أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أكرم إبراهيم - صدمة















المزيد.....



صدمة


أكرم إبراهيم

الحوار المتمدن-العدد: 1496 - 2006 / 3 / 21 - 11:29
المحور: الادب والفن
    


بعد الباب الرئيس ، وعند أول منعطف على اليسار ، واجهته عبارة " عيش أحلامك " بخط عريض وواضح .
هذه العبارة مأخوذة من أحد الإعلانات على ما يذكر . لم يستطع تذكر المنتج . ما تذكره لقطات قصيرة ومثيرة لصبايا جميلات يتراقصن بغنج .
أحس بلذة مفاجئة ، وتصور فتيات جميلات في أكثر الأوضاع إثارة ، وتمنى في سره لو أن طاقته بلا حدود ، وتمنى أكثر لو أنه يعيش في أمريكا حيث المرعى كثير ومتنوع ، وحيث يثرن الرجل بحركات كحركات فتيات الإعلانات .
لكنه ما لبث أن ضحك من رغبته هذه ، ولعن الشاشات التي جعلته كحصان " بطماشات " هو الذي كثيراً ما كرر أن استثمار الجسد الأنثوي في الإعلان على هذا النحو يفضح عبودية مستترة لدى الجنسين .
" حتى أنت ؟!." ؛ كيف يحدث هذا معه هو الذي قاوم كثيراً الانسياق مع هذه الإثارة التي تنهمر عليه كالطوفان ؟! كان يقول : علينا عندما يعرض علينا هذا الجمال الذي يستعمل استعمالاً مهيناً أن نهرب من الإثارة بالسؤال عما يحزن ويفرح صاحبته ، وأي طموح لديها ، وأية أفكار ، أية مشاكل وهموم ، أية قيم واستعدادات ... لكنه الآن يتمنى المرعى الوفير !!.
انتزعته من أفكاره العبارة إياها عند المنعطف الآخر مكتملة ـ " عيش أحلامك الدنيا مابتدمش لحد " ـ ومقابلها على الحائط الآخر عبارة " امرح والعب " ،وانتبه لمواءمة هاتين العبارتين لواقع الشركة الجديد .
كلا هذه ليست دعابة ، وليس صدفة أنها كتبت مباشرة بعد الانتهاء من أعمال تمليس وتدهين جدران الشركة . كان سيفسر الأمر على أنه نتيجة نزوع طفلي إلى ملء المساحات الفارغة ، تماماً مثلما فعل طفله في أول لحظة لانتقالهم إلى سكنهم الجديد ؛ يومها فوجئ بطفله يملأ حائطاً بأكمله خربشات في زحمة انشغاله مع زوجته في ترتيب أغراض البيت .
كان سيفسر الأمر على هذا النحو لو أن أحدهم كتب اسمه ، أو رسم زهرة ، أو شجرة ، أو حيواناً . أما والحال هذه ، فالأمر يبدو أنه على صلة بانتقادات سمعها همساً وتبريرات سمعها جهراً ، آخرها أن الوزير في زيارته الأخيرة أنب المدير العام قائلا : هل هذه مؤسسة حكومية ؟!. ماذا يقول المارة عندما يرون هذه الجدران ؟!. هذا من جهة التبريرات ، أما من الناحية الأخرى ، فلقد لاحظ بعض الأذكياء أن الشركة تحولت إلى غابة من الآلات ، وأن التوسع في خطوط الإنتاج ـ بآلات لم تعمل أصلاً ـ يكاد لا يترك مجالاً لحركة العمال ، لكن هذا يمكن تسويغه على نحو ما ، أما الآن فأية حجة يمكن أن تساق من أجل تبرير أعمال التزيين هذه ، بعد أن توقفت الشركة أو كادت عن الإنتاج ؟!. هذا البعض افترض أن المدير يسعى بهذا الإنفاق إلى تحصيل ما يؤهله لشراء الشركة إذا ما تمت الخصخصة التي أصبحت في الفترة الأخيرة مثار اهتمام العالم أجمع . البعض الآخر افترض أن ابتلاع الليرة يتطلب هدر الألف . وجمح خيال البعض فهمس أن هذه الليرة تقسم حصصاً حصة المدير أقلها .
كلا ،هذه ليست دعابة أو صدفة ، فالعبارة أصلاً، كما في الإعلان، هي من كلمتي " عش أحلامك " ، ولا بد أن الفاعل توقف عن الإضافة في المرة الأولى بدافع الخوف ثم أكمل ما توقف عنه في لحظة ومكان أكثر أمناً . يؤكد هذا أن العبارة الأخرى التي بدت على وئام تام معها قد زيدت في المرة الثانية .
خوفه يدل على غرضه ، فمن هو ؟ انساق مع ذاكرته يقلب الوجوه والاحتمالات ؛ مرر في ذهنه جميع العمال الذين عرف عنهم اهتمامهم بالقضايا العامة في يوم ما ، إلا أن أياً منهم لم يبد له مقنعاً ، " فهل هو من الجيل الجديد ؟ هل كان فشلنا إرهاصاً لولادة جديدة ؟ "
أسعدته فكرة الميلاد هذه ، وبدا أن كربته انفرجت عن بعض الأمل في أنها لم تخل بعد ، وعاد إلى أول شبابه وبداية عهده بالعمل ؛ ففي ذلك الزمن كانت الكلمة عملاً جللاً ، وكان يبحث بشغف عمن يلقيها في أذنه بإحساس من يمسك الدفة التي تحول اتجاه سير العالم .

لقد أحب الفاعل وأحس تجاهه بأبوة من نوع ما . ولمَ لا ؟!. ألم ينظر بحنين واحترام إلى تلك المرحلة من شبابه ؟!. ألم يكن كفئاً لعمل كهذا ؟!.
أجفل من الفكرة ؛ فلمَ لا يكون هو الفاعلَ بنظر الآخرين ؟!.
انقبض لهذا الاحتمال المفاجئ ؛ ففيما مضى قال كلمته دون حساب للنتائج ، وعلى الدوام حافظ على توازنه بصعوبة على شفا الهاوية وكأنما الصدفة وحدها كفلت نجاته ؛ في مراحل الدراسة المختلفة حرم أكثر من مرة من حضور حصص التربية الوطنية !... بعد تخرجه سرح من العمل وعاد بقرار من المحكمة ؛ لم يشفع له مرضه المزمن فكلف بأعمال صعبة . إلا أنه كان لشقائه على الدوام تلك النكهة الحلوة ، وكثيراً ما ترنم في سره وفي العلن بصرخة ذلك الشاعر من جنوب إفريقيا على منصة الإعدام : أقف الآن مفتخراً بمصيري / جازماً أن عاصفة الظلم والجبروت الخطير / سيعقبها مطر من دمي ... كان سريع العدوى بمثل هذه المواقف ، بل وتكفي العبارات ، ينتشي بها ويستمد منها القدرة على رؤية سعادة ـ لابد ـ قادمة بعد شقائه وبسببه . لكن العقود مرت ولم ينجل شقاؤه عن سعادة ما ، بل انزلقت به الأيام من سيّئ إلى أسوأ ، وعاش ما يكفي ليشهد انهيار أحلامه جميعاً ، كأنما قرن الثور قد انكسر ليهوي العالم في هوة لا قرار لها ، فهل يستطيع بعد كل هذا أن يكون ذلك الشاب الذي كان ؟!.
فكرته عن الهوة أعادت إلى ذهنه السؤال عمن يكون الفاعل ، وتمنى أن يكون شاباً ؛ لأنه لو كان من جيله فلن تعدو كونها صحوة الموت . ومع هذا سيجله كثيراً، إنه يذكره بالمسيح لحظة قال : يا أبت ارفع عني هذه الكأس . قالها وهو يدرك أنه ـ لابد ـ واردها، وأنه اختير لهذا ، لكنه الرجاء عاطفة الأشقياء في لحظة يمتزج فيها اليأس والأمل على نحو نادر . لو كان الفاعل من جيله لكانت هذه الرعشة منه نادرة كحزن مريم . ولطالما شفه هذا الحزن وأحب أصحابه ، لكنه الآن ليس في محراب التأمل والمتعة ، ليس أمام الموناليزا أو مريم أو غيرهما ، إنه يرجو ، ومن الخير أن يكون الفاعل شاباً ، لأن هذا يعني إيذاناً بميلاد جديد .
سرعان ما تحول الرجاء إلى ما يشبه اليقين ؛ فلو كان من جيله لبدأ ب " يعيش " أو" يسقط " ؛ فلقد انصرف جيله إلى قضايا من الوزن الثقيل ، وما كان لينتبه إلى" توافه الأمور" .
وتبسم بأسى ـ إذ تذكر ـ من عمق الشبه : مرة رفع نظره يتأمل في بناء أثري فسأله صديقه : بمَ تفكر ؟ كان في الواقع يتأمل ويسترجع ويذوب في أولئك الذين بنوا ، لكنه لم يشأ أن ينزل إلى حضيض الواقع فقال : إني لأعجب كيف رفعوا هذه الحجارة الضخمة إلى فوق ؟! فرد صاحبه مازحاً : فعلاً... لاشك أنهم بدؤوا البناء من الأعلى . والآن ها هم حكماؤنا يترنحون بأحمالهم من القضايا أو الشعارات الكبيرة يريدون أن يضعوها أول مدماك من الأعلى !.
ولأن الشيء بالشيء يذكر تذكر بيتاً من الشعر بحيث انداح الأسى ليغمر الابتسامة كلها .
متى يبلغ البنيان يوم تمامه إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم
لقد قرأ هذا البيت في " المستطرف " أمس ، ولشد ما تجاوب مع خاطره : " يا إلهي ! هذه الحكمة عمرها مئات السنين ومع هذا كنا كالسكارى بشعاراتنا " ، والآن ، في غمرة الأسى ، كرره مرة أخرى بصوت عالٍ كأنما أراد أن يسمعه .
الجديد فقط يأتي بالجديد . لذا جزم أنه شاب وانتعش لهذا الاكتشاف ، أحس بقلبه يخضوضر ويزهر ، سمع صوت شلالٍ آتٍ من بعيد وزقزقة عصافير تعرس لا عهد له بها ، وبدأ يستعيد صوراً من حياة شباب هذه الأيام ، وأحس بالغفران ؛ " من يدري ؟! ربما كانوا على صواب ، على كل جيل أن يعيش عصره ، علينا أن نثق بحكمة الطبيعة " . وليتمادى في تفاؤله استحضر تلك السخرية التي تنضح بهما تلك العبارتان ، والتي توحي بالكثير من الهدوء والثقة والاتزان ، بخلاف الجدل المتسم بالتوتر والنزق الذي وسم نشاط جيله كله .

