أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - إلِكْترا: الفصل السادس 5















المزيد.....

إلِكْترا: الفصل السادس 5


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 5887 - 2018 / 5 / 29 - 10:33
المحور: الادب والفن
    


مرة أخرى، شكّلت المصادفة، العابرة للقارات، ثلاثيّ صداقةٍ من امرأة ورجلين. كانت صداقة شبيهة بلوحةٍ فنية، صُبغَ فيها وجهُ " لويس " بطبقة من الطلاء الأبيض كي يحل بمكانه وجهُ مواطنه الرسام بلونه الورديّ الشاحب. خلفية هذا النسيج، المفترض، كانت منارة " الكتبية " والتي حلّت بمكان برج " ايفل "، المطموس مع وجه ذلك الصديق تحت طبقة جديدة من الألوان. على أنّ الأمرَ ليسَ بهذه المُساهلة، المَجازية. الأميرة، عليها كان أن تفاجئ أحدَ الصديقين، على الأقل، بخبر ارتباطها بقريبٍ للأسرة يشغل وظيفة محترمة في الديوان الملكيّ بالرباط. ما أن سألها " غوستاف " مَدهوشاً عن صديقها الباريسيّ، إلا ومسحة من النفور تغلّفُ سحنتها السمراء: " أرجوك، لا أريدكَ أن تذكر اسمه أمامي أبداً "، قالتها في نبرةٍ قاسية أقرب للغضب. كانا عندئذ وحيدين، بينهما طاولة مربعة صغيرة، تشكل معهما أشباحاً ثلاثة تطل من ترّاس مقهى السطح الكبير على الساحة الأسطورية، الثاوية بأضوائها في عتمة الليل ـ كتاجٍ خرافيّ، يأتلقُ بجواهرٍ من مختلف الألوان والأحجام.
إنّ هذه الساحة، لتُشبه أيضاً بحيرة تنهلُ مياهها من عدة جداول؛ على سطحها، تتخبّط الأسماكُ الكبيرة والصغيرة، متآلفة في مهمّة حفظ النوع أو ملتهمة بعضها البعض في لعبة البقاء.. ساحة، لا يُدرك أقطابُها ومريدوها حقيقة كونها روحَ المدينة الحمراء، ليسَ بوسعها الموت بالرغم من محاولات قتل جسدها بحراب الحداثة الكاذبة، التي يكمن خلفها جشعٌ من المحال إشباعه.
هامَ ذهنُ " غوستاف " بالأفكار، طالما أنّ جليسته شاءت أن تبتر النقاش، المستعيد ذكريات باريس. وهيَ ذي تقطعُ سيلَ فكره، هذه المرة، حينَ سألته عن الرسام: " أظنكَ كنتَ تمزح، بقولك أنه أسلمَ بغيةَ إرضاء امرأته؟ ". كانت نبرتها رصينة، وكأنما لحثه على الإجابة بجدية. قال لها، محاولاً تقمّصَ لهجتها وقد اكتسى وجهه، كالعادة، بتعبيرٍ هزليّ: " أوه، نعم بالتأكيد. إن هيلين، وهذا اسمُ قرينته، لم تمسي بنفسها مسلمة على الرغم من صيامها رمضان وتأديتها للصلوات الخمس ولو بطريقة غريبة. يلوحُ أنها واقعة تحت سحر امرأة عربية، كانت بمثابة خادمة لديهم في الصويرة.. "
" سحر؟ أنتَ تؤمن، إذاً، بأننا نَسْحُرُ للنصارى! "، تساءلت وعلى شفتيها السميكتين ظلّ ابتسامة ساخرة. أجابَ ضاحكاً، محمرّ السحنة: " أعني، أنّ امرأة صديقنا واقعة تحت تأثير خادمتها. على أيّ حال، المرأة الآن أضحت أقرب لملاقاة إلهها منها إلى أيّ من رعيته. كانت كاتبة موهوبة، ولكن مرضها العصبيّ جعلها تتلف معظم ما أنتجته خلال العشرين عاماً الأخيرة "
" أمرٌ مؤسف، حقاً. وتلك الخادمة، أأنتَ تعرفها عن قرب؟ "
" بلى، إنها تلك المرأة نفسها، التي حدثتك عنها في باريس.. "، ردّ بتسليم وقد أدهشه قوّة فراستها. وكانت هيَ قد قاطعته بالقول، متضاحكة: " آه، تلك المطلقة! ". ثم أردفت، بعدما هزّ رأسه موافقاً في شيءٍ من الحرج: " وهل تأتي هيَ مع مسيو جاك إلى مسكنه، هنا في مراكش، أم أنها تبقى دوماً بجانب امرأته؟ "
" نعم، تأتي أحياناً. ولكنني كذبتُ عليكِ فيما مضى، بالزعم أنها مطلقة. إنها ما تنفكّ تعيش مع زوجها، وهوَ رجلٌ مدمن وعالة، على الرغم من أنهما لا يتعاشران منذ سنوات "
" كان بمقدورها أن تتخلّص منه بالسحر، أو حتى أن تسمّه! "، نطقت كلماتها ببساطة مع ضحكة غامرة. لم يعقّب على كلامها، سوى أنه سايرها في شعور المرح. فلما ألحّت عليه نظراتها المتسلّطة، فإنه كسا قوله بنبرة لا مبالية: " هيَ امرأة بسيطة ساذجة، شبه أمّية. بيْدَ أنها لا تخلو من الخبث والمكر، شأن المنحدرين من الريف ". فيما بعد، عليه كان أن يستعيد الجملة الأخيرة في حديث الأميرة، كأنها نبوءة، وأن يعدّها كذلك من علامات تمتعها بالفراسة والنباهة.

