أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ذياب فهد الطائي - لايموت الصبار عطشا /رواية / من حكايات انتفاضة 1991 -الفصل الرابع















المزيد.....


لايموت الصبار عطشا /رواية / من حكايات انتفاضة 1991 -الفصل الرابع


ذياب فهد الطائي

الحوار المتمدن-العدد: 5879 - 2018 / 5 / 21 - 22:50
المحور: الادب والفن
    


لا يموت الصبار عطشا
رواية(من حكايات انتفاضة 1991 )
ذياب فهدالطائي

الفصل الرابع















عاد عبد السلام بصحبة شاب في العشرينات ...كان يرتجف ويحاول أن يخفف وطأة البرد بشد سترته الى صدره ....تم الاتفاق بسرعة ووعد بأن يعود في السابعة وعلى خالد ان يكون مستعدا ....اشترط أنه غير مسؤول اذا ما تعذر دخول النجف بسبب القتال الذي يشمل المدينة ومحيطها حتى جهة الفرات ،
هيأ عبد السلام المكان لنوم خالد ، فرش بساطا صوفيا وجلب بطانية ووسادة ....سمع بكاء الطفل ووالده يقنعه بعدم دخول الغرفة ،
ـ عيب عادل ....هذا عمو ...سيذهب في الصباح وسيترك البطانية ...صدقني انه لن يأخذها معه،
ـ لا ...اريد بطانيتي الزرقاء ....بطانيتي الزرقاء
سمع امه تضحك ـ عادل ساعطيك حلاوة ...حلاوة نهر خوز من خاله فهيمه
ـ كثيرا !
ـ نعم
في الصباح كان السائق عند الباب ...قال بأنهما سيسلكان طريق الجزيرة...عفك ...الشامية ...ثم الكوفه ...الطريق حتى الكوفه آمن وهو تحت سيطرة الثوار ، في الطريق حدثه عن سقوط قلعة سكر ..ظلت ثلاثة ايام بيدهم ...ثم أستعادوها منهم ...أعدم الاسرى ...الهاربون هم الناجون!!
لم يعتدوا على الاهالى.

ـ من ...الجيش ؟
ـ لا الثوا ر
صمت واجما كأنه يتذكر شيئا ما و يستعيد ذكريات بالغة الخصوصية ثم بدأ بالغناء ،كان صوته حزينا مفعما بالاسى .... كأنه يندب عزيزا
تنشـــدنــي عله هالحــا ل .............حــالي عله حــا له
سمـجه وشحيح المــــاي ...........وبظـهري فـــــا له
التفت الى خالد
ـ بنادق الكلاشنكوف أمام الدبابات !! والمصيبة الاكبر الهيليكوبتر وصواريخ أرض أرض ، ياالله !!
قال " الســيد" "كانت خطة "".....الامريكان يقدرون ان ذلك سيحصل ولهذا سمحوا لدبابات الحرس الجمهوري بالعودة الى بغداد
صمت لحظة ثم تابع ـ كنت أول امس في كربلاء " الهيليكوبترات " تلتقط اهدافها التقاطا.
ـ هل كنت مع الثوار
ـ أنا !! لا عمي ...كنت أنقل جنازة ...كانت لأمراة من قرية قرب القلعه ...كان ابنها معي ولكنه لم يرجع بعد الدفن ....ظل في كربلاء.
ـ هل أنت متزوج ؟
نظر الى خالد مستغربا وقال
ـ نعم ....عندي بنتان علاهن في الصف الثاني الابتدائي ..لم تسقط، كل شهر هي الاولى ...تحفظ جزء" عم " ، الصغيرة في الثالثة حنطية ...ظفائرها ذهبية...اجمل طفلة في القلعة....وسن....بالتاكيد ستستغرب ...علا هن و وسن ... أسم جميل... أليس كذلك ؟.
ـ نعم ...ولكن كيف اخترته؟
ـ جئت ببعض الاثاث من بغداد الى بيت القائم مقام، أثناء إنزال الاثاث خرجت طفلة كأنها أميرة جائت من حلم جميل ...سبحان الخالق !!...قالت ان اسمها وسن، كانت زوجتي حامل .