كان الحدث في يوم من الأيام المعدودة التي تعمل فيها الشركة . يومها عمل بهمة ونشاط ، واغتنم فرص الراحة ليتجول بين زملائه ، لكن أحداً على ما يبدو لم ينتبه لشيء . وعلى الباب ، لحظة الخروج ، تفرس في الوجوه عله يلحظ ما يفضح ؛ مسحةً من قلق مثلاً ، تصنعاً للامبالاة ، أو إحساساً بالفوز . لكن ما رآه كثير ومتنوع ، وعلى وجوه كثيرة ما شوش عليه حدسه.
توقف عند رجل سمعه مرة يتحدث عرضاً عن قذارة أرواد وعن تشابك خطوط الهاتف على
جدرانها ، وكيف كان يتحايل لالتقاط صور لا تفضح ، وعن ضيقه من رفيقه المغترب الذي كان يصور كل شيء بحيادية أزعجته ، فتساءل إن كان الرجل قد ساق حديثه ذاك بمناسبة عهدة تمديد خط الهاتف في الشركة في أنبوب بلاستيك على عمق متر تحت الأرض ، الأمر الذي أدى إلى تشوه شوارع الشركة وممراتها بالحفريات . وانتهى إلى أنه " أمّعة ، وعلى الأرجح لم يربط في ذهنه بين حديثه وما يجري ، كلا ... هذا الرجل ليس لهذه الملمات ولابد أنه انتحل حديثاً سمعه من رجل ذي رأي " .
على باب الشركة بعد نهاية الدوام انقبض على نحو مفاجئ : حدث منذ زمن أن زميلة له كان قد حياها وهم بتجاوزها ، قالت له وهي تومئ إلى أعمال تبليط وتدهين دورة المياه : رست المناقصة على 900 ألف ، وعلى نفس المتعهد . يومها لفته إيجازها وتلقائيتها ؛ فلو كان رجلاً لاتخذ هيئة همام وفاض بما يوحي أنه يتحدث عن نفسه ويستعرضها ، لكنها بكل بساطة ألقت بما هو مهم في أذن من يجب أن يسمع دون تظاهر أو تكلف ، فلقد رأت أن الموضوع لا يحتمل أكثر مما قالت ، فغيرت الحديث وسألته عن زوجته وأطفاله . ما يعنيه الآن أنها كانت تراه جديراً بالاطلاع على ما لا يستحب شيوعه ، وأنه قبل قليل كان قد مر عليها في الإدارة لأمر معاملة . وأثناء ذلك ، مغافلة أصحابها ، انصرفت إلى عملها تغني بينها وبين نفسها بصوت لا يكاد يبين منه إلا اللحن " عش أيامك عش لياليك خل الدنيا تفرح بيك " ، فهل افترضت أنه علم وأرادت أن تشاركه المتعة ، أم أنها افترضت أنه الفاعل وأرادت أن تشاركه السر ؟ وجد نفسه يرجح الاحتمال الثاني : " هاهي واحدة تعتقد أني الفاعل ، فمن غيرها يا ترى ؟ " .
انتزعه من هواجسه تلك زميل له إلى جانبه كان قد سها عنه ، سأله عن شخص خرج من الشركة يقود سيارة حديثة .
إنه يعرف أنه ـ من جملة أعمال كثيرة ـ متعهد تنظيم شوارع الشركة ، وإحداث دوّار لسيارتها ، وجسر للمشاة تحسباً لمزاج كوابحها واستباقا ًلاستبدالها المرتقب . إلا أنه لم تتح له الإجابة إذ سبقه إليها زميل له خلفه سمع السؤال فأجاب : مهندس الديكور ، فوجد في ال التعريف المرحة والموحية شيئاً خصه به هو بالذات ، وإلا ما هذا التناغم بينها وبين ما يهجس به ؟!.
يعرف عن هذا الشخص أنه خلد حقيقي ، مد جحره في مختلف الاتجاهات ولمسافات بعيدة . ولقد عُرف بالفكاهة وسرعة البديهة أثناء المزاح . بهذه الميزة استطاع أن يكشف مكنون أكثر من شخص ، إذ أدرك على نحو ما أن المرء مع الضحك تضعف رقابة وعيه . وأسف لذكاء يمكن له أن يرصد المفارقات بهذا القدر من الدقة كيف يسخّر على هذا النحو . ومن عجب أن تفكيره ذهب به إلى الاعتقاد بأن الجبن وفقدان السيطرة على اللسان قادتاه إلى هذا المسلك ، إذ به يستطيع أن يقول ما لا طاقة له بكتمانه دون خوف .
لذا وجد نفسه في مأزق لدى سماع هذا الرد ؛ فإن ضحك فالضحك يعني أنه فهم عليه ، وإن تجاهل يعني أنه يتهرب ، فسأله مصطنعاً الجد : مهندس ديكور ؟!. هل ينفذ شيئاً في مكتب المدير ؟ . فأجاب : بل في شركة المدير ، يعني لا تعرف ؟!. وقهقه . في هذه اللحظة أسعفه وصول الحافلة فتركه وهو يقول : يا رجل ! ألا تعرف أن تكون جاداً ولو مرة واحدة ؟!.

