أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - آرام كربيت - من ذاكرتي في القامشلي















المزيد.....

من ذاكرتي في القامشلي


آرام كربيت

الحوار المتمدن-العدد: 5812 - 2018 / 3 / 11 - 10:05
المحور: الادب والفن
    


إحدى المرات طلبت مني أمي أن أذهب إلى اللحام لأجلب نصف كيلو لحم. لم أكذب خبرًا. بعد أن وصلت إلى الملحمة وقفت إلى جانب الطاولة، داخل الملحمة. وكان إلى جانبي امرأة كبيرة في السن. كانت تتكلم في السياسة من موقع مطلبي، وحول الوضع المعيشي. ودون تحضير مسبق انخرطت في الحديث. كنت إنسانًا حشريًا أدخل رأسي في كل القصص التي تدور حولي مثل الكثير من الناس الغير منضبطين بسلوك الحوار أو شكل الحوار. تكلمت عن شح الخبز في الأفران، وعدم وجود بيوت فارغة للإيجار، وقلة الدخل والراتب الشهري. كان هناك من يصيغ السمع لكل كلمة أقولها ونظراته مسددة على عيني وفمي ووجهي. المستمع شابًا كرديًا اسمه محمد، ابو خالد. بقي يصيغ السمع لحديثي. قال:
ـ لقد خرجت المرأة الأن! هل يمكننا أن نتحدث؟ هل لديك مانع؟
ـ بالطبع لا. ولماذا؟ في ماذا سنتحدث؟
ـ لدي موضوع أريد أن اطرحه عليك؟
ـ موضوع؟ بماذا يتعلق هذا الموضوع؟
ـ عندما نلتقي سأقول لك.
ـ أين يمكننا أن نلتقي؟
ـ هل يمكننا أن نلتقي في المشتل؟
ـ في المشتل؟ لماذا؟ يمكنك أن تتكلم هنا! لماذا تريديني ان أقطع مسافة طويلة للتحدث هناك. هنا، الوقت متسع للحديث.
ـ في المشتل أفضل.
في الحقيقة خفت من اصرار ابو خالد. أنا طفل في الثالثة عشرة من العمر. وأبو خالد رجل كبير، في الثلاثين. قلت له:
ـ لا استطيع المجيء إلى المشتل. عليك أن توضح لي ماذا تريد مني قبل أي شيء آخر.
ـ لدي شيء سري, جريدة للحزب الشيوعي السوري, أريدك أن تقرأها.
ـ جريدة؟ سرية؟ حزب شيوعي؟ ولماذا أنا؟
تذكرت على الفور مدرس التربية الوطنية حين تحدث دون مقدمات. وبطريقة استعراضية, قال:
ـ لو ذهبت إلى البيت، وقلت لوالدي أنني شيوعي سيقتلني.
ـ لماذا يا استاذ؟ لماذا سيقتلك؟ ماذا يعني شيوعي؟
ـ إنهم كفار، لا يؤمنون بالله. لهذا اخترت البعث. الله أولا ثم البعث.
بقيت هذه الكلمة في ذهني, وجلجلت مرة ثانية. تذكرت خوف والدي الكبير من هذه الكلمة، السجن، الله. بافل بطل رواية الأم. واليوم أبو خالد.
وافقت أن نلتقي في المشتل. كانت هناك أحداث خطيرة في المنطقة مثلما هي دائمًا. الانقلاب في السوادن, هاشم العطا، الشفيع احمد الشيخ وعبد الخالق محجوب. عام الحسم الذي طرحه السادات في ذلك العام. تربع حافظ الأسد على الكرسي بعد أن بسط سيطرته على كل مقدرات البلاد ومسك بيده كل صغيرة وكبيرة.
الضخ الاعلامي، البروبوغندا التي كانت تمارسها السلطة السوفيتية. حالة الفوضى التي اجتاحت المنطقة بعد غياب جمال عبد الناصر. الحرب الهندية الباكستانية وانقسام هذه الأخيرة إلى دولتين، واشتداد الصراع في فيتنام ضد الولايات المتحدة، الغزل الامريكي الصين، والخلاف الصيني السوفيتي. كان العالم في صراع منضبط بعد خروج الكثير من الدول المحتلة من ربقة السيطرة العسكرية ونيلها حريتها السياسية.
واستلم حافظ الأسد البلاد على طبق من ذهب دون أن يطلق رصاصة واحدة.
ومضى يعهر ويكشف عن الغموض الذي تربع عليه. والتموضع الحقيقي لتكوينه النفسي والعقلي والسياسي. لقد صعد مثل البرق في سلم الحكم, من رتبة نقيب في العام 1963 إلى رتبة لواء في العام 1966 ثم فريق بعد الهزيمة المجلجلة في التاريخ الحديث التي غيرت موازين القوى على الصعيد الدولي.
الحرب الخاطفة التي جرت في العام 1967 كشفت عمق الخراب في المنظومة التي كانت تتدعي أنها اشتراكية. وعرت تلك القوى الهشة التي تنطحت في الدفاع عن الشعوب المقهورة. وكشفت عن عمق الارتباط بين حكومات الاستقلال في العالم الثالث والغرب.
مضى حافظ الأسد يحفر الأرض ويضع الاساسات ليكرس مجده الشخصي ووجوده وبقاءه في الحكم عبر تقريب أبناء عائلته وطائفته. ومد الجسور ليرسي الانقسام الاجتماعي والاقتصادي بحرفية عالية ودقة في التخطيط الاخطبوطي لتمزيق ما يمكن تمزيقه.
منذ العام 1971 بدأنا نسمع اللهجة الساحلية في الشارع. ونسمع من يقول بصوت عالي وواضح:
ـ أنا من فرع الأمن السياسي. أنا من فرع أمن الدولة. أنا من الشرطة العسكرية.
وازداد عدد رجال الأمن في كل الاقسام المدنية والعسكرية. وأصبحوا ينتشرون كالفطري السام في الشوارع. وبدأت أجهزة الأمن بكل فروعها تتوسع أفقيًا وعمودًا وتمد أذرعها في كل مكان. تشتري هذا وتقرب ذاك. وأصبح الإغراء بالتقرب من السلطة عبر البوابة الخلفية مغريًا للكثير من النفوس الضعيفة. وتسلل الاخطبوط الأمني بين الناس بنشر الإشاعات ورمي الفتن. وشيع الخوف والشك بين المواطنين. وبدأ الجار يشك بجاره, والأخ بأخيه. وأصبح التكلم باللهجة العلوية يعطي الحماية للبعض ويشعره بالتفوق. ومضى الكثير يقلد هذه اللهجة ليحس بالقوة والأمان. وتدفق المال السياسي الخليجي إلى البلاد ودخلت الطفرة المالية في حياة الناس. ومضى حافظ الأسد يقرب الفاسدين واللصوص وقطاع الطرق من سلطته. يشتري ويبيع. ويمنح كل حرامي عفو وراء عفو ليعوم الخراب ويرسي معيارًا جديدًا لحياة السوريين القادمة. وكأن هناك من يرشده أو يخطط له خط طريق سيره. ومضى الاعلام السلطوي ينفخ في حافظ الأسد عبر توجيه حثيث منه ورفعه إلى مصاف الآلهة والرسل إلى أن أصبح بالون نفسه، صانع نفسه بنفسه. وبدأ يقدم نفسه على انه منقذ، ورجل دولة ومخلص والغرب والسوفييت كانا يباركان خطواته القذرة.
كنا نتابع التطورات في بلدنا عبر جرائد النظام، البعث والثورة والصحف كالطليعة السورية وجيش الشعب والفرسان
بدأ حافظ الأسد يتغلغل بهدوء وبشكل مدروس دون أن يستفز مشاعر الناس أو يخذلها. أفرج عن أغلب السجناء السياسيين وتقرب من الأحزاب السياسية التقليدية ووعد الناس بجبهة وطنية تقدمية ومجلسًا للشعب تمثله احزاب سياسية مفصلة على مقاس نظامه وإدارة محلية. وفي السر نشر المخبرين بين هذه الأحزاب التي كانت تعمل معه. واشترى الكثير من القيادات مما جعله يحول قيادات تاريخية إلى مسخ كخالد بكداش وعبد الغني قنوت وفايز اسماعيل وغيرهم.
إن تسليط الضوء على أغلب بلدان العالم الثالث، يمنحنا القدرة على معرفة الحقيقة لتشابه توزيع الادوار على الجميع.
