أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - أكرم إبراهيم - سلة هواجس















المزيد.....


سلة هواجس


أكرم إبراهيم

الحوار المتمدن-العدد: 1488 - 2006 / 3 / 13 - 10:18
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
    


التأثر بثقافة واحدة عبر الإعلام والترجمة والاكتشاف المباشر قد يدمر مناعة المرء ، خاصة إذا ما كان أصلاً يعاني من إحساس مزمن بالعجز والدونية تجاه أصحاب هذه الثقافة . وما يزيد الأمور تعقيداً أن المغلوب يميل إلى تقليد الغالب ، لكنه لا يستطيع أن يكون مثله ، بل لابد أن يكون صورة مشوهة عنه . وهذا أكثر ضرراً من بقاء المرء على ما هو عليه مهما كان ، وأقل مدعاة للتقدير والاحترام . ولعل من أهم وسائل مواجهة هذه المشكلة هو دراسة الواقع والتراث والتاريخ الخاص ، ومن ثم التنويع في مصادر الثقافة ، إذ لابد أن يكون لكل أمة من أمم الأرض ثقافتها ، والثقافات المختلفة عندما تتفاعل تقوّم وتغني بعضها البعض ، فما معنى أن نهمل كل هذا التنوع الثقافي ونلتحق بثقافة واحدة قد لا تكون هي الأرقى وإن كانت مسيطرة ؛ فسيطرة الثقافة قد لا يعني رقيها بل غلبتها. بالغلبة أحب القط خناقه فوجدنا جسم السمكة عندنا يعوض بالأسماء والأزياء والمأكولات والمفردات الخاصة بالغالب نطقاً وزينة ، أما رأسها فيعوض بحفظ وترديد المذاهب والنظريات الخاصة به حصراً.
إن فتاتنا لا تصبح متحضرة ومتحررة لمجرد أن بيضت وجهها بالبودرة أو شقّرت شعرها أو لبست ما يكشف ، كذلك ديمقراطيونا ؛ فالتجربة المعيشة تجعلني أعتقد اعتقاداً راسخاً أن دعوتهم إليها ليست إلا من باب تقليد المغلوب للغالب . وهذا ليس حكما على الديمقراطية بل على أدعيائها، خاصة المنظرين لدور أمريكي أو أوروبي في نشرها.
في هذه الحال يكون بعض سياسيي ومثقفي هذه الأمة أكبر مصائبها ؛ فهم مترعون بكل ما أنتجه الغرب تحديداً من فلسفات ومذاهب فكرية ، لكنهم غرباء عن واقعهم ، عاجزون عن تشخيص مهامه والتواصل معه ، غير متوازنين وبدون جذور أو أن جذورهم كجذور أعشاب الضفاف ، مستلبون فاقدون للأصالة والانسجام ، يفاجئونك بتقلباتهم السريعة المفاجئة ؛ فهم غير فاعلين في واقعهم إيجاباً .
هذا الصنف من المثقفين أفرز تقليعة نضالية ما يزال لها بعض الرصيد الكامن أو المعلن ، ألا وهي تحقيق الديمقراطية بمساعدة القوة الأمريكية المعادية ، بل إن الأمر وصل كما عند السيد رياض الترك وموضوعات مؤتمر حزبه السادس إلى حد الترويج لفكرة الانتداب ، الأمر الذي توقفت عنده في أكثر من مقالة . ومن المؤلم أنني وجدت نفسي مضطراً للخوض في هذا الموضوع بسبب هؤلاء الذين يتعلمون من أقوال النخب أكثر من تعلمهم بما تكتبه أمريكا على جلودهم . أما بالنسبة لأصحاب التقليعة ، فالموضوع عندي غير قابل للنقاش معهم، بل يناسبه أشكال أخرى من القول ، مختصرة وسريعة وعنيفة كشتيمة أبلغ من الصمت. وعندي أيضاً يجب قراءة ماضي بعض هؤلاء على ضوء موقفهم هذا ، المقترن بانقلابهم على قضاياهم ؛ فأنا لا أستطيع فهم الانقلاب على القضايا ، فالأشخاص خلال مدة قصيرة أو طويلة يمكن لهم أن يغيروا عقائدهم وانتماءاتهم ، أما أن ينقلبوا على قضاياهم على نحو ما رأينا في مشروع موضوعات المؤتمر السادس لحزب الشعب وافتتاحيات الرأي فهذا مستحيل .