في الحافلة لم يستطع أن يتخلص من هاجس أنه موضع شبهة . ويفترض في هذا أن يكون باعثاً على الرضا ، لكنه نضب ولم تعد لديه القدرة على الاحتمال ؛ مرضه ، وأطفاله ، ويأسه المزمن ، وربما السن ، وفوق كل هذا أنه ليس الفاعل . كل هذا أفقده القدرة على التمتع بهذه الشبهة ، ولم يبق لديه من كل هذه القصة سوى الخوف والتحفز لما قد يجدّ في الغد .
بوحي من خوفه هذا فكر أنه عليه أن يهيئ زوجته بعد قليل وانقبض لهذه الفكرة ؛ فلقد لاحظ في الفترة الأخيرة أنها فقدت الكثير من حيويتها ومرحها ، وأن الكآبة كأنما بدأت تغزو روحها دون أن يجرؤ على سؤالها خوفاً من أن يصدر عنها ما يؤكد حدسه ؛ إذ رغم كل حرصهما يكاد لا يستطيع أن يحقق لها الحد الأدنى ، ليس مما تعرضه الإعلانات فقط ، بل ومما يطلبه البدن قبل النفس . وإذ تذكر حيويتها يوم كانا شابين عزم على الأمر، فلربما يبعث فيها الخوف والقلق بعض ما افتقدته .
كما في الأيام الأخيرة لم تستقبله على الباب . وجد مائدته جاهزة في حين انصرفت هي إلى أعمال المنزل ، فتناول طعامه وهو يفكر في الأمر ، إلا أن الفرص بدت وكأنها تتسرب من بين أصابعه حتى كاد يعتقد أنها حدست بقلقه ورغبته في الكلام فتجنبت الأمر ، فصرفته رغبته في معرفة ما بها عن همه ، فعقد العزم على مكاشفتها بعد انتهائها من عملها . لذا ما إن انتهى من طعامه حتى بادر إلى الاستلقاء في غرفة الجلوس . وقبل أن يستوي تماماً تذكر بيت الشعر ذاك فاندفع إلى"المستطرف " ليقرأ أن الأبشيهي عاش ما بين 790 ـ 850 هج ، وكادت تند عنه آهة : " يا إلهي ! ستمئة سنة ! " . وعاد بيده الكتاب ، إذ بدا له أن القراءة فيه ستخفف عنه وطأة الوقت المشبع بالهواجس والتوتر .
قرأ بدون شهية ، من هنا صفحة ومن هناك صفحة كعادته في مثل هذه الحال . وسرعان ما كان يقلب الورقة إذا ما تحدثت عن أحد الأعلام المشهورين ذات الصلة بالعصر ، كمعاوية أو الحجاج . ذلك لأنه غريزياً كان يبحث عن الجديد ويتجنب ما يثير الشجون . ولم تتم له قراءة عدة صفحات حتى دخلت عليه بمنامة جديدة وفي يدها كيس يحوي شيئاً ما ، وبدأت تدور وتمشي أمامه كعارضات الأزياء وتسأله عن رأيه بحياد وبرود .
للوهلة الأولى تذكر أناقتها الآسرة ببساطتها لزمن يمتد إلى بداية تعارفهما ، ولعن في سره المنامات المروكبة والفقر الكافر . ولكن في النهاية لابد من سؤالها : من أين لك هذا ؟ فأجابت : بالدين .
ـ بالدين ؟! من أين ؟.
ـ ماذا اعتقدت إذاً ؟! من عند أبي سمير .
ـ يا الله ! هل هذا وقته ؟! ما كدنا ننتهي من الدين القديم فتفتحين حساباً جديداً ؟! بكم من غير شر ؟
ـ بستمئة ، كثير ؟!.
ـ ست.. مئة ؟! لا وفق الله مخلوقاً . وضرب كفاً بكف وانقلب إلى جنبه مولياً لها ظهره :" بستمئة يا بنت الحلال ؟! والله تستأهلين أكثر ، والله تستحقين ... تستحقين ، لكن بستمئة ؟!. ومن أين لنا ؟!. كم شهراً يلزم لتسديدها مع المئتين ؟!. " ، ولعن أبا الفقر الكافر مرة أخرى ، وتذكر أنه هو نفسه مل المنامة المهترئة المروكبة ، وأنه كثيراً ما غافل نفسه يقارن بينها وبين فتيات الأفلام الأمريكية أثناء لقطة مثيرة ما ، وتذكر مزاح زميله إذ قال : والله مرة واحدة مع أجنبية تعادل كل ما عملناه في حياتنا . يومها قال له : يا منظوم ! بماذا ستثيرك زوجتك ؟!. لبس العود يجود واسقه يخضر ، ثم إن هذه اللقطات يتدربن عليها ، ويعدنها مرة بعد مرة حتى تخرج على هذا النحو من الإثارة والجودة فقال : لا يا أخي ! والله إنهن فنانات ومتحررات ، نساؤنا معقدات . وأن يتذكر هذا يعني أنه ربط على نحو غامض بين اخضرار الشكل واخضرار النفس ، معتبراً إياه مرادفاً لرقص إناث الحيوان ، مفسراً زوغان الرجال بنداءات لا حصر لها من هذا النوع ، فهل أصيبت بالعدوى وهذا أول الرقص ؟!.
طبعاً لا يمكن مقارنتها بشيء مع هذا الزميل ، لكن هو ، بماذا يمكن أن يقارن نفسه معه ؟!. ومع هذا ألم يضبط اليوم نفسه يتمنى " المرعى " الوفير؟! وبدأ يستعيد المرات الأخيرة باحثاً فيها عن بادرة برود منه أو منها فلم يجد ، إلا أن أثراً بقي بعد السؤال لم يمح تماماً من خاطره . لكن هل تستحق هذه المرأة منه هذا ؟! وإذا بدأ الشك الآن وهو معها ، ويعرف عنها مشاركتها الصادقة له في كل شيء ، والأهم تجاوبها الذي لا يخفى معه في السرير ، فماذا ستكون عليه حاله غداً فيما لو تحقق ما يهجس به ؟!. هو نفسه ألا يحبها ويحترمها ويكن لها العرفان ؟!. ومع هذا لم يستطع رغم كل حرصه إلا أن ينساق مع هذه الإثارة التي لا تفتأ تكر عليه وتهاجمه عبر الشاشة .
وجد نفسه في حال من الضيق غير مألوفة فانتفض واقفاً ، فاستوقفته على الباب صادة معاتبة : زعلت ؟!. طيب ... أنت لم تتذكرني في العيد !...
فاجأته ، فالعيد مضى منذ زمن بعيد ، ولم يسبق له أن لحظ اهتمامها بغفلته هذه قبل اليوم ، فسألها محتاراً : أي عيد ؟!.
ـ عيد القديس فالنتاين . أجابت
لم يلحظ ـ إذ ركبه الغيظ ـ روح الدعابة في كلامها فقال : ومتى كان عيد هذا الخرء؟!.
ـ ماذا ؟!. ألا يكفي أنك نسيت ؟!.
ـ أوووه، ودفعها من طريقه ، وصفق الباب خلفه وانطلق راكضاً على الدرج ، ففتحت الباب وركضت عدة درجات وهي تصرخ : ارجع يا روح إني أمزح . ولما لم يجب بشيء ، وتناهى إليها وقع خطواته السريعة صرخت : ارجع يا أبا زيد ، ماذا أصابك ؟!. ولما فطنت لحالها ، وعلمت أنها لن تدركه ، انطلقت مسرعة إلى السطح لملاقاته ، وما إن خرج من البناء نادته ، وإذ التفت قالت : لي معك حاجة ... عد لدقيقة واحدة .
أكدت له لهجتها وابتسامتها ما فاته فهمه من كلامها ، فلقد قالت : إني أمزح ، لكنه لم يستوعب لانفعاله ، كما أنها المرة الأولى التي يحدث بينهما شيء من هذا القبيل ، لذا لابد أن يكون متسرعاً . ومع هذا همّ أن يتابع طريقه، لكنه أحرج لوجود بعض الجيران على الشرفات والأسطح فقفل راجعاً .
بادرته هي وجارتهما على كرسي الدرج ضاحكتين .
ـ " ما به جارنا اليوم ؟!. "
ـ " غضبت ؟! ليتني مت قبل أن أغضبك يا روح !."
وما أن وصل حتى جلس على درجة لا يجد ما يقوله . وطاب لزوجته أن تتابع المزاح بعد أن اطمأنت لحاله فقالت : كيف تنسى العيد ؟! آه ؟! فقال لا غاضباً ولا راضياً : يلعن أبا العيد ، وهل تذكرته أنت ؟!.
ـ أنا ؟!. تذكرته ،هه ، وأشارت إلى منامتها الجديدة وضحكتا معاً وتابعت : لكن ما نسيتك ،ادخل تر.
ـ الله الله ... أيضاً ؟!. وضحك إذ حار في أمر هذا كله ، ولم يجد ما يفعل سوى وضع راحتيه على
ركبتيه وتنقيل النظر بينهما .
ـ قم . قالت له وأمسكت بمرفقه . لكنه أبدى مقاومة وتملص مفلتاً ، فهجمتا عليه معاً وأنهضتاه . وعلى الباب دفعتهما الجارة وأغلقت خلفهما .
في الداخل شرحت له أن أخاها زارهما اليوم ومعه منامة لكلٍ منهما كهدية ، وأنه ذهب لقضاء حاجة ما لم يفصح عنها وسيعود .
ـ ومن أين النقود لهذا المحسن ؟!. قال متهكماً وفرحاً في الوقت ذاته لخبر الزيارة .
ـ أنسيت ؟!. المسكين كان قد أودع مبلغاً في صندوق التوفير وعندما خرج وجده ثروة .
ـ آه ، يا لها من طريقة لجمع المال ! ما رأيك بأفضل عيد للقديس فالنتاين بعد خمس عشرة سنة ؟!.
ـ لا قدر الله ... الله لا يسمع منك .
وإذ لاحظ انفعالها لمجرد المزاح عدل عن الدخول أكثر في الموضوع وقال : متى سيعود ؟
ـ ليس قبل العاشرة ليلاً . فنظر إلى ساعة الحائط ؛ فلقد راودته الرغبة مذ كان جالساً على الدرج . وإذ اكتشف أنه لم يبق على مجيء الأولاد من المدرسة سوى القليل ، فتح يديه المسبلتين ، وخبط بهما على جنبيه وهو يومئ إلى الساعة موحياً لها : ما العمل ؟! لا متسع ، واتكأ على كتفها لحظة ، ثم هبط برأسه ووضعه في حجرها وأغمض عينيه ، فقالت وهي تمسح على شعره : كنت تفتعل المناسبات لنجدد زواجنا ، لكن عيد الحب مر وأنت مستغرق في وحدتك .
ـ وهل هذه مناسبة يا أم زيد الخير ؟! ألا يمكن أن يكون للحب عيد من دون هذا الفالنتاين ؟!.
ـ هي بدعة لا تضر ، فرصة نغتنمها .
ـ لماذا لم تفعلي أنت ؟!. صدقيني ... هذه البدع المستوردة تفقدني الرغبة في الحب ، ثم لماذا فالنتاين
وليس قيساً أو نزاراً؟! ، لماذا بابا نويل وليس جدي جرجي ؟!.
ـ أنا ؟!... ما عودتمونا على المبادرة ، نحن نوحي ، ننشر عطر الحب فقط .
لقد تجنبت تشويش هذه اللحظة بالحديث عن البدع وبابا نويل وسددت إلى هدفها مباشرة .
ـ وهل فعلت ؟!.
ـ نعم ، فعلت ، لكنك لم تنتبه ... أنت لست على بعضك هذه الأيام ، تعيش وحدتك وكأني غريبة .
حار فيما يجيب ، فإذا كان لم ينتبه إلى ما به فمن الخير له أن يناور .
قال : ما رأيك أن تداوي أوهامك بفنجان من القهوة ؟!.
ـ من عيني .
ـ اتركي عينيك لما هو غير دنيوي .
قالت ضاحكة : على عيني وانصرفت .
لقد تجاهل الحديث عن الوحدة في المرة الأولى ، لكنها عادت للحديث عنها على نحو من الوضوح لا مجال معه للهرب ، فماذا يقول لها ؟!. هو نفسه لا يعرف ما به . لقد لاحظت أنه ليس كسابق عهدها به ، فهل بدأ حبه يفتر ؟!. وهل حقاً أنه يعيش معها نوعاً من الوحدة أو الغربة ؟!. بالنسبة له مازالت متكأه الحنون كما كانت وكما حدس منذ لحظة تعارفهما الأولى ، فهل هو على درجة من الغباء ليعتقد أنها تعيش وحدتها وكآبتها في حين كانت تفتعل الزعل لتعاتبه على ما يبدر منه ، وعليه الآن أن يجد تعليلاً لما تحس به ؟!. يبدو أن عليه فعل ذلك . إنما من المؤكد الآن أنها كانت أثناء غدائه تتجنب عن عمد فسح المجال له ليفصح عما به ، من باب الانتقام الودي إذا جاز التعبير .

