أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - عباس علي العلي - اللغة ميدان الصراع الفكري















المزيد.....


اللغة ميدان الصراع الفكري


عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني

(Abbas Ali Al Ali)


الحوار المتمدن-العدد: 5922 - 2018 / 7 / 3 - 23:41
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


كانت اللغة قبل نزول القرآن الكريم بعيدة عن كونها الحاضن الأساسي للصراع الفكري والعقلي بين العرب فكانت بالرغم من دورها الرابط بين مقتسمات المجتمع العربي أداة فكرية بيدهم تقرب ولا تبعد وتجمع الناس على قواسم مشتركة من الفهم الفكري للاِياء الحولية والمحالية,فكانت عكاظ وأسواق الشعر والفخر وقصص الأولين من أساطير أو مأثورات شعبية تقيد العرب من الأنخراط في الشرذمة الفكرية والمعرفية مع تنوعهم باللهجات والمذاهب الدينية والعقدية ولكن بقيت وحدها العربية القاسم المشترك بينهم,حتى جاء الإسلام بالطارق الذي أيقظهم من الغفلة والرتابة الفكرية ونزع عنهم القصور الفكري في أستكشاف ما هو أبعد من الفخر والشحر والأساطير محدث بذلك زلزال في الوعي الجمعي العربي قاد إلى تمسك العرب بزمام المبادرة التي أتيحت لهم من خلال تكاليف الرسالة الجديدة وأعباءها.
هنا ظهرت الحاجة لدور فكري أخر يبعد في مداه عن تلمس الحاجات الرتيبة للمجتمع العربي القديم بما فرضت الرسالة من أشتراطات جديدة ومستحدثة لم يألفها العرب سابقا تقوم على حتمية الأنتشار الفكري وتبليغ الدعوة الرسالية الجديدة مما حتم على العرب والعربية أن تستجيب بالكم والكيف وبالمدى الذي جاءت به الرسالة ومقتضيات العمل بها {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ }الجمعة2,فتحول الأميون من حالة الغفلة والضلال إلى مجتمع مستوجب عليه أن يكون قاعدة للفكر الرسالي وناقل لها على الوجه المطلوب.
لقد كان العرب في زمن الصدر الأول من الرسالة وقبل أن تنتقل عاصمتهم لمدينة أخرى غير المدينة المنورة في مرحلة تأسيس وبناء هيكلي لغوي جديد حداثي بالنسبة لمرحلة ما قبل الرسالة,أستلزمت فيه ضروريات ومتطلبات المرحلة البحث عن ما يمكن أن يسد النقص الذي أستشعره العرب المسلمون الأوائل من تحديات فهمية مقبل ما جاءت به الرسالة وما طرحته من مفاهيم ومقدمات لم تكن متحسب لها مسبقا,فكانت مرحلة المدينة المنورة وخاصة بعد أنتقال الرسول الكريم صلى الله عليه وأله إلى الرفيق الأعلى وهو الذي كان المعلم الذي ترد إلية الأشكاليات بمختلف نواحيها ومنحاها,ووجد العرب المسلمون أنفسهم بحاجة إلى من يكون الضابط الرابط الذي يرجعون إليه في مسألة التأويل والتفسير والبيان بالرغم من أن القرآن الكريم ولا الرسول العظيم تركا هذه المسألة ولكن الصراع الفكري بين الأتجاه المحافظ الذي لازال يدافع عن قيمة العربية وقيم ما قبل الإسلام بزعم أن العرب تدور مع قريش حيثما دارت وبين التيار العلمي المفوض ربانيا بالمهمة على أساس أن الهداية الفكرية وظيفة منفصلة عن وظيفة البليغ والأعذار والأنذار كما في دلائل النصوص القصدية{وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ }الرعد7,ففسرت الواو بالعطف المحلي الذي يجمع بين الأنذار والهداية في حين أن تيار الهداية والمتابعة الرسالي كان يفسرها بقصديتها بواو الأضافة التفريقية كقول جاء زيد وعمر فلا زيد هو عمر ولا عمر هو عين زيد ولكن الواو أفادت المصاحبة فيكون أنت منذر ويصاحبك هاد أخر لكل قوم,وحيث الأشارة هنا في التعاقب الزمني أي لا يمكن أن يكون الهاد موازيا بالحضور الزمني للمنذر ولكن في مقام المتابعة الزمنية.
هذا الصراع أسس لمنهج جديد غير المنهج الذي أرادته الرسالة بنصها {وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمْ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ }الجاثية17,فالعلم والمعرفة الفكرية الحديثة المستجدة هي التي فجرت الصراع وأطاحت بالمبدأ الأول التي تقوم عليه الرسالة {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ }آل عمران103, فالتفرق حصل في موضوعية الهداية وليس في موضوعية الأنذار وهذا ما يعزز رأي المفرقين بينهما وتخصيص كل مصطلح بقصدة لمرحلة بعينها,فالعلم الذي أحتوته الرسالة كان مصدر تفريق وتفرق بين المنهجين وهو محسوب في باب البلاء الأختباري الألهي الكاشف عن الحسن والقبيح في الكسب والتحصيل {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ }المائدة48.
لقد كانت مرحلة التأسيس مرحلة أنتقالية مضطربة تنوعت في أضطرابها الفكري بين التمسك بالقديم والشكلي والمحافظة على الصورية وبما فيها من مبدأ التمسك بحجية الظواهر وبين مدرسة التدبر والتفكير والتعمق في الفهم على أساس كون النصوص اللغوية وإن جاءت بلغة العرب فهي ليست وليدة أفكارهم بل وليدة أفكار من ليس كمثله شيء,لقد الصراع إذن صراع واعي لما يريد من كلا الجانبين وأتجه كل منهم لتأسيس مصطلح علمي يعزز الفهم الفكري لكل مدرسة ولكن الذي يجمع بينهما هو عملية التأسيس نفسها.
لقد كانوا واعين بأنهم بصدد تأسيس خطاب علمي مستحدث في اللغة ورأوا أن قانون حياة اللغة يقتضي أن تثري اللغة نفسها بنفسها لتواكب ما يجدّ، وتفرض نفسها كأداة بإمكانها أن ترتقي إلى ما يرغب فكر متكلميها في التعبير عنه، فأسسوا ثوابت نظرية لخلق المصطلح قوامها ثلاثة مبادئ أساسية تمثل في:‏
1-الاتجاه إلى رصيدهم اللغوي يبحثون فيه عن مقابلات للمفاهيم العلمية المنقولة فأسعفتهم اللغة "بما كان العربي يستعمله للتعبير عن واقعه وعما يعتري حياته، من ذلك نجد أسماء النبات وأسماء الحيوانات الموجودة في الرسائل، كرسالة الإبل للأصمعي. ‏
2-الاتجاه إلى توليد مصطلحات جديدة إن لم يجدوا المقابل لها في الرصيد اللغوي. وللتوليد عندهم مستويان: مستوى عربي فصيح ومستوى أعجمي (والمولَّد من الألفاظ هو المستحدث، أي الذي لم يكن موجوداً في معجم اللغة والذي وقع توليده تحت ضغط الحاجة). ولتوليد المصطلح طُرق عديدة يمكن تصنيفها إلى صنفين: توليد شكلي وتوليد دلالي.‏
يعتمد التوليد الشكلي على ما توفره اللغة من إمكانيات ذاتية للتطور ويتمثل في تغيير شكل الكلمة بالاشتقاق أو بالتركيب أو بالنحت. هذا النوع من التوليد يوقر إمكانيات كبيرة لخلق المصطلح انطلاقاً من الوحدة المعجمية البسيطة ومن التغيرات الشكلية التي تطرأ عليها وفقاً للموازين الصرفية، فهو استحداث في صلب اللغة، اعتماداً على قواعد اللغة.‏
أما التوليد الدلالي فهو كذلك وسيلة من وسائل الخلق المعجمي ويتم عن طريق تحويل دلالة الألفاظ من معناها الوضعي إلى المعنى الاصطلاحي.‏
إن الحاجة هي أم الاختراع كما يقال، والحاجة هي التي تدفع الباحث أو الناقل إلى استعمال المجاز لإيجاد المقابل للفظ الذي ينقله. إن إيراد المعنى المقصود بغير اللفظ المعتاد هو اجتهاد يقوم به العربي حتى يتجاوز ما يعترضه من صعوبات.‏
3-الاتجاه إلى خارج حدود اللغة الذاتية من خلال تداول بما وفد بوفادة الوافدين إلى الدين الجديد وما حكلوه من مباني لغوية شائعة في قوامسيهم وما فرضته الحاجات اليومية للتعامل مع الأقوام الوافدة، ويتفرع إلى الدخيل والمعرب.‏
هكذا نشأ المصطلح الفكري العربي الجديد مستجيبا لأسس الحداثة التي قادتها الرسالة وما أفرزه الأختلاف على العلم وفيه وما نتج عنه من صراع فكري وأيدلوجي بين التيارين المحافظ والمتابع للرسالة حسب الحاجات وأستخدم الجديد من العلم المعرفي والفكري كسلاح في ميدان الصراع بينهما.
لقد كان العرب مدركين أنهم بصدد تأسيس مصطلحات لم تكن موجودة في لغتهم فأخضعوا اللغة للتعبير عن هذه الإحداثات الجديدة فخضعت لهم واستجابت لرغباتهم الشيء الذي يدل على أقحام اللغة في ساحة الصراع وأستخدامه كأداة تفريق بينما كانت في السابق أداة جمع وأستمر الصراع زمنيا حتة أشتعال نار الفتنة السياسية في زمن الخليفة الرابع الإمام علي عليه السلام فتكشفت الأوراق وظهر الصراع الفكري إلى العلن ليؤسس لمرحلة فكرية جديدة أشد فتكا في الوحدة الفكرية الإسلامية العربية ويتخذ مبدأ المواجهة اشاملة في كل الميادين ومن ضمنها اللغة أبتداءًً من معركة الجمل وما تلاها من فتن أسستها تلك المعركة ومهدت للتمكين من تكرارها على النحو الذي حدت مرات ومرات بين المسلمين أنفسهم الواقع أن لهذه المعركة أهمية فكرية واجتماعية تفوق مالها من أهمية سياسية وعسكرية,وسبب ذلك أنها كانت أول معركة تنشب بين المسلمين في تاريخ الإسلام،حيث اقتتل فيها أناس يؤمنون بدين واحد ويتلون كتاباً واحداً ويصلون إلى قبلة واحدة.
وهنا لابد للعرب المسلمين من أن يتجادلوا ويشتدوا في الجدال. فقد كانوا حائرين يتساءلون عن الحق في أي جانب يكون؟ ومثل هذا الجدل لا يصل بالناس إلى نتيجة عقلية حاسمة. فكل فريق يملك من البراهين ما يؤيد بها موقفه. ووقف كثير من الناس حائرين لا يدرون أين يذهبون, وإذ نرجع إلى أهل البصرة نجدهم منقسمين إلى فريقين,عثمانيين وعلويين،والجدل بينهم قائم على قدم وساق. والظاهر أن البصرة فاقت بانقسامها هذا أي قطر آخر,ففيها وقعت معركة الجمل، ولابد أن يكون فيها أناس يذهبون مذهب الناكثين للبيعة والخارجين على أمام زمتنهم، وآخرون يذهبون مذهب المتمسك بالمتابعة على النهج الرسالي والذين يرون أن الحق موكول إلى من أختصم الله به.
في مثل هذا الجو المشحون بالجدل المنطقي والعقائدي نشأ النحو العربي. ومن الطبيعي اذن أن يتأثر النحو بنفس المنطق الجدلي على وجه من الوجوه. ولعل هذا من أسباب مارأينا في الخليل من ميل شديد للقياس حيث استخدمه في النحو استخداماً واسعاً, ومهما يكن الحال فقد اشتهر نحاة البصرة بأنهم قياسون، إذ جعلوا للقياس المنطقي شأناً كبيراً في وضع قواعدهم، حتى أطلق عليهم لقب أهل المنطق. والمعروف عنهم انهم كانوا يضعون القواعد أولاً، ثم يختارون من الشواهد واللهجات ما يلائم تلك القواعد. فإذا اسمعوا اعرابياًَ ينطق بخلاف اقيستهم أهملوا كلامه وعدوه ملحوناً. أما إذا وجدوا الخلاف في القرآن أو في شاهد لايمكن تخطئته لجأوا إلى التأويل والتعليل.
