أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - علي زغير - موسم الاغتراب العراقي















المزيد.....



موسم الاغتراب العراقي


علي زغير

الحوار المتمدن-العدد: 5868 - 2018 / 5 / 9 - 16:27
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


موسم الاغتراب العراقي
علي زغير

من يدقق في معظم الحوارات والنقاشات التي تجري هذه الأيام على ارض الواقع اليومي المعاش في المدن العراقية, ومن حيث مضمونها السياسي, سيلاحظ أنها لا تختلف كثيراً عما يدور في نسخها الافتراضية المنتشرة على مواقع التواصل الالكتروني. فالعراقيون المتحاورون في البيوت والمقاهي وباصات الأجرة, شأنهم شأن مواطنيهم المتجادلين على صفحات الفيس بوك وتوتير والوات ساب, لا ينفكون وهم يقضون معظم وقتهم في تجاذب أطراف الحديث عن موضوعة الانتخابات العراقية المقبلة, وبالتحديد فإن ما يمثل بؤرة اهتمامهم في هذا الموضوع هو طبيعة الموقف العملي الواجب اتخاذه من عملية التصويت, والذي ينقسم وبشكل حاد ما بين معارض رافض للمشاركة فيها, ومؤيد راض لخوضها .
إن المتتبع لأحاديث وحجج الطرفين, وبالمقارنة مع المواقف والخطابات التي سادت قبيل فترات الإنتخابات النيابية السابقة, سيدرك وبكل سهولة أن حجم الدعوات الى المقاطعة والعزوف عن هذه الانتخابات قد بات كبيراً جداً, وهو ما يؤشر وبكل وضوح على تصاعد منسوب الخيبة التي لحقت بنفوس وعقول أغلب العراقيين الذين فقدوا كل أمل ورجاء في اصلاح ما آلت إليه اوضاع العراق من خراب وفساد طال جميع مفاصل الدولة وأجهزتها الحكومية.
ومن خلال التحليل السيميائي لدلالات وسائل التعبير من الكلمات والإيماءات والرسوم التي يستخدمها الرافضون للمشاركة في هذه الانتخابات, يتبين لنا؛ ان التوصيف الأقرب الى الدقة لما يحسونه من مشاعر الغبن وأفكار الندم لا يمكن أن يندرج سوسيوسياسيا إلا تحت مسمى الاغتراب السياسي political Alienation وهو المفهوم الذي سنعتمده في هذا البحث كأداة نظرية نبتغي من خلال قدرتها التحليلية الى تقديم مقاربة موضوعية تنطوي على بعد تفسيري واقعي وذلك بدلاً عن التأويلات الذاتية والتبريرات الايديولوجية المعروضة على أغلب صفحات الجرائد والمواقع الالكترونية.
رغم التحفظات والتنبيهات الكثيرة التي يسجلها المفكرون حول حقيقية الدلالات المتعددة والمتنوعة لمصطلح الاغتراب, والى الحد الذي دفع ببعضهم الى وصفه بنوع من السديم التصوري(1) الا ان المستقصي للجذور والأصول المفهومية للتعريفات والتوصيفات المتعددة التي تقدم لهذا المصطلح, سيجد انها تنتهي الى نواة جوهرية محددة بمعنى الانقطاع او الانفصال السلبي او غير المرغوب فيه, ومن الجدير بالذكر هنا ان هذا الانقطاع او الانفصال لا يمكن ان يحدث دون وجود فعل انتاج بشري (فردي او جماعي), وهو ما يعبر عنه جورج نوفاك بقوله: إن الاغتراب يعبر عن حقيقة واقعة ومشاهدة , وهي ان ما يبتكره الانسان وينتجه بيديه وعقله لن يلبث ان يتحول ضد الانسان نفسه ويصبح له السيطرة الكاملة على حياته, وبذلك فان هذه الابتكارات التي يبتكرها الإنسان تزيد من عبوديته بدلاً من ان توسع حريته, وتسلبه قدراته على اتخاذ القرارات بنفسه وعلى توجيه حياته(2), وفي هذا الصدد يكفينا ان نستقرىء تحليلات الفلاسفة والمفكرين لنعثر فيها على عشرات الأدلة المؤكدة على هذه الحقيقة؛ حقيقة ان الاغتراب لا يمكن ان يحدث الا بناءً على توافر علاقة مكونة من ثلاثة معطيات أساسية: المعطى الاول يتحقق عبر طرف يقوم بممارسة عمل اجتماعي ما, قد يكون سياسي كما لدى فلاسفة نظرية العقد الاجتماعي, أو ديني كما لدى فيورباخ, أو اقتصادي كما لدى ماركس. اما المعطى الثاني فيتمثل في واقع انفصال منتج هذا العمل عن صانعه الأول وهو الانسان. والانفصال هنا لا بد من ان يكون مصحوبا بغياب التحكم. اما المعطى الثالث والأهم فيكمن في سيطرة طرف آخر على هذا المنتج واستخدامه بالضد من رغبات حياة ومصائر مبتكره الذي كان السبب في ظهوره الى عالم الوجود الانساني.