التقاها عند أخيها الذي تربطه به صداقة متينة . وبينما انصرف هو وصديقه لمتابعة برنامج سياسي ، انشغلت مع الجارة بالحديث عن شؤونهما الخاصة . وفي لحظة ما ودون أن يقصد ، وقع في أذنه قولها أنها باعت خاتماً لتكمل ثمن بعض أثاث البيت . بعدها لم ينتبه أبداً إلى الشاشة ، بل بقيت عيناه على الشاشة وأذنه معها . ولم يتدخل في الحديث تاركاً إياها على سجيتها بتغافله هذا .
فهم أنها قدمت المدينة لاستكمال أوراق وظيفتها في دير الزور ، وأعجب بروحها هذه ؛ فلو كان هو لما تجرأ ، لأن دير الزور تبدو له من حيث البعد جزءاً من قارة أخرى ، والسكن فيها غربة حقيقية ، فكيف تجرؤ على هذه الغربة لو لم تكن ذات شخصية قوية ؟‍‍‍! ‍‍‍‍‍‍‍‍ووجد نفسه يفكر بما لفته فيها منذ بداية اللقاء ؛ بساطة لباسها ، أناقتها ، وعدم التكلف في استعمال الزينة .
إن روحه القلقة ، وأعصابه المتوترة على الدوام ، تستجيب لهذه البساطة والعفوية والقوة . وعقد العزم على أن ينهي عزوبته إذا ما واتته الفرصة ، فالفرص لا تأتي كل ساعة . وفي لحظة الوداع استجمع شجاعته وطلب منها أن تسمح له بزيارتها في القرية .
بعد عدة زيارات اتفقا على خطوبة لمدة سنة ، وبعد شهر من الاتفاق خفضا المدة إلى ستة أشهر ، وبعد شهر تزوجا . فلقد كانت بالنسبة له واضحة ، بل وآسرة بوضوحها وشفافيتها وبساطتها ، كانت كزهرة برية ، وإذا كان سليمان بكل مجده لم يلبس كزهرة برية ، فإن زهرة برية ما ، لم تكن على هذا القدر من البهاء والقدرة على إثارة الراحة في النفس ، وبقيت هكذا في نظره على الدوام .
في فترة تعارفهما كان مأخوذاً بقراءاته عن الديانات القديمة ، لدرجة أنه كان على استعداد للسجود لبقرة باعتبارها أحد أهم رموز آلهة الحب والعطاء . وفي إحدى زياراته ، تحين الفرصة ليأخذ لرأسها صورة بين رأسي بقرتين في ظل شجرة جوز وارفة على خلفية من أحواض ورد تسطع بالضوء . ولقد عانى من المصور الذي رفض سحب الصورة خوفاً على سمعة المحل ، إلى أن رخصت بسحبها في إحدى زياراتها للمدينة . وتذكر كما يتذكر المرء حلماً جميلاً تأمله ذاك في إحدى صورها ؛ فلقد كانت تقف على حجر في قمة الجبل رافعة ذراعيها قصد الحفاظ على توازنها ، وقد ربطت شعرها فبدا كذيل فرس ، ولبست بنطال كوبوي سماوي فضفاض وبلوز أزرق غامق بأساور بيضاء على أطرافه . لقد استغرق في تأمل الصورة حتى تراءت له حمامة تهم بالطيران . كانت في ذلك الوقت أقرب إلى الطفولة ، وهكذا كانت عندما عرفها ، وهكذا بقيت في نظره . إذاً لابد أن يكون ما تحس به وتعاتبه عليه شيئاً آخر غير الفتور في الحب فما هو ؟.
لا يستجد الفقر على إنسان معتدل ؛ إنه على العموم يورث . ولقد ولد فقيراً ؛ الفقر هو ما ورثه إياه المرحوم ، حتى إنه ما يزال يذكر أطعمة فوجئ فيما بعد أنها غير معروفة في وسطه وفي الأوساط الأخرى التي عرفها . منها العجين المقلي المرشوش بالسكر ، وذلك الحساء ؛ حساء عجين مقطع إلى رقائق شريطية دقيقة ، طعام يتحرك لذكراه شيء في جوفه ؛ فلقد كان يشعر بالغثيان ومع هذا يأكل ، فالجوع كافر .
في عامه الثالث عشر وقف على باب الدير متهيباً الدخول إلى باحته . كانت الباحة غاصة بالأطفال بحللهم الجديدة ونقودهم ومشترياتهم ، فإذا بكاهن غبي يتقدم منه ويقول : لماذا يا حبّاب لم تلبس ثيابك الجديدة ؟!. ألم تدرأن اليوم عيد ؟!. حار فيما يجيب ، فأطرق وتلوى جسمه بفعل مشاعر مؤلمة وغامضة ، لكن الكاهن تابع : يا الله يا حبّاب ! رح البس ثياب العيد وعد . عندها أحس بالدموع كالحصى في عينيه ، فاستدار وانطلق بأقصى ما يملك من قوة .
انطلق بعكس اتجاه البيت ، ثم انحرف إلى الأزقة الضيقة والمتعرجة للبلدة القديمة . وما هي إلا لحظات حتى بدأ المطر بالتساقط ، وبدأت سرعته تخف . وقبل أن تنتهي إلى المشي العادي لمح أمامه ليرة ورقية فخطفها دون أن يتوقف مع قبضة من الوحل كما يخطف نسر فريسته ، وانطلق بأقصى ما يملك من قوة وكأنما شعب الصين بأكمله يطارده طلباً لليرة . وعلى الباب ذعر أبواه وسألاه عما به ، ففقد حذره أمام سطوة الفرح وقال : وجدت ليرة . وبعد قليل كان أبوه الحنون والطيب قد استحصلها منه مقابل بعض الآمال فالفقر كافر .
ولقد عاش منذ طفولته تلك على الحرمان ، وتعود مع الأيام عليه وأصبحت القناعة كنزه ، فصرف النظر عن كل ما لا طاقة له به برضا تام . لذا يجب أن يستبعد الفاقة كسبب لإحساسه بالكآبة والوحدة .
هل هي الغربة إذاً ؟ حقاً إنه أصبح أكثر ميلاً للعزلة في الفترة الأخيرة ، وفي بعض الأحيان كان يتوجس من لقاء المعارف والأصحاب ، إذ كثيراً ما عاد إلى البيت مجهداً هده التعب ، بل كثيراً ما كان يتشاغل عن الحديث بمتابعة الشاشة تجنباً للمشاركة . ووصل به الأمر إلى حد تجنب الانفراد بأحد ما ، حتى إنه طلب الرفقة مرة من أحد معارفه في زيارة صديق مشترك ، وكان في قرارة نفسه يرجو ، إذ لم يعد يقوى على مقابلة ذلك الصديق منفرداً .
لقد جمعته به منذ أيام شبابه الأولى ذكريات لا تمحى ، واهتمامات ثقافية وسياسية مشتركة ، وكانا على الدوام سعيدين باتفاقهما واختلافهما . ولكن ، ودون أن يدري أحد كيف تم الأمر ، بدا هذا الصديق متفجراً عن كل نزعة ما قبل وطنية ، أما هو فكان على درجة من الإحساس بالدونية والقهر لدرجة قرر معها مقاطعة كل ما يمكن أن يتوقع منه جرحاً لإحساسه ؛ محطات الإذاعة والتلفزيون ، وخطب صلوات الأعياد ، والجرائد والندوات . وفي أحد اللقاءات دار الحديث عن الاحتلال الفرنسي ، وأفتى البعض بأننا لم يكن لدينا ثوار بل قطاع طرق لا غير . هكذا وجد نفسه فيما يحاول تجنبه وتناسيه ، فقال معترضاً محتجاً : لماذا تحرموننا من إنسانيتنا ؟! مقاومة المحتل شيء طبيعي يقوم به كل شعب احتل وطنه . لكن صديقه دافع بقوة عن الفكرة .
لطالما آلمه مثل هذا التجريح على صفحات الجرائد والكتب . لذا أن يطرح أحد ما ، فكرة ما من هذا القبيل ، فشيء متوقع ولا ينطوي على مفاجأة أو صدمة . لكن صديقه كان يستمتع بتأكيد فكرته حتى بدت على وجهه علامات النشوة ، في حين كان هو يكابد في نقاشه ، كان يتلوى ويتعصور ، وتخرج كلماته أقرب إلى الأنين أو الحشرجة ، وفي قرارة نفسه كان يرجوهم أن يكفوا ، إنه من هذا يهرب بالضبط ، فلماذا لا يسمحون له ؟! هو بحاجة لرحمتهم فلماذا لا يرحمونه ؟! ولقد كان ينتظر الرحمة من هذا الصديق قبل غيره ، لكن هذا تغافل عما به ، وبقيت إصبعه في الجرح يضغط ويوسع ويضع الملح إلى أن انفجر من الألم وقال : لماذا تلعب هذا الدور ؟! إذا كان جدك نذلاً وديوثاً فليس في هذا مفخرة ، وعليك أن تكون خلاف ذلك . كانت كصرخة ما قبل الإغماء بعد وجبة قاسية من التعذيب ، لذا أرادها مؤلمة بقدر ما تعبر عن ألم .
رد قائلاً في إشارة إلى بضع سنين قضاها في السجن : فعلت ، لكنهم لم يسمحوا لي .
ـ إذا كان هذا فعلك فيجب أن يفعلوا بك أكثر . قال هذا وانكفأ على نفسه .
وبدا أن الآخرين قد عزفوا عن الحديث منذ مدة ، إذ أنهم لاحظوا المنحى الذي ينحوه ، فالقضية بالنسبة لهم هي ترداد ما سبق لهم أن سمعوه. وهكذا خيم صمت خانق على الجو . ومنذ ذلك الوقت دخل بينهما شيء ما يعكر عليهما صفو الحديث أو اللقاء .
لم يكن هذا الصديق شيئاً مختلفاً في دونيته ، وقلة من الناس لم تنح منحى كهذا في الفترة الأخيرة ، وهو نفسه كثيراً ما عذبته أخبار وردته من أنحاء بعيدة ؛ غضب الكوريين لاكتشاف مجزرة ارتكبها أصدقاؤهم الأمريكيون سنة 49؛ غضب الأرجنتينيين لزيارة كلينتون بلدهم ، ومهاجمتهم المحال التجارية والشركات التي تتعامل مع البضائع الأمريكية ؛ غضب الهنود لزيارة ملكة بريطانيا بلدهم ومطالبتهم إياها بالاعتذار عن مجازر ارتكبها البريطانيون إبان احتلالهم للهند ؛ غضب الصينيين أينما كانوا لقصف سفارتهم في يوغسلافيا . عند كل خبر من هذا النوع كانت تنبجس في داخله خيالات لعشرات آلاف الأسرى العراقيين في آخر لحظة قبل أن تطمرهم رمال الكويت أحياء في قبور جماعية ، ويعجب كيف أن أحداً لم يطالب حتى اليوم بمحاكمة بوش .
أثناء الحرب على يوغسلافيا كانت تستفزه صور الجنود الأطلسيين وهم يخوضون الحرب بكامل أناقتهم ، كان يقول : يا ناس ! الحرب أصبحت لعبة أتاري ، والنزعات العدوانية أفلتت ، وهاهي قانا تشهد أن بقاءنا وفناءنا رهن بإرادة الآخرين ، ما لم يحدث شيء سيشهد القرن القادم انقراض أمم بأكملها ، والأمم المستضعفة التي ستنجو من هذا المصير هي التي تجيد المواجهة مع نفسها ، اسمعوا أولبرايت تقارن بين المقاومة والاستيطان فتقول : البناء ليس كالقتل ، لماذا لا نستطيع أن نفعل ما فعله الأستراليون والأمريكيون الأوائل ؛ لقد كانوا ذعراناً ومغامرين ومع هذا بنوا الدولة ، تنازلوا عن المصالح الفردية المباشرة رغم فرديتهم من أجل مصلحة أعمق وأبعد مدى ، فلماذا تضمحل دولنا وتتفكك مجتمعاتنا نحن ذوي التاريخ الحضاري العريق ؟!.
مرة تحشرج بالفكرة الأخيرة أمام أحدهم فقال له : لقد كانوا عزلاً من أي انتماء ، ولا شيء يلوذون به حفظاً للبقاء سوى الدولة ، فوجدوا النموذج جاهزاً ومتطوراً في بلدهم الأم ، أما نحن فلدينا احتياطينا من مختلف أنواع الانتماءات ، نستحضرها على أبواب دوائرنا وفي مواجهة شتى أصناف القلق .
بدا أن لهذا الجواب مفعول المخدر مع مدمن محروم ؛ فالأمر لا يعود إلى عيب في فطرة شعبه أو ذكائه كما كان يخطر في باله أحياناً، لذا أحس بالراحة والامتنان ، فجعله ملاذه منذ ذلك الحين .
إنه في كل هذا دوني . لكنه لم يقل يوماً ما كلمة تجريح ، ولا عبر عن شكوكه تلك ، بل كان على الدوام ينبه ويؤاسي ، ويسأل ويبحث عن علاج أو عما يبعد تلك الخواطر، أما الآخرون فشيء مختلف . وإذ يتذكر الآن ذلك الحوار، يكتشف أن الجميع ضحايا ، وأنه الوجه الآخر للعملة ، والفرق يكمن في أنه لا يريد من أحد أن يؤكد له صحة إحساسه أو يذكره به . كما أنه كثيراً ما أحس بالحاجة للنزعات ما قبل الوطنية ،إلا أنه حاكمها دوماً بمنطق صارم ، ولم يسوغها له عقله ، وبقي لديه من القدرة على الاحتمال ما يكفي لمقاومة إغراء ُطعم يليه الموت الزؤام ، وبقي دوماً يفضل مستقبل أطفاله على حاضرهم . ويبدو أن مشكلته تنحصر في هذا الفرق ؛ لولاه كان بإمكانه المشاركة في حلقات الدراويش هذه ، وأن يستمتع بكل هذا عوضاً عن أن يتفجر غضباً لكل نأمة ، وعلى الأقل كان بإمكانه لولا هذا الفرق أن يحل الكثير من مشاكله . به أصبح تعباً مكدودا غير مرضي عنه وغير راض عن نفسه أو عن أي شيء آخر ، لكنه أبداً لم ينتبه إلى عزلته لحظة يكون مع زوجته . ولقد لاحظت هي ذلك فأي مؤشر هذا ؟! هل صدئت روحه لاختلافه ولطول حرمانه من المتع دون أن يلحظ ؟! وهل تزين له روحه القناعة هرباً من مكابدة لا طاقة له بها ، أم أن الأمر هو حقاً كما قال لها مجرد وهم ؟!.

