أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - يعقوب زامل الربيعي - الرائحة، وما تبقى! .. ( قصة قصيرة )















المزيد.....

الرائحة، وما تبقى! .. ( قصة قصيرة )


يعقوب زامل الربيعي

الحوار المتمدن-العدد: 5834 - 2018 / 4 / 3 - 14:38
المحور: الادب والفن
    


قصة قصيرة
..........
كانت تفوح منه رائحة العطن. مرة أو مرتان، أكد شاكيا للهارب مثله، ما كان ينبعث من جسده، ولما لم يسمع من مرافقه ثمة أي كلمة مواساة أو حتى بلمحة تعاطف من عينيه، خلد لنفسه.
ظل يزفر بكلمات متقطعة، وقت لم تفته بعض دقات قلبه، يسمعها بسأم ومرارة. ولشدة ما يعانيه من نذر الشؤم والألم الذي بدأ منذ الصباح في ركبتيه، ما عاد يشعر من شيء سيوفر له الحماية عندما سيجد أن لا مفر من الوحدة حتى مع وجود رفيق طريق غير ضروري البتة، سوى أن يصر على اسنانه، أو يبصق بخليط من البله وبقايا تبغ عفن .
وكان الصمت هو من تبقى مخلوطا بوقع خطوات عابرين لا يعرف أحدا منهم ولا أحد عليه أن يعرف من بصق وراءه تواً.
كل ما كان له من هزائم صغيرة وما كان يستحقه من تقدير المذنبين أمثاله، لم تكن هناك. الرؤيا الصدئة وحدها كانت عبارة رأسه، يرددها كثيراً وأحياناً يركنها خلف ظهره كأنها لم تعد على مقاسه، كما الحال مع حذائه القديم الضيق.
ــ " لم يعد من شيء يعنيني الآن سوى أن أتخيل كيف سأتخلص من هذه الجثة العفنة التي أنتقل بها من مكان لآخر".
كل ما يتذكره، أنه وبمجرد طرح جسده على الفراش قرب زوجته ليلة أمس، أنها استدارت للناحية الأخرى. وكأنها تكلم شبحا وليس هو:
ــ " بحق الله، ألم تتعب من حمل شيئك العفن "؟!
ما حدث بعدها. أنه خلع ملابسه الداخلية أيضا، ظنا منه، أنه سيرضي نزواتها.
في صباح اليوم التالي، خرج مع الفجر مضطرباً، مع أن موعده مع طبيب الاسنان الذي حدد له الساعة الحادية عشر لجلسة ثالثة، ما زال مبكرا.
في جو المقهى الخالي، أدخل رأسه أولا. ثمة احساس بأنه يُحمل على نقالة وأنه يحتاج ليدين تساعده على رفع رأسه ليحمي نفسه من غثيان امعائه. "من يساعد رجل سيء الحظ ليفتح في صدره شرفة لمملكة السماء؟ " فكر وهو يدلف المقهى. كأنما ضلت الطريق مثله. ونحو مراحيض بائسة قذرة توجه مسرعاً.
ثمة دعائم خشبية ومساطر حديدية صدئة تدعم بعض من أبنية المقهى. هنا ترقد دعوات قديمة تسكن القلوب والضمائر، لزبائن أن ينصرف عنهم نباح الزمن والكلاب الشريرة. ذلك شعور تقمص نصفه هو الذي خاط متبقي السكر في " استكان " الشاي. وكان نصفه الآخر ما يزال في قفص الدعاوى والامنيات التي تقطن جدران المقهى بانتظار إجازة مرور السحابة السارة.
وثانية، حاول ملاطفة شيء ما، لا بوصفه رجلا يحاول الهرب من جلده العفن، ولكن ربما حين يخلع آخر ضرس في فمه، سيشعر بالراحة، وتنتهي معاناته مع العفونة والرغام على نطق الكثير من الكلمات التي تنزلق مع اللعاب، وقد يكون هذا الضرس المنخور هو من يسبب له آلام الركبتين والخوف من استعراض محيا الغرام ليلاً بوجه زوجته.