إن فهم الاغتراب بهذا المعنى ومحاولة تطبيقه على مجمل الأحداث والتطورات السياسية التي حدثت في العراق منذ سقوط دكتاتورية صدام حسين عام 2003 وحتى موعد اجراء الانتخابات البرلمانية في 12/5/2018 , يتيح لنا القول بان العراقيين قد باتوا متيقنين من ان ما يعيشونه من عدم المساواة السياسية والظلم الاجتماعي يعود في سببه الرئيسي الى حقيقة المسخ السياسي الذي خلقوه بأنفسهم منذ اول تصويت لهم في انتخابات 2005 والاستفتاء على الدستور. فبدلاً من ان تصبح الدولة الجديدة في خدمة الشعب وتعمل على رفع اثار المعاناة التي لحقت به في ظل النظام البعثي السابق, اكتشف العراقيون بان تفاؤلهم الوطني وأفعالهم الديمقراطية التي مارسوها وعبر ثلاث عمليات انتخابية لم تفعل شيئا أكثر من استبدال دولة استلابية بأخرى اغترابية(3) لا تختلف عنها كثيرا من حيث احتكار السلطة والقوة والمال من قبل قلة حزبية معينة على حساب الأغلبية الشعبية التي اوصلتها الى سدة الحكم.
مع هكذا حال وعلى مدى خمسة عشر عاماً من المراقبة لطرق إساءة استخدام السلطة العامة من قبل السياسيين وتجييرهم لمؤسسات الدولة وثرواتها لخدمة مصالح احزابهم وذويهم, نما لدى معظم افراد الشعب احساس بالانفصال والقطيعة عن الطبقة السياسية الحاكمة في العراق. لقد أصبح السياسيون العراقيون بمناصبهم وقصورهم ورواتبهم الخيالية في واد, والشعب المبتلى بنقص الخدمات وغياب الأمن وتقديم الشهداء في واد ثان.
في مثل هذا الوضع وأمام الاستحقاق الانتخابي المزمع اجراؤه بتاريخ 12/5/2018 ومع حقيقة ادراك معظم العراقيين لنجاح القوى الحاكمة, في إحاطة نفسها بمجموعة من الهياكل السياسية والاطر القانونية والتنظيمات العسكرية التي من شأنها ان تساعدها على الاحتفاظ بالسلطة والحيلولة دون خسارتها, تفاقمت حالة الاغتراب السياسي بشكل كبير جدا, مقارنة بعمليات الانتخاب السابقة. وفي سبيل مقاربة أكثر موضوعية لبحث هذه المسألة, ودون الاقتصارـ كما يفعل كثير من الباحثين ـ على تناول ابعادها السلوكية ونتائجها الاقتراعية البادية للعيان, سنعمد الى تناول الموضوع من جانبين, الأول: يمكن وصفه بأنه ذو طبيعة خارجية برانية, ويقوم على رصد أنواع الشعور الاغترابي التي يعيشها أكثر العرقيين, وسنقتصر هنا على تناول اكثرها اهمية, والمتمثلة بحالتي الشعور بالعجز والخيارات الجوفاء. اما الجانب الثاني فيمتاز بكونه ذو منزع داخلي جواني ومداره الاجتهاد من اجل تقديم تفسير موضوعي مناسب لبعض أهم الجذور الاجتماعية المولدة لظاهرة الاغتراب السياسي في المجتمع العراقي, وهنا سنعتمد على مفهوم الاغتراب الذاتي كأداة تحليلية نسلط بها الضوء على هذا الجانب.