هل يستحق الغرب أن ننبهر به ؟! إنني أجد ميزة في رياض الترك لا يمكن أن تتوفر في أي رجل على امتداد الغرب كله ؛ فالرجل قضى من عمره طويلاً في السجن ، وعلى دفعات ، منها عشر سنوات متصلة لم ير خلالها النور ، ومع هذا لم ينكسر ، أما الغرب فقد افتقر إلى الرجال وأخواتهم . ذلك أن أميراً بريطانياً يعتذر لأنه لبس زي ضابط نازي في حفل تنكري ، وعمدة لمدينة لندن يعاقب لأنه انتفض لكرامته فشبه تصرف صحفي يهودي بتصرف الضباط النازيين ، وباحثاً فرنسياً رصيناً يغرم بعشرين ألف فرنك بسبب بحث رصين ، ومدير إذاعة فرنسا الدولية يرغم على الاستقالة لأنه رأى في إسرائيل دولة عنصرية ، أما المؤرخ البريطاني دايفد إرفينغ فقد حكم مؤخراً في النمسا بثلاث سنوات ، وكان قد صدرت بحقه أحكام قضائية في كل من بريطانيا وألمانيا ، ومنع من الإقامة في نيوزيلند ، وكل هذا بنفس جرم روجيه غارودي . كل هذا حدث في الغرب دون أن يرف جفن فيه لهذه الوقائع ، بل يقولون أن نسبة الستين بالمئة التي صوت بها الأوروبيون على اعتبار إسرائيل أعظم تهديد للسلم العالمي ما كانت لتكون لو أن التصويت كان علنياً رغم أن الغرب لا سجون ولا تعذيب فيه ، ثم يقال أن هذا العالم متحضر ، فكيف تتفق الحضارة مع كل هذا الرعب حيث لا سجون مرعبة ولا تعذيب ولا قتل ؟! لقد تنبأ إنجلز بأن البرجوازيات المتقدمة تستطيع رشوة طبقتها العاملة على حساب شعوب المستعمرات ، وما حدث بالفعل هو أن شعوب تلك البلدان ، وليس طبقتها العاملة فقط ، تحولت إلى نمور سيرك بسبب تلك المرتديلا اللذيذة المصنوعة من لحمنا ، حتى إن هذه الشعوب نسيت أن تقدمها يعود بعض الفضل فيه إلى حرية البحث ، وأنه ليس بالمرتديلا وحدها يحيا الإنسان ـ كما كانت الدعاية البرجوازية تردد عند الحديث عن " المنشقين الروس" ودون أن نسمع منها اليوم ومن الملتحقين بها أنه ليس بالحرية وحدها يحيا الإنسان الروسي ـ وأنها عندما يلجمها الرعب ، وهي تعد بمئات الملايين ، عن انتقاد ثلاثة عشر مليوناً ، أو حتى خمسة ملايين هم يهود فلسطين ، عندما يلجمها الرعب عن هذا تكون قد فقدت إنسانيتها ، وبالمقابل عندما نشعر بالدونية إزاء هؤلاء المستلبين نكون قد فقدنا إنسانيتنا .
هذا يقودنا إلى الحديث عن منظمات حقوق الإنسان في الغرب ودورها ، وعن دعم الاتحاد الأوروبي لمنظمات حقوق الإنسان عندنا . قتل شعب آمن جريمة لا تغتفر ، وقتل امرئ في غابة مسألة فيها نظر ، لذا لا يحق لمنظمات كهذه أن تفكر في تحريرنا من حكوماتنا قبل أن تثبت وبالملموس أنها جادة في رفع يد إدارات بلدانها عنا ، وأنها جادة في الضغط على إسرائيل من أجل الإقرار بحق طبيعي وإنساني سابق لجميع القوانين الوضعية والدينية ألا وهو حق العودة لمن شردوا من بيوتهم وممتلكاتهم ووطنهم ، وقبل كل هذا ما لم تنتصر لحق غارودي وإرفينغ ومينارغ وعمدة لندن وأمير بريطانيا وكل المغمورين الذين لم نسمع بهم ، وما لم ترفع الخوف عن كاهل شعوبها وتعيد إليها إحساسها بإنسانيتها ، وما لم تطالب بحق الغرب بإعلام نظيف . دون هذا سيكون عمل هذه اللجان لأغراض مشبوهة ، أو لغرض التعويض النفسي . وما عليهم إلا أن يعقدوا العزم ونحن جاهزون لكي نرسل لهم مناضلين من أجل الحرية ، نحن الشعوب التي أنجبت نساء قضين في السجن مثل ما قضى رياض الترك .
