أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أمل سالم - فصام















المزيد.....

فصام


أمل سالم

الحوار المتمدن-العدد: 5950 - 2018 / 8 / 1 - 04:17
المحور: الادب والفن
    


فصام
أمل سالم
............
"اليوم عاد كأن شيئًا لم يكن..."
بينما يجلس في حديقة بالقرب من منزله الصغير، في شمس يوم شتوي، كانت نجاة الصغيرة تشدو برائعة نزار قباني، وهو يجلس ينتظر أن تبدأ الشمس في المغيب؛ ليستقل سيارة متجهًا إلى العاصمة. مخلفًا وراء ظهره تلك المنطقة النائية التى يقطن بها منذ فترة، وقد اختار هذه المنطقة عقب تخطيه لتلك الوعكة الصحية التي انتابته، واضطر على أثرها أن يقضي قرابة الشهر في مستشفى للأمراض النفسية والعصبية.
-ها.. كيف حالك الآن يا عزيزي ؟
=الحمد لله.. أفضل بكثير!
-هل تريد أن تتركنا وتغادر إلى منزلك؟
=لا لا.. أريد أن أكمل علاجي.. حتى تمام الشفاء أولًا.
-هل مازلت ترى أن المجتمع غير سوي؟
=على العكس.. أنا الآن.. على قناعة تامة بأن الذى يرى المجتمع غير سوي.. هو نفسه غير السوي.
-سأكتب لك على الخروج من المستشفى.. إجاباتك تدل على تمام الشفاء.. على أن تقضي فترة النقاهة في المنزل.. وتعاود زيارتنا مرة كل أسبوع، وهذه.. "روشتة" بالأدوية، وحذار أن تتوقف عن تعاطيها إلا بأمر الطبيب، وحذار أن تنسى مواعيدها؛ تكمن فائدة العلاج في انتظام مواعيد تعاطيه.
=الرجاء ألا تكتب لي الخروج إلا بعد التأكد من تمام شفائي.. في بداية تواجدي هنا.. كنت أريد الخروج فورًا، أما الآن.. فأنا مستريح بينكم.. ومع المرضى.
في واقع الأمر كان حديثًا فقط يمثل الاتزان ولا يعول عليه.. لم أكن قد شفيت تمامًا، كنت أتصنع الشفاء.. كنت أتصنع العقل والحكمة والهدوء، فقط.. أنا أردت عدم المكوث أكثر من ذلك في هذا المستنقع الذي يدعون أنهم يعالجون فيه المرضي، لكنه في حقيقة الأمر: الجحيم! وهم زبانية جهنم!
خرج بعدها، واختار أن يغير مكان إقامته؛ فاستبدل المنطقة الشعبية التي كان يقطن بها بتلك المنطقة النائية، الأكثر هدوءَا، والبعيدة عن الضجيج.
والآن.. أنتظر أن تبدأ الشمس في المغيب؛ فهذه أول مرة أراها منذ ما يربو على الثلاث سنوات. لقد عادت اليوم إلى حديثها معي، وعبر" السوشيال ميديا " كتبت لي: أنها تريد أن تراني، فلقد استوحشت غيابي الطويل. هكذا قالت! رغم أنها هي من بادرت بالتخفي والغياب.. بالضبط من بعد تلك الوقعة.. أعلنت أنها خافت مني.. وانقطعت أخبارها، وبرغم كل ما حدث.. لا أستطيع أن أكذبها، أو أفقد ثقتي فيها. لا أعرف إلا أن أعيش عمري وفيًا لها، لا أسمح لنفسي بالميل لغيرها؛ فهذه خيانة..لا أستطيعها، لا أستطيع، أشعر أنني أمام نفسي عندما أراها، وأقول: لا يكذب المرؤ نفسه، ولا يفقد ثقته في قلبه أبدًا.
فمنذ تلك الواقعة ولم أرها.