1ـ خيارات جوفاء وناخبون عاجزون:
يرتبط اغتراب الخيارات الجوفاء بحقيقة الاحساس بالعبث, ومن بين الحالات الواقعية العديدة المولدة لهذا النوع من الشعور الاغترابي والتي يرصدها ليفين(4), وبقدر تعلق الأمر بموضوع هذا البحث, فان حالة إلفاء الناخبين لأنفسهم في وضع للاختيار من بين مجموعة من البدائل التي لا فارق بينها, تعد هي الحالة الاكثر ارتباطا بطبيعة مواقف المواطنين العراقيين من الانتخابات النيابية لعام 2018, فعلى الرغم من انتشار الدعايات الانتخابية للكتل والاحزاب السياسية في كل زاوية من زوايا المدن العراقية وبوسائل عرض مختلفة, ومع حرص زعمائها على استخدام عناوين سياسية جديدة وشعارات تحفيزية مغايرة, إلا ان المواطنين العراقيين يشعرون بان لا وجود لتغييرات حقيقية في المشهد الحزبي العراقي, وان ما يطرح في لوحات الدعايات الانتخابية ليس بأكثر من اقنعة مزيفة لكيانات فاسدة وشخصيات انتهازية تحاول التمويه على تجاربها الفاشلة في حكم العراق, وحتى فيما يتعلق بحرص الائتلافات الكبيرة على ضم شخصيات جديدة لقوائمها تحت مسمى " مرشحون مستقلون", فإن هذا الأمر لم ينجح كثيرا في تغيير صورتها في ذهن المواطن العراقي بكونها ما زالت خيارات جوفاء لا اختلاف نوعي بينها, ومرد هذا الحكم يعود في قسم كبير منه الى ان المراقبة المستمرة من لدن المواطن لحيثيات العملية السياسية في العراق والمصحوبة بالتجربة الملموسة قد زودته بخبرة مفادها: ان رؤساء الأحزاب والكتل الكبرى هم من يحتكرون إدارة وتوجيه العملية السياسية برمتها, وان المرشحين الذين يفوزون في الانتخابات لا قدرة لهم على الفكاك من هيمنة ونفوذ هؤلاء الرؤساء, وذلك سواء بقوا أعضاءً في البرلمان يصوتون وفقا لإرادة رعاتهم, أو انتقلوا الى الحكومة لشغل مناصب تنفيذية يسخرونها تبعا لمصالح زعمائهم.
وبالمجمل يمكن رد ظاهرة الاغتراب وفقا لشعور الخيارات الجوفاء لدى الناخبين العراقيين الى الأبعاد الثلاثة التالية:
أـ بعد تنظيمي/ حزبي: ويظهر في حقيقة عدم حدوث أي تغير نوعي في خارطة القوى الحزبية المهيمنة على الساحة السياسية في العراق منذ العام 2003.
ب ـ بعد شخصي/ زعامتي: ويتجلى في استمرار بقاء معظم الزعماء السياسيين واتباعهم المقربين في ذات المواقع المتصدرة للمشهد السياسي والحكومي العراقي.
ج ـ بعد فكري/ عقائدي: ويؤشر في معظمه لحالة تواصل هيمنة ايديولوجيا الاسلام السياسي واستراتيجيات احزابها المعتمدة على استغلال الدين خدمة لتحقيق اهداف زبائنية غالبا ما تصور تمويهيا بوصفها مصالح شعبية وغايات وطنية, ولعل هتاف "باسم الدين باگونه الحرامية" والذي صاغه الوعي الشعبي العراقي ولقي رواجا منقطع النظير بين أفراد مختلف الطبقات الاجتماعية والفئات العمرية, يمثل خير دليل على وعي المواطن بخطورة هذا الجانب.
ان تسليط الضوء على الأبعاد الثلاثة اعلاه يقود بالنتيجة الى إثارة الحديث عن موضوع الدعوات التي تطرح كمشاريع سياسية بديلة عن الخيارات الجوفاء , تلك البدائل التي تنقسم ما بين ائتلافات مختلطة تقدم نفسها على انها الممثل الشرعي الوحيد للنزعة الوطنياتية العابرة للاصطفافات الطائفية والقومية, وبين القوى المدنية الخالصة التي تدعي انها تحمل مشروعا مغايراً تماماً لما تطرحه احزاب الاسلام السياسي.