ودائمًا هناك أقلية مسحوقة، مهمشة معدمة، جاءت إلى السلطة عبر الانقلاب. وبعد ذلك انقلب حالها. وبين ليلة وضحاها تحولت من أقلية مسحوقة إلى أقلية مسيطرة بقوة السلطة تمسك المجتمع كله عبر بوابة القوة والغول الأمني.
ومضت تلك الأقلية السلطوية، ذات الجذور المهمشة أو المنبت الهش والضعيف تعمل دون كلل على امتلاك البلاد والعباد. وأصبح لديها قدرات خيالية في اللعب على تناقضات المجتمع ومشاكله وقواه وتموضعات الجيش والقوة. وأصبحت العلاقة بين الدولة والمجتمع تمر عبر البوابة الأمنية، ومقياس على مد خضوع الدولة والمجتمع لنهج السلطة وزعيمها. وراكم كل فرد مقرب من رأس النظام واتباعه أموالًا لا تحرقها النيران.
وهناك تشابه بين موبوتوا الكونغو وعراق صدام حسين وسوريا حافظ الأسد وزعماء تشاد وقذافي ليبيا ونميري السوادن أو البشير أو بينوشت التشيلي أو سوهارتو اندونيسيا. وما أن رفعت الولايات المتحدة الغطاء السياسي عن البعض منهم حتى ذاب كالملح كموبوتو سيسيكو وسوهارتو في اندونيسيا وبينوشيه تبع تشيلي.
ذهبت إلى المشتل. ورأيت محمد أبو خالد برفقة رجل آخر. اعتذر من صديقه. واقترب مني. أخذني إلى مكان معزول عن الناس وتكلم معي بصوت منخفض:
ـ هذه جريدة الحزب الشيوعي السوري، نضال الشعب وجريدة الناطقة باسمه، وفي سبيل الأرض.
ـ قلت لي سابقًا؟ الا تخاف أن يسجنوك؟
ـ خذها الأن. اقرأها، وسنتكلم عن مضمونها فيما بعد!
مسكت الجريدة خائفًا.
كان هناك صوت الضحايا في ذاكرتي يصرخون في أقبية جمال عبد الناصر وعبد الحميد السراج والبعث. صوت والدي المرعوب. وقفت حائرًا، ممزقًا بين القبول والرفض. الرغبة والفضول في المعرفة والنتائج المترتبة على أخذها. نظرت حولي. كان الناس مشغولين بأنفسهم. رجال بصحبة نساءهم وأطفالهم. العشاق يتهامسون حرقة يتبادلون النظرات المملوءة بالشوق والرغبة المبطنة. ورغبتي أن أكون وان لا أكون في اللحظة والزمن ذاته. أن أعرف ولا أعرف. قبل أن أمشي, قال:
ـ خبيهم. لا تترك أي إنسان يعرف شيئًا عن الجرائد سواء كان أبوك أو أمك أو أخوتك.
ـ اطمئن. أبي وأمي لا يعرفون القراءة والكتابة. لا أحد لديه الفضول ليعرف ماذا يوجد في داخل هذه الورقة العجوز.
وضعتها في عبي ومشيت. وكأني محمول بالمتفجرات أو فعلت شيئا معيبًا يضر بالمجتمع والبلاد.



#آرام_كربيت (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- إعادة هيكلة الدولة
- التمرد
- استانبول
- من ذاكرة الجزيرة السورية 3
- الخروج من الذاكرة 2
- الحسكة
- أمي
- سعرت باتمان والسلطنة
- السفينة والبطيخ
- ثانوية ابن خلدون
- في المناجير
- في رأس العين
- في ضيعة تل كيفجي
- دبانة
- العودة للجذور
- في ظلال الليل
- سراب بري
- الدولة الظاهرية والدولة الباطنية
- الديمقراطية ومخالب السلطة
- انهيار الدولة السورية


المزيد.....




- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...
- قيامة عثمان حلقة 157 مترجمة: تردد قناة الفجر الجزائرية الجدي ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - آرام كربيت - من ذاكرتي في القامشلي