*
وجدت " سوسن خانم " الرسامَ العجوز غارقاً في أحزانه، تماماً كما توقعت. غير أنها، في مقابل ذلك، أبدت فرحتها بمرآه يسير على قدمين ثابتتين بعدما كانَ هاجسٌ آخر قد أقلقها بخصوص صحته. لما رجعت مساءً إلى مقر إقامتها، صرفت " للّا عيّوش " مع الطفلة إلى حجرتهما، المحاذية لغرفة نومها، والتي شغلاها لعدة أشهر فيما مضى. ثم ما لبثت أن أرتقت الدرجَ، وصولاً إلى الترّاس، كي تجلبَ مخطوطة المذكرات من المحترف. وعلى غير المألوف، أخرجت هنالك أيضاً دفترَ يومياتها لتسجّل بعض الملاحظات. سرعان ما نحّت الدفترَ جانباً، خشيةً أن يُغريها بمزيد من الكتابة: كانت قد تجرعت عدة أقداح من النبيذ لدى " مسيو جاك "، وهيَ عادةً لا تكتبُ شيئاً حين تكون شاربة.
لقد استقبلهم العجوزُ عند باب الفيللا، مُبدياً دهشته من مرأى " للّا نفيسة " وكانت قد دلفت تواً من السيارة. اندفعت هذه نحوه، لتناوله حفيدتها بحركة حنان متصنّعة لم تخفَ عليه، مثلما بدا من ابتسامته الحزينة، المتهكّمة. وبحجة الطفلة، ظلت ملتصقة بالرجل طوال السهرة مثل بزاق لجوج على ساق نبتة متسلقة. على أنّ المرأة لم تكد ترعوي عن حركاتها، حينَ رشقتها السيدّة السورية بنظرة ممتعضة، قائلةً في شدّة وحزم بالفرنسية: " لدينا ما نقوله، أنا والمسيو، هنالك في حجرة مكتبه. بوسعك البقاء مع حفيدتك، كونك اشتقتِ إليها ولا شك، بعدما فارقتها وكان عُمرها أربعة أشهر! ". ذلك الوخز لم يؤثر في جلد المرأة، الخشن القاتم، كما عبّرت عنه بانطلاق ضحكتها المستهترة، المنتهية بشهيقٍ يُشابه صوت بلوغ الرعشة في المطارحة الغرامية. المسيو نفسه، لدهشة الخانم، أصيبَ بعدوى الضحك ولو أنه بصوتٍ مكتوم انتهى بتمتمة طرقت أذنها: " يا للحمقاء..! ".
قال لها العجوز، آنَ همَّ بمرافقتها إلى خارج المكتب على أثر اختتام خلوتهما: " أرغب أيضاً أن تحتفظ الصغيرة خَجيْ بمحتويات هذه الحجرة، فإنها أكثر الأشياء الحميمة بالنسبة لي.. ". رأت الضيفة مقدارَ الألم في وجهه، لما كلّمها مشيراً إلى ما تحتويه الحجرة من أشياء متنوعة؛ لوحات وتماثيل وتحف وأسلحة. فانتهزتها سانحةً لتذكّره بأخي الطفلة؛ الولد المسكين، شبه المعاق: " إنها بنت، ومن الطبيعي ألا يجذبها السلاحُ. ولكنك، مسيو، تعرفه بلا ريب لابن تلك المرأة؛ ميمو..؟ أعتقدُ أنك بوسعك إسعاده بهذه الأسلحة التقليدية، إذا كانت ستؤول إليه في الكبر.. "
" أجل، أتفقُ معك. فكيفَ غابَ عني الأمرُ؟ "، أجابَ بسرعة فيما كان يهرب بنظره إلى ناحية تلك الأشياء.
" مع عُمره المتقدّم، كان ما يفتأ محتفظاً بشيمة الحياء "، كذلك فكّرت الخانم وهيَ تتذكّر أحداث يومها الحافل. فلما تناهى بها الفكرُ إلى هاتيك اللحظات، اختلجَ وجهها بملمح الفرح: الرسام العجوز، أعترفَ مواربةً بكون " ميمو " ابن ربيبته، بأن أعلن عن تسميته سلفاً كأحد المستفيدين من وصيّته فضلاً عن عزمه إهداء مجموعة الأسلحة له. وأضاف مبتسماً بمرارة، فيما كانت يده تمتد إلى غدّارة معلّقة على الجدار: " إلا هذا المسدس الحربيّ؛ كونه ما زال صالحاً للاستعمال ".
وإنه السلاح نفسه، المقدّر له بعدَ أيامٍ ثلاثة أن ينهي حياةَ الرسام الفرنسيّ انتحاراً، وذلك بحَسَب تقرير الشرطة المحلية.. وبحَسَب وصيّة " مسيو جاك "، نقلَ جثمانه إلى اسبانيا كي يدفن إلى جانب زوجته في مدينة ملقة. ثمّ عاد الجثمانُ لاحقاً إلى المغرب، بعدما رفضت الكنيسة دفنه ثمة كونه مات منتحراً. وقد حلّت السلطات المشكلة، حينما اكتشفت فجأة في أوراق الراحل ما يؤكّد أنه ماتَ على دين الإسلام. هكذا تمّ دفنه في مقبرة ضاحية " الحميدية "، أينَ الفيللا، التي شهدت الشطرَ الأكبر من حياته في المغرب؛ في بلدٍ، بلغَ من حبه له أن دانَ بعقيدة أهله. لم يحضر جنازته سوى ثلة قليلة من المشيعين، كان بينهم السيّدة السورية ومستخدمو مكتبها. القنصل الفرنسيّ في المدينة، من ناحيته، اكتفى بإرسال إكليل من الورد مع سائقه.