فيما يخص الائتلاف الحديث والذي انعقد ما بين بعض القوى الإسلاموية والعلمانية قبيل الانتخابات, فإن هذا الائتلاف لا يمكن ان يرقى الى وصفه بالقوة السياسية الجديدة, وذلك لكون ان أكبر المكونات الحزبية المشكلة لعموده الفقري تندرج ضمن القوى السياسية التي شاركت في عملية المحاصصة الطائفية وشغل العديد من المناصب التنفيذية في الحكومات العراقية المركزية والمحلية السابقة والحالية منها, يضاف الى ذلك ان الزعامات الرئيسة لهذه الاحزاب وايديولوجياتها العقائدية لم يطرأ عليها اي تعديل جوهري يذكر. إن التغير الوحيد الملموس والذي يمكن رصده في ظهور هذا الائتلاف يتعلق بصورة التقارب الاسلاموي/ العلماني الذي حققه وعلى اساس الافتراض القائل بضرورة محاربة الفساد عبر الجمع بين الاتجاهات ذات المنزع الشعبي المساواتي الواحد, والمتمثلة بتيار اسلامي يمتلك الزخم الجماهيري ولكنه يفتقر الى العقلية المنظمة, وحزب علماني يفتقد الى القاعدة البشرية ولكنه يمتلك الامكانيات الذهنية العليا(5).
اما فيما يتعلق بهوية البديل الثاني والمتجسد في هيئة بعض الأحزاب والتحالفات المدنية التي تقدم نفسها بوصفها الضد النوعي القادر على الوقوف بوجه تغول فساد القوى الإسلاموية الحاكمة, فالملاحظ على طريقة وزمن ظهور هذه الائتلافات والأحزاب بانها لا تنبثق وفي كل مرة الا قبيل فترة وجيزة من الانتخابات البرلمانية, وهو ما يعكس واقع طبيعة النوايا المؤقتة والرغبات الظرفية العابرة التي تقف وراء تشكيلها, اذ ان اغلب الشخصيات المؤسسة والراعية لها هي خليط من برلمانيين منفردين يسعون للمحافظة على بقائهم في دورات نيابية أخرى, ووجوه تجارية وإعلامية تحاول تعزيز قدرتها المالية والمهنية بأخرى سياسية تفتح لها أبواب الاستثمار في مؤسسات ووزارات الدولة, هذا بالإضافة الى ما ستحصل عليه بعد فوزها من مزايا مادية وحصانة قانونية.
يقف الاغتراب عبر الشعور بالعجز powerlessnessكجانب اخر متمم لما تحدثنا عنه في الفقرات السابقة التي تناولت البحث في الاغتراب عبر الشعور بالخيارات الجوفاء, وتعد مقاربة سيمان لهذا النوع من الاغتراب من أفضل المداخل النظرية الملائمة لوصف مواقف المقاطعة والعزوف التي يتبناها الكثير من العراقيين إزاء الانتخابات المقبلة, حيث يوضح سيمان مفهوم هذا النمط من الاغتراب بقوله ان هذه النوعية من الاغتراب يمكن النظر اليها باعتبارها توقع أو احتمال الفرد ان سلوكه لا يمكن ان يحسم الوصول الى النتائج التي ينشدها (6), وهو الشعور الذي نجده ماثل وبكثرة في معظم وسائل التعبير التي يستخدمها المواطنون عند حديثهم عن موقفهم الرافض للمشاركة في انتخابات 2018, حيث يجزم أغلبهم باستحالة أن تؤدي مشاركتهم الى اي نتائج ايجابية تذكر. والملاحظ هنا ومن خلال تحليل مجموعة الحجج والأمثلة التي يسوقونها لإثبات صحة موقفهم هذا, ان توقعاتهم لعدم امكانية التأثير في العملية السياسية الجارية لا تنبع من محض الاعتماد على تصور نظري غير واضح أو معطى شعوري مشوش, وإنما على العكس من ذلك تماما, فهم يعتمدون في تبني خيار المقاطعة على مجموعة من الخبرات السياسية التي حصلوا عليها بفعل عدة ممارسات عملية خاضوها وذلك اما كناخبين شاركوا في الدورات الانتخابية السابقة ولم يلمسوا اي اثر ايجابي يعود على اوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية, أو كمتظاهرين انخرطوا في موجات الاحتجاجات التي حدثت بين عامي 2011و2015 وعجزوا عن تحقيق اي إصلاح من وراء ذلك , أو كمواطنين لمسوا بحكم احتكاكهم اليومي بمؤسسات الدولة حجم الفساد الذي ينخرها نتيجة لمنطق التحاصص الحزبي المتحكم بطريقة تقسيم مناصبها وتوزيع فرص التوظيف فيها.