شرب قهوته على عجل وانطلق يتجول في الشوارع ؛ إنه بحاجة لأن يخلو مع نفسه ويغوص فيها إلى أعمق أعماقها ، ولا سبيل إلى ذلك سوى التعب والتوحد في السير .
مشى على مهل في البداية ، اجتاز وسط المدينة باتجاه حي الفردوس ، وما إن أصبح في محيطه حتى بدأ الهرولة ، ثم الركض حتى أحس بالخدر يسري في أعضائه . ولطالما رغب بكتم أنفاسه في هذه المدينة الملوّثة ، أما هنا فلا بأس في أن يفتح رئتيه على اتساعهما ، لذا قام ببعض الحركات ثم تابع على مهل باتجاه العودة .
إنها طريقته يعتمدها لتصفية مشاعره وتنقيتها . وعليه أن يكون صافياً رائقاً أثناء استقبال صديقه الأثير .
في الليل سمعا معاً مداخلة لأحد أعضاء مجلس الشعب . لقد بدا الرجل غاضباً من أمر ما تعرض له ، إذ طالب بمحاسبة الفاسدين الكبار قبل الصغار ، ودون تدخل من أية جهة ، ما وفر فرصة للحديث عما يجري في الشركة . وقادهما الحديث إلى " البيضة من باضها والدجاجة من ولدها " فأصر بعناد على أن المهم هو التركيز على الظاهرة ، لأنها عادة ما تكون أطول عمراً من الأجيال فقال له : أنت أنت ... وهذه اختصار ل" أنت أنت ، باق على عهدي بك ، انتهازي ، لا تتغير " .
طالما قالها له ، لكن لم يكن لها يوماً ما وقعٌ كما كان لها الآن ، فلقد أحس بنفسه يتقوض من الداخل ، إنه لا يستحق ، قلما كرس إنسان من جهده ووقته وماله ما كرس ، فقال بين عاتب وغاضب : يكفي شرفاً أني آخر من تبقى لك .
أدرك صديقه أن لهذه العبارة هذه المرة وقعاً مختلفاً فقال مداعباً : طيب يا سيدي ! لا تزعل ، أنت انتهازي لا يدرك انتهازيته .
لقد ألمح إلى انتماء التهمة إلى مجال الخلاف الفكري . وهذا حق لا يعيب أحداً . ووفق هذا يمكن أن يكون صديقه انتهازياً أيضاً ، أو ما شاء أن يصفه به .
أحس باعتذاره الضمني فسكن روعه قليلاً ، لكنه مال إلى بعض الدلال فبقي عابساً مغضباً فاستطرد صديقه : طيب ونظيف اليد أيضاً ، هل رضيت الآن ؟!.
كانت هذه النقلة مفاجئة ، ذلك أنهما كانا معاً منذ فترة في زيارة لصديق ، وكان كل ما في كيانه وكل ما يصدر عنه يقول : انظر ، هكذا انتهيتُ ، وهكذا انتهى المناضلون محط إعجابك . والآن إذ تحدث صديقه عن نظافة اليد حدثته نفسه عن غمز وقالت له :" هذا الرجل لماح وخبير بالناس ، لقد ضبطك " . وحار كيف يهرب من إحساسه هذا فقال : نظيف اليد ؟! وهل أنا رئيس البنك المركزي ؟!.
ـ لا ، لا ، أنت حقاً نظيف ونقي ، إنما قلت ما قلته بحكم العادة ، ومن باب المداعبة ، مالنا ... هل أعجبتك الهدية ؟
" ياله من صديق ! مهما يكن فتكفيه هذه الخصلة ، إنه يعرف كيف يتحدث ومتى " ، قال : هل يكفي أن تعجبني ؟! لست راضياً ، يجب أن تهتم بنفسك .
ـ يا أخي ! لاحظت إهمالك لأختي وأحببت أن أعوضها ، وعندما اشتريت هديتها قلت : لا يجوز ، هكذا سيبدوان متنافرين . ووالله ما أحببت هذا في الغرباء فكيف أحبه في أختي وصديقي ، فاشتريت لك واحدة أيضاً .
ـ طبائع قوم عند قوم فوائد . وضحكا معاً .
في تلك الليلة جافاه النوم ؛ تذكر أن أبا حيفا قال مرة أنهم استدعوه ، وتذكر أنه وقتها شد من عزيمته ووعده أن يكون مع الرفاق مسؤولاً عن عائلته فيما لو غيبوه ، لكنه أبداً لم يستطع أن يعرف ما جرى ؛ فلقد كان دائماً يحصل على إجابات غائمة ومبتورة . ومع الوقت انشغل بمظاهر الغنى عنده ونسي أمر الاستدعاء . ما يتذكره الآن حلم دارس ، إنما من المؤكد أن مظاهر النعمة بدأت منذ ذلك اليوم ، " استدعاء تعقبه ثروة ! العمى ! كيف لم أنتبه لهذا من قبل ؟!".
لئن كان الآن أرقاً فإنه متأكد أنه لن ينام مطلقاً حتى في الأيام القادمة . وأحس بالحاجة للبوح . ولحسن الحظ أن عنده من يبوح له فنادى صديقه.
ـ أبا الفوارس !.
ـ نعم !.
ـ أبو حيفا ! ...
ـ ما به ؟.
ـ لا تلمه على نعمائه ، فقد يكون أكره عليها.
ـ يا رجل ! ألا يكفي ما بي من الأرق ؟! دعني أنم . قال ذلك ضاحكاً وغطى رأسه .
ـ بالله عليك قم للحظة ، الأمر هام .
ـ والله لو أن تغيير العالم وقفٌ على هذا الأمر لما قمت ، وما أدراك أنه لن يكون باعثاً آخر على الأرق ؟!.
ـ هو كذلك ، ربما قايضوه سلامته بشراكتهم .
ـ إذاً دعني أنم .
في تلك الليلة لم ينم ؛ أي أمر لم يتذكره ؟! لكن كل الأمور كانت تلتقي عند عبارتين من جوامع المعاني ، أشبه ببؤرتين ، وكان يعجب كيف أمكن لهاتين العبارتين أن تختزلا كل هذه المعاني ، فأي شيء لا تقوله عبارة أولبرايت عن البناء والقتل أو إدانة عرفات للإرهاب الفلسطيني ؟!. واستنتج أنه ما دام عرفات من أب عقيم فلا شك أن أمه ولادة كالأرانب ، وأنها تلقح من رؤية الفحول ؛ فكم من عرفات في طول الوطن العربي وعرضه ؟!.