=معى مبلغ كبير من المال، جمعته من عملي ومن ميراثي. وأمتلك العديد من التحف والمقتنيات الفنية غالية الثمن، وطفلًا لم ير النور بعد.. بين خلاياي غير مكتمل؛ يبحث عن اكتماله لديك. تزوجيني وخذيهم قبل أن أذهب، وأترك كل هذا في الدنيا هباءً منثورًا ؟
كان يبدو من تصرفاتها وسؤالها عليه أنها تحبه أيضًا، وبقوة. رغم قرابة ربع القرن من السنين التي تفصل بين عمريهما. واليوم ظهرت في حياته مرة أخرى، ظهرت من بعد غيبة،عادت الفتاة "ذات العيون العسلية" التي يبدو أنها تحبه. وعليه أن ينتظر مغيب الشمس؛ كي يذهب لمقابلتها. فمهما حاول الامتناع عنها، أو عن مقابلتها، لن يستطيع؛ إذ إنه يحبها بما لا يتصوره عقل، ولذا يضعف في حضرتها!
قرابة العشر سنوات.. وأنا أعشقها. حاولت كثيرًا أن أمسك يدها.. وهي تجلس إلى جوارى، أو تسير بجانبي.. إلا أنها رفضت! كانت تأبى دائما.
في مرة حاولت بعنف أن أنال كفها أستدفئ به.. صرخت في الطريق : لأ..لأ!
بعد ذلك.. كنت أمشي أحسد أولئك الذين يمشون على كورنيش النيل.. وأياديهم متشابكة، حلمت بذلك كثيرًا معها.. لكنه حلم لم يتحقق! حتي عند عبورها الشارع.. كانت ترتبك؛ وهي تجهل تقدير المسافات. حاولت دون قصد أن أمسك بها؛ كي نعبر الطريق.. دون حوادث، ولكنها أبت.. وكادت أن تربكني؛ خاصة أننا كنا نجتاز الطريق بين السيارات.. التى كانت تنهب الشارع مسرعة.. ومستعدة أيضًا لالتهامنا.
كانت تنتزع يدها من يدي بقسوة غير مفهومة.. غير مبررة؛ لكنها تحبني.. هكذا قالت، لذا توقفت عن المحاولة.
كان يمشي إلى جوارها كالظل الخائب؛ الذي يتبع صاحبه دون شخصية تذكر. لقد اكتفي بذلك، فقد كانت سطوتها تشبه سطوة الديكتاتور في بلدان العالم الثالث، والذي يستطيع أن يُحيي ويميت! لكنه كقبول عامة الشعب مرارة الديكتاتورية قَبِلَ وجودها على تلك الحالة.
-"القبلة القبلة القبلة.. القبلة ان كانت للملهوف.. اللى ..."
أم كلثوم.. كثيرًا ما تآمرت عليَّ معها.. فقد كنت أسمع أغانيها كتلك الأغنية- والتي لا أعرف كيف مرت هذه الأغنية من مشايخنا؛ الذين يفتتون كل شيء بين حلال وحرام، وكيف لم يعترضوا عليها- وأنا أمشي معها.. أو أجلس أسمع صوت السيدة أم كلثوم قادمًا من أكشاك بقالة أو مقاهٍ أو من مراكب على النيل، وأحيانا بعدما نفترق.. كانت السيدة أم كلثوم "تعايرنى" عبر أغنية من أغانيها! كون أنني لن أستطع في يوم من الأيام.. أن أنال حبيبتي! قلبي كان يستشيط غضبًا.. فلدي حبيبة.. لا أستمع منها إلى كلام في الحب، لا تستطيع أن تبادلني هيامي بها، لا أستطيع أن أدنو منها! فقط هي تقول إنها تحبني. أم كلثوم
"كيّادة" أحيانًا!
توفي الأديب الكبير عبد الستار المعداوي، عن عم ناهز الثمانين، وكان كاتبًا ومترجمًا رائعًا؛ ترجم العديد من القصص والروايات والأساطير. بعد شهرين من وفاته قرروا في المنتدى الثقافي الذي يرتاده تأبين الفقيد، وكان المنتدى الثقافي الذي اعتاد الذهاب إليه، وفيه قابل الفقيد أكثر من مرة، واستمع لحديثه العذب. وقد اعتاد الذهاب لهذا المنتدى؛ كونه يقع في شارع فريد الشولي. ولعشقه للكاتب الكبير وللشارع أيضًا قرر الذهاب إلى التأبين.
عندما ذهبتُ.. وجدتُ سيدةً جميلةً بيضاء.. في الخمسين من عمرها، وقد احمرت عيناها الخضراوان احمرارا شديدًا، من شدة البكاء.. فاقترب لونهما من لوم الدم. كانت تجلس على منصة التأبين، أدركت على الفور أنها زوجة الفقيد، ولأنني كنت رأيته أكثر من مرة.. وكان كهلًا.. تعجبت من أن تكون زوجته! قمت بتصويرها وهي تبكي وتركت التأبين.. وما ألقي من كلمات في تبجيل الفقيد.. وتابعت السيدة بعيني، أحصي حركاتها.. وسكناتها.. كانت شديدة الحزن، ولم تتوقف عن البكاء! حتى عندما جاء دورها لتلقي كلمتها.. تحدثت بإنسانية ورقي عن زوجها! وعندما جاء دور الناقد الكبير عبد الودود.. وكان أستاذًا زميلًا للفقيد في نفس مؤسسته التعليمية، وفي مثل عمره تقريبًا. عرَّج على قصة زواجه.. فأوضح أنه كان رافضًا للارتباط؛ معللًا ذلك بأن وجود الأنثي في حياة الكاتب تعطله كثيرًا.
-هات الفلوس، وهات التحف والمقتنيات.. وخليلك الولد مش عاوزاه.
ثم ضحكت.. وأدركت وقع الصدمة عليه فاستدركت محاولة تخفيف ما حدث عليه:
-أنا مش عاوزه حاجه.. أنا عاوزه نبقي كده بس.
صدم، واهتزت الأرض من تحت قدميه. عبر بها الشارع الذي عشقه كثيرًا، والذي ارتبط بوجودها معه، فكلما دخله من بدايته تذكرها، وكلما دخله أيضًا من الجهة المقابلة راودته صورتها عن خياله. فلقد كان شارع تقابلهما دائمًا، وهو ذاته الشارع الذي أحبها فيه وأقام لها معبدًا.
-لم يتحمل قلبه الحنون وجودها كطالبة في مؤسسته التعليمية، ثم التحاقها بالعمل كمعيدة معه، فأتى إليَّا ذات يوم قائلًا:
-سأتزوج يا دكتور (هكذا كان الصديق يكمل حديثه في التأبين).
-خبر جميل يا دكتور معداوي، ومن سعيدة الحظ تلك التي استطاعت إخراجك من صومعتك إلى معيتها؟
-إنها ذات العينين الخضراوين.
-أووه؛ ولكن الفرق بينكما..هل فاتحتها؟
-نعم، وقد ضحكت.. ثم صمتت خجلًا!
-على بركة الله.
حسبتُ الفرق بين عمريهما وعمرينا؛ لقد كان الفارق أكبر.. من الفارق بين عمري وعمر "ليلى "
أو “My night” .. كما كنت أفضل أن أناديها! فرحت ُجدًا؛ ثمة بصيص أمل من نورٍ.. منحتني هذه اللحظة!
جلس ذات مرة في حافلة للمواصلات العامة، قطع تفكيره العميق في طبيعة فتاته حوار بين شابين جلسا خلفه، تنصت قليلًا كي يستمع، تنصت كثيرًا؛ مركزًا تفكيره في الحوار
-من أين تأتي يا صديقي؟
-أقولك الصراحة من بيت واحدة سيدة “ Free” ، تعرفت عليها.. وعزمتني في بيتها، ذهبت هناك عدة مرات، أقضي وقتًا جميلًا في بيتها، أفرغ همومي هناك ثم أنزل.
-هو بيت مشبوه تقريبًا؟!
-ليس بالضبط هكذا، لكنه بيت حر.. مسموح فيه بما هو ..ممنوع في البيوت الأخرى.
-لماذا تذهب إلى هناك، ألم تكن على علاقة بفتاة اسمها...؟!
-(مقاطعًا حديث صاحبه فجأة كي لا يكمل) السيدة عندها بنت جميلة، إنها تتركنا نجلس على انفراد، أحمل شيئًا من الطعام، وقليلًا من الهدايا، وقد أترك بعض الأموال .. قبل أن أغادر.. (ضاحكًا) عندما تريد أن تذهب إلى هناك.. هو أول بيت.. على المنزل الثالث للطريق الدائري. وعندما تطرق الباب .. وتفتح لك السيدة.. قل لها: أنا صاحب ميلاد "يبدو أن هذا اسمه" (انتابه ضحك هستيري)
-أفهم أن الطريق سالك إلى هناك.. ولا يوجد مشاكل. دا كلام.. تروح أماكن مثل هذه .. أعطني سببًا واحدًا ل....