ان مجموع هذه الخبرات السياسية السلبية, وعلى مدار خمس عشرة عاماً من الفشل الحكومي المتواصل, قد أدى الى ان يتبلور لدى معظم العراقيين إجماعا بالموافقة عند اجابتهم عن صيغة العبارة الاستبيانية التالية" ان هذا البلد تديره قلة تمسك بمقاليد السلطة وليس هناك الكثير مما يمكن للمواطن العادي ان يفعله ازاء ذلك"(7).
2ـ الاغتراب الذاتي والديمقراطية المنقوصة:
في القسم الأول من هذا المقال تناولنا بالبحث موضوع الاغتراب السياسي عبر الاعتماد على مفهومي الخيارات الجوفاء والشعور بالعجز, والملاحظ هنا, ان هذين المفهومين يسهمان في تقديم تفسير احادي الجانب فقط, وذلك في معرض الرد عن سؤال: لماذا يدعوا الكثير من العراقيين الى مقاطعة انتخابات 2018؟ ان الاكتفاء بحدود الإجابة عن هذا السؤال يعني الوقوع في شراك الرؤية الأحادية والمنزع الاجتزائي الذي يركز على جانب دون آخر, وهو مالا يسمح بتكوين نظرة نقدية ذات طبيعة تأصيلية تكمن إحدى أبرز ميزاتها في قدرتها على ربط النتائج بالأسباب وعدم الاكتفاء في حدود وصف الأعراض الظاهرة. ومن أجل تجاوز مثل هذا النقص فان هذا البحث لن يكون متوازناً ما لم يتصدى للرد عن صيغة تساؤلية أخرى فحواها: ولكن ماذا عن العراقيين الذين سيشاركون في هذه الانتخابات؟ هل ان خيارهم العملي من المشاركة في هذه الانتخابات يقع خارج دائرة الإطار المفهومي الذي استخدم لوصف وتحليل موقف المقاطعين؟ وإذا كانت الاجابة بنعم, فبأي اداة مفهومية أخرى يمكننا ان نقارب موقفهم الداعي الى ضرورة التصويت في هذه الانتخابات؟ ثم ماهي طبيعة العلاقة بين خيارهم المبني على ضرورة المشاركة في الانتخابات وموقف المقاطعين لها؟
وبالنظر الى ان المفاهيم لا يمكن ان تقسر بشكل اعتباطي على الموضوعات التي تعالجها, وان خصوصية هذه الموضوعات وطبيعة زمكانية تفاصيلها السسيوسياسية هي من تفرض على الباحث نوع المفاهيم التي يعتمدها, فإن مراجعة حيثيات مشاركة العراقيين في العمليات الانتخابية السابقة, والتي تمت وفقا لتأثيرات الزعماء الاجتماعيين تدفعنا الى اعتماد مفهوم الاغتراب الذاتي Self Estrangementلدراستها, وبالمعنى الذي حدده عالم النفس والفيلسوف الأمريكي إريك فروم .