في الأيام التالية سرى تيار راعش في هواء الشركة . تلبسه إحساس طريدة هي ومفترسها في مكان واحد دون أن تدري أين هو . لاحظ أنه ما دخل على اثنين إلا وخرج أحدهما ، وأن الناس استعاضوا إلى حد ما عن الكلام بالنظرات والحركات الانفعالية ، وأن المزاح بدا غير مزاح والجد غير جد ، وأن كل شيء يصدر عنه وعن زملائه ينقصه شيء أو يزيده شيء .
بعد عدة أيام استدعي إلى مكتب المدير . وكان هناك وجوه لم يألفها ، قال له : اسمع ... نحن نعرف أنك لست الفاعل ؛ لقد وسخوا الجدران في وردية غير ورديتك ، إلا أننا نود أن نسألك إن كنت تشتبه بأحد .
ـ لم أفهم سيدي المدير ! هل وسخوا الجدران حقاً ؟ لا علم لي سيدي المدير ! .
ـ أقصد العبارات ... لا تتغابى . هل لديك فكرة عمن يكون الفاعل ؟ .
ـ آه ... اعتقدت أنك أنت سيدي ! أعني بإيعاز منك .
ـ أنا ؟! لم أفهم ، اشرح لنا كيف .
ـ عفواً سيدي ! اعتقدت أنك أردت أن تمنن علينا الحلة الجديدة للشركة .
وارتاح قليلاً إذ لاحظ ظل ابتسامة على وجه المدير .
ـ فكرة والله ! وتبادل نظرة ذات مغزى مع الحضور وقال : أعجبتك هذه المستجدات إذاً ؟!.
ـ كيف لا ؟! يا سيدي ! إن الله جميل يحب الجمال ، والله ما عاد المعمل يطاق بدونها .
ـ هكذا الرجال تقدر الأمور حق قدرها . ماذا تقترح أنت ، هل لديك أفكار محددة ؟ .
ـ نادي جمباز يا سيدي ! ما دامت الشركة لا تعمل إلا أياماً معدودة في السنة فمن الخير أن يكون لدينا نادي جمباز ، مسبح ، أو ملاعب تنس ، الفراغ مفسدة يا سيدي ! ثم إن هذه الحدائق كم تكون رائعة لو نعمل فيها نوافير مياه !.
مرة أخرى بدت علامات الرضا على وجه المدير ، قال : بإمكانك أن تنصرف ، ولا تنس أن تخبرنا إذا ما علمت بالفاعل ، لا أريد لأحد أن يلعب بذيله ، مفهوم ؟! يمكن الكتابة بشكل لا يشوه الجدران ؛ لدينا خطاطون مهرة .
ـ أمركم سيدي ! هل تأمرون بشيء آخر ؟
ـ لا... انصرف ، اسمع ... قد أدعوك مرة أخرى ، ولا داعي لأن تذكر شيئاً عن لقائنا هذا .
بعد خروجه وجد نفسه في مواجهة مع نفسه . بسخرية مرة سألته : الله جميل يحب الجمال يا منظوم ؟! نادي جمباز ، يا منظوم ؟! ليس أي نادٍ ، بل نادي جمباز ! كأنما كي لا يبقى رأس منتصبا على رقبة !! ألم يكن من الأفضل أن تطلب عكازات للعمال يا منظوم ؟! هل أنت هو أنت ؟! عد من حيث أتيت علك تجد ذاتك يا منظوم ...
لقد قذفه هذا اللقاء إلى زمن الانتفاضة الفلسطينية الأولى ؛ في سنتها الخامسة سمع أحدهم يتبرم قائلاً : باعوها والآن ما عادوا يعرفون كيف يرتاحون ويريحون !. واستفزه التعليق فاندفع في جدال هو أقرب إلى الشجار ، مزيج من الحجج العقلية والمهاترات ؛ فالإنسان يكون في العادة حذراً من عدوه ، فكيف استمرت هذه الكذبة الإسرائيلية أربعين عاماً ، رغم كل شهادات دمنا، وخرائبنا ، وحكمائنا ؟!.
حدث هذا في إحدى فترات التوقف ، لذا كان عدد الحضور لا بأس به . وانتهى الحديث بطلب من البعض لأنه لم يرُق له ، أو لأنه توجس شراً ، أو لأنه ببساطة لا يريد أن يكون شاهداً على حديث يبلَّغ عنه . ولم يطق صبراً على السكوت عن كلمات يختنق بها فانصرف .
وانتبه بعد انصرافه إلى أنه بخلاف خصمه كان يبحث عن الكلمات يقلبها وينتقيها على حذر ، وأنه لولا قليل لخسر الجولة وأفحم ، فأصابته رعشة وكاد يغمى عليه . " العمى !... هذا الخائن كان مرتاحاً علي " ، بهذا حدث نفسه . وبدأ يقلب فكرة جنونية في رأسه ، لكنه أخيراً ارتاح إذ عزم على تحقيقها ، فكان أن تناول قطعة أنبوب معدني وعاد إلى ساحة النقاش يحدث نفسه بأنه سيجعله يردد وراءه صاغراً رغم أنفه : " أنا ابن خنزيرة ولدتني من إسرائيلي على مزبلة " وإلا سيعدمه حياته .
في طريق عودته عاوده شعوره يوم كان على الجبهة ؛ وقتها اكتشف إحساسه بقدرته على الدفاع عن نفسه ، وكان سعيداً بهذا الإحساس الجديد عليه ، لذا نظر إلى بندقيته بشيء من العرفان كما لو أنها أمه . والآن إنه يمسك بقطعة الأنبوب بأعصاب مشدودة حتى أحسها امتداداً لساعده . وبين الحين والآخر كان يلقي نظرة عليها ويتابع الهرولة . وعلى الباب التقى ببعض زملائه يغادرون المكان . ولم يحتج الأمر لأقل قدر من الذكاء كي يدركوا غايته فحجزوه ، إلا أنه لم ينصرف قبل أن يتوعده قائلاً : عهد علي عهد حر لأقتلنك أينما خلوت بك . ولقد أخذ خصمه هذا التهديد على محمل الجد ولم يبلغ عنه ، لكنه تحاشى اللقاء أو المرور به ، ولم يأخذ الأمان إلا بعد فترة طويلة وتوسط الأصدقاء ، فهل يستطيع الآن العودة إلى المدير ولو أعزل ليقول له : كلا يا سيدي ! لسنا بحاجة لمسبح أو أي شيء آخر ، وشركتنا بفضلك أصبحت كقبر من رخام ، ولن أبلغ عن الفاعل لو عرفته ؟! كلا لم يعد قادراً على شيء من هذا ، " آه كم تغيرت في عقد من الزمن، أنت لاشيء ، دودة ، حشرة ، ومن الخير لك أن تموت قبل أن ينخرك الذل " .

