أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - سامي عبد العال - التَّفاهةُ والظُهور















المزيد.....

التَّفاهةُ والظُهور


سامي عبد العال

الحوار المتمدن-العدد: 5902 - 2018 / 6 / 13 - 16:09
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


التفاهة في تجلياتها اليومية هي ظاهرة المجتمعات الراهنة، إنَّها تحفظ وتعري وتغطي وتنتهك حياتنا بالمثل. لقد أصبحت فضاءً مراوغاً داخل العوالم الإلكترونية والتواصلية وفرصة لاستعمال السياسة على نطاقٍ أوسع، مثل حيل الهيمنة على العقول وتقليص قدرات التغيير والتحكم في معايير العمل والعلاقات والمؤسسات. ولذلك تبرُز التفاهة جانبها الشامل تعويلاً على أقل الأسباب والمظاهر أهميةً.

في ظل ثورة وسائط الاتصال تلتحم التفاهة ببيولوجيا الإنسان ككائن يُشابه ما يفعل. كأنَّه أحد الشخصيات الافتراضية التي تمحى وتتلاشى دون طائلٍّ. وجرَّاء التنوع المذهل للثرثرة والطرائف وأشكال السخرية والتهكم بات الانهماك في التوافه بارزاً. وامتدت على نحو صارم وجاد أيضاً إلى مواقع جديدةٍ.

ومن ثمَّ لن تدعك التفاهة وشأنك، لكونها تستطيع الظهور من حيث لا تتوقع. تمثل أقرب مسافة كخط واهٍ بينك وبين العالم، عقب لحظة وأخرى ستواجهك مراراً أمام فعلٍ أو حادثةٍ أو صورة أو دلالة غارقة في تبعاتها. وهي أيضاً تخرج بأشكال عملية ضمن تنوع الحياة ومجالاتها. فالإنسان صانع التفاهات بقدر ما هو صانع المعجزات، وتلك الأخيرة قد تتحول بدورها إلى سخافةٍ دون مفرٍ.

ضمن روايته " حفلة التفاهة " يقول ميلان كونديرا: تتبدى لي التفاهة الآن تحت ضوء مختلف تماماً عن ذلك الحين، إنها تحت نور أسطع وأكثر كشفاً. التفاهة يا صديقي هي جوهر الوجود. إنها معنا على الدوام وفي كل مكان. إنَّها حاضرة حتى في المكان الذي لا يرغب أحد برؤيتها فيه: في الفظائع، في المعارك، في أسوأ المصائب. وهذا غالباً ما يتطلب شجاعة للتعرف عليها في ظروف دراماتيكية للغاية ولتسميتها باسمها، ولكن ليس المقصود التعرف عليها فقط، إنما يجب أنْ نحبها، التفاهة، يجب أنْ نتعلم حبها.

أخطر شيء بشأن التفاهة هو تحولها إلى عمل يدافع عن كيانه وأشكاله وتصوراته. فقد أخذت تظهر نفسها بأنشطة اقتصادية وسياسية واجتماعية، لم تعد المسألة أخلاقية صرفاً، بل اقتصادية لها طابع الإنتاج الرمزي والمادي. غدت تتجلى كنمط من أنماط العيش، لأنَّ الوعي الذي يحملها بصور مختلفة أعطاها حماية قابلة للاستمرار. وبالتالي ليس سهلاً تصنيف أفعال تافهة وأخرى غير ذلك، معطيات جادة وأخرى ليست كذلك، لأنَّ العالم الراهن لم يحتمل في تواريخه إلا مزيداً منها.

أي برزت التفاهة كجزءٍ من ظواهر الحياة المعاصرة بتنوعها التكنولوجي والمعرفي والسياسي والديني، وأية ظاهرة تطفو على السطح تغدو كياناً مستقلاً يصعب النيل منها. لأنَّها تمارس دورات اقتصادية من الإنتاج والتسويق والتسليع والترويج والتداول والمباشَرة وغير المباشَرة، لا بمعناها السوقي الصرف بل بمضامينها الإستراتيجية التي تسمح بانتشارها. والاقتصاد يأتي هنا بإطاره الشامل لكل دلالات الظاهرة سواء ممارساتها أو بدائلها أو رموزها أو علاماتها أو خطاباتها. جميع ذلك يمثل اقتصاداً في مجالات متباينة وتخدم إنتاج الظاهرة وإعادة إنتاجها.

طبعاً من جوانب الخداع أنْ تكشف الظاهرة بعض تجلياتها انتظاراً لتجليات أخرى. وأن تصبح في غير موضعها حتى يتوقع المتابع أين تكون وكيف ستصير. وقد نوَّه كونديرا على نحو حاذق بأنَّ التفاهة أصل الوجود، والتنويه ليس ازدراءً نظراً لربط التفاهة بتبعاتها إنما تقرير لمعاني الأحوال القائمة. حيث تقدم إحساساً شاملاً يحيط بموضوعاته. فلأن التفاهة ترتكز على أبعاد نفسية وفكرية واجتماعية، فهي تموضع ذاتها على هيئة كيان عام، ليس جزئياً بالضرورة ولا مؤقتاً إنما عبر حضور طاغٍ.

وربطها بالوجود هي نظرة تتشابك مع ماهية الحياة، نظرة أوسع من محيطنا الكوني المحدود بالنسبة إليها حيث ينزوي الفعل المباشر وتبرز مسيرة البشر كقناع لسخافات لا تنتهي. والوجود في تلك الحالة هو لعبة الصور الزائفة رغم حقيقتها بالنسبة للبشر. فهو يحضر كلياً ومكثفاً بقوة تجعله ضرباً من اللايقين. فجأة يذهب كلُّ شيءٍّ كما ذهبت الحياة. لكن إلى أين تذهب؟ لا أحد يعرف على وجه الدقة.

من يتأمل ظاهرة الحياة وإيقاعها السريع سيقرأ جيداً كيف تمر الأعمال والأزمنة متبوعة بأحاسيس التفاهة. المرور، العبور، الانقضاء، الترحال، المغادرة السمجة هي أعمال ندم غير مباشر فيما لا يمكن توقيفه والقبض عليه. فالإنسان يشعر أنه كائن قد فاته الكثير مما يعيش.

الحياة تتسرب بلا رجعة ويستحيل العودة إلى ما كان إلاَّ بالمستقبل. إنَّ الإنسان من فرط إحساسه بتفاهة ما مضي يرمي بنفسه في غمار الآتي وإنْ كان مجهولاً. وتلك سلسلة تجري بسرعة فائقة تشعرنا بالاتصال الحاد بين حلقاتها. ما مصدر الوجود عندئذ؟ إنَّه الإحساس نفسه لا مبارحة بينه وبين العالم والحياة. لأنَّ التفاهة تختزل كلَّ ذلك مثل حبة الرمل التي اعتبر أينشتين أنِّها تلخص سمات الكون جميعاً.

كأننا الآن في مرحلة التفاهة المبرمجة والتي تحيط بأنشطة الإنسان. أما الإحساس بكيانها، فلأنَّها تستحوذ على هذا الانتباه الخاص بنا. كما يقول كونديراً تظهر عبر الأعمال الأكثر شراسة وقساوة مثل الحروب والصراعات والعنف. فالتفاهة هنا ينظر إليها كموضوع خارج مجاله، لكنه في صميم العنف الأهوج. معنى هذا أنَّ مظاهر العنف الديني المسلح كانت تنويعات على التفاهة، إنَّها بنية تافهة تؤدي إلى السخرية المريرة من الإنسان سواء بقتله أو إراقة دمائه أو تشويهه أو مطاردته.

ولا أغالي إذا اعتبرنا بعض الثورات الربيعية العربية- أو هكذا اعتبرها الناس– يوميات من التفاهة المملة. وهي تفاهة مرتبطة بالقتل المباشر للأطراف المنخرطين فيها. وصلت المشاهد إلى درجة الغثيان اليومي تجاه ما يجري على الأرض وتجاه الحياة وتجاه الإنسان. هناك من التفاهة مالا يدركها التافهون، لأنها تتحرش بالقيم والمبادئ والأسس. أي أنَّ بعض الممارسات مثل الفساد والاستبداد يرى المتابع أنها سلوك سياسي يضر بمصالح الدولة وقدرات المجتمعات، غير أنَّ تفاهتها تأتي من التلاعب بفكرة العدالة وتحيل القيم إلى مجرد فقاعات خادعة.

ولذلك تتحول بعض المجتمعات إلى صناديق قمامة تحت سلطة الدولة إذ تصرف إليها كافة تفاهات الحكام وممارساتهم. وتبدو الحياة اليومية سائرة نحو السيولة والنظام غير أنَّها نوع من الغثيان، التيه الذي ليس له نهاية. التفاهة هنا فخاخ عالية التصميم والدقة والمراوغة حيث تؤسس لأي شيء ولو كان بعيداً. والفكرة أنَّ هناك سياسات بقدرات الدولة ومؤسساتها تستطيع إدخال مواطنيها في حالة من التفاهة وتصدير نفاياتها إلى الوعي العام.

وتفسح الدولة مجالَّها إلى صناعة رموز التفاهة وأقطابها. وليس شرطاً أنْ تكون كائنات مسخاً كالبهلوانات حتى تكون تافهة، بل قد يكون الحاكم نفسه أبلغ نموذج للتفاهة المتحركة، ويصدم متابعيه بخطاباته الغثة والمملة وروغانه الكذوب. التفاهة تأتي من أكثر المصادر قداسةً وسلطوية في المجتمعات، لأنَّ الفاصل بين أية تفاهة وبين سواها قابل للتجاوز. كوكب الأرض ليست مشكلته في إنسانية تبحث عن وجودها المحفوف بالمخاطر إنما هناك تاريخه المعبر عن التفاهة المعتقة.

وفي خضم فوضى السياسة التي تدعم أنظمة السلطة، تظهر فئات تافهة في حياتها ونمط عيشها، وهي كائنات تتسلق على حواشي المجتمعات وعيونها تجاه المصالح والاستيلاء على الفرص المتاحة للثراء الفاحش وانتهاك القانون واستبعاد الفئات الأخرى والمشاركة في ركود الأوضاع السائدة.

وتأتي الإشارة لتكوين طبقة تستعبد طبقات أدنى. وتحاول الطبقة التي تتبنى التفاهة أن ترسم معالمها بأساليب ومظاهر خاصة أثناء الكلام والملبس. ليس الفنانون هم المعنيون فقط في بلدان العرب الفقيرة والمستعبدة ولا هم رجال السياسة الذين يناقشون أموراً تافهة وينشرون علاقاتهم الفاضحة وممارساتهم القائمة على العمالة والعمولة.

إنَّ انفصال التفاهة في تكوين طبقي ربما أكثر إفرازات الحياة الراهنة وضوحاً، وهي طبقة تعي ماذا تريد أبعد من كونها فئة بعينها. فمثلما أنَّ التفاهة نقص في الوعي وعدم القدرة على الإبداع، فإنها عابرة لطبقات المجتمع قاطبة، تجدها متغلغلة في المعرفة والتعليم والثقافة والإعلام والاقتصاد. ببساطة تعد التفاهة بمثابة طبقة الطبقات جميعاً، لأنها تتحرك وفقاً لمصالحها التي تنتج بفضل اختلاط التصنيفات الاجتماعية والسياسية والفكرية.

أي ستجد سياسياً يدعي المعرفة ويرقق الخطاب حتى ينال رواجاً، بينما هو يمثل مهزلة التفاهة التي تصيب مشاهديه بالغثيان. وستجد فناناً ينظِّر إلى الشأن العام كأنَّه رجل حصيف، لكنه ليس أكثر من خادم للسلطة ومروج لهيمنتها واستبدادها. وستجد إعلاميين يرتدون أفخم الملابس بينما هم أبواق صدئه لأسيادهم، وقد استمرأوا تشكيل جماعات العبيد الجدد طوال الليل والنهار.

التفاهة في مجتمعات متخلفة تتبدي في كل شيء، فهي إفراز ليس اعتباطياً لكنه يشمل الأسس التي تنتج الحياة اليومية. حيث التفاعل والصراع والممارسة التي تستحضرها كبديل دون أن يشعر برسوخها أحد. في صمت الواقع وهسيس المصالح وتواطؤ القوى تنمو التفاهة كالعشب الليلي.

والتفاهات تعرف بعضها جيداً لدرجة الجنون المكشوف، تطفو فوق رقعة الحياة حتى تغرقها. كما يرى كونديرا سيكون علينا أنْ نحب التفاهة بكل أريحية، وتلك طريقة لفهمها، لتداولها، للتعاطف معها، لترويضها وحتى للهروب منها. في البداية سيكون موقف الرفض هو الواضح بينما تدريجياً ستستغل التفاهة استدراجها للرافضين، إنَّ حباً من هذا النوع هو قدر التافهين الذين يمضغون كماً مخدراً من تراكمها.



#سامي_عبد_العال (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عن التَّفاهةِ
- الهَيُولى السياسية: مُواطن قابلٌّ للاستعمال
- خِرَافُ العربِ الضَّالَّةِ
- الإنكار والسياسة: نفي النفي إثبات
- أرضُ كنعان، العالم ما بعد الحديث
- مستنقعُ العنفِ: كيف تُعتَّقل المجتمعاتُ؟
- القتلُّ ولعبةُ الحدودِ
- أُورشليم وسياسات الاحتفال
- نكبةُ إسرائيل
- التّسامُح و المَجْهُول
- طُرْفةُ المِصْبَاحِ والسَّطْحِ
- مواسم نهاية الإرهاب
- مَقُولةُ الموتِ الذكِّي
- الموت مُقابل الموت!!
- القَرْعَّةُ وبِنت أُختِّها
- أرضُ الجُنون
- حين يفهم القارئُ برجليه
- حيوانُ السياسةِ يقتلُ شعبه
- أشباح الثورات تطارد الشعوب
- اختراعٌ اسمه الكذب


المزيد.....




- رحلة -ملك العملات المشفرة-، من -الملياردير الأسطورة- إلى مئة ...
- قتلى في هجوم إسرائيلي على حلب
- مجلس الشعب السوري يرفع الحصانة القانونية عن أحد نوابه تمهيدا ...
- تحذير عسكري إسرائيلي: إذا لم ينضم الحريديم للجيش فإن إسرائيل ...
- السفير الروسي ردا على بايدن: بوتين لم يطلق أي تصريحات مهينة ...
- بالفيديو.. صواريخ -حزب الله- اللبناني تضرب قوة عسكرية إسرائي ...
- وزير الدفاع الكندي يشكو من نفاد مخزون بلاده من الذخيرة بسبب ...
- مصر.. خطاب هام للرئيس السيسي بخصوص الفترة المقبلة يوم الثلاث ...
- -أضاف ابناً وهميا سعوديا-.. القضاء الكويتي يحكم بحبس مواطن 3 ...
- -تلغراف- تكشف وجود متطرفين يقاتلون إلى جانب قوات كييف وتفاصي ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - سامي عبد العال - التَّفاهةُ والظُهور