في المقابل لم نسمع أن منظمة حقوق إنسان عربية احتجت لدى إدارة استعمارية على الظلم اللاحق بغارودي وإرفينغ وغيرهما . هذا لا يعود حصراً إلى عقدة النقص تجاه الغرب ؛ فالمنظمات العربية كالغربية تمارس الانتقائية في سلوكها ، فلم نسمع أن منظمة عربية أدانت التضييق على الفصائل الفلسطينية في سوريا في مرحلة يبدو أنها ويجب أن تمضي ، ولم نسمع أن منظمة عربية سألت عن معاملة وظروف اعتقال ما يزيد عن ألف ومئتي متسلل إلى العراق لا قبل ولا بعد أن صرح مسؤول سوري باعتقالهم ، ولم نسمع أن أحداها طالبت بمحاكمة أشخاص أعلنوا قبولهم دخول قوات عسكرية أمريكية إلى البلد . وفي مقابل هذا الصمت قد نسمع منها ومن الفضائيات عن احتجاز لمدة 24 ساعة إذا ما كان المحجوز رجلاً استبدادياً نكرة مأخوذاً بالديمقراطية.
لقد ارتكبت جرائم ضد الإنسانية في فلسطين والعراق أعظمها الاحتلال ذاته ولم نسمع من منظمات حقوق الإنسان العربية والغربية صوتاً يدعو إلى محاكمة بوش الأب والابن وبلير وشركاهم . بوش الأب مثلاً مسؤول عن طمر عشرات آلاف العراقيين أحياء في رمال الصحراء . شهد على واقعة طمر ثمانية آلاف منهم رجل دولة ، هو وزير الدفاع الفرنسي في حينه ، والشهادة موثقة في كتابه " حرب الخليج دفعتني إلى الاستقالة " . وهي شهادة ليست يتيمة فحسب حيدر حيدر تحدثت الوثائق في الغرب عن طمر ما يقرب من سبعين ألفاً.
مما يؤسف له أن المتنطحين لهذه المهمة النبيلة كانوا من أوساط رحبت أو أبدت تهاوناً مع الهجمة الاستعمارية على المنطقة ، لأنه في هذه الأوساط ظهرت منذ عام 90 أثناء غزو " تحرير الكويت" ، مقولة أن الدبابة الأمريكية حاملة للديمقراطية دون أن يقول بها بوش الأب ، وقبل أن يقول بها بوش الابن . كان هذا في السجون ، ما يعني أن الدعوى كانت نتيجة تفاعل عقدة النقص مع ردة الفعل على الاعتقال وظروفه القاسية .
هذا المرض ليس جديداً ، بل يعود إلى بداية احتكاكنا بالغرب في الحقبة العثمانية ؛ فهذا هو سليم سركيس عام 1896 يرفع في "غرائب المكتوبجي" رسالة رائعة إلى السلطان عبد الحميد عن الاستبداد والمواطنة والحرية ، لكنه يتغنى بالحرية التي يتمتع بها المصريون تحت نيرالانكليز ؛ فهو لم ير من عطاياهم إلا حرية الصحافة في زمن كان فيه حتى أبناء الإقطاعيين أميين ، فهل تعيش الشعوب أو تتقدم على كلام المثقفين فقط ؟!. إن قراء الصحف آنذاك أو اليوم ليسوا أكثر من رواد مقهى من مقاهي المثقفين التي عرفت في دمشق ، فلا صحف الانكليز ولا مقاهينا أنتجت وعياً وتقدماً ، فكأنما الانكليز فتحوا مقاهياً للمثقفين وكأنما صدرت لهم صحف في دمشق وبيروت ، وحتى السلطان عبد الحميد عندما أراد تحويل المثقفين إلى تنابل وفر لهم ما يشبه النوادي وأطعمهم جيداً ، حسب القصة المشهورة عن تنابله .
من حسن حظنا أن تلتقي مصلحتنا مع مصلحة السلطة فيما لو أنها ساءلت هذه المنظمات عن المبالغ التي تتقاضاها وكيف تنفق ؛ فالغرب كما نعلم قد يلجأ إلى الرشوة غير المباشرة كأن يقدم مساعدات ضخمة ويترك الباب مفتوحاً أمام الأشخاص لسرقتها . والذي يأكل من خبز السلطان يضرب بسيفه وهو ما ينطوي على أكبر الخطر . من مصلحتنا و مصلحة الدولة ومن مصلحة القضية المعلنة لهذه المنظمات أن ترخص بعد أن تدمج في منظمة واحدة ، وأن تكون خاضعة لرقابة مالية مشددة .
* * *
لكي لا أهدم من حيث أردت البناء
الأمثلة عن القمع والخوف في أوروبا كلها كانت ذات صلة باليهود . وإذا ما أردنا تعبيراً سياسياً ، كلها ذات صلة بالحركة الصهيونية . وهكذا وجدت نفسي أمام ما يمكن أن أسميه رهاب الصهيونية . لذا وجدت من الضروري أن أرفق مع هذه المقالة مقالة أخرى ذات صلة وثيقة بموضوعنا كنت قد نشرت أفكارها الأساسية في "الحرية" ، العدد 674 من 9ـ 15 |2|1997 تحت العنوان الآتي .

قوة الصهيونية : الحقيقة والوهم
يكاد يكون شائعاً أن الحركة الصهيونية هي القوة العظمى في العالم ، فهي التي توجه وتصيغ سياسات الدول الغربية والرأي العام العالمي .
يعود هذا إلى أمرين ، أولهما : أخذ عامة الناس بظاهر الأمور ، والتسليم بما اعتادت الأذن على سماعه دون تمحيص . وثانيهما : هو أن هذه الفكرة ذات حظ كبير من الشيوع لأن الجهات ذات المصلحة بإذاعتها كثيرة ؛ فهي ترضي غرورنا لأننا في هذه الحال ننهزم أمام عدو أسطوري القوة ، وهي ترضي غرور اليهودي لأنها تؤكد أنه من نسل الشعب المختار ، وترضي الحركة الصهيونية لأنها تسعى إلى إرهابنا وشل عزيمتنا والسيطرة على اليهود بنشوة التفوق ، أما الرجعية العربية والغرب فلهما المصلحة نفسها في ظهور الغرب وكأنه مغلوب على أمره ، وأما الحكومات العربية فالفكرة تهون من أمر تقصيرها . هكذا تؤدي كثرة الأسباب المساعدة على انتشار الفكرة إلى أسطرة الصهيونية ، ما يجعل عقلنتها أمراً ضرورياً لعافية ثقافة المقاومة .
خلاصة ما يوحي به هؤلاء أن التاريخ كان سيتوقف لولا اليهود الذين لا يتجاوز عددهم الخمسة عشر مليوناً ، فهم ليسوا شعب الله المختار بل الله متشظياً ، إن كل ما حدث ويحدث وبالتالي الذي سيحدث هو من تدبير اليهود ، ولا دور للإرادات الفردية والجمعية أبداً ، والمجتمعات ليست إلا قطعاناً ، بما فيها المجتمعات الغربية التي يتغنى هؤلاء بحضارتها وثقافتها ، وهم بذلك يتجاهلون الحقيقة التاريخية وهي أن اليهود اضطهدوا ، بل اضطهوا حصراً في أوروبا التي نتوهم سيطرة اليهود عليها (1 ). الأنكى أن بعض الأقلام الوطنية تذيع هذا الرأي وتنشره بين المواطنين . وهي بذلك تفعل ما يحاول الآخرون تأكيده وما يجد تربة خصبة فينا ، وهو أن اليهود متفوقون على جميع الناس ، ولا حول ولا قوة لنا تجاه هذا الشبح غير المرئي والموجود خلف كل ما تقع عليه الحواس.
قد يكون لليهودي المؤمن أو للصهيوني رغبة أو يد في بعض ما يجري أو جرى ، لكن الرغبة شيء والقدرة المطلقة شيء آخر . صحيح أن كل شر يصيب شعباً من الشعوب يصب في خانة رغباتهم ، لكن هذا لا ينفي أن له أسبابه الخاصة . الحذر والتهويل ليسا الشيء نفسه ؛ فاليهود ليسوا من نسل الآلهة ، إنهم بشر كبقية خلق الله . وهم بخلاف ما يشاع ، ضحايا خرافاتهم وأدوات لغيرهم . وحتى نفصل بين ما هو حقيقة وبين ما هو وهم ، يجب أن نتأمل في عوامل قوتهم ونردها إلى أسبابها الحقيقية .
في المقابلة معنا هم أقوياء .
* نتيجة التقاء مصالح الحركة الصهيونية مع مصالح كبريات الدول الاستعمارية . وفي هذا قيل وكتب الكثير ، ومن هذا الكثير يمكن أن نفهم أنهم ليسوا أصحاب مشروع فقط ، وإنما أدوات في يد هذه الدول .
* ليس بمستطاع الأوروبي والأمريكي أن يعترض على السياسة الصهيونية ، ذلك لأن أخلاقه هي نفسها أخلاق اليهودي المؤمن أو الصهيوني ، وما فعله ويفعله الأوروبيون هو عينه ما فعله الصهاينة في عام 48 وما بعده وما قبله . الأوروبي والأمريكي لا يعترض ، ليس لأنه منقاد من الصهيونية ، بل لأنه لا يوجد ما يُعترض عليه في مجتمعات ما يزال حاضرها امتداداً لتاريخ قذر لم تتنكر له. إن انتظار التأييد من الغرب ، أو انتظار التعارض بينه وبين الصهيونية ، أو رد عدم التعارض بينهما إلى تأثير الصهيونية يوحي بجهل هؤلاء لحقيقة هذا الغرب رغم كل ما عانينا ونعاني منه . هذا إذا افترضنا حسن النية .
* قوتهم داخل المجتمعات الغربية وقدراتهم على التأثير في قراراتها : من المفيد هنا التمهيد بالإشارة إلى الطرق التي تشل بها الدول الغربية فاعلية شعوبها . ومن المفيد الإشارة إلى أن كل طريقة منها تؤثر في المجتمع بشكل عام ، دون أن ينفي هذا أن لها مجال فعالية أساسياً ، وأنها تتساند ويكمل كل منها عمل الآخر .
أ ـ الاستهلاك الترفي البذخي الذي يخوي الروح ، يجعل الإنسان الغربي عديم الحساسية تجاه سلوك دوله ، فاللهاث خلف إشباع الحاجات الجسدية هنا يفعل فعلاً معاكساً للزهد والتعب والألم، الذي يهذب النفس .
لقد استطاعت الدول الغربية بسبب الإنتاجية العالية والنهب المستمر للشعوب أن توفر مستوى عالياً من الرفاهية لشعوبها ، بحيث أصبح الفقير العاطل عن العمل في هذه المجتمعات يستهلك أكثر بكثير مما تستهلكه عدة عائلات في مجتمع نام ، هذا الإنسان ، السياسة بالنسبة له ـ في ظرفه الخاص ـ ترف إلا إذا مست رفاهيته وأمنه بأذى .
ب ـ وسائل الإعلام في هذه المجتمعات عديدة لكنها غير متنوعة ، فهي كالآلات الموسيقية المختلفة في الفرقة الواحدة ، لأنها مملوكة من احتكارات لها نفس المصلحة في تقديم الفكرة ذاتها بألوان وأشكال وطعوم مختلفة. وقديماً قالوا : " اكذب ثم اكذب ثم اكذب فلا بد من أن تجد في كل مرة من يصدقك "، فكيف إذا كانت الكذبة تتردد من وسائل إعلام تبدو مختلفة ، تجند جيشاً من المختصين بتوجيه الفكر ، بل بتسطيحه وتزويغه ؟ ما يسمى إعلاماً هناك لا يقوم بالضرورة بهذه الوظيفة فهو يعمد إلى شل فاعلية الفرد الفكرية والروحية . وليس أدل على ذلك من انتشار الأمية الثقافية في هذه المجتمعات . وما يبدو على السطح من وجود نخبة مفكرة لا يعبر عن واقع الحال . وحتى هذه النخبة كفت هذه المجتمعات عن إنتاجها ، أو هي في سبيلها إلى ذلك. وفي كل الأحوال إن كيس المال الذي تعمل بخدمته هذه الوسائل ، وكذلك الدول ، لا تعارض بينه وبين مصالح الحركة الصهيونية . من ناحية أخرى ، قد يكون لدى اليهود بحكم نظرتهم إلى أنفسهم وإلى الآخرين ،أو بسبب خوفهم كأقلية عالمياً ، انجذاب خاص إلى امتلاك أو إلى العمل في وسائل السيطرة على العقول ، كدور النشر والسينما والمسرح والصحف ومحطات البث الإذاعي والتلفزيوني .
ج ـ المجتمعات الغربية منتجة لشتى الفئات غير الفاعلة ( المجرمين والعدميين والمدمنين ) بمعدلات عالية ما يسهل السيطرة عليها. كيف ؟
1ـ الأوروبي والأمريكي الذي يُفرض عليه التعايش مع مبدأ "الحق للقوة " ، السائد في السياسة الغربية ، لا بد من أن يتخلق بهذا المبدأ وينقله إلى حيز الاستعمال الفردي ضمن المجتمع . وإنه لذو دلالة أن تحتل جرائم الجنس مرتبة متقدمة في بلد إباحي كأمريكا . وأيضاً حادثة الاعتداء تلك ، التي نفذها أربعون ألف بريطاني في ملعب لكرة القدم مستخدمين الجنازير وقبضات الحديد والسكاكين والعصي وما إلى ذلك ، فاقتناء هذه الأدوات يعني الاستعداد لاستعمالها . ومن الأدلة أيضاً أن أغلب الإنتاج السينمائي عندهم موضوعه العنف ، وهذا يعبر عن شغفهم به وعن شيوعه عندهم فالإناء ينضح بما فيه .
2 ـ يتميز الغرب بالتفاوت الطبقي الكبير ، بحيث يزداد استهلاك الطبقة عن استهلاك الأخرى كلما كان عدد أفرادها أقل . يقترن ذلك مع نشر حمى الاستهلاك عن طريق وسائل الإعلام المختلفة . فإذا ما كانت قيمة المستهلكات أكبر بكثير من قيمة الدخول ، فلا بد من أن يحاول البعض سد النقص الحاصل بين دخله وحاجاته الاستهلاكية عن طريق غير مشروع ، أو في إنفاق كامل صحوه في العمل .
3 ـ في مثل هذه المجتمعات يسود عقول الناس مبدأ "معك قرش تعادل قرشا" . لذا يصبح الحصول على المال غاية ، وتسوغ الوسيلة بمبدأ الحق للقوة ؛ فإذا لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب ؛ فالمال معادل لكل شيء ابتداء من السلطة والقانون وانتهاء بالفجل مروراً بالفكر . وفضائح شركة لوكهيد في السبعينات وبداية الثمانينات التي لم تترك بلداً أوروبياً إلا وطالت أحد مسؤوليه على الأقل تشهد على ذلك . والاحتكارات الإعلامية التي تجند آلافاً مؤلفة من الأقلام أكثر دلالة . وكذلك الارتزاق ، بيع المهارة في القتل .
4 ـ هذه المجتمعات تنفخ في الفرد الروح الفردية تبريراً للاقتصاد الحر القائم على شريعة الغاب ، ولكن هذا الاقتصاد يقود غالبية الشباب إلى التشيؤ ، إلى الإحساس بأنه شيء يمكن رميه إذا بطلت الحاجة إليه . ومن جهة أخرى هذا الشباب بلا هدف أو أمل لأنه حرم من الوعي بسبب الدور الذي تلعبه وسائل الإعلام ، أو لإنفاق كامل وقته في العمل ، إنه في أزمة لا مخرج منها وليس أمامه من متنفس إلا الجريمة والإدمان والجنس ، والاحتماء بالخرافة والحنين للحياة البدائية ، لأنه لا يرى سبباً لمشاكله إلا في التقدم بذاته ، وكلنا يذكر تلك الفترة التي فاضت فيها أوروبا بتلك الأعداد الكبيرة من العدميين ( الهيبيين ) . هذه الفئة التي أخلت مكانها لفئة أخرى عدوانية هي البانكز ، ومن ثم عبادة الشيطان الفاتكة بأتباعها.
يؤكد كل ما سبق أن الجريمة بأنواعها تنتشر في البلدان الرأسمالية بقدر ما تكون هذه الدولة أو تلك قوية عسكرياً . حيث تنفق الثروة على تطوير الجيوش وتأمين مستلزمات نشرها في أصقاع الأرض بقصد الذعرنة .
الدول الاسكندنافية ليست عسكرية وتكاد تكون بلا جيوش ، وليس لها تاريخ كالذي نعرفه لبريطانية وفرنسا ، التاريخ الذي ورثه الأمريكيون وأخلصوا له . وهي تتمتع بنظام للضمان الاجتماعي راق جداً . كذلك الدول الاشتراكية سابقاً ، كانت تتمتع بنظام للضمان راق ، وهي وإن كانت دولاً عسكرية ، فدور جيوشها خارج الحدود كان معدوماً تقريباً ، رغم الدور السياسي الكبير الذي كانت تقوم به . أضف أن هذه الدول خاصة روسيا تنكرت لماضيها الاستعماري ، لهذا كانت معدلات الجريمة في هذين النمطين من المجتمعات منخفضة جداً .
المجرم والعدمي وما شابه لا يمكن أن يكون مفكراً أو سياسياً إنسانياً . فالمجتمعات الأوروبية بهذه المواصفات يسهل السيطرة عليها ، وطبيعي أن أي فئة رجعية منظمة تستطيع أن تؤثر تأثيراً بالغاً ، لكن تأثيرها لا ينتج من خصائص استثنائية لأفرادها .
رب قائل ألا يخضع اليهود في الغرب لنفس الظروف ؟ نعم ، لكن الإنسان يولد دينياً قبل أي شيء آخر، لذا نجد أن أي حزب ديني عندنا يجمع في بيان تأسيسه من الأتباع أكثر بكثير مما يجمعه أي حزب علماني على مدى تاريخه الطويل. والعقيدة الصهيونية لا تنفصل عن الدين اليهودي ، وهكذا ينشأ اليهودي مؤدلجاً منظماً في مجتمعات منخورة ، وبالتالي إن تلك العوامل لا تفعل فعلها فيه كما تفعل بالآخرين . ويأتي تضامنهم لكونهم أقلية صغيرة جداً ليزيد من فاعلية هذا العامل .
* تتلقى الحركة الصهيونية الدعم كله من الدوائر العليا في الغرب باعتبارها منظمة عنصرية رجعية ، فلو أن الصهيونية كفكر رجعي عنصري لم تكن موجودة لأوجدتها الحكومات لمقارعة الفكر التقدمي وعرقلة نموه . وما نعرفه عن دور المخابرات الغربية خارج بلدانها من اغتيالات وانقلابات ، ودعم لأنظمة رجعية وتنشيط منظمات إرهابية ، ليس شيئاً خاصاً للآخرين ، إنما هو للاستهلاك المحلي أيضاً ، فالرأسمال بلا عواطف أو قيم ، والسياستين الخارجية والداخلية وجهان لعملة واحدة ، لكن هذه الدول ليست مضطرة لاستعمال القفازات الحديدية في الداخل ما دام النهب في الخارج متاحاً . ويكفي للاستدلال على تلازم السياستين المقارنة بين الدور السياسي والعسكري للدولة خارج مجتمعها وبين نظام الضمان الاجتماعي .
* اليهود بحكم نظرتهم للآخرين لا ارتباط لهم بوطن ، لهذا نجدهم ينسلخون عن مجتمعاتهم بسهولة ويلتحقون بالبلدان الأكثر تطوراً ، فهم دائماً يقطفون ثمار المدنية الأرقى ، إضافة إلى تفاعل الثقافات فيهم . إنهم في أمريكا اليوم أكثر منهم في فلسطين ، وهكذا كانوا في إسبانيا زمن ازدهار الحكم العربي فيها ، وهكذا كانوا في بولونيا في مرحلة وفي روسيا في أخرى . فإذا ما عرفنا أن جمع المال يدخل في صلب عقيدتهم بالترابط مع نظرتهم إلى الأغيار ، ندرك كمّ الثروة المجموعة على مدى أكثر من ألفي عام ، من الربا والتجارة والملاهي وبيوت الميسر والدعارة ، وباختصار من كل وسيلة للربح سريعة ومضمونة ومرضية للغرور ومنتجة لصلات وثيقة مع بعض الشخصيات الهامة لكن المريضة . هذه الأموال كانت تنتقل معهم إلى المراكز المدنية المتقدمة . وطبيعي أن الذي يملك المال يملك كل شيء لأنه معادل لكل شيء .
* ولليهودي ميزة لا تتوفر لغيره ، فهو ابن الله مهما فعل ، لذلك ينشأ متوازنا مطمئناً لأنه أقل الناس تعرضاً للصراع النفسي .
هل فسرت الماء بعد الجهد بالماء ؟ لم أنف أن الحركة الصهيونية قوية ، لكني بينت مكمن قوتها وضعفها في محاولة لعقلنتها تجنباً للأسطرة . إن قوتها ليست بذاتها ، بل بكونها أداة بالدرجة الأولى . جربوا أن تضعوا الجمر في اليد التي تستعمل تلك الأداة وستجدون أن الصهيونية سترمى في قاع المحيط مربوطة بثقل وستغمركم الدوائر العليا في الغرب بالقبل . المشكلة أننا لم نجرب حتى الآن .
أي شيء يفعله المرء يكون مثمراً ، فالأفعال الصغيرة كمقاطعة المصالح والبضائع هي بالمحصلة فعل كبير ، لكن أولاً انظروا إلى دواخلكم ، هل أنتم حاقدون بما فيه الكفاية ؟ كل شيء يشير إلى أننا أصبحنا نمتص الإهانات بشراهة الإسفنج . لنفهم أنفسنا والآخرين جيداً ، أولاً وقبل كل شيء .
1 ) انظر " اليهودية وموقفها من غير اليهود " لإسرائيل شاحاك .
يرى الكاتب أن الشعوب كانت تعادي اليهود لأنهم كانوا يضعون أنفسهم في خدمة الأمراء الإقطاعيين . لذلك كانت كل هبة ضد الأسياد تقترن بأعمال عنف ضد اليهود . والحركة الصهيونية هي الشكل المنظم والمعاصر ـ إضافة لأهدافها الخاصة ـ لتلك الممارسة في العهد الإقطاعي ، وهي بالتالي لا تستطيع أن تضغط على رئيس أو وزير أو نائب أو أي كان إذا ما كان موقفه منسجماً تماماً مع موقف الطبقة التي رفعته إلى موقع المسؤولية . إنها تستعين بالطبقة على الفرد ليس إلا .



#أكرم_إبراهيم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هل يمكن القضاء على الفساد بأدوات فاسدة ؟ 2من2
- هل يمكن القضاء على الفساد بأدوات فاسدة ؟ 1 من 2
- عكك*
- شكراً لحماس وحزب الله
- قصة
- الدولة والعودة : الجدل بين الشعار والممارسة والخطاب *
- نصر آخر لحزب الشعب وشركائه
- قمة هرم أم مركز مثلث ؟!!
- قراءة في إعلان دمشق
- ليس خوفاً على السلطة بل خوفاً من حزب الشعب


المزيد.....




- الشرطة الأسترالية تعتقل صبيا طعن أسقفا وكاهنا بسكين داخل كني ...
- السفارة الروسية: نأخذ في الاعتبار خطر ضربة إسرائيلية جوابية ...
- رئيس الوزراء الأوكراني الأسبق: زيلينسكي ضمن طرق إجلائه من أو ...
- شاهد.. فيديو لمصري في الكويت يثير جدلا واسعا والأمن يتخذ قرا ...
- الشرطة الأسترالية تعتبر جريمة طعن الأسقف في كنيسة سيدني -عمل ...
- الشرطة الأسترالية تعلن طعن الأسقف الآشوري -عملا إرهابيا-
- رئيس أركان الجيش الإسرائيلي يقول إنّ بلاده سترد على الهجوم ا ...
- زيلينسكي لحلفائه الغربيين: لماذا لا تدافعون عن أوكرانيا كما ...
- اشتباكات بريف حلب بين فصائل مسلحة وإحدى العشائر (فيديوهات)
- قافلة من 75 شاحنة.. الأردن يرسل مساعدات إنسانية جديدة إلى غز ...


المزيد.....

- اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية / ياسين الحاج صالح
- جدل ألوطنية والشيوعية في العراق / لبيب سلطان
- حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة / لبيب سلطان
- موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي / لبيب سلطان
- الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق ... / علي أسعد وطفة
- في نقد العقلية العربية / علي أسعد وطفة
- نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار / ياسين الحاج صالح
- في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد / ياسين الحاج صالح
- حزب العمل الشيوعي في سوريا: تاريخ سياسي حافل (1 من 2) / جوزيف ضاهر
- بوصلة الصراع في سورية السلطة- الشارع- المعارضة القسم الأول / محمد شيخ أحمد


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - أكرم إبراهيم - سلة هواجس