في ذلك اليوم سأل زوجته إن كانت تقبله زوجاً لها فأجابت : ما سر هذه الصحوة المتأخرة ؟!.
ـ يعني موافقة ؟!.
ـ رغم تغيرك .
ـ يعني هناك تغير ؟!.
ـ طبعاً، لكن عين الحب لا ترى ، الحبيب ينزل ، هو نفسه ، في النهر مئة مرة .
ـ ألا ترى أبداً ؟! حتى لو كانت عين فيلسوفة ؟!.
ـ ترى أن المحبوب ليس على بعضه ، وأن في طلبه الزواج جد مقلق .
ـ وهو كذلك .
ـ إذاً أنت مجنون ، ماذا ألمّ بك هذه الأيام ؟!.
ـ ألم تلاحظي شيئاً ؟.
ـ ألاحظ ولا أفهم ، وأعتقد أنك تحمل الأمور أكثر مما تحتمل .
ـ إذاً من الخير لي ألا أكون عذول نفسي .
ـ وأنا أيضاً لا أريدك هكذا ، واستدركت بغنج : إلا في حال أحببت علي .
ـ حتى في هذه الحال لن أكون .
ـ لست بحاجة لاعترافك ، سأعرف بنفسي ، وانتبهت لما يشبه الاعتراف : يعني تعملها ؟! يا ويلك ! .
ـ ما رأيك أنت ؟
ـ رأيي أن هذا الحديث سخيف . وبحثت عما تشغل به نفسها .
لعل أخطر ما يعانيه هو صرامته مع نفسه ، أو لنقل هو ضميره اليقظ . لقد ساقت هذه الخلة تداعياته إلى نقطة محددة : الزواج عقد بالتراضي بين طرفين ، ويوم وافقت زوجته على الاقتران به كان شجاعاً يذود عن حقه دون حساب ، ويلتزم قول الحق وإلا فالصمت .
هي كغالبيتهن حلمت بفارس يصول وليس بفرس تركب ، وفي العادة أكثر ما يشفع للرجل عندهن شجاعته ، ونشوتهن بها تطغى على كل إحساس ، وهي بالذات خبر هذا منها مرة : يومها استفزه موظف إذ قال له : عد غداً ، فأوضح أنه آت من مكان بعيد . ولكن ماذا في أن يترك الإنسان عمله ويسافر مئات الكيلومترات من أجل راحة كسرى أو جنكيز خان ؟ ‍‍!. لقد بدا له الموظف راضياً كل الرضا بمجده ، عنيداً متمادياً في عناده ، وقبل هذا لم يعرف وجهاً للحق في طلبه العودة منه ، فهل يشكوه ؟! أخلاق المرؤوس من أخلاق رئيسه ، ولقد خبر هذا عدة مرات في أماكن مختلفة . وأحس أن كيده سيقتله إن لم يفعل شيئاً ، فوضع يديه على الطاولة ، وبقفزة ماهرة نشيطة أصبح إلى جانب الموظف . كانت قفزة من السرعة بحيث لم تتح للموظف تدارك الأمر . ولم يصح الموظفون من المفاجأة قبل أن يغمى على زميلهم لكنهم أدموه . ولو لم يوجد من يتدخل لصالحه لانتهى الأمر بغير ما يرام . ومن حسن حظه أن الرجل أعجب بفتوته وجرأته فاستغل نفوذه . يومها واسته وعاتبته ، واستثارت عاطفته نحوها ونحو أولاده ، ولكنها أكثر من كل شيء كانت نشوى ؛ فهي تدرك أن رجلاً واحداً لا يستطيع أن يفعل به ما تراه ، لذا لابد من أن يكونوا كثراً . كانت عيناها تشعان وتبرقان بالامتنان لدرجة لم يبق لعتابها وتأنيبها أي قدرة على الإقناع .
وإذ اكتشف الآن تغيره أحس أنه أخل بشروط العقد . وإذا كان لم يجدد زواجه منها في عيد الحب فعليه أن يفعل اليوم ؛ حقاً إن المواجهة مع المدير لا تحسب في باب الشجاعة ، والتقية كانت مقبولة غالباً ، لكنه تجاوزها إلى النذالة ؛ فالمدير لم يتهمه ، ولم يكن في موضع الدفاع عن النفس ، فلماذا اقترح المسبح ونادي الجمباز؟! ولماذا أيضاً تحدث عن الجمال مستغلاً اسم الله لتزيين الفساد ، وهو الذي أنكر استغلال القداسة لتزيين الحب إكسير الحياة ؟! لذا كانت ملاحظة زوجته في محلها ، فلقد كان في طلبه الزواج منها جد ظاهر ، لأن كل هذه المشاعر كانت موجودة بكل ثقلها لحظة طلب يدها .
وإذ لم يستطع أن يكون عذول نفسه بقي السؤال عالقاً : إذا كان قد اكتشف خسته اليوم فلا بد أن تباشيرها بدأت منذ زمن ، فهل التقطتها وأقنعت نفسها بالقبول ؟.
هذا وارد ؛ فالمرأة تخاف الشجاعة فيمن تحرص عليهم بقدر احترامها لها . وهي في استثارتها لعاطفته نحوها ونحو أولادها كانت صادقة بقدر سكرها من رجولته ، " آه يا مريم ! كم أنت رائعة في حزنك وقبولك أمام الصليب ! ". وقرر ألا يروي لها ما جرى له اليوم ، قرر ألا يكون عذول نفسه ؛ فمن الخير لها أن تبقى عند حدود الحدس .