هتف العنصر الهزلي الضاحك فيه، حين شعر بأن جزء من عقله لامس بعض المنطق " هذا منطقي فعلا " فكر بنوع من السرور، لكنه بمجرد وصوله باب عيادة طبيب الاسنان، وقرأ يافطة رديئة الكلمات " لأني أشكو " الانوفولونزااا " والعياذ بالله.. قررت " سد " العيادة اسبوع.. وو "، أحس بالخيبة وسوء الطالع.
وهكذا شعر بالإحباط، أيضا، عندما حاول أن يشرح الأمر لزوجته. وجاهد دون أن ينجح لتكون ايجابية مرة واحدة وتكف عن تشذيب اضافر يديها.
في طريق العودة، دلف، دون أن يدري، لكمين لاجئ، غالبا ما يتخذه صديق من ذوي السوابق التي لا تغتفر، معتقدا أنه سيجده هناك. طرق الباب مرات. وكلما أمعن بالتفكير تشجع أن يعيد الطرق مرات أخرى. "ها انا ابحث عنك. تخيل أن لا وسيلة أخرى تجعلني أتخلى عن البحث عنك. لا أحب أن يقبضوا عليك في وقت أحتاجك كثيرا. أنك الرجل القريب إلى قلبي " وعندما يأس تماما من العثور عليه، أبتعد، مع شعور بأن حشداً من الاكف قد طرقت الباب قبله دون جدوى.
فكرة، أن الاختلاء في العتمة، وأطلاق نوع من العفوية في تعامله مع الكلمات التي تخرج سيئة ومدعاة للهزؤ، ما يضطره للاقتضاب ولاستخدام الكثير من المناديل الورقية لمسح ما يخرج من لعاب من فمه الادرد. في غرفته، ومن غير أن يضيء مصباحها الكهربائي، عندما أغلق الباب واختلى بنفسه في محتجز العتمة، استحضر شهيته لقالب " الكيك " المغطى بالكاكاو والشكولاتة المعطرة بماء الورد وانصاف اللوز وكأس من العصير المحلى بمسحوق الزبيب الاحمر، على ضوء شموع حمر وقوارب من السكر صغيرة مضاءة مع الاحلام تستعرضها نسوة عانسات يزفرن بآخر انفاس الوشائج الطاعنة.
همس متسائلاً " هل ما يزال في الوقت متسعٌ؟ ". ثمة افكار كما الاوسمة العتيقة علاها الصدأ. ومن جديد فكر بالهرب من كل ما يحسسه بالحروب القديمة وجبروت البارود. وتحت سحابة سوداء من التفكير الذابل وبالضرس الوحيد المنخور، سد أذنيه لئلا يسمع صدى أي من النسخ المتطابقة.
" للصعود الى السماء يحتاج الأمر سلماً طويلاً/ وآخرَ قصيراً". اللون الرمادي واللون البرتقالي وصوت آتٍ من القلب. لاشك سيذهب بعيدا. وبلا تيه. ربما سيستقر في زمن آخر. متوهجا في الأزرق وبلا خطى متعثرة. مع صورة تذكارية لقرن ماضٍ حافل بكل شيء. وربما مع اسنان سليمة.
في الخارج فتق مشيمة الصمت نشيج حار من صدر الزوجة. وصوت باب ينفتح ثم ينغلق ممزوجا بخفقة ثوب من تلك الملابس المؤلمة التي ترتديها كلما غادرت قبو ما تشعر به لفناء الخارج لتتنفس الصعداء.
في يوم ما تهدج صوتها وهي شجية مليئة بالاشواك. تركت في ذهنه سؤالاً، إعتقدَ أنه سريٌ، لم يصل لتفسيره " لماذا عطش الصبار، مع أن الاشجار ترتوي بما يسقط من مطر"؟!
وللتو داهمته همسة مريضة. كانت تشكو علًة خفية. حين حك شفتيه على شفتيها، شعرت باشمئزاز. العاهرة اعتادت روائح الجنود العائدين من جبهات الموت والكثير من المخمورين والشواذ الذين يمارسون النصب والاحتيال في سكك واسواق البلدة، لكنها معه كادت تلقي ما في امعائها. حاولت أن لا تتنفس وقت هو يسحق حقويها. حتى أنها لم تجرؤ على الاعتراض عندما دفع أجرة جسدها والمقت أقل مما يدفعه الاخرون. لم يسمع منها غير جملة استطالت كما بخار الماء البارد برأسه شهورا عديدة " سأعيرك في المرة القادمة لجارتي، كيما تطرد لها شيطان النحس !" وكان ثمة قنديل أحمر عليل الضوء معلقا على باب دار عِناء اللعبة القصيرة التي تعيش فيها، أنطفأ بمجرد خروجه.
عند ركن حارة سكن البغايا لمح وجود الشرطي العجوز. كان ساهما يفكر بشيء ما وربما يشعر بالأعياء، لهذا لم يرد على تحيته. وعندما اشاح هو بوجهه دون أن يضيف جملة. تلك أكثر هزائمه المعنوية. ومنذ موت أمه لم يبكِ كما بكى في تلك الساعة.
حاول أن يضيف شيئاً، كان يود قوله على باب ذاك الصديق. لذا تمتم وكأنه يمضغ بعض طعام فاسد: " كم كنت أرغب بأن اشكو لك عما يفعله ذلك الضرس اللعين. كنتُ سأصمد رغم كل ما سيفعل الشرطة بيّ حينها لأطلعك على السر الارعن الوقح وكيف يجرني هذا المنخور بخيوط من الروائح الغليظة والعفن المزمن، وأنا أجري خلفه اتفصد عرقاً مقرفاً.. بلا تردد! ".
في المطبخ المليء بالصحون المتسخة ببقايا الأطعمة والتي بقيت في مكانها منذ تركت زوجته البيت قبل اسبوعين، جلس كما جندي لا يليق لا بالحرب ولا بالسلام. مجرد جدار مليء بالصور التذكارية المهملة.
كل صحن متروك على سطح المجلى المترب، أو من بقي على رف الخشب في المطبخ يقول لها : " وداعاً ". الباب الموارب يقول " وداعاً ". الممر بين المطبخ وغرفة نومهما يشيح باكيا.. يهمس " وداعاً ". كرات خيوط الصوف الملونة وسنارة حياكتها الملقاة في زاوية النافذة، تقول " وداعاً ".
ما تركته وسط هذا الهذيان، صوت حفيف فستانها كما صوت معزوفة جنائزية تستعيض بالصمت عن الحزن.



#يعقوب_زامل_الربيعي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- للرائحة، طواف الخطوات !..
- امرأة في سن اللهاث..
- لإثمٍ، كان بريئاً !..
- التواري ينهمرُ مطراً !..
- من مجموعة ( براويز )..
- .. وسجين الستائر أيضا !..
- لنذهب هناك!..
- تَحوّلٌ بصوت ملُامس !..
- ولو أنه جسدكِ !..
- ما هو أبعد..
- عَيَّنة.. أسمها - فضة -! قصة قصيرة
- في سنِ بلوغ الجُمار!..
- ثلاثية لصمت الضوء !..
- تباً لمن لا يأتي!..
- بيني وبين شحوبي، أنتِ..
- لضوئكِ الخلاسي!..
- رائحة الدهشة..
- فنتازيا القمامة !..
- لحرير، ما بعد الماء..
- رِهان !..


المزيد.....




- وفاة الفنان المصري المعروف صلاح السعدني عن عمر ناهز 81 عاما ...
- تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
- انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - يعقوب زامل الربيعي - الرائحة، وما تبقى! .. ( قصة قصيرة )