بعد أن نشأ النحو في البصرة وترعرع، تناوله أهل الكوفة. وهناك ظهرت مدرسة في النحو لها طابع خاص. فقد أخذ نحاة الكوفة يعترضون على نحاة البصرة في إخضاع النحو للقياس،يقول أهل الكوفة إن القضايا النحوية سبيلها السماع والاستقراء لا الإمعان المنطقي في القياس. فهم يريدون أن يخضعوا في أحكام النحو للذوق الطبيعي، ويطرحون ما يحول دون إحساسهم بالطبيعة اللغوية من أحكام عقلية وأقيسة منطقية.
وهكذا أستمر النزاع الفكري والسياسي وولد صراعل مذهبيا أصله الأختلاف في فهم اللغة ودورها الغير محايد في نقل الفكر الرسالي إلى الناس دون مراعاة ما للفكر من خصوصية اللا مثلية له وأقحام الذات البشرية وميولها على مضمون الفكر الرسالي بغية تحقيق أهداف سياسية عقدية مذهية متسلحين في اللغة ذاتها معتمدين على ما أفرزه الصراع بين مدرسة الكوفة ومدرسة البصرة من نتائج,ليستمر الصراع حتى العصر العباسي وما تلاه وما سبقه هذا الصراع الذي تعمد بالدم والأرواح ما كان ليكون لولا العمل بالقياس بالرأي في التفسير والتأويل على يد من لا يمكنه ذلك تكوينيا وأمريا بالنصوص, يحدثنا أبو حيان التوحيدي في كتاب “المقابسات” عن بعض المناظرات التي كانت تعرض في القرن الرابع الهجري ويدور النقاش فيها حول المنطق والنحو,ونكاد نتلمح في ثنايا تلك المناظرات صراعاً فكرياً يشبه الصراع الذي نشب بين البصرة والكوفة قبل قرنين ,فقد كان بعض المشتركين فيها يريدون أن يصبوا أساليب اللغة العربية في قوالب المنطق الإغريقي، بينما كان البعض الآخر يريد الاعتزاز بخصائص اللغة العربية ويستنكر إخضاعها لمنطق غريب عنها,فيزيدوا من أغتراب الفكر عن اللغة فوق الأغتراب الأول ويخرجوا بذلك من كل ذوقية وقصدية رافت النصوص الرسالية.
لاحظ الباحثون المحدثون ان الصيغة النهائية التي جمد فيها النحو العربي متأثرة بالمنطق الأرسطوطاليسي تأثراً كبيراً. يقول الدكتور ابراهيم بيومي مدكور ان النحو العربي تأثر، عن قرب أو بعد، بما ورد على لسان أرسطو في كتبه المنطقية من قواعد نحوية، وأن المنطق الأرسطوطاليسي أثر في النحو من جانبين: أحدهما موضوعي والآخر منهجي. وأريد بالقياس النحوي أن يحدد ويوضع على نحو ماحدده القياس المنطقي.ومما يلفت النظر في كتب النحاة المتأخرين انهم يسلكون في بحوثهم مسلك المناطقة. وكثيراً مانجد القوانين المنطقية التي جاء بها أرسطو مسيطرة على عقولهم، كأنهم يتصورون القواعد النحوية تجري على نفس النمط الذي تجري عليه ظواهر الكون,ومن الجدير بالذكر هنا أن القوانين المنطقية القديمة ظهر بطلانها أخيراً،فهي لا تصلح اليوم لتفسير ظواهر الكون ,ولكن النحاة العرب والمستعربين لا يزالون مصرين على التمسك بها وهم لا يكتفون بالاعتماد عليها من الناحية الميتافيزيقية،بل نراهم يعتمدون عليها في تعليل قواعدهم النحوية أيضاً, وهذا دليل على اننا نسير متخلفين عن الركب العالمي بمراحل عديدة.
إن مدار الحديث عن قدرة أي لغة من اللغات على صياغة المعنى على حقيقته القصدية أو قصوره عنها إنما هو من القضايا الزائفة لأنه إشكال غير ذي موضوع، فما من لغة من لغات البشر إلا وهي في ذاتها مهيأة بالطبع والفهم الكلي بما هو مناسب لها حقيقيا لاستيعاب الفهم القصدي من الدلالات اللغوية ذاتها عن طريق التدبر المعمق المستحدث عما هو خارج الفهم الأولي المتعارف به وإنما هذه القدرة أو القصور في أهل اللغة لا في اللغة ذاتها,أي أن العامل البشري هو العامل الأساسي بصفته هدف الرسالة من خلال اللغة وبالتكوين العقلي يكون محور القصدية وعليه أن ينتبه لها ويتفهمها كما هي في ذهن الباعث لا في ذهنه هو ,وهذا هو الأساس الذي قام عليه الخلاف والأفتراق الذي حدث بعد مجيء العلم والتفرق به وعليه.
لو أنطلقنا من عالم اللغة وفنونها إلى عالم الألسنية ومدارتها نجد أن علاقة اللغة بالمنطق وكما صورها البصريون هي علاقة متلازمة من خلال الوجه الذي لا ينكره اللسانيون ويسلم به اللغويون هذا ما نراه جليا في قول الباحث جان سيرفوني إذ يقول في خصوص الملفوظية ما يلي((تطور الأبحاث المنصبة على منطق اللغة "علم الدلالة التوليدي"،النماذج القائمة على "فرض مفهومية" "CONCEPTUELLE ب. بوتييه POTTIER) تتضمن مكوناً أساسياً دلالياً -منطقياً ر.مارتان R. MARTIN) ينبغي التنبيه إلى أن مفهوم الموجه MODALETE ينتمي إلى ميداني اللسانيين والمناطقة، لكن المناطقة علماء المنطق) هم أول من أبدع هذا المفهوم الذي يظل واحداً من مفاهيمنا الأساسية، من جانب آخر، فإن المفهوم هو مصدر فرع كامل من فروع المنطق، أي المنطق الموَّجَّه MODALE. ومهما ذهب بنا الظن حول العلاقة بين المنطق وبين اللغة،ففي اللسانيات يبدو من الصعب والعقيم) إنكار أن عبارة "موجّه" لا تزال تحتفظ بشيء من دلالتها الأصلية، أما اللسانيون وعلماء المنطق فهم أبعد الناس عن رفض فكرة وجود علاقة بين المنطق واللغة، فتراهم يبحثون في اللغة بشكل دائم،عما ينشأ عن علم المنطق،وماهي مفاهيم وتعليلات وصيغ المنطق التي يمكن تطبيقها على وصف الألسن LANGUES وإلى أي مدى يمكن أن يصل هذا التطبيق). إذاً فهم مضطرون بالتالي، إلى إفراد مكان هام لدراسة الموجهات في أبحاثهم.‏))( الملفوظية - جان سيرفوني - ترجمةالدكتور قاسم المقداد دراســــــــة - من منشورات اتحاد الكتاب العرب 1998),هذا القول يقود إلى البحث عن مصطلح المفهومية من البناء اللفظي للغة والذي يمكن أن نصل إلية من الدلالات بأستخدام المنطق اللغوي,فاللغة في نظر اللسانيين تبقى بحاجة للمنطق للكشف عن المفهومية, ولكن المشكل في الأمر أن المنطق الرباني في النصوص القدسية وخاصة في القرآن الكريم يختلف عن المنطق اللغوي العادي من عدة نواحي من حيث الأرادة ومن حيث الأثر (القصد) ومن حيث الأسلوب عما هو نظيره في المنطق اللغوي المألوف.
فالمنطق الوضعي وخاصة في اللغة قد يتحلل أحيانا من قواعد ضرورية ومهمة في الكشف على الدلالات ويصب المفهوم من خلال قالب ضيق لا يتسع إلا للنتيجة المنطقية التي وضعت أصلا في القالب,بينما المفهوم القصدي الدلالالي في المنطق القرآني يسبح في فضاء أكبر وأكثر تحررا من مقابله البشري,يستطرد السيد جان سيرفوني فيقول((يمكن لوجهة نظر عالم المنطق حول الموجهات،أن تصبح نفسها توسيعية جداً إذا أخذت بعين الاعتبار كل التماثلات ANALOGIES الهامة نوعاً ما والتي فرغنا للتو من ذكرها، ومع ذلك فالألسني الذي يهدف إلى تضييق مجال الموجهات اللغوية يمكنه الاستلهام من علم المنطق لأنه يتضمن مفاهيم توجيهية نموذجية لا جدال فيها: وهي موجهات علم المنطق الأخلاقي. الموجه أساساً، عبارة عن تحديد يتعلق بحقيقة الجملة التي تؤثر به. والاستلهام من هذا التعريف المنطقي من شأنه أن ينطوي بدوره،بالنسبة للألسني، على تحديد "نواة صلبة" للموجه والالتحاق بوجهة النظر المنطقية الأكثر تضييقاً والمتعلقة بهذا المنطق. لكن من البدهي أنه على الألسني في هذين المسعيين أن يتنبه إلى الصرف وإلى التركيب والمعجم، في الوقت الذي يمكن فيه لعالم المنطق أن يتحلل من هذا القيد،لذا فإن مجال الموجه اللغوي سيكون مختلفاً بالضرورة -على الرغم من الروابط- عن مجال الموجه المنطقي.‏))(مصدر سابق),فهذا التحلل الذي يبدوا في صالح اللغة ومساعد لقدرتها في أنجاز وظيفة أظهار المفهومية هو تصور وهمي بحقيقة أن التضيق والقولبة وفق قوانين المنطق تستدعي أنتهاك هذه الحرية والحد منها لمصلحة المنطق ذاته وليس لمصلحة التأثيرية التي تمارسها اللغة على المتلقي وبذلك نحد من القدرة على الفهم أساسا عند المتلقي وتضيق على اللغة في أن تمارس دورها الوسيط الناقل والكاشف عن أرادة الله خاصة التي صبها باللغة وقصد بها تحصيل مفهومية معينة قد لا تتطابق مع النتائج المنطقية المتحصلة من نفس الهيكل اللغوي المطروح نصا,لذلك نراه يعود السيد سيرفوني ليقول في خلاصة ختامية للبحث أن((إنَّ الألسني الذي يسعى إلى تعريف مفاهيم فعّالة operatoires لا يمكنه الاستفادة من مفهوم الموجِّه إلا إذا قلل من عموميته، وإحدى الطرق الممكنة لذلك هي، قبل كل شيء، استلهام المفهوم المنطقي، والاهتمام الشديد بأقل الأدلة indice الشكلية لخاصيةٍ وتوجيهيةٍ معينة، وأيضاً وضع حدٍ،مهما كان واهياً بين الموجِّه من جهة والإنجازية performativite من جهة أخرى، وإذا ما اتبعنا هذه الطريقة فسنصل إلى تمييز الموجِّه عن الظاهرة العامة التي ينتمي إليها و التي يمكن تسميتها بالتوجيه modalisation وتعريفها على أنها انعكاس في اللغة لحقيقةِ أنّ مايمكن للإنسان أن يكونه أو يشعر به أو يفكر به أو يقوله أو يفعله يندرج في إطار منظور خاص.