ـ وتعيش مع أهلك؟
ـ اهلي !....انهم يعيشون معي ...ابي متوف ... امي ...وأختاي ...الكبيره لديها ثلاث اطفال ... قتل زوجها في الحرب مع ايران ...كان ذلك في معارك نهر جاسم في البصرة ...هل تصدق اني لم أسمع بهذا النهر الا عندما وقع القتال!!أما الثانيه ...مسكينة ... زوجها معلم ...أخذوه بعد شهرين من زواجهما ...وبعد شهرين قالوا لقد مات ...كيف حصل ذلك ! لم يخبرونا ...مسكينة " زهره".
ا لطريق موحش فالجزيرة ارض خالية على امتداد أكثر من مئة كيلومتر حتى اول عمران ،عادة ، يستخدم هذا الطريق المهربون وقطاع الطرق بالاضافة الى السيارات التي تنقل الجنائز من المدن والقرى الواقعة على الجهة الشرقية لنهر الفرات.
على الطريق الاسفلتي تل ترابي من الوضح انه قد أعد عمدا ...التفت السائق نحو خالد ،
ـ لآ تخف هذا حاجز أقامه الثوار من ألبو ياسـر
توقف عند الحاجز
ـ الى أين ؟
تقدم شاب يرتدي دشداشة يرفع طرفها الى حزامه المربوط على استدارته محافظ جلدية للاطلاقات وعلى رأسه كوفية وبكتفه رشاش .
ـ " سيد" عدنان نحن ذاهبان الى النجف
ـ ها ...حميد ....شلونك
ـ بخير ...كيف حال الوالد
ـ الحمد لله
شاهد خالد بضعة شباب مسلحين يحيطون بالسيارة .... كانوا بأنتظار استطلاع عدنان في حين كانت أيديهم على أسلحتهم لم يكونوا يتبادلوا الحديت ...صامتون بشيىء من التوتر ... ربما يرجع الى الاخبار غير المشجعة التى تردهم من الجبهات .
ـ تحياتي للوالد وللعائلة
ـ ستصل ...ولكن كيف أدعكما تذهبان وا لساعة وقت غداء ! ا لوالد لن يغفر لى هذا ،على الاقل الأخ غريب ولا يمكن ذهابه من دون أن نتشرف باستضافته ....كاظم ، سأعود بعد ايصال الاخوة للبيت .
التفت السائق نحو خالد
ـ لن نتأخر اكثر من نصف ساعة، نحن لسنا في بغداد وعادات القرى مختلفة.
لم يرد ولكنه استسلم بهدوء ...عند الباب استقبلهم رجل في الستين ...ملابسه مما يرتدي اهالي القرى في الفرات الاوسط .
ـ أهلا بالضيوف
كان الرجل مبتسما تلوح على محياه مسحة من الطيبة وترتسم في ابتسامته البسيطة رغبة في التسامح ، في الغرفة الطينية فرشت حصران من البردي مد عليها بسط ملونة محلية الصنع مما تشتهر به المنطقة .
لم تكن الإضاءة جيدة ولهذا كانت صور الجالسين مشوشة ...ربما يكون ذلك من تعب السفر والقلق ....نهض الرجال من مجلسهم عند دخولهما .
كان الحديث عن ا لقتا ل ، بسيطا ومباشرا ومفعما بالامل ،لم يكن يداخلهم الشك في ا ن حياة جديدة تبدء الان .
ـ الاخ من بغداد
ـ نعم
ـ ولكن في هذه الظروف !
ـ لدي سيارة عند كراج في المنطقة الصناعية تركتها لاصلاحها لأنها تعرضت لحادث انقلاب ....في النجف افضل مصلحي السيارات في العراق .
أمّن السائق على كلام خالد بهزة من رأسه ....نقرت يد نسائية على ظلفة الباب المفتوحة للداخل فقام أبو عدنان .
قدم صحنا كبيرا عليه رز ولحم ، قطع كبيرة وأرغفة خبز حارة واناء فيه لبن رائب .
ـ تفضلوا . قال ابو عدنان
لم يكن هناك ملاعق أوشوك كانوا يتناولون الرز بالايدي ثم يقتطعون من اللحم حسب الحاجة ، يغرفون شيئا من اللبن بوا سطة ملعقة كبيرة ثم يخلط بالاصابع وتدوّر اللقمة قبل ان ترتفع الى الفم ...كان الطعام لذيذا ولكنة لم يجد رغبة لتناول الكثير ، أصر ابو عدنان ان يستزيد لان الطريق طويل وهو بحاجة الى الغذاء فقد لايجد مطعما او محلا لبيع المأكولات ... ابو عدنان يخدم الجميع ...يقتطع قطعة من اللحم يقدمها لهذا أو يدفع بالرز باتجاه ذاك .
