أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - القضية الكردية - عبدالله اوجلان - من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الاول التطور الحضاري والمجتمع العبودي ح - الذروة في الحضارة العبودية 2 - مرحلة روما في الحضارة العبودية 1- 15















المزيد.....



من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الاول التطور الحضاري والمجتمع العبودي ح - الذروة في الحضارة العبودية 2 - مرحلة روما في الحضارة العبودية 1- 15


عبدالله اوجلان

الحوار المتمدن-العدد: 1481 - 2006 / 3 / 6 - 11:02
المحور: القضية الكردية
    


2 ـ مرحلة روما في الحضارة العبودية

واصلت كونفدرالية "أتروسك" المعتمدة على أثني عشرة منطقة في الشمال تطورها ضمن الشروط التي هيأت لازدهار روما، ويمكن الحديث عن تسرب الثقافة النيوليثية في المناطق الأكثر عمقاً، وعن انتشار الشعب ذو الأصل اللاتيني الذي أصبح أكثر قوة باعتماده على تقنية الحديد اعتباراً من عام 1000 ق.م ووضع بصماته على البنية اللاتينية لشبه الجزيرة. لقد نقل الأتروسكيون القيم الحضارية لميزوبوتاميا عبر الأناضول، ولعبوا دوراً ريادياً حتى مرحلة ازدهار روما، ويعد الأتروسكيون أهم مصدر يغذي روما، وإن مستوطنة هلين في الجنوب تكاد تخلق وضعاً مشابهاً لغرب الأناضول، وتكوّنت دويلات المدن الصغيرة، وكانت السيطرة التجارية والثقافية والإيديولوجية في مرحلة تطور مستمر. وإذا ما توغلنا جنوباً نجد مملكة "سيراكوزا" وحضارة "قرطاجة" ذات الأصول الفينيقية في شمال أفريقيا تمر في مرحلة ساطعة من الحضارة. كانت المؤثرات الحضارية للشرق الأوسط تقوي بنيان روما عن طريق هذه الأقنية. وبعد ذلك نرى روما في عام 750 ق.م قد اكتسبت صفة دولة مدينة ملكية، وتطبع المجموعات الأثنية ذات الأصول اللاتينية بصمتها على المرحلة رغم التأثير العميق للأتروسكيين. ونحو عام 500 ق.م تبدأ روما مرحلة الازدهار كجمهورية ذات جذور لاتينية، وكان يتم السعي لتنظيم الصراع الطبقي العنيف بين باطريسي التي تمثل طبقة النبلاء المعتمدة على البنية الأثنية بشكل خاص و"البلب" التي تمثل طبقة الفقراء الدنيا من خلال مؤسسات الجمهورية المعتمدة على المساومة والتي يمهد هذا الصراع السبيل أمامها. وتم تشكيل مجلس الشيوخ ومجلس الشعب بشكل أقوى وأرسخ عما كان في أثينا، وتم الفصل بين السلطة التنفيذية "Magistra والسلطة القضائية " Preator " كما تظهر مؤسسات مشابهة عندما تدعو الحاجة.
اكتسