أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - أنس نادر - لعنة الجسد وغواية الحضارة ( دراسة فلسفية ونفسية في تأثير الجسد على الثقافة البشرية)















المزيد.....


لعنة الجسد وغواية الحضارة ( دراسة فلسفية ونفسية في تأثير الجسد على الثقافة البشرية)


أنس نادر
(Anas Nader)


الحوار المتمدن-العدد: 5832 - 2018 / 3 / 31 - 11:55
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    




أن أساس ما تعتمد عليه نظرية هذه الدراسة, يتمحور حول الصراع بين وعي الإنسان والطبيعة المعنوية لوجوده وبين جسده وغريزته الجنسية التي تمثل دافع وغريزة الحياة والكفاح المضني لإشباع هذه الغريزة.
ونقول فيما نطرحه أن السبب في تجسيد الرموز الدينية على هذا النحو الفوقي والرمزي الذي عرفته الحضارة البشرية, والذي اتخذ فيما بعد شكله كمؤسسات دينية ذات شرائع وسنن, هو نتيجة لطبيعة مادة الإنسان العضوية في تكوينه الجسدي ذو الغرائز الحيوانية المُلحّة, أو بالتحديد غريزته الجنسية التي تشكل كل رموز ودوافع الحياة في بنائه النفسي, والتفاعل التضادي لهذه الغريزة مع حالة الوعي الإنساني, وكلما كانت هذه الدوافع الغريزية حرة وبدون قيود تكبل شغفها ورغبتها, كلما شعر الإنسان بابتعاده وانسلاخه عن فطرته بالوعي المتجذرة في أعماقه والتي ترمز لصلته العميقة بهذا العالم, وبذلك فقد اتخذ الوعي البشري في تصوراته النفسية والعقلية رمز الضد والمانع الوجداني مقابل دوافع الحياة المتمثلة بغرائزه, فكان لا بد لتكوينه الواعي وطبيعته النفسية أن تبتدع وتخلق أشد القيود والمحرمات والأنماط الأخلاقية التي تكبح جماح غريزته وتكبّل دوافعه وشغفه لإشباعها, وتتيح له أكبر قدر من التلاشي المطلق بإنتمائه الوجودي والتماهي بطبيعة الكون الواعية, وجراء هذه العلاقة بين وعي الإنسان وغرائزه, نشأ في المقابل صراع يتمحور حول لذة الوعي المعنوية ولذة الجسد المادية وكان هذا الأشكال الأولية والبدائية لما ندعوه التدين في ثقافة البشر.

وإذا عدنا لمعنى الأسطورة وأسفار التكوين في جميع الحضارات والثقافات منذ أسفار التكوين السومرية وصولا إلى الديانات السماوية, فلم تتغير كثيرا بالواقع الملامح بين الأسطورة والدين من ناحية الدلالات النفسية العميقة. فسنشهد شعور الإنسان بالغبن وهو يصف سعادته عندما كان يقبع هو وزوجه في الجنان الخضراء حيث السلام المطلق والراحة الأبدية , حتى أغرته أنثاه ليأكل من ثمار الخطيئة التي منعته عنها الآلهة, فتمكن بعدها الزوجان من رؤية أعضائهما الجنسية, فغضبت عليهما الآلهة وأرسلتهم إلى الأرض حيث الشقاء والمعاناة في السعي لإرواء الرغبات الجسدية.
وهنا يتصور لنا بوضوح عالم الراحة والسعادة في أعماق الإنسان بعيدا عن متطلبات الرغبة والغريزة الجنسية, أو بالواقع خارج جسده الذي عبر عنه بإلغاء الغرائز والرغبات في الجنان الفسيحة, وعندما تعرف الإنسان على جسده وغريزته, أخذت الغريزة دور الضد الشرعي لعالمه وسعادته خارج الغريزة أو خارج الجسد.
ونرى هذا بوضوح خلال وصف الإنسان لعالمه الروحي بالأسطورة حيث يصور لنا كيف أن لذة ومتعة الحياة في السماء كانت أعظم بكثير منها بعد نفيه إلى الأرض, وهذا يشير إلى التفوق السيكولوجي في النفس البشرية للذة الوعي الوجودية على لذة الغريزة في جسد الإنسان. وبذلك كان على الفطرة الأقوى أن تقمع وتكبح معنويا وماديا جماح نظيرتها وتلحق بها القيود الشديدة كردة فعل طبيعية ومحاولة للعودة إلى الفردوس والنعيم.

ولم تكتفي طفولة العقل البشري والإنسانية المبكرة بإخبارنا عن صراع الإنسان الداخلي بين وعيه وجسده, بل أيضا لحق غضبه جميع رموز الجسد و الرموز المادية التي أقلقت سكينة روحه ووعيه خارج الجسد, وأودت به إلى عالم الأرض والحيوان, فبعد أساطير أسفار التكوين نرى سلسلة طويلة من أساطير الطوفان في معظم ثقافات الحضارات كالطوفان السومري والبابلي اليهودي وغيرهم, ثم تأتينا أساطير الدمار التي لا تقل ترويعا وترهيبا عن أحداث الطوفان, ولكن هذه الأحداث المدمرة لم تُفني بني الإنسان, بل كانت تتوقف قبل أن تقضي على الحياة قضاء مبرما, وذلك لأن أحلامه بالخلاص لن تتحقق بالعودة إلى الأصل فكان لابد له أن يُبقي على النوع من أجل البقاء والاستمرار.


وفي نظرية التحليل النفسي إن سير العمليات النفسية ينتظم انتظاما آليا وفق مبدأ اللذة كطريقة وآلية أولية للعمل, وإن كل الآلام والاضطرابات في نفس الإنسان هي في صميمها لذة لم يتم الظفر بها. إذا إن كل ما يقوم به الإنسان هي عمليات توازن وردود أفعال نفسية ضد الألم الذي من الممكن أن يصيبه, أو سعي حثيث لبلوغ اللذة بشكل مباشر أو غير مباشر. وهذا يبدو في غاية المنطق والصواب, وعلى أساس هذا الاصطفاء المُتَعي, فإن هناك ثمة لذة فوقية نافست المتعة الجسدية وألحقت بها الهزيمة من حيث المبدأ والسلوك, وتتجسد بالانجذاب لصلة الإنسان العميقة بالوجود والعودة إلى الأصل, الأصل الوجودي للإنسان والمتمثل بوعيه, لذلك فإنها من أهم سبل السعادة المعنوية وآليات مواجهة آلام الواقع بفعل رغبات ومتطلبات الجسد, ذلك الألم الذي فرضه واقع وجودنا في أقفاص الجسد. وهذه اللذه الفوقية سعت بالإنسان بأن يجد بديلا ماديا لوعيه الغيبي يهبط به من الجنات الفسيحة كما تقول الإسطورة إلى الأرض, وكان هذا من الأشكال البدائية الأولية للتدين الذي أوجدته التوازنات النفسية للإنسان ظنا بأنه يهرب من آلام الواقع المتمثل برغبات ومتطلبات الجسد ويعود إلى السماء.
ويندرج ما قلناه من ناحية التوازن لشخصية الإنسان بين الوعي والرغبة الجنسية لهذا المبدأ تماما, حيث تسلك النفس البشرية الطريق الأسهل لبلوغ المتعة والراحة الذي اتخذته في عالم الفردوس بعيدا عن آلا م الواقع من جهة, ولتجنُب الألم الكامن في الحياة الأرضية والواقعية المثقلة بأعباء السعي لإشباع الرغبات والغرائز من جهة أخرى.
ونظرية الوعي كأساس وغاية تسبق الوجود المادي تقودنا إلى استنتاج جديد بالنسبة لغريزة الموت التي طرحها مؤسس التحليل النفسي سيجموند فرويد, والتي تقول بأن الإنسان يسعى إلى إفناء نفسه بشكل غريزي للعودة إلى الحالة الأصلية وهي المادة الجامدة, وأن الموت هو غاية كل كائن حي والحياة تسعى إلى الموت في نهاية المطاف والكائن الحي يسعى قدما نحو السكون الكامل الذي يبلغه في حالة المادة الجامدة, وقد ربط هذه بعمليات الهدم والبناء في الجسم البشري, وأن هذه الغريزة أيضا تسعى بالإنسان إلى فنائه, والمشاعر والميول النفسية كثيرا بالنسبة لهذه الغريزة كالتدمير والقسوة والكراهية وغيرها من المشاعر السلبية, وهذا ما حدا بالحضارة الإنسانية إلى الحروب وفتك بعضها بالآخر, أي نتيجة لوجود هذه الغريزة المدمرة التي تحدو بالإنسان إلى الهلاك والفناء لرده لحالة السكون المادي المطلق.
وبالواقع لا يمكن نفي وجود ووضوح غريزة الموت في سلوك الإنسان, فنزعة التدمير واضحة أشد الوضوح في حضارة الإنسان وفنه وأدبه منذ فجر التاريخ, ولكن ذلك لم يكن بسبب نزعة الإنسان الغريزية بالعودة إلى أصله المادي, بل كانت بسبب طبيعته الفطرية بالوعي وردها إلى الحالة المعنوية خارج جسده كما جاء بأساطير أسفار التكوين وأحداث الطوفان وأساطير الدمار.
فإن الجسد والحياة الواقعية هي مصدر الألم, ومبدأ اللذة هو سعي الإنسان المستمر لمواجهة والخلاص من هذا الألم, أما الفطرة المعنوية والوعي فهي بعيدة كل البعد عن أي مصادر للألم, بل على العكس تماما فكل المحظورات الجسدية التي أنزلها الإنسان بنفسه كانت بسبب أن جسد الإنسان شكل قوة ورغبة مادية حاولت أن تسلبه متعته الواعية واللذة المطلقة ذات الصلة بالطبيعة المعنوية الواعية بالمعنى الوجودي, وكان الصراع بين هاتين الغريزتين المعنوية والمادية وفق مبدأ اللذة الذي سيسلك الطريق الأكثر إشباعا له والأقصى بعدا عن الألم. فالألم يكمن بالواقع وبالقفص الجسدي للإنسان, وغريزة الموت كما أرى تعمل للخلاص من واقع الجسد والعودة للحالة المعنوية واللذة المطلقة البعيدة عن عالم الجسد والمادة, فحسب ما نطرحه حول طبيعة الوعي وعلاقته مع الجسد, يتضح لنا أن المادة ليست هي الأصل على الإطلاق كما تطرحه علوم التحليل النفسي كأساس مادي لعمل غريزة الموت, بل أن الوعي هو الحالة الأصيلة والذي يسعى الإنسان لبلوغها ويكافح جسده على مدى حياته للعودة إليها, أي الحالة الأصيلة الواعية والمعنوية للوجود, وهذا ما لا يمكن تجاهله, فظهور كل المعارف والعلوم والفلسفات والفنون والأساطير والملاحم البدائية كانت لتجيب وتفسر هذا الإحساس الغيبي والجارف نحو السماء والمجهول.