-(مقاطعًا حديث صاحبه مرة أخرى بغية عدم الخوض في ثنايا الموضوع) عندما لا تجد حبيبتك بين يديك، اذهب إلى أي امرأة أخرى، أول امرأة تقابلها في الطريق؛ يكون في صدرها الرغبة إلى صدر رجل. خذها في صدرك، ثم أغمض عينيك، واستحضر صورة حبيبتك، ولا تفتحهما.. إلا عندما تنتهي.
صدمتُ.. ولم يتحمل قلبي الضعيف أيضًا، وظللتُ أسبوعًا كاملًا بلا نوم.. بلا طعام، وتوقفت دون إرادة مني.. عن الشراب أيضًا. فلقد كان رفضها بهذه الطريقة هزيمة كاملة، عرفت بعدها مرارة الحياة وقسوتها. تركتها يومئذ تعبر الشارع .. ووقف مكاني متسمرًا..لا أستطيع المشي يمينًا أو يساراً..وفي أذني ..كانت جملة واحدة تتردد: خليلك الولد.. خليلك الولد.
أحس بانكسار لم يستشعره من قبل؛ سحقته تمامًا. لم يعرف دورة الحياة كيف تبدأ وكيف تنتهي، لم يدرك القاعدة وما يشذ عنها. كادت رأسه تنفجر، وقلبه آخذ في التفحم. وهو في الطريق إلى بيته فقد القدرة على التركيز، أخذته قدماه إلى بيت جده لأمه؛ الذي كان يقضي به معظم وقته حينما كان صغيرًا. بالضبط أراد العودة إلى طفولته، إلى براءته، إلى جهله الارتباط بأنثى. لكن جده قضى منذ سنين. أوقفه السكان، وأدركوا فقدانه التركيز. وبعد مصمصة للشفاه، وكثيرًا من عبارات الشفقة، وبعض النسوة دعوا له دعاء الاستصعاب : "اللَّهُمَّ لا سَهْلَ إلا ما جَعَلْتَهُ سَهْلاً وأنْتَ تَجْعَلُ الحَزَنَ إذا شِئْتَ سَهْلاً"، عل الله يفك ما بعقله من كرب. وفي النهاية استطاعوا بوسيلة ما الوصول إلى أهله، الذين بدورهم لم يجدوا حلًا لأرقه الدائم، وهذيانه المستمر، وحنقه المتزايد على العالم، سوى ادخاله المصحة.
أذكر.. أنني في اليوم الأول لي فى المصحة الخاصة.. والتي كان يديرها أشهر أطباء الأمراض العصبية والنفسية، طالعني الطبيب.. وبعد حوارات متعددة ..وأسئلة كثيرة.. وصف حالتي بأنها نوع من الاكتئاب.. أسموه "الاكتئاب ثنائي القطب"، وهو قد يتدهور ويؤدي إلى الشيزوفيرينيا -اضطراب نفسي يتسم بسلوك اجتماعي غير طبيعي، وفشل في تمييز الواقع-. وقال الطبيب إن الأعراض الشائعة لهذا المرض الوهام، واضطراب الفكر، بالإضافة إلى انخفاض المشاركة الاجتماعية، وانخفاض التعبير العاطفي وانعدام الإرادة.
ثم تركني في رعاية ممرضين؛ يتناوبان رعايتي ساعات اليوم؛ لما لي من ميول انتحارية.. تصاحب هذا المرض. هكذا قال الطبيب!
وعقب مغادرته لحجرتي.. تناولت العلاج..وكان مفعوله لم يبدأ بعد، وجدتني أريد أن أصرخ في هذا العالم، أصرخ معلناً كرهي له.. كرهي لهذا الوجود..مقتي لحياة الجسد بلا روح.. مقتي للكائنات التي تتلاعب بقلوب بعضها، معلنَا كفري بكل كائناته البشرية الحمقاء، تلك التي لا أعرف كيف تفكر لكي تعيش!
وكيف تستحل الحياة على جثث الآخرين.