كان مكبر الصوت المنصوب على سيارة يقترب شيئا فشيئا من الداريناشد الاهالي أن يعيدوا ما أخذوه من أثاث ومعدات من مكتب الناحية ومركز الشرطة والمدرسة ويتوعد بأنه عند الساعة الخامسة مساء سيبدأ تفتيش من بيت لبيت عن المسروقات وسيعاقب من لا يعيد ما أخذه على الفور الى بيت السيد عمران أبو عدنان لغرض احصائها والتأكد من عدم الحاق اضرار بها قبل اعادتها الى أماكنها .
قال ابو عدنان ـ الاهالي يكرهونهم ...يكرهون كل رموزهم وقد اعتقدوا ا ن سقوطهم يسمح بالإستيلاء على الممتلكات العامة ... هذا الربط الخطأ ربما بسبب الحقد تجاههم...أليس كذلك ؟
ـ ربما ...
ـ نريد ا ن يفهموا أنه لابد من السلطة لانه بدونها ستعم الفوضى
كان يتحدث ببساطة ، ربما لايدري أنه يلخص كما هائلا من المعرفة
عبرا الجسر الخشبي على الفرات ...كان سوق" الشامية" مزدحما مليئا بالمارة وبالباعة ...عند محطة البنزين أوقفتهم سيارة " بيك أب " عليها رشاش ثقيل يقف خلفه شاب يشد حول رأسه شريطا اخضرا كتب عليه لا اله الا الله باللون الابيض
ـ الى النجف
ـ لايمكن ... القتال عنيف وطائرات الهيليكوبتر تقصف المدينة ومحيطها ولا تستثنى اية سيارة تتحرك على الخط اذ يتوقعونها لنقل إمدادات للثوار.
قال خالد ـ نعرف ذلك ولكن لابد لنا من الذهاب
قال السائق ـ لا أستطيع تعريض حياتي والسيارة للخطر ...السيارة مصدر رزق عائلتي ...أرى انه لابد من العودة للشاميه
عادا الى الشامية ...كان واضحا أن السائق يرغب في العودة الى قلعة سكر .
لاتوجد هنا فنادق ...هل سنبقى طويلا ؟-
ـ حسنا ...يمكنك أ ن تعود أم أنا فسأظل هنا عسى أن استطيع تدبير ذهابي غدا الى الكوفه .
دفع للسائق أجرته ....بلّغ أبي عادل تحياتي ...قد أراه قريبا .
كا نت الشاميه تعج بحركة نشطة لم تشهدها من قبل ...عشرات الالاف من مواطني النجف والكوفة والقرى المجاورفي محيط القصف المتبادل قد هربوا اليها، افترش الناس أرصفة الشوارع والساحات العامة والمباني الحكومية الفارغة والمدارس ، كانوا يتكدسون حيثما وجدوا مجالا وعلى الطريق من الكوفه كانت جموع النازحين مستمرة مشيا على الاقدام ، سيلا لا نهاية له لم ينقطع حتى عندما ينهمر المطر في ساعات الفجر الاولى، يخيم عليهم الخوف والرعب ، تحمل النسوة على رؤوسهن حزم الأغطية والملابس ، الاطفال أنهكهم المشى عدة كيلومترات وجمّد الخوف في عيونهم الدموع وهم لاينفكون يصرخون ولم تجدي معهم توسلات الامهات أو نهرهن لهم ... كانت النسوة حريصات على القليل من الطعام الذي يحملنه وعلى مصوغاتهن الذهبية والنقود .... تركن كل ما عدا ذلك .
تذكر خالد كيف تم نهب بيوت الفاو في محافظة البصرة ...اية غرائز همجية يتم تنميتها واطلاقها ...لمصلحة من يتم ذلك؟!
اشترى رغيفا من الخبز ... شعر بالجوع وبالوحدة ... احس في داخله فراغا رهيبا يمتد ببطء ليستولي على مشاعره ... اين يذهب ؟ ماذا يفعل ... كان الناس من حوله كأشباح يراها من بعيد ، لم يكن يدقق في ملامحهم كانوا كلهم بالنسبة له واحد !