بعد أسبوع من لقائه بالمدير أعادوا كتابة العبارات بخط جميل ، وأضافوا عبارات أخرى مشابهة مع بعض الشعارات وكلام الجرائد ، وأحاطوها جميعاً بزخارف وورود ، وشغلوا الأماكن البارزة والمساحات الكبيرة برسوم كثيرة .
أحدهم رسم ميكي ماوس . وهذا شيء طبيعي ، لأننا ننشأ منذ سنواتنا الأولى على تسليمه قيادنا وتربيتنا . لكن عاملاً ما هز رأسه وقال في سره : على من ؟! وأسرّ إلى خل له بوجوب رسم دب باللون الأحمر على مساحة ومكان مماثلين .
في اليوم التالي غطي الدب باللون الأصفر ، ورسم بدلاً منه سيفين متقاطعين مع نخلة ، فما لبث أن انتشرت حمى الرسم ؛ رسموا أعلام الدول كل حسب فريقه المفضل لكرة القدم ؛ رجالاً بطرابيش "يؤركلون " أو يلعبون الزهر؛ رجالاً بقبعات من مختلف الأنواع وفي مختلف الأوضاع ؛ مناظر طبيعية ؛ نساء جميلات . كل ذلك في أماكن ممتازة ، الأسبق فالأسبق . وانتهى الأمر إلى أن أشبعوا المساحات الصغيرة برسوم منمنمة ، أغلبها من أفلام الرسوم المتحركة المستوردة ، لأنها كانت أول ما تبرز للذهن في مواجهة المساحات الفارغة .
مع آخر مساحة قابلة للرسم عليها أصبحت الشركة أشبه بمهرجان للرسم والخط واللون . وهكذا أصبحت " العب وامرح " زهرة في مرج ربيعي ، الأمر الذي لم يرض كاتبها على ما يبدو، فرسم منظراً عاماً للشركة على لوحة معدنية وكتب إلى جانبه : " مقصف الأحلام يرحب بكم على بعد 300متر " وركزها على الرصيف . ولقد انطلت على بعض السائقين فاقتحموا باب الشركة دون أن ينتبهوا للوحة المعلنة عنها ، الأمر الذي كان مثار تندر الحراس وانزعاجهم أحياناً ، إلى أن أزيلت اللوحة التي لعن العمال أب وجد ، وجد جد كاتبها . لكن خطأ السائقين استمر ، لأن الألوان كانت تحرف الأنظار عن اللوحة المعلنة ، ولا تدع مجالاً للشك بأن هذا يمكن أن يكون شيئاً آخر غير استراحة ، أو إن خطأ من سبقهم وصل إلى أسماعهم وأرادوا أن يمثلوا دور المغرر بهم ، أو إنهم أرادوا احتجاجاً سلبياً مضمراً .
دهنت الشركة من جديد ، وأصدر المدير أمره بعدم الرسم إلا للمكلفين به ، وأشيع وعد بأن ترضي الرسوم الجديدة الجميع ، واستبدلت اللوحة المعلنة القديمة بأخرى جديدة فوق الأتستراد كبيرة وجميلة كقوس النصر في باريس ، واستبدل السور من الحديد المشبك بآخر من الحجر ، وملس وقطع إلى مستطيلات قصد ملئها بالشعارات والعبارات الودودة وعالية النبرة ، تدعيماً للوحة المعلنة ، بحيث لا ينخدع إلا من أراد أن ينخدع ، وفوق ذلك أوعزوا للحراس بالبروز قليلاً بأسلحتهم ، ومن ضل بعد هذا من السائقين جلدوا به الأرض لأنه يسخر .
بالتزامن مع هذا نشطت أعمال النادي والمسبح ونوافير المياه والري بالتنقيط ـ إنما دون مياه ـ والأرصفة من الحجر باللونين الأبيض والأسود ، وأعمال كثيرة أخرى لم تخطر ببال صاحبنا ، ما جعل الشركة أجمل من أي شاطئ أحلام . ثم انتبهوا إلى أن هذا الجمال لا يتناسب مع الشبابيك المعدنية القاتمة ، فاستبدلوها بأخرى من الخشب زاهي الألوان وبزجاج ملون أيضاً ، فكانت كتلك النوافذ الحنونة والمريحة للنظر في أبنيتنا القديمة ، والتي في سبيلها إلى الاندثار .
كل هذا عزز في قلبه حزناً قديماً شفافاً ، بل كان باعثاً إضافياً على الأسى ؛ فهو كثيراً ما سمع أو قال أن المعمل عندما يتوقف يشبه القبر، والحال أنه هو وزملاؤه رغم كل هذا الجمال ، بل بسببه أو بدافع الألفة ، لزموا المعمل من الداخل حتى في حال توقفه ، وقليل هو الوقت الذي يقضونه خارجاً . لهذا كانت كآبة الحديد وبرودته تنتقل إليهم وتعشش في حناياهم دون أن ينتبهوا حتى بدوا على انسجام تام مع هذا الحزن ، تماماً كما لو أنهم خلقوا هكذا . كانوا يعيشون حزناً متجدداً إلا أيام التشغيل المعدودة في السنة ، لذا فهم اعتادوه وانطبع على محياهم ، حتى إذا ما سئل أحدهم : كيف الحال ؟ أجاب : عايش ، أو ماشي ، أو على الله ، ودون أن يستطيع تحديد سبب لكآبته .

جاء الوزير الجديد وقال للمدير : ما هذا ؟! كأنكم تعيشون في دنيا أخرى ، ألا يقول المارة أن هذا البذخ لا يتفق مع توجه الحكومة ؟! من ير يعتقد أننا في" كازينو". ولقد فهم المدير الأمر جيداً ، فأمر بطلاء الشركة حتى بدت كأنما لبست بذلة صينية ، وكلف لجنة المشتريات بشراء كمية كبيرة من علب الدهان والفراشي ، وفتح المجال لكل من يرغب باستلام فرشاة وما شاء من الدهان لكي يرسم ويلون في زاويته وقسمه ما شاء ، مع تنبيه مشدد إلى وجوب أن تعبر الكتابات بشكل واضح وصريح عن توجه الحكومة وشعاراتها . ولأن الذين استمتعوا بهذه اللعبة المسلية لا يعرفون أي شيء عن توجه الحكومة ، ولا أي توجه آخر ، ولحذرهم من أية زلة فرشاة ، اكتفوا بعبارة :" نعم للتحول الكبير " ، والأقل حذراً بدؤوا عباراتهم ب : " نعم " حتى لا تحمل على محمل آخر ، والشديد الحذر اكتفى ب:" نعم .. نعم .. نعم ". وما أن انتهى آخرهم من عمله حتى بدت الشركة وكأنها قلبت ثوبها ، وبهذا تأكد أن لا مجال للهرب من الواقع ، وأصبح الدوام كابوساً مطبقاً . لهذا عندما قال الخلد : كان عليهم أن يبقوا على نصف الشركة ملوناً من الخارج ويلونوا نصفها من الداخل فقط احتساباً للمتغيرات ، عندما قال الخلد هذا ، لم يستطع مجاراته في الضحك ، وبدت قهقهته كأنما ارتطمت بحائط وارتدت عنه ، لقد بدا بطلنا وكأنما قدّ من رخام بارد ، وبعد مداراة لغيظه قال : طوبى لك ، تستطيع أن تفرج عن همك ، واستدرك : يعني تمرح وتحب الضحك . لكنه بعد قليل عزم في سره على أمر ما .



#أكرم_إبراهيم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المطهر
- هواجس
- سقوط حر
- صخب
- سلة هواجس
- هل يمكن القضاء على الفساد بأدوات فاسدة ؟ 2من2
- هل يمكن القضاء على الفساد بأدوات فاسدة ؟ 1 من 2
- عكك*
- شكراً لحماس وحزب الله
- قصة
- الدولة والعودة : الجدل بين الشعار والممارسة والخطاب *
- نصر آخر لحزب الشعب وشركائه
- قمة هرم أم مركز مثلث ؟!!
- قراءة في إعلان دمشق
- ليس خوفاً على السلطة بل خوفاً من حزب الشعب


المزيد.....




- “أقوى أفلام هوليوود” استقبل الآن تردد قناة mbc2 المجاني على ...
- افتتاح أنشطة عام -ستراسبورغ عاصمة عالمية للكتاب-
- بايدن: العالم سيفقد قائده إذا غادرت الولايات المتحدة المسرح ...
- سامسونج تقدّم معرض -التوازن المستحدث- ضمن فعاليات أسبوع ميلا ...
- جعجع يتحدث عن اللاجئين السوريين و-مسرحية وحدة الساحات-
- “العيال هتطير من الفرحة” .. تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- مسابقة جديدة للسينما التجريبية بمهرجان كان في دورته الـ77
- المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي: إسرائيل تعامل الفنانين كإرهاب ...
- نيويورك: الممثل الأمريكي أليك بالدوين يضرب الهاتف من يد ناشط ...
- تواصل فعاليات مهرجان بريكس للأفلام


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أكرم إبراهيم - صدمة