكشف معلومات عن الراحل علاء ولي الدين ...
- -أشقر وشعره كيرلي وحلو-..مشهد من مسلسل مصري يثير الغضب بمواق ...
- شجرة غير مورقة في لندن يبعث فيها الفنان بانكسي -الحياة- من خ ...
- عارف حجاوي: الصحافة العربية ينقصها القارئ والفتح الإسلامي كا ...
- رواية -خاتم سليمى- لريما بالي.. فصول متقلبة عن الحب وحلب


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فاطمة ناعوت - أسئلةُ -جوجان- الصعبة