وقف على جسر الشامية الخشبي يرقب الفرات ، الماء العكر يتدافع ...يهرب جنوبا... يجري كأنه حصان حرون ... لم يكن يجري كموجات متتالية بل فوران صاخب لايريد التوقف ... أتكأ على الحاجز .... ركز على الماء ...قفزت سمكة رصاصية داكنة كانت تعاند التيار بنزق ... شعر بالخبز الجاف يقف في حلقه ...عاد الى السوق ليشتري شيئا يمكن ان يجعله اكثر طراوة ....بائع الخضروات يحاول ان يقنع النسوة العجلات واللواتي لا يتوقفن عن المساومة ، كانت فتاة في الخامسة عشر تمسك بيدها بضع حزم من البصل الاخضر والبقدونس تنتظر أ ن يلتفت اليها لتدفع الثمن،
ـ رجاء كم سعر هذا ؟
ـ لحظة ....بالدور
كان وجهها الطفولي ينضح حلاوة ...عيناها باسمتان شديدتا السواد تتفتح حدقتاهما عن براءة آسره ... تتدلى خصلات الشعر الكستنائي من تحت عبا ئتها ... كانت تبعث شعورا بالصفاء .
قال البائع ـ أنت من الكوفة ؟
ـ لا من النجف
شد الجواب خالدا
ـ من العمارة ...الزهراء !
ـ لا , من الهندية
تيقظت مشاعره ،نسي التعب والجوع وطرا وة المضغ ،أصبح مستفزا
ـ قلـت من الهندية !!
ـ نعم
ـ هل تعرفين استاذ فاضل معلم ...زوجته خديجة معلمة أيضا ....في مدرسة الهندية
.ـ نعم أعرفهم , ابنتهم سراب كانت معي في المتوسطة ...قبل ايام جاءهم أقاربهم من بغداد
ـ متى رأيتهم آخر مرة ؟
ـ قبل يومين , عند " دخول الجيش " ، ركبوا سيارتهم وغادروا ، لاادري ان وصلوا بغداد أم رجعوا ثانية ، العديد من المغادرين لم يتجاوزوا محيط المدينة بسبب شدة القتال على الطريق وفي البساتين .
شكرا لله انهم على الاقل أحياء ، ولكن أين هم الان؟ هل اضطرهم القتال على الطريق اللجوء الى إحدى المدارس أم هم الان في أحدى البساتين في العراء ...كيف يتدبرون أمرهم ؟ ماذا يأكلون؟
في الشامية التي راح يبحث ، في مدارسها ومبانيها الحكومية وفي البساتين الممتدة على شط الفرات ، عن عائلته كان يرى المئات ينامون مكدسين غير مبالين بالرطوبة او الريح الباردة التي كانت تصك عظامهم .... كانت الامهات يحتضن أطفالهن ،الخوف "منهم " من اجتياحهم مواقع المقاومة وا لوصول الى هنا يبعث الرعب في اوصالهن .....دائما ليس للرحمة مكان في قلوبهم.
جلس على الرصيف ..لم يكن يملك اغطية ...لامكان للمبيت ...حتى ولو سقف يقيه المطر الذي قد يتساقط بأية لحظة ...كانت تمر سيارات " بيك أب " مسرعة تحمل رجالا مسلحين ...كانوا صامتين يبدو عليهم وجوم مستسلم ...في عمق النظرات كان يلحظ ادراك عميق لعبثية اللحظة ولكنه رغم ذلك كان يكسبهم صلابة واستهانة بما سيواجهوه ... لم يكن الموت هو الذي يشغلهم ، كان شيىء آخر يتعلق بالفرصة المتاحة لهم بحمل السلاح .... بالرفض ... أن يقولوا بالبندقية....لا ...كبيرة مدوية بحجم القهر والاهانة وأن يعطوا هذه الــ " لا " مافي ارادتهم من قوة .
ـ مرحبا
ـ اهلا
كان رجلا طويل القامة نحيفها أضفى عليه الغروب الرمادي غموضا وشيئا من الصلابة تبدّى في استقامة انفه وكثافة حاجبيه .
ـ الاخ غريب ؟
ـ نعم
لم يجد لديه الرغبة في مواصلة الحديث معه ولكن مما تعلمه من تجواله في المنطقة أ لا يقطع التواصل مع محدثيه فقد لايعطي الانطباع الاول صورة دقيقة، ربما يعود ذلك لطبيعة التركيبة الاجتماعية ...كما قرأ مرة لاحد اساتذة علم الاجتماع في بحث عن المجتمع العراقي ...أو ربما الى الثقافة العامة المتوارثة ...
