أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - نوال السعداوي - البحث عن مأوى بالليل أم نسيم البحر؟














المزيد.....

البحث عن مأوى بالليل أم نسيم البحر؟


نوال السعداوي
(Nawal El Saadawi)


الحوار المتمدن-العدد: 5937 - 2018 / 7 / 18 - 12:21
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
    


يوم 16 يوليو 2018، غادرت شقتى بإحدى العمارات الشاهقة بالقاهرة، التى بنيت خلال الانفتاح فى السبعينيات والثمانينات، حين انفجر جشع التجار، وما أطلق عليهم رجال الأعمال، يتنافسون على خطف الأرباح من التجارة بالسوق الحرة، التى لم تكن إلا حرية النهب محليا وعالميا، ارتفعت طبقة من أصحاب المليارات لا يقرأون ولا يكتبون، وإن حملوا شهادات الطب والهندسة والمحاماة، باعوا الشهادات وتاجروا بالصحة والقانون والدين والأخلاق، ضاربوا فى البورصة، أرسلوا أولادهم الى أمريكا، وارتفعت قيمة كل أمريكى يلمع وينطق اللغات، وانخفضت قيمة العقل المصرى والكتابة باللغة العربية.

أصبحت أنا من طبقة المفكرين الفقراء، أكتب وأنشر أفكارى فلا يربح إلا الناشرون فى الداخل والخارج، تحول كل شيء إلى سلعة بالسوق أرخصها الإنسان، شعرت بالغربة، عشت طفولتى فى أسرة تحترم الأدب والفن وتحتقر التجارة والمال، كنت أسمع أبى يقول عن تاجر ثرى بالموسكى حذاء مليء بالفلوس لا يقيم اعتبارا إلا للقرش. ألهذا لم أقدم على الزواج إلا من فدائيين، يتطوعون بحياتهم فى سبيل الوطن، لم يكافئهم الوطن إلا بالسجن أو الموت، وخلعت مهنة الطب مصدر الثراء والقصور تحوطها الحدائق المعبأة بعطر الفل والياسمين، واقترنت بالكتابة والإبداع، فأصبح الفقر مصيري، مع القهر وقضايا الحسبة، أسكن فى شقة من غرفتين معلقة بالدور السادس والعشرين، المصعد معطل ومواسير الماء تخر، الحيطان مبللة، وأسلاك الكهرباء عارية، العمارة كلها مهددة بحدوث مس كهربى والاحتراق، بما فيها مكتبتى الغالية وكتبى العزيزة. غادرت الشقة عن طريق السلم اللولبي، هبطت الأدوار الستة والعشرين، بقوة الحياة وغريزة البقاء، لم أفكر هل يمكن صعودها إن أردت النوم فى فراشي؟

كنت فى طفولتى وصباى أطل من نافذتي، بالدور الأول، على المزارع الخضراء، تدخل أشعة الشمس والهواء النقى الطلق إلى كل أركان البيت، لكن الأحوال تغيرت بسرعة غريبة، واختفت الخضرة والأشجار، زحفت الخرسانة والطوب الأحمر، وانتصبت الجدران الأسمنتية تسد الهواء والشمس.

أصبحت طبيبة شابة، بهية الطلعة، مفعمة بالأمل والحب، محاطة بالدم والوجع، لا أسمع إلا أنين المرضى والمريضات، وفى منتصف الليل أصحو أبحث عن القلم، أخط به على الورق آلامى وأحزاني، كان حزنى الأكبر هو اختفاء الشمس وراء الجدران العالية، وانعدام الهواء، أصبحت أنام وأحلم بالشمس والهواء النقي، أمشى فى الطرقات باحثة عن شعاع من الضوء ونسمة هواء.

هكذا وجدت نفسى بالدور السادس والعشرين، بأعلى بناء فى القاهرة، من نافذتى العالية أرى السماوات والشمس والهواء، لا يعوقنى جدار، تصورت أن الحياة ترد لى الجميل، وتحبنى كما أحببتها، وتمنحنى أشعة الشمس والهواء النقي، غير المحمل بأتربة الشوارع ولا ذرات الرصاص والقصدير والحديد، راحت ذكرى السنوات التعيسة التى كنت أفتح فيها النافذة فلا أرى إلا جدارا عاليا ممدودا الى ما وراء البصر، حين كانت الصحف تندفع من تحت عقب بابى الخشبى المغلق، ومعها تراب وصهد وهباب، تحمل صفحتها الأولى صورة الحاكم المصري، فاتحا فمه الواسع بابتسامة عريضة، يتنزه مع صديقه الأمريكى فى الحديقة على شاطئ النيل. كنت أعرف أن الاستعمار والنهب الخارجى لا ينفصل عن البطش والنهب الداخلي.