أتخيلتني درجة من سلم من الجثث تصعد عليه فتاتي إلى حيث لا أدري، صرخت بصوت عالٍ!
قام الممرض من كرسيه ثم اتجه له، وأمسك بيده، وثنى ذراعه خلف ظهره، حتى أحدث صوت طقطقة عظام، ثم ضربه بكفه على مؤخرة رأسه عدة مرات متتالية، محدثًا أصواتًا كمدفعية الحروب، قائلًا له:
-نام يا بن ال...، عاوزين ننام يا بن ال...، عارف يا ...أمك لو ما نمتش.. هاطوحك من هنا.. وأقول: إنك انتحرت.
ثم تبع ذلك بعدد من الصفعات على وجهه، أحدثت شررًا في عينيه، مازال ينتابه كل فترة يذكره بما حدث! والحقيقية أن كل صدغ من صدغيه نال نصيبًا متساويًا من الصفعات، فلقد كان الرجل عادلًا في ذلك.
صمت وأدرك أنه فقد كرامته، وأنه أصبح تافهًا لا قيمة تُذكر. وتَذكر كيف كانت الأيام الخوالي، وكيف كان الناس يحترمونه ويجلونه، لما عرف عنه من حسن أخلاق، وقيمة رأي. لكنه الحب عندما يكون في غير موضعه أحيانًا.
عقب انتهاء أحداث هذه القصة، سيصل الحوار التالي إليَّ عبر موقع من مواقع التواصل الاجتماعي، وذلك عن طريق إحدى صديقاتها، التي كانت قد حكت "ليلى" لها عن عشقي وهيامي بها. سوف تبحث عني تلك الصديقة، وتحدثني.. تنقل لي حوارها مع خطيب "ليلى" الذي ارتبط بها في فترة مرضي. هذا الحوار الذي سيجعلني أنتصر لخياري في نهاية القصة، بل وسيجعلني أفرح في ضربة القدر لها، فلقد كان " جَزَاؤُه مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ "
-أنت خطبت " ليلى"؟! خطبت صديقتي وأعز صاحباتي، مع أنك كنت ماشي معايا أنا.. من سنتين!
-عارفه لو فتحتي بقك.. هأموّتك.
-تخطب صاحبتي، بعد ما كنت معشمني أنا! دا أنا عملت كل اللي أنت عاوزه..
-بصي بقي.. لو "ليلى" عرفت إن أنا كنت ماشي معاك.. هأبهدلك، هأنشر صورك.. ها صورك (وأشار بإصبعه الإبهام للخلف، بعد أن أغلق قبضة يده تاركًا إبهامه يشير) صورك اللي معايا على النت، ومش هاخليكِ تنزلي من البيت.. يااللا غوري في داهية من قدامي، ما أشوفكيش.. إلا لما أبقى أحتاجك، هابقى أندهلك.
بينما كانت حبيبته تتوهم أنها تنعم بخطبتها، كان يقاوم الأدوية النفسية مثل أقراص "أولابكس" بأعراضها الجانبية كالنعاس، والدوخة، والرجفة، وتفقد الإنسان شهيته، وتستحضر شيخوخته. والتي أحيت فيه حشرة "كافكا" حتى صار شبيهًا بها(1). حاول كثيرًا أن يقوم بسحبها من جسده رويدًا رويدًا؛ حتي يتعايش بدونها. ولعدة أشهر بعد ذلك اتخذ لنفسه جدولًا زمنيًا كي يوقف تناوله واحتياجه لهذه الأدوية. تلك الصفعات التي نالها من الممرض في المشفى جعلته يحاول أن يبدو متزنا؛ حتى يتمكن من مغادرة هذه المصحة، التي ظاهرها الجنة، وباطنها العذاب.
هذه الصفعات جعلته يتصنع الاتزان؛ صفعات الممرض التي أنهكته صرعت داخله صفعتها التي أهلكته.
صفق الحضور.. وأنا معهم أكثر من مرة؛ كلما ردد أحد المتحدثين مزايا الفقيد.. وقدراته العلمية، وحينما حانت لحظة تسليم درع التكريم..اختارت السيدة زوجته ابنهما لتسلم الدرع. تقدم من بين الصفوف شابٌ في مقتبل العمر، يحمل من أبيه تواضعه الشديد، ومن أمه شموخها ووفاءها!