ـ هل تبحث عن احد ما من أهالي المنطقة
ـ كلا ابحث عن عائلتي المفقودة !
ـ ولكن كيف ستقضي الليل ؟
ـ هنا
ـ هنا !!
قالها باستغراب ناظرا اليه بتفحص ...ربما أعتقد أنه يمزح !
ـ الاخ من بغداد
ـ نعم
ـ لاحول ولا قوة الا بالله ...الى اين سينتهي كل هذا ...لااعتقد انك ستتحمل المبيت على الرصيف فعادة الليل شديد البرودة ويبدو أنك متعب!
ـ لم أجد مكانا يمكن أن الجأ اليه ...لايوجد فنادق ...وكل الأماكن مزدحمة ...لايوجد مكان مسقف لم يكن مليئا بالناس .
ـ صحيح حتى المساجد والحسينيات ...
صمت برهة ثم تابع بحماسة
ـ هل تسمح لي بأن أضيّفك ؟ ..عندي في البيت
ـ جزاك الله خيرا
ـ أمهلني خمس دقائق وسأعود , علي أن أشتري بعض الحاجيات للبيت .
فكر خالد بأن ما يحصل لايمثل انفصالا عن الواقع ،انه الواقع ذاته بأستمراريته... التعارض على الاقل ليس هنا ، سيذهب مع رجل حتى انه لم يتبين ملامحه بدقة.
عاد يحمل دجاجتين وكيسا من الرز .
ـ هيا
ركب معه ... حين تحركت السيارة بدأ يفكر بأن التعارض ليس مسألة اجتماعية فقط اذ قد يكون موقفا انسانيا ايضا ، بين ما يفرضه الاستنتاج العقلي وما يحسه الانسان ...مايشعر به ... بدأ يداخله شيىء من الخوف يقابله عدم توفر بديل ، كان متعبا ، قلقا ، سدت بوجهه كل المنافذ ...لن تكون أية مخاطر محتملة اكبر من المخاطر التي تواجه فاتن وناديه وأحمد ...هو يواجه مجهولا ولكنه يجد بنفسه القدرة رغم كل شيىء على المقاومة أما هم فأن المجهول أكبر من تصوراتهم .
أخذا الطريق الترابي المحاذي للفرات جنوبا ، شريط كثيف من البساتين يلفها ظلام غامض وعلى الجانب الاخر تبدوا أشجار النخيل كأشباح بلاوجوه تصدر انينا كانه نواح مكتوم حينما تجبرها رياح آذار الليلية الباردة على الاهتزاز، أبتعدا عن المدينة ولم تعد غير اصوات الضفادع ونباح الكلاب تقطع الليل ،كان الطريق موحشا كئيبا كل شيء ممكن في هذا الجو المثقل بالاحتمالات هل يطمع الرجل بسلبه ما يعتقد انه يحمله من نقود ؟!! ربما ... ولكن هل يذهب ابعد من ذلك ،يقتله !! ربما ... انفلت زمام الظنون ، كل شيىء ممكن ، وضع يده على أكرة الباب استعدادا لفتحه والقفز خارجا ومن ثم الهرب عند أول بادرة شر من الرجل .
ـ نحن مجموعة صغيرة تعيش خارج المدينة ... كلنا ابناء عم ..يمكن أن تقول اننا عائلة كبيرة ..هنا نسمي مثل هذا التجمع "فخذ " الفرات الاوسط تسكنه عشائر وحينما تمتد العشيرة تتفرع الى بطون وثم افخاذ وفي هذه المناطق لابد للانسان أن يكون جزءا من كل ، للعشيرة روابطها التي تحكمها قوانينها الخاصة والانسان هنا اكثر تما سكا مع الاخرين .

بدأ الحديث يعطي انطباعا مشجعا ....فالرجل لايلمح الى أية نية سيئة وهو يتحدث بلهجة العارف باهمية العلاقات الانسانية في محيطه ,هدأت ظنونه بعض الشيىء وترك اكرة الباب واسترخى .
ـ لهذا فحينما بدأت الانتفاضة انتشرت في الفرات الاوسط بسرعة
ـ ربما لان المنطقة مشهورة بوجود ميل واستعداد للتمرد ....أليس كذلك !!