فى الدور الأرضى بالعمارة ، يوم 16 يوليو 2018 ، تجمع بعض السكان البؤساء أمثالي، الذين يسكنون الأدوار العليا، ويعانون تعطل المصعد، وترشح الحيطان من مواسير الماء بالدور الواحد والثلاتين، أخذنا نبحث عن مجلس إدارة العمارة أو ما يسمونه اتحاد الملاك، الذى يتولى جمع الأموال من السكان كل شهر، مقابل خدمات الأمن والنظافة، لم نجد إلا أمين الصندوق الذى قال إنه غير مسئول، وسألته طفلة بالمدرسة الابتدائية: ولماذا تجمع الأموال منا كل شهر إذا كنت غير مسئول؟ وسأله موظف بأحد البنوك: ولماذا رفضت تطوعى لمراجعة الحسابات؟ وصاح السكان: يجب أن نشكل اتحاد ملاك جديدا.

أصبح النقاش محموما والهواء مكتوما والمصعد فاقدا الحياة، لم أستطع الصعود الى شقتي، فخرجت فى الليل أبحث عن مأوي، يراودنى الهاجس: لو كنت من زملائى الأطباء غير المفكرين هل كنت أبحث عن مأوى بالليل البهيم، أم أستلقى على شاطيء البحر أستنشق النسيم؟.



#نوال_السعداوي (هاشتاغ)       Nawal_El_Saadawi#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قانون مدنى واحد لجميع المصريين
- قوة الفكر فى المستقبل القريب
- البحث عن فيلم سينمائى جيد
- تحرير النساء وقضية الاشتراكية
- من أجل ما نفعل؟ أو من أجل ما نكون؟
- إبداع المرأة وسجن اللاوعى
- ما يفوق العمر والأنوثة والرجولة
- السنوات المسروقة من العمر
- المكبوت تحت الضلوع يخرج للشارع
- ما لا ُيكتب لا يوجد أبدا
- المعارضون للصهيونية بالبرلمان الإسرائيلى
- بعد ازدراء الأديان .. ماذا نشهد من ظواهر؟
- أى أنواع الموت يختار؟
- حتى يا جوافة؟
- هزائم متكررة لم تكسر القوقعة
- القارئات والقراء والإرهاب
- كيف تصنع المرأة رجلا إرهابيا؟
- الخوف من طرح الأسئلة المحرمة!
- تعريف جديد للأدب والكتابة
- عن الألم والكتابة الشخصية


المزيد.....




- أطلقوا 41 رصاصة.. كاميرا ترصد سيدة تنجو من الموت في غرفتها أ ...
- إسرائيل.. اعتراض -هدف مشبوه- أطلق من جنوب لبنان (صور + فيدي ...
- ستوكهولم تعترف بتجنيد سفارة كييف المرتزقة في السويد
- إسرائيل -تتخذ خطوات فعلية- لشن عملية عسكرية برية في رفح رغم ...
- الثقب الأسود الهائل في درب التبانة مزنّر بمجالات مغناطيسية ق ...
- فرنسا ـ تبني قرار يندد بـ -القمع الدامي والقاتل- لجزائريين ب ...
- الجمعية الوطنية الفرنسية تتبنى قرارا يندد بـ -القمع الدامي و ...
- -نيويورك تايمز-: واشنطن أخفت عن روسيا معلومات عن هجوم -كروكو ...
- الجيش الإسرائيلي: القضاء على 200 مسلح في منطقة مستشفى الشفاء ...
- الدفاع الروسية تعلن القضاء على 680 عسكريا أوكرانيا وإسقاط 11 ...


المزيد.....

- كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل ... / حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
- ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان / سيد صديق
- تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ ... / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- المثقف العضوي و الثورة / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- الناصرية فى الثورة المضادة / عادل العمري
- العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967 / عادل العمري
- المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال ... / منى أباظة
- لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية / مزن النّيل
- عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر / مجموعة النداء بالتغيير
- قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال ... / إلهامي الميرغني


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - نوال السعداوي - البحث عن مأوى بالليل أم نسيم البحر؟