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- إلِكْترا: الفصل السادس 4
- إلِكْترا: الفصل السادس 3
- الدهليز والكنز
- إلِكْترا: الفصل السادس 2
- إلِكْترا: الفصل السادس 1
- سيرَة أُخرى 69
- إلِكْترا: الفصل الخامس 5
- إلِكْترا: الفصل الخامس 4
- إلِكْترا: الفصل الخامس 3
- إلِكْترا: الفصل الخامس 2
- إلِكْترا: الفصل الخامس 1
- إلِكْترا: الفصل الرابع 5
- إلِكْترا: الفصل الرابع 4
- سيرَة أُخرى 68
- إلِكْترا: الفصل الرابع 3
- إلِكْترا: الفصل الرابع 2
- إلِكْترا: الفصل الرابع 1
- إلِكْترا: الفصل الثالث 5
- إلِكْترا: الفصل الثالث 4
- إلِكْترا: الفصل الثالث 3


المزيد.....




- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...
- -الضربة المصرية لداعش في ليبيا-.. الإعلان عن موعد عرض فيلم - ...
- أردوغان يشكك بالروايات الإسرائيلية والإيرانية والأمريكية لهج ...
- الموت يغيب الفنان المصري صلاح السعدني
- وفاة الفنان صلاح السعدني عن عمر يناهز الـ 81 عام ….تعرف على ...
- البروفيسور منير السعيداني: واجبنا بناء علوم اجتماعية جديدة ل ...
- الإعلان عن وفاة الفنان المصري صلاح السعدني بعد غياب طويل بسب ...
- كأنها من قصة خيالية.. فنانة تغادر أمريكا للعيش في قرية فرنسي ...
- وفاة الفنان المصري الكبير صلاح السعدني
- -نظرة إلى المستقبل-.. مشاركة روسية لافتة في مهرجان -بكين- ال ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - إلِكْترا: الفصل السادس 5