ـ ربما , ولكني لااعتقد بان هذا هو السبب .... لقد تعرض الناس هنا الى كم هائل من الظلم ...ترتكب التجاوزات بحقهم لاتفه الاسباب ...الشباب لا يجدون اي مستقبل لهم و من لايموت في الحرب يموت با لتحقيق ...الكل معرض لان يحقق معه ....وبالتالي لأن يموت ، لااحد يعرف لماذا يريدون أن تجري الامور على هذه الطريقة !!
ـ نعم ألاحظ ذلك اذ تبدو الحركة وكانها انفجار لا يخضع لمحددات سياسية .
لم يعلق الرجل ، فكر خالد ولكن من سيحاول ركوب الموجة ؟من سيحاول الاستفادة من هذا الانفجار واستلام الدفة ؟
ـ قال الرجل ـ ماذا؟!
ـ لاشيء ...
انحرفت السيارة يسارا وسط البساتين ...عاود خالد الشك.... بدات أضواء خافتة تتلالا وسط الظلا م الكئيب... أطمأن فالطريق يفضي الى قرية .
تدافع بضع صبية نحو السيارة وارتفع نباح الكلاب التي احاطت بهما ..
قال الرجل ـ هؤلاء هم الدفعة الثانية من أولادي ..... الدفعة الاولى بنتان ... ستتعرف الى الجميع ،
قاده الى غرفة منعزلة ، فتح الباب وأضاء فانوسا نفطيا معلقا على عمود خشبي وسط الغرفة .
- تفضل .
كانت الغرفة رحبة جدرانها عارية ، لم تجهز باية كراس ...في الوسط حصيرة نظيفة من سعف النخيل الابيض والذي يكون عادة في وسط حزمة السعف على رأس النخلة ، والى الجدران مدّت مجموعة من قطع السجاد العراقي ذات الالوان الحمراء ورصفت فوقها كالعادة وسائد طوال ، خمن خالد أن الرجل كثير الضيوف.
ـ أرجو أن تسمح لي ببضع دقائق وسأعود
واضح أنه كان يريد أن يعطي تعليماته لزوجته وبناته باعداد العشاء ... سمعه يطلب سكينا ...قال لزوجته ... على وجه السرعة ، الرجل متعب وقد يرغب بالنوم ...لااعرفه ... كان وحيدا ومهموما فأردت مساعدته ...سنرى في الغد ... كان صوت امرأته هامسا لم يتبينه ولكن من الواضح من اجاباته انها كانت تستفسر عنه.
ـ اهلا وسهلا
كرر الرجل ترحابه وهو يعود
ـ في الحقيقة أنا عاجز عن الشكر
ـ على ماذا .... لولا هذه الظروف لرأيت العديد من الرجال يسهرون عندي ...نحن معتادون على الضيوف والبيت الذي لايضا ف لاتدخله البركة ... أنا اشكرك لانك قبلت دعوتي .... اهلا وسهلا
أشعل مدفأة نفطية وقربها اليه ، الليل شديد البرودة ولكنه لم يكن يشعر بذلك ،كان انشغاله أقوى من البرد ، مد يديه الى المدفأة ، هذا هو آذار في المناطق المكشوفة يكون الهواء غير محتمل يتسلل عبر شقوق الباب ليدق في العظم كالابر.
دخلت فتاة في العشرينات ... قال هذه زينب ابنتي الكبرى خريجة لغة انكليزية في جامعة القادسية ...وبانتظار التوظيف في احدى مدارس المحافظة .... لعنة الكويت اخرت ذلك!!
سلمت الفتاة بشيء من ا لحياء.....قالت...الشاي سيصل حالا
قال الرجل ـ الشاي لقتل البرد وأيضا لقتل الوقت لحين الانتهاء من اعداد الطعام .. أرجو ا ن يكون هذا ملائما !
ـ نعم ملائم
ـ زينب هي ساعد امها الايمن ... لدي ستة غيرها ...اختها الصغرى سميرة ...واربعة اولاد .... سميره مختلفة عن الجميع نموذج للمثابره ... نسميها دودة الكتب فهي مشغولة دائما بالقراءة ....