لقد عادت، وعلى الطفل الذي داخله أن يحصى الدقائق حتى يحين موعد مقابلتها في شارعهما المعتاد، ذلك الشارع الذي تعمد أن يمر منه مرة في اليوم، وكان بمثابة حجة له.
-الإنسان يحمل ستة وأربعين زوجًا من الكروموسومات(2)، يأخذ ثلاثة وعشرين زوجًا من أبيه، ومثلهم من أمه، هذا ما تحويه البويضة التي تتكون في الرحم..
تذكرتُ مدرس العلوم عندما كنتُ صغيرًا.. حينما قال ذلك، وشردتُ في البويضة الملكية التي تتكون الآن في رحمها.. والتي لا تستحق رجلًا غيري يبني بها، فقد يكون طفلاً بأبهة حورس، وبقوة جلجامش، ذلك الطفل الذي ينقذ العالم من الطوفان. لكنها آثرت أن يجتاح العالم الطوفان، ويبحث الناس عن منقذٍ يصنع سفينة نجاة فلا يجدونه، وعبرت الشارع ضاحكة:
خليلك الولد.
خليلك الولد.
"...عاد كأن شيئا لم يكن وبراءة الأطفال ..."،
ومازالت نجاة تنشد رائعة نزار.. تذكرتُ أنها هاتفتني لتخبرني أنها سوف تحضر لتراني؛ فلقد استوحشت غيابي. وها هي الشمس تميل للمغيب، وعليَّ أن أستقل سيارة إلى شارعنا؛ كي أراها فلقد وحشني حضورها البهي، كان لها دائمًا حضور الأنبياء.
ارتدى أفضل ما لديه من ملابس، متعطرًا بأجود العطور التي كان يقتنيها، ثم خرج من منزله، واستوقف سيارة، وعندما ركب فيها، أغلق عينيه، قائلًا للسائق:
-المنزل الثالث من الطريق الدائري يا أسطى.
................................
إشارات
(1) المسخ:( Die Verwandlung)
هي رواية قصيرة بالألمانية، كتبها الروائي الألماني فرانز كافكا، وفيها يتحول البطل "جريجور سامسا" إلى حشرة كبيرة.
(2) الكرُومُوسُوم (Chromosome) : حامل وناقل الصفات الوراثية في الكائنات الحية.



#أمل_سالم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- من الذي يستطيع أن ينظم مصر؟
- الخطاب / دين أم تاريخ
- ذاكرة الموتى
- أين تذهب يا بابا؟
- بدون وساطة العبث
- صور معتمة لذاكرة تامة الاستضاءة
- الرحلة
- صدفة
- غروب
- الشرك
- متى يستوعبون؟؟
- تعليقاً على خطابه
- الإبداع بين التناص والتلاص
- قواعد العشق الأربعون رواية صوفية أم تأصيل غربى لديانة متسللة ...
- مرثية ذات - مقطع من نص طويل-
- بهية طلب وأنجلينا جولى وما بينهما من هروب
- السد-الألفية/النهضة-مشروع أممى.
- العمالة الشريفة
- هزيمة ونكبة
- قرون استشعار


المزيد.....




- رسميًا.. جدول امتحانات الدبلومات الفنية 2024 لجميع التخصصات ...
- بعد إصابتها بمرض عصبي نادر.. سيلين ديون: لا أعرف متى سأعود إ ...
- مصر.. الفنان أحمد عبد العزيز يفاجئ شابا بعد فيديو مثير للجدل ...
- الأطفال هتستمتع.. تردد قناة تنة ورنة 2024 على نايل سات وتابع ...
- ثبتها الآن تردد قناة تنة ورنة الفضائية للأطفال وشاهدوا أروع ...
- في شهر الاحتفاء بثقافة الضاد.. الكتاب العربي يزهر في كندا
- -يوم أعطاني غابرييل غارسيا ماركيز قائمة بخط يده لكلاسيكيات ا ...
- “أفلام العرض الأول” عبر تردد قناة Osm cinema 2024 القمر الصن ...
- “أقوى أفلام هوليوود” استقبل الآن تردد قناة mbc2 المجاني على ...
- افتتاح أنشطة عام -ستراسبورغ عاصمة عالمية للكتاب-


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أمل سالم - فصام