أما بالنسبة لقول فرويد بخصوص تحليله لما يتبع لغريزة الموت, أن الإنسان في لاشعوره يحقد على نظيره الآخر ويتمنى موته, ولو أطلقنا العنان للاشعور فستمحي البشرية بعضها, ويحيل هذا بتحليله لحالات موت المقربون إلينا, وبأن كل شخص عزيز إنما يدمجه الشخص في أناه ويعتبره جزءا من نفسه التي يحبها, ورغم هذا فإن هناك جزءا ما في شخص هذا الإنسان العزيز لا يقبل الدمج مع الأنا ويعتبره الإنسان غريبا معاديا له, وهذا يقود لشعور ازدواجي بين الحب والكراهية, فرغم المحبة لهم فأننا نكن لهم قدرا من مشاعر الكراهية, وعندما يموت أحدهم نشعر بسعادة بسبب موت هذا الجزء الذي لم يندمج فينا, فنشعر بالذنب وتأنيب الضمير لمشاعر السعادة هذه التي أحسسنا بها, ولذلك ترانا ننسى خطايا المتوفى ونكن له الاحترام ولا نذكره إلا بالخير حتى ولو كان على عكس ذلك أثناء حياته.
بالواقع أننا نعتقد أن الشعور بالذنب وتأنيب الضمير تجاه الأموات لا يعود إلى مشاعر العداء والكره الجزئية التي نكنها في أعماقنا لهم, فأن عامة الناس تعتقد أن روح الإنسان الميت ستذهب إلى السماء حيث الحياة الأخرى الأكثر عدلا والأكثر جمالا, وهذا من وجهة النظر الدينية ومن وجهة النظر النفسية العميقة أيضا فلن يختلف هذا كثيرا, فما زال هذا المصير الروحي في عالم الغيب, وهو بالواقع الأساس للتصورات الدينية والروحية بجمال الحياة الأخرى, لأن الوعي يعتبر الحالة المناقضة للجسد والتي تنعم بالانسجام مع الكون والخالية من أية آلام وعذابات كما وصفها الإنسان البدائي في أدبياته وأساطيره, وليس كما هي الحال بالحياة الواقعية الحافلة بالمشقات والهموم وأعباء متطلبات الجسد, ولذلك عندما يموت الإنسان سواء كان ممن نحب أو غير ذلك, فإننا لا نكن له مشاعر الكره الجزئية حتى ولو كانت موجودة خلال وجوده حيا, لأننا ندرك في لاشعورنا بأن روحه تخلصت من أعباء الحياة وستذهب حيث الراحة الأبدية, ولكننا من الرغم من ذلك فإننا نشعر بذنب جزئي لموته كما يقول فرويد وأعتقد بأن السبب في هذا يعود للشعور الجمعي بالذنب تجاه الجسد بعد فنائه لما ترسب خلال الحياة البشرية من نكران ورفض نفسي له, وقيود اجتماعية وأخلاقية تكبل توقه للاشباع. فإننا لاشعوريا ندرك القيود التي أنزلناها به, والكبت الشديد والحرمان من اللذة والمتعة الذي ألحقناه به, إضافة إلى التحفظات الإجتماعية والأخلاقية الناتجة عن تلك القيود, فتأنيب الضمير لا يعود للأثر النفسي الناتج عن الكره الجزئي والذي نكنه للأموات, وخاصة أننا ندرك أن هذه النفس قد أدركت الخلاص وانتقلت إلى عالم أكثر عدلا. فالشعور بالذنب يعود نحو الجسد المظلوم والمقموع الذي أصابه البلاء وليس إلى شعور جزئي بالكراهية نتيجة لعدم اندماج النفس البشرية بشكل كامل مع نظريتها التي تحب, فإننا أيضا نستشعر الأسى عند موت أشخاصا لا نعرفهم ولم نقابلهم أبدا, وخاصة إذا عرفنا أنهم توفوا في سن مبكرة وفي ريعان الصبا فسيكون حزننا أعظم, لأن الجسد كان أفتى ولم يتمتع صاحبه به بالشكل الكافي, ومن المألوف جدا سماع كلمات الندب والحسرة المبالغ بها في كثير المجتمعات اذا كانت تخص شخصا قد فارق الحياة بسن مبكرة, بمعنى أنه فقد الحياة مبكرا ولم تسنح له الأيام أن يتمتع بها بالشكل الكافي. وإذا عدنا و نظرنا إلا ملحمة جلجامش وبطل هذه الملحمة الشهير ببحثه عن سر الخلود, سنرى إن ثورة جلجامش هذه لم تكن من أجل الخلود المنشود أو حتى الخوف الدفين من الموت, فإننا نرى في نهاية الملحمة عندما يلتقي جلجامش بالرجل الذي خاض التجربة قبله ونال الخلود بأنه كان مسنا بائس الهيئة لا تبدو عليه السعادة والرضا, إشارة إلى أنه ليس من الحكمة بشيء أن يعيش الإنسان أكثر مما قدر له بالشكل الطبيعي لأن يحيا, وإنه لم يقرر رحلته ومغامرته العظيمة عندما مات صديقه العزيز بشكل مباشر, بل تصور لنا الملحمة جسد صديقه انكيدو الميت كيف بلى وتفسخ وقد عاث به الدود فسادا, ثم من هول ما رأى جلجامش ما حل بجسد صديقه العزيز قرر أن يقوم بمغامرته باحثا عن سر الخلود, وأرى أن هذا تلميحا نفسيا عميقا وخاصا يعكس علاقة الشفقة على الأموات بالمصير المقيت والبائس الذي يناله الجسد, وردة فعل جلجامش هذه نرجعها لتأنيب الضمير والذنب من النكران الذي يكنه الإنسان لجسده في أعماقه جراء التاريخ الطويل من المحظورات والمحرمات التي أنزلها به, أي أن هذا الحزن العظيم على صديقه الراحل يخفي وراءه قدرا كبيرا من تأنيب الضمير الذي أنزله جلجامش بنفسه ودفعه لمغامرته الشاقة تكفيرا عن ذلك.