الاغتراب الذاتي لدى فروم يستخدم في أحد مضامينه لتمييز الموقف الذي يعتقد فيه المرء أنه تأمل مليا شيئا ما وأن فكرته هي نتاج نشاطه الفكري وذلك بينما الحقيقة أنه قد أحال عقله الى رأي جهة او زعيم ما(8), وهو الأمر الذي تحقق وبشكل عملي في الواقع السياسي العراقي منذ سقوط النظام الدكتاتوري عام 2003, حيث رهن معظم العراقيين خياراتهم السياسية وفقا لإرادات زعاماتهم الدينية والقومية والعشائرية. وعوضاً عن تفعيل دور النقاش النقدي, وتعزيز ملكة الإرادة الحرة اللازمة لنجاح اية ديمقراطية, سيطر على المجال السياسي الناشئ نموذج الأمر والطاعة المبني على تعطيل دور العقل الفردي لصالح التقليد الجماعي, وهو ما حدث فعلا في عمليات انتخاب الجمعية الوطنية والاستفتاء الدستوري وانتخاب اول مجلس نيابي والتي اجريت جميعها في العام 2005, اذ عمل الزعماء الاجتماعيون على تفعيل دور الأمر والطاعة على حساب بعد الاختيار الفردي الحر, وكمثال توضيحي على ذلك وفي إطار التجربة السياسية للشيعة وهم أكبر مكونات الشعب العراقي عددا واكثرها ثقلاً سياسياً, فإن الاغتراب الذاتي لمعظم الأفراد الشيعة وعبر اعتمادهم في تحديد خياراتهم السياسية على ما يصدر من المرجعية الدينية من قرارات, قد تمظهر بمستويين اثنين: تعلق الأول بتحديد هوية الجهة السياسية التي ينبغي ان تكون بمثابة الممثل السياسي الشرعي للطائفة, وهو ما حصل فعلا عبر صياغة المرجعية الدينية لمشروع الائتلاف العراقي الموحد واشرافها بشكل مباشر على وضع مبادئه ومتابعة اختيار مرشحيه ودعمه. اما المستوى الثاني فقد ارتبط بنفي حرية الفرد في التصويت من عدمه, وهو ما تجسد في موقفها الداعي الى حتمية المشاركة في الانتخابات, حيث وصم وكيل المرجعية السيد أحمد الصافي, الامتناع عن التصويت بأنه من أشكال الخيانة العظمى, اذ قال في خطبته التي ألقاها في كربلاء بتأريخ 22/10/2004 " إن المشاركة في الانتخابات لها قدسية دينية والامتناع عن التصويت هو تجاوز على ذلك والمتجاوزون يلقى بهم في نار جهنم"(9).
وفي ضوء هذا الوقع لم تكن التوقعات الانتخابية للائتلاف العراقي الموحد, تقوم على مجموع الشعبية المتراكم في مكوناته. ذلك ان نجاحه كان قد اعتمد على ان جماهير الشيعة ستستجيب لنداء المرجعية(10), وهو ما تحقق بالفعل اذ صوت معظم الشيعة لهذا الائتلاف, مما مكنه عمليا من الفوز بأكبر عدد من المقاعد والاستحواذ على اهم المناصب السياسية والحكومية, وبذلك تسنى لأحزابه وافراده فرصة الوصول الى مراكز القوة والنفوذ والبدء بعملية توظيفها خدمة للمصالح الذاتية والفئوية الضيقة.
لقد بينت هذه الحقيقة بأن النظام السياسي في العراق لم يأخذ من الديمقراطية سوى مظهرها الخارجي والمتمثل بالانتخابات, اما روحها فلا, وهو ما دفع بكثير من النخب المثقفة الى التوصل الى قناعة ان تغلب الناس على الاغتراب هو بوضوح القاعدة الاساسية للاستقلال, من أجل أي نوع من الديمقراطية غير المنقوصة, وهذه أكثر من مجرد وضع ورقة اقتراع داخل صندوق. انها تتطلب تغييرات اجتماعية هامة, تغييرات لا يكون الفرد فيها خاضعا لزعماء......تغييرات يكون له فيها دور, دور فعال ومسؤول في تشكيل حياة اجتماعية..... إنها مسألة كون الفرد جزءا فاعلا(11).
لم ينتظر العراقيون طويلا لكي يكتشفوا فداحة النتائج السلبية التي جرها عليهم اغترابهم الذاتي, اذ ان وقائع التدهور العام للأوضاع الأمنية في البلاد وتوالي فضائح فساد الطبقة الحاكمة وتردي واقع الخدمات, قد بينت لهم وبشكل لا يقبل الشك بشاعة المسخ السياسي الذي خلقوه بفعل أصابعهم البنفسجية التي حركوها وفقا لتعليمات صادرة من خارج ذواتهم, ومع حرص قادة الأحزاب السياسية المتنفذة واتباعهم ومنذ اول لحظاتهم في مواقع السلطة على الشروع بصياغة الهياكل السياسية والقانونية والإدارية بما يتناسب وضمان استمرار هيمنتهم على الدولة, جرى فعليا اغلاق كل المنافذ الممكنة لإجراء اي تعديلات او اصلاحات مستقبلية قد تطال بنية النظام السياسي وتستبدل قواه الحاكمة.