حين تعود من الجامعة تحمل دائما مجموعة من الكتب التي تستعيرها من المكتبة
ـ ربماالمنهج صعب
ـ لا.. .ماتقراه لاعلاقه له بالمنهج الدراسي تقول ان التاريخ وظيفة وفلسفة ...صدقني انها حينما تنطلق بالحديث يصعب علي التصديق انها ابنتي !! خالها مدرس في ا لثانويه، يدرّس التاريخ ... يقول ان عليها ان تتوقف عن الاستمرار بهذه القراءات ...سيصبح هذا خطرا عليها ... وقد خطرت لي فكرة لحل هذه المشكله... نحن بدون قراءة مدانون فكيف ا ذا قرأنا !
ـ كيف .؟..اعني ماهي الفكره
ـ لقد بدأت اطلب منها كل مساء أن تقرأ لي سورة من القرآن الكريم والزمت العائلة كلها بالصلاة معي ......فكرت أن في هذا شيء من التحصين ... ولكن يبدو أن البنت ذكية فقد فهمت قصدي ... كفت عن استعراض افكارها أو الدخول بأية مناقشة معي أو مع خالها .
ـ ولكن من المحتمل انها بدأت تبتعد عن ....
ـ كلا .... لأنها ظلت تأتي بالكتب من المكتبة أو من بعض صديقاتها
كان طعم الشاي لاذعا ...فهو لم يتناول غير جزء من رغيف الخبز ظهرا ولهذا اكثر من السكر ليخفف من شدته .
ارتفع صوت المذياع بأغنية لفيروز مليئة بالشجن يحملها الليل والغربة مشاعر غامضة مفعمة بالحزن ... دخلك ياطير الوروار ....احس انه ينفصل عن المكان .... يذهب بعيدا ،
دخلت فتاة سمراء ذات عينين شديدتي السواد لامعتين أضفت عليهما الاضاءة الخافتة صلابة ،
كان وجهها خاليا من اية مساحيق ولكنه كان ناعما وقد اكسبته استدارة ذقنها شيئا من الشاعرية المرهفة ... كانت على العموم جميلة تشعرك بان لها حضور شخصي مقبول ،
ـ السلام عليكم
ـ وعليكم السلام
ـ هذه سميرة عالمة التاريخ !
ابتست الفتاة محرجة من اطراء والدها
ـ بابا العشاء جاهز ... هل تغسلون ايديكم في الخارج ام تفضلون أن أجلب الابريق " واللكن " هنا
ـ لا .. الجو بارد .. اجلبيهما للداخل
سكبت الماء بتؤدة وقدمت المنشفة القطنية , حين أعادت الاواني خرج والدها معها وعادا يحملان صحنا كبيرا من الرز وضعت فوقة الدجاجتان فيما كانت زينب تحمل اناء بداخله لبنا رائبا ،
علق الرجل ـ عشاء بسيط ولكن صدقني لاعلاقة له با لتاريخ !!
قالت زينب ـ ولاحتى بالجغرافية !!
زمت سميرة شفتيها لتداري خجلها فقد فهمت انها المقصودة بالمداعبة .
لم يشعر ميلا لتناول الطعام ولكنه حاول أن يجامل مضيفه ... بدأ يلح عليه النعاس وهو على السفرة فيثقل جفنيه ،
ـ آسف جدا ...لااستطيع مقاومة سلطان النوم .... لقد كان عشاء لذيذا ... هذا الجو الاسري أعاد لي بعض الثقة بنفسي وبالغد ...سأظل أحتفظ بذكريات هذا المساء طوال عمري.
ـ أقدر وضعك تماما ...زينب .... سميرة ... ارفعا كل هذا ... ولتحضر أمكما البطانيات
أغلق الباب بهدوء متمنيا له نوما هانئا.
الصباح في القرية يبدأ مبكرا ...... في السادسة استيقظ كل شيئ .... الفلاحون ... الديكة ... الكلاب ... حتى النخيل بدات سعفاته بالحفيفيف المرح ..تجاوز أنينه المبحوح .. صمتت الضفادع واختفت الجنادب .... ارتفع بديل عن ذلك أصوات آلاف العصافير تتقافز بحثا عن الطعام لصغارها .. انها الحياة تعود ثانية للبدء .
دخلت أم زينب تحمل صينية كبيرة مغطاة بقطعة قماش بيضاء
ـ صباح الخير ياأخي ... أرجو الا تكون الضوضاء قد حرمتك النوم ... الذين لم يتعودوا العيش هنا يصعب عليهم النوم في الايام الاولى ... ففي الليل ضجة من نوع آخر ... الكلاب والضفادع وعويل الرياح .