ان هناك ثمة علاقة جمعت نهضة الفكر بالحرية الجسدية, ورابط بين نهضة الأولى بتحرر الثانية, وهذا طبيعي جدا نتيجة تحرر الجسد من القيود المعنوية التي ربطته برموز الوعي العلوية وبالقيم الأخلاقية والثقافية الناتجة عنه.
ولم يكن المقصود بالحرية الجسدية تشريع وإباحة ممارسة العلاقة الجنسية وتحريرها من جميع القيم الأخلاقية والإنسانية, فالغاية الأساسية من الحرية الجسدية هي تحويل الهدف الجنسي والجسدي إلى الحالة الفكرية من خلال تسوية العلاقة مع الجسد وتحريره من رموز العار والخطيئة والإثم والحرام والشرف وجميع المشاعر السلبية التي تحط من قدر الإنسان المرتبطة به, والأمر الأكثر خطورة وسلبية في احتقار الجسد أنه يعمل على تخفيض قيمة الحياة وتشويه صورة العالم واحتقار المتعة واللذة وبالتالي يجهض كل رموز الفرح والسعادة ويقدر العذاب والألم لأنه نتاج الكبت الجسدي والحصر النفسي, وهذا هو بالتحديد ما جعل الإنسان عبر التاريخ البشري سواء الفني أو الواقعي أن يقدس المآسي ويجعل من أحزانه ملاحم خالدة.
ولكن كيف السبيل في بلوغ الحرية الجنسية دون الوقوع في شباك الإباحية والتي ستغدو مشكلة لا تقل شأن من الحرمان والكبت الجنسي من حيث العلاقات التي تربط البشر ببعضهم والقيمة الأخلاقية للذات والمجتمع إذا انفصلت الغريزة بشكل كامل عن المعايير الأخلاقية والإنسانية. والجواب هو إضفاء الطابع الإنساني على العلاقة الجنسية أي تمازج العلاقة الجنسية والعاطفية معا في موضوع الحب, وهذا ما سيعمل على الالتزام الجسدي الذاتي للعلاقة, فلا يمكن بلوغ اللذة في أي علاقة جسدية كاللذة في العلاقة التي يصاحبها الحب, وذلك حسب ما تم طرحه بسبب إضفاء الطابع الواعي والمعنوي للعلاقة إضافة إلى الغريزة, وتلاحم الصفة الواعية المعنوية مع الصفة الجسدية المادية في موضوع واحد, وهذه الحالة هي عبارة عن علاقة استثنائية ما بين الوعي والمادة في شخصية وكيان الإنسان, بل الحالة الوحيدة التي يكون فيها الجسد موضوع معنوي وجمالي بالنسبة للوعي في العملية التي تسعى بها النفس البشرية للتوازن عبر مبدأ اللذة والألم, وهذا يعاكس تماما القانون الطبيعي والعلاقة التي تربط الوعي مع الجسد, فالعلاقة الطبيعية هي أن يقيد وعي الإنسان الفطري الغريزة الجنسية ويحاول الوعي أن يفني الجسد من أجل العودة للحالة المعنوية الأصلية, أما في حالة الحب فإنه يتخذ من موضوع الجسد غايته المعنوية, وهذا ما يبعث هذه الحمى العاطفية المشبوبة للحب ويفسر تقديس الإنسان له عبر كل العصور حتى أيامنا هذه على الرغم من الاختلاف والتباين الشديد في الثقافات والمعتقدات. فالحب هو الحالة الوحيدة التي يتفق عليها كل البشر على هذا الكوكب ولم تخضع لأي تغيير جوهري واضح في رموزها أو طريقة التعبير عنها من حيث الوقع العاطفي الساحر, ومعظم الفنون والآداب تدور في فلك صخب هذه الحالة وروعة إحساسها.
أي أن تصعيد الجنسية من مادتها المتركزة بالأعضاء إلى طاقة حيوية في نطاق الحب سيعطي الجسد قيمة روحية ضمن ضوابط إنسانية تخرجه من عالم الخطيئة المحيط به, وتفعِّل القيمة النفسية والجسدية المشروعة للمتعة, مما سيحفز النظرة الجمالية والإبداعية ويرتقي برموز الحياة إلى مستوى أخلاقي خالي من العنف المعنوي والنوايا المبطنة لبلوغ المتعة, وهذا سيعطي حافز مختلف أيضا على الصعيد الفكري بتوجهه واهتمامه بمصير الإنسان.

والحب من عواطف الوعي أي أنه موجود لدى كل إنسان بشكل أصيل بطبيعته ولا يحتاج إلى إظهارات معقدة, ولكن الحضارة تؤدي دورا هاما في ترسيخه أو ذبوله على حد سواء, ففي المجتمعات المنغلقة التي تكبل الجسد بقيود أخلاقية سيكون الموضوع الجنسي المادي هو الهدف, وهذا طبيعي بدون شك جراء الكبت, لأن الحب في هذه الحالة سيكون ضمن المحرمات أيضا أو تحت رداء الجنسية بشكل شبه كامل حتى في الحالات العذرية له, لذلك سوف لن يكون لها الأثر الجمالي البالغ بسبب تهشم الصورة الأخلاقية والشرعية له, فحرية الجسد لها تأثير بالغ الأثر على الرؤية الجمالية للحياة وبالتالي على العمل الفني والإبداعي, وهذا سبب مرافقته عبر التاريخ البشري للنشاط والإنتاج الفكري.

إن الفن والجمال من أهم الدوافع التي ترتبط ارتباطا وثيقا بالوعي أو بنزعة الإنسان نحو الأصل الواعي للتخلص من رغبات الجسد الحيوانية والمادية مما يجعلهما لذة عظيمة غير واقعية لمجابهة آلام الحياة, وهذا ما يفسر أن معظم الفنانين أشخاص غير واقعيين وغريبي الأطوار وأقل التصاقا بالحياة الواقعية, لكنهم في الحقيقة ليسوا كذلك بل ببساطة أنهم أشخاصا معذبون, والسير الذاتية لمعظم الفنانين في مختلف المجالات ترينا الكثير من تطرف مشاعرهم الهائجة. ولكن موضوع الحب أمر مختلف جدا عنهما, فعلى الرغم من صفته الروحية والجمالية إلا أن علاقته وثيقة جدا باللذة الجسدية وبالغريزة الجنسية, كما أن اللذة التي يواجه بها آلام الحياة ولوعة الجسد تكمن في الجسد نفسه, أي أنه عودة إلى الأرض والمادة وترسيخ لاندماجهما, وثورة عظيمة يقوم بها الجسد الحيواني للتواصل مع الوعي ويبلغ مرامه بها, في حين أن عبر التاريخ النفسي والديني الطويل لم يفتأ الإنسان من محاولته لكبته وتقييده بمختلف المحرمات والمحظورات, وكان الجسد المكبوت يناضل للظهور على الدوام في كل الرموز الدينية التي تصورها الإنسان كمصدر للذة بديل عن الوعي لمجابهة مخاوفه واضطراباته على الأرض.
وبغض النظر عن وجهة نظر التحليل النفسي برؤيته لموضوع الحب كبديل أمومي وغير ذلك من التفصيلات والإسقاطات النفسية, فهذا يدور في فلك التحليل الانتقائي لموضوع الحب وعوامل الخيارات للأهداف الحبية ورموزها النفسية العميقة, ولا يبحث في تحليل نشوء هذا الهيجان العاطفي.

إذا فإن علاقة الحب مع الوعي علاقة شائكة ومتوترة لأنه يخرج من دائرة بلوغ اللذة خارج الجسد لمواجهة آلام الواقع كالذي تقوم به آلية عمل الجمال بإبداع رموز صورية غير واقعية تحلق بعيدا فوق آلام منطق الحياة وتكون ملاذا للاندماج بالوعي الكلي, فالحب يأخذ منحى واقعي باتخاذه للجسد كموضوع واعي وواقعي للذة ما يجعله جموحا من غير الممكن السيطرة عليه واصطدام وتلاحم عنيف بين لذة الوعي ولذة الجسد. لذلك وصف الإنسان الحب كحالة جنونية عمياء تقود للهلاك والشتات, بسبب الاضطراب النفسي الاستثنائي التي تسببه هذه الحالة الإنسانية لتي ترفع من قيمة الجسد إلى مصافي الوعي وتحرره من أية قيود, وهذا طبعا لا يناسب شرائع الإنسان الاجتماعية والأخلاقية على الأرض لما فيها من تباينات اجتماعية ومادية وعقائدية.
لذلك إن دافع وطاقة الحب لا تقهر على الإطلاق ولا توجد أي قوة مماثلة لها تسيطر على كيان الإنسان بهذا الشكل, حتى أنها تفوق دافع الحياة نفسه, أي أنانية الإنسان تجاه نفسه, فإذا نظرنا للنرجسية المسماة تيمنا بلإسطورة اليونانية سنرى مدى تملك هذه العاطفة من كيان الإنسان, وتقول لنا الأسطورة بأنه كان هناك فتى يدعى نرجيسيوس, وقد كان هذا الفتى جميلا جدا كما تقصه لنا الأسطورة, وقد وقعت في حبه فتاة بكماء تدعى ايكو أو بما معناه الصدى, وقد لحقت به من مكان لآخر تناديه لكنه لم يسمعها أو يلتفت لها نظرا لعدم قدرتها على الكلام, فشكت أمرها لإله الحب كيوبيد فوعدها أن ينتقم لقلبها المجروح, وبحث عن نرجيسيوس حتى وجده أخيرا واقفا عند حافة بحيرة يتأمل وجه الماء, فرماه إله الحب كيوبيد بسهام الحب التي يحملها باللحظة التي كان نرجيسيوس يحدق بوجهه المنعكس على سطح الماء, فوقع الفتى في حب صورة وجهه الجميل وظل ينظر إليه حتى أصابه النعاس ونام فسقط في الماء وغرق.
والنرجسية من أعقد وأعمق الأبحاث الذي يخوضها التحليل النفسي, ولكننا نرمي هنا إلى وقع الموضوع الحبي في جذور أعماق الإنسان الذي تغلّب على أنانية الفرد وغريزته في البقاء وأودى به للموت, وهنا تضح العلاقة والتأثير الواقعي للحب على الجسد. كما أننا نستطيع هنا أن نستشف إشارة خفية حول علاقة الحب مع الموت في وصف الأسطورة لغرق وموت نرجيسيوس المصعوق بوقع الحب, فأرى أنها كدلالة عميقة لميول ونزعة الحب في إفناء العاشق لذاته في سبيل موضوعه الحبي بسبب الشعور بالاستمرارية والبقاء الأبدي في شخص المحبوب وذلك بتبرئة شخصية المحبوب من خطيئة وجود الجسد في عالم الوعي التي يسقطها هو على نفسه في الطبقات الغائرة في أعماقه, فيقوم هنا مفعول الحب بتأديته دورا مناقضا ورافضا لغريزة الموت بإفناء الجسد للعودة إلى حالة الوعي في شخصية المحبوب, بل يصبح المحبوب استمرارا وبقاء للعاشق, وهذا ما يؤدي الدور العكسي بإمكانية نزعة العاشق بإفناء ذاته. أي أنه ضرب من الإحساس بالخلود الواقعي لذلك يسعى المحب بكل جوارحه لحماية الموضوع الحبي أو الشخص المحبوب على حساب أنانيته هو, كدلالة موت نرجيسيوس في سبيل حبه باعتباره خارج نطاق شخصه وبعيدا عن الموضوع النرجسي.