اصطدم العراقيون بصلابة هذا المأزق اللاديمقراطي مع انطلاق اولى احتجاجاتهم في 25 شباط 2011, اذ وبرغم تظاهرهم المتواصل في كل جمعة, ورفعهم للشعارات المطالبة بالتغيير, لم يحصلوا من حكومة السيد نوري المالكي ومهلت ال"100" يوم التي حددها لغرض تنفيذ اجراءاته الاصلاحية التي وعد بها, على غير المزيد من الممارسات التسويفية, وهو ما أدى الى تناقص اعداد المتظاهرين يوما بعد آخر, واصاب الكثير منهم خيبة أمل لعدم تجاوب الحكومة والمسؤولين معهم, ولقد تكرر ذات الأمر مع احتجاجات تموز 2015, فرغم تقديم العبادي لورقتي اصلاح يتناغم مضمونهما وتطلعات المتظاهرين(12) , إلا ان المحصلة لم تكن بأفضل من النتائج المخيبة لاحتجاجات 2005 حيث نال اليأس من كثير من المتظاهرين, بل وامتد ايضا ليطال نفوس معظم المواطنين الذين كانوا يتابعون تفاصيل هذا الحراك الاحتجاجي, وهو ما ولد لديهم قناعة كبيرة بان الدولة لم تعد تعبيرا عن الشعب الذي تدعي تمثيله, وانها قد اصبحت أداة لتنظيم القهر, ووسيلة لتأبيد سلطة طبقة على حساب مصالح الطبقات الأخرى, وان دور التنظيم السياسي والحقوقي والاداري والايديولوجي هو ادامة اغتراب الفرد واعجازه عن القيام بأي دور اصلاحي(13).
قاد مثل هذا الوضع السياسي ذو الأفق المسدودة الى تفاقم حالة الاغتراب السياسي لدى شرائح واسعة من العراقيين, وخاصة بعد ترافق الاحساس بخيانة الممثلين السياسيين للشعب مع الشعور بالعجز عن التخلص منهم, وهو ما سرع في حصول تغير نوعي في طبيعة الوعي السياسي للكثير من المواطنين العراقيين, اذ استطاعوا ان يتخلصوا من ربقة الاغتراب الذاتي الذي كان يحتم عليهم ضرورة الاذعان لأوامر الزعماء عند تحديد مضمون قراراتهم السياسية.
على العكس تماما من موقف الاذعان الجماعي شبه التام الذي حدد نتائج انتخابات 2015 يقف العراقيون اليوم أمام انتخابات 2018 وقد انقسموا الى فريقين اثنين : الأول منهما لم يستطع معظم افراده ان يتخلصوا من حالة الاغتراب الذاتي التي تتملكهم, بينما نجح اعضاء الفريق الثاني في الفكاك من أسر هذا النوع من الاغتراب, ليستبدلوه بآخر سياسي مصدره الشعور بالعجز.
يوم الثاني عشر من ايار سيذهب جميع العراقيين الى التصويت, سواء من بقوا منهم في منازلهم, او من قصدوا مراكز الانتخاب. المغتربون السياسيون سيصوتون عبر امتناعهم عن المشاركة على رفض بنية النظام السياسي وقوى الفساد المسيطرة عليه, اما من يحدوهم الاغتراب الذاتي فستذهب معظم أصواتهم الى قوائم الاحزاب والشخصيات التي كانت السبب الرئيسي فيما وصل إليه العراق وشعبه من خراب, وهو ما لن يقود الى احداث اي تغيير يذكر. كتلة المقاطعين التي قد تفاجأ الجميع بكثرة اعداد افرادها, وإن واتتها الظروف اللازمة أو توفر لها البديل الحزبي المقنع, هي من سيكون لها التأثير الأكبر في قادم الأيام, اذ انها ستمثل وبكل حق, هاجس التهديد المرعب لوجود الأطراف المهيمنة, وطاقة التغيير الواعدة باستبدال شروط المجال السياسي, والتي لا ينقصها من أجل اتمام ذلك سوى تبلور مشروع سياسي وطني يوحد صفوفها, ويعمل على تحويل اغترابها السياسي الى زخم حراك جماهيري اصلاحي, يمتلك الرؤية الواضحة والوسائل اللازمة لإخراج العراق من وضعه المأزوم.
الهوامش:
1ـ ر.بودون وف. بوريكو, المعجم النقدي لعلم الاجتماع, ترجمة: د. سليم حداد, المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر, بيروت, ط2, 2007, ص32.
2ـ مجلة عالم الفكر, ملف خاص بالاغتراب, العدد الاول, 1979, ص6.
3ـ أخذنا هنا باجتهاد الدكتور فالح عبد الجبار للتميز بين دلالتي الاستلاب والاغتراب المتضمنتين في التعبير الغربي alienation, حيث يدرج الاستلاب أينما كانت العلائق أو الأحوال التي يعبر عنها المفهوم تنطوي على قسرٍ, ويستخدم الاغتراب حيثما كانت الأحوال والأهوال الموصوفة نتاجا طوعيا. وللمزيد راجع كتابه الموسوم بالاستلاب: هوبز, لوك, روسو, هيغل, فيورباخ, ماركس, دار الفارابي, بيروت, ط1, 2018, ص15.
4ـ ريتشارد شاخت, الإغتراب, ترجمة: كامل يوسف حسين, المؤسسة العربية للدراسات والنشر, بيروت, ط1, 1980, ص 230.
5ـ فارس كمال نظمي, سيكولوجيا الاحتجاج في العراق, دار سطور, بغداد, ط1, 2017, ص22ـ23.
6ـ ريتشارد شاخت, مصدر سابق, ص225, بتصرف.
7ـ ريتشارد شاخت, مصدر سابق, ص 226.
8ـ نفس المصدر, ص 197, بتصرف.
9ـ علي عبد الأمير علاوي, احتلال العراق, ربح الحرب وخسارة السلام, ترجمة: عطا عبد الوهاب, المؤسسة العربية للدراسات والنشر, بيروت, ط 2, 2009, ص 512 .
10ـ نفس المصدر, ص 218.
11ـ إيريش فروم, مساهمة في علوم الإنسان, ترجمة: محمد حبيب, دار الحوار, سورية, ط1, 2013, ص 127.
12ـ جاسم الحلفي, الحركات الاجتماعية في العراق, دار سطور, بغداد, ط1, 2017, ص 197ـ 207.
13ـ فيصل دراج, إغتراب, بحث منشور في الموسوعة الفلسفية العربية, تحرير: معن زيادة, معهد الإنماء العربي, ط 1, 1986, المجلد الأول, ص 84, بتصرف.



#علي_زغير (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- لماذا الخوف من الدارونية؟
- العرب والحداثة قراءة في أيديولوجيا الفصل الجوهراني
- حكومة مترهلة لدولة عرقطائفية
- العولمة وثورات العرب


المزيد.....




- هل تتعاطي هي أيضا؟ زاخاروفا تسخر من -زهوة- نائبة رئيس الوزرا ...
- مصريان يخدعان المواطنين ببيعهم لحوم الخيل
- رئيس مجلس الشورى الإيراني يستقبل هنية في طهران (صور)
- الحكومة الفرنسية تقاضي تلميذة بسبب الحجاب
- -على إسرائيل أن تنصاع لأمريكا.. الآن- - صحيفة هآرتس
- شاهد: تحت وقع الصدمة.. شهادات فرق طبية دولية زارت مستشفى شهد ...
- ساكنو مبنى دمرته غارة روسية في أوديسا يجتمعون لتأبين الضحايا ...
- مصر تجدد تحذيرها لإسرائيل
- مقتل 30 شخصا بقصف إسرائيلي لشرق غزة
- تمهيدا للانتخابات الرئاسية الأمريكية...بايدن في حفل تبرع وتر ...


المزيد.....

- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل
- شئ ما عن ألأخلاق / علي عبد الواحد محمد
- تحرير المرأة من منظور علم الثورة البروليتاريّة العالميّة : ا ... / شادي الشماوي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - علي زغير - موسم الاغتراب العراقي