سيحضر ابو زينب حالا فور أن ينتهي من صلاته .
كان إبريق الشاي الذي يتصاعد منه البخار يبعث رائحة منعشه تختلط برائحة الخبز الحار والمعد قبل دقائق .
ـ لقد نمت كما لم أنم طوال حياتي و لم أسمع شيئا .
قالت زينب ـ لقد حاولوا دخول النجف ليلا من جهة الحي العسكري ولكنهم فشلوا وهم يعسكرون الان على طريق الحلة ،
ـ هل سمعت هذا من المذياع ؟
ـ كلا .. خليل ابن ابو حسن هو الذي قال ذلك ... عاد لتوه من القتال بعد إصابته بكتفه .. يقول ان الجثث على الأرصفة وفي الشوارع ... لايستطيعون رفعها بسبب شدة القصف المدفعي والصاروخي ... والخوف من طائرات الهيليكوبتر التي تهاجم كل شيئ يتحرك ... فجر اليوم ضربوا حي الزهراء بصاروخ أرض أرض ... قد يفعلوها ويستعملوا الكيماوي !!
قال الرجل ـ ألم يقل الحلفاء انهم دمروا الاسلحة الكيماوية ؟
قالت سميرة ـ يقولون !!
قال الرجل ـ الحديث لن ينتهي ... لنذهب ... سنحاول البحث عن البنزين في الشامية.
إستقلا السيارة وغادرا القرية الهادئة والمسترخية في غابة النخيل تنام على إيقاعات الليل وتستيقظ على مرح الديكة ونزق العصافير ... ولكنها بين الليل والنهار تحلم بأن ينتهي رعب الدبابا ت وأن لايختفي ابنائها ليلا دونما عودة....





#ذياب_فهد_الطائي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- لا يموت الصبار عطشا (من حكايا انتفاضة آذار 1991 )الفصل الثال ...
- لايموت الصبار عطشا - رواية - الفصل الثاني
- رواية/ لا يموت الصبار عطشا /حكايات من انتفاضة 1991 /الفصل ال ...
- رواية -ثلاثة اصوات من البصرة /الصوت الثالث -ألأب
- رواية - ثلاثة اصوات من البصرة /الصوت الثاني
- ثلاثة اصوات من البصرة /الصوت الاول -الإبن
- من حي الزنجيلي في الموصل الى حي النصر في بغداد /الفصل الثالث ...
- من حي الزنجيلي في الموصل الى حي النصر في بغداد-الفصل الثاني ...
- من حي الزنجيلي في الموصل الى حي النصر في بغداد /الفصل الحادي ...
- من حي الزنجيلي في الموصل الى حي النصر في بغداد/الفصل العاشر
- من حي الزنجيلي في الموصل الى حي النصر في بغداد -الفصل التاسع
- من حي الزنجيلي في الموصل الى حي النصر ببغداد-الفصل الثامن
- من رواد الصحافة اليسارية في العراق
- من حي الزنجيلي في الموصل الى حي النصر في بغداد -الفصل السابع
- تطور الحركة النسائية العراقية -ملامح سريعة
- من تاريخ الصحافة العمالية في العراق
- رواية /الفصل السادس
- رواية الفصل الخامس
- رواية ا/لفصل الرابع
- رواية /الفصل الثالث


المزيد.....




- سمية الخشاب تقاضي رامز جلال (فيديو)
- وزير الثقافة الإيراني: نشر أعمال لمفكرين مسيحيين عن أهل البي ...
- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- ألف ليلة وليلة: الجذور التاريخية للكتاب الأكثر سحرا في الشرق ...
- رواية -سيرة الرماد- لخديجة مروازي ضمن القائمة القصيرة لجائزة ...
- الغاوون .قصيدة (إرسم صورتك)الشاعرة روض صدقى.مصر
- صورة الممثل الأميركي ويل سميث في المغرب.. ما حقيقتها؟
- بوتين: من يتحدث عن إلغاء الثقافة الروسية هم فقط عديمو الذكاء ...
- -كنوز هوليوود-.. بيع باب فيلم -تايتانيك- المثير للجدل بمبلغ ...
- حديث عن الاندماج والانصهار والذوبان اللغوي… والترياق المطلوب ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ذياب فهد الطائي - لايموت الصبار عطشا /رواية / من حكايات انتفاضة 1991 -الفصل الرابع