لذلك أرى أن للجسد ورغباته تأثيرات غائرة بالنفس البشرية ذات علاقة راسخة بسلوك وحضارة الإنسان, وأن تطور المنظومة الدينية والاجتماعية والحضارية بشكل عام عبر التاريخ كان يرافقه ويتماشى معه جنبا إلى جنب تغيير بعلاقة الإنسان مع جسده.
ولم تؤثر الغريزة الجنسية بالدين وحسب بل أيضا بنهضة الفكر وتوجهه, فهناك علاقة تصاعدية وثيقة بين حرية الجسد والحركة الفكرية في سير الحضارة, وكلا هاتين الصفتين تتمثلان بعلاقة عكسية مع التأثير الديني على النفس البشرية.
فإن التدين هو أكثر الأشياء بدائية في تعبيرها عن الوعي, وكان سبببا ومصيرا في اضطرابات عنفية هائلة في مسيرة الحضارة بصفته الجمعية والسامية التي تعلو جميع الانتاجات الثقافية الاخرى, نتيجة القيود التي فرضها على حرية البشر بصفته البدائية للوعي, وهذا طبيعي لعدم وجود ثقافات بديلة في باكورة الحضارة الإنسانية, وإذا أخذ التدين صفة جمعية وثقافية فيصبح قانون سامي فوقي يقود المجتمع ويعلو جميع العقائد والأفكار, وهذا من شأنه أن يفرز أخلاقيات وثقافات تحد من تحرر البشر من آثامهم التاريخية وتحول دون خلق عمليات ابداعية وثقافية بديلة كالفنون والآداب وكافة العلوم الإنسانية والجمالية التي تعبر عن وعي الإنسان بالطريقة التي تنسجم مع ذاتيته وتتماهى مع الحضارات والثقافات الانسانية الأخرى.




المراجع
ما فوق مبدأ اللذة سيجموند فرويد
قلق في الحضارة سيجموند فرويد
الحب والحرب الحضارة والموت سيجموند فرويد
مستقبل وهم سيجموند فرويد
فينومينولوجيا الروح هيجل
مغامرة العقل الأولى فراس سواح
لغز عشتار فراس سواح
ملحمة جلجامش فراس سواح



#أنس_نادر (هاشتاغ)       Anas_Nader#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ملاحم الخطيئة
- سوريا - المآلات العملانية وطهرانية الهزيمة
- الرماديون ( قراءة في سيكولوجيا الجماهير )
- عن رواء العزلة - شعر نثري
- أناشيد أرض السوسن-مقطوعات نثرية
- قلق الوجود الجمعي, الاستبداد المقدس
- الثورة السورية أزمة تاريخ أم قربان مصير (قراءة نقدية)
- الاستبداد والمنعَكس القهري للتدين في رحلة البحث عن الهوية


المزيد.....




- مبنى قديم تجمّد بالزمن خلال ترميمه يكشف عن تقنية البناء الرو ...
- خبير يشرح كيف حدثت كارثة جسر بالتيمور بجهاز محاكاة من داخل س ...
- بيان من الخارجية السعودية ردا على تدابير محكمة العدل الدولية ...
- شاهد: الاحتفال بخميس العهد بموكب -الفيلق الإسباني- في ملقة ...
- فيديو: مقتل شخص على الأقل في أول قصف روسي لخاركيف منذ 2022
- شريحة بلاكويل الإلكترونية -ثورة- في الذكاء الاصطناعي
- بايدن يرد على سخرية ترامب بفيديو
- بعد أكثر من 10 سنوات من الغياب.. -سباق المقاهي- يعود إلى بار ...
- بافل دوروف يعلن حظر -تلغرام- آلاف الحسابات الداعية للإرهاب و ...
- مصر.. أنباء عن تعيين نائب أو أكثر للسيسي بعد أداء اليمين الد ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - أنس نادر - لعنة الجسد وغواية الحضارة ( دراسة فلسفية ونفسية في تأثير الجسد على الثقافة البشرية)