‏))(مصدر سابق),فالحقيقة التي توصل إليها إن منطقة اللغة سوف تؤدي إلى ما يسميه الباحث(المفهوم الخصوصي الذاتي للشعور والتفكير والقول والفعل) لما تلقاه من اللغة دون الألتفات إلى قصدية الموجه الذاتية وبالتالي الخروج عن أصل المفهومية الحقيقة المطلوبة من النص اللغوي,ويعد هذا أنعكاسا وأسقاطا للخصوصية الذاتية للمتلقي على عمومية القصد الذي أراده الموجه,وهذا يشكل تناقض حاد بين الأصل المؤثر للغة وبين النتيجة الفهمية له ويشكل تقاطع حاد بينهما يضع اللغة في مأزق التعدي على هيكلية الفكر ومن ثم التصرف بنتائجها على النحو الذي نريد لا على النحو الذي أريد له وبذلك تكون اللغة غير حيادية وتمثل أنحيازا للخروج عن الفكر وخاصة الرسالي وتحويل الصورة من التطابق اللازم في ذهن المتلقي إلى ما يشبه التمرد على النص القدسي ,وهذا ما يجر للخروج عن دائرة الإيمان الحقيقي بما في قواعد الفكر الرسالي من محددات ليصنع فكرا أخر يختلف بالخصوصية والصفات عن أصل الفكر الرسالي ومنطلقاته أي بمعنى أخر أنشاء دين شكلي يتضمن نفس الهايكل اللغوية ولكن يختلف عنه جوهريا بالقصد والنتيجة ,وقد حصل ذلك وبسببه أن تفرع من الصراع الفكري السياسي بين التياريين المحافظ على القيم الجاهلية وبين تيار المتابعة والممانعة فتمثل ذلك الصراع نتيجة بتفرق العرب المسلمون مذاهب شتى تعتمد على اللغة وتأويلاتها المنطقية الضيقة,مما أفقد العرب المسلمون القوة الأصلية التي جاءت بها النصوص مثال {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ }آل عمران103, فحبل الله هو القرآن الكريم لغة ودلالات ومقاصد وروح بما فيه التخصيص الوارد على الوظيفة التأولية,فكانت نتيجة ذلك ذهاب الروح من الجسد اللغوي للقرآن لصالح التمسك بروح اللغة البشرية وأحياز هذه اللغة للتيار المحافظ {وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ }الأنفال46.



#عباس_علي_العلي (هاشتاغ)       Abbas_Ali_Al_Ali#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المفهوم القصدي وعلاقته بالمباني ح2
- المفهوم القصدي وعلاقته بالمباني ح1
- الصفات الجوهرية للفكر الرسالي ح2
- الصفات الجوهرية للفكر الرسالي ح1
- صفات الفكر الرسالي وخصائصه ح1
- صفات الفكر الرسالي وخصائصه ح2
- صفات الفكر الرسالي وخصائصه ح3
- البناء اللغوي وعلاقته بالمفهوم القصدي ح3
- البناء اللغوي وعلاقته بالمفهوم القصدي ح2
- البناء اللغوي وعلاقته بالمفهوم القصدي ح1
- نظرية الدين للمال ورأس المال _ الإسلام نموذجا
- الإنسان وروح التدين جدلية أم أفتراض مسبق؟.
- ما فوق الخط الأحمر.
- إشكاليات العمل المدني بين الجماهير
- أوهام العقل البشري
- الخيارات المفتوحة والأحتمالات المغلقة ح2
- الأحتمالات المفتوحة والخيارات المغلقة.
- طعم الرمان _ فصل من روايتي (النرجس والرمان)
- الحضارة والزمن
- في الأنتظار ليلة سماوية


المزيد.....




- مادة غذائية -لذيذة- يمكن أن تساعد على درء خطر الموت المبكر
- شركة EHang تطلق مبيعات التاكسي الطائر (فيديو)
- تقارير: الأميرة كيت تظهر للعلن -سعيدة وبصحة جيدة-
- عالم روسي: الحضارة البشرية على وشك الاختفاء
- محلل يوضح أسباب فشل استخبارات الجيش الأوكراني في العمليات ال ...
- البروفيسور جدانوف يكشف اللعبة السرية الأميركية في الشرق الأو ...
- ملاذ آمن  لقادة حماس
- محور موسكو- طهران- بكين يصبح واقعيًا في البحر
- تونس تغلق معبر رأس جدير الحدودي مع ليبيا لأسباب أمنية
- ?? مباشر: تحذير أممي من وضع غذائي -كارثي- لنصف سكان غزة ومن ...


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - عباس علي العلي - اللغة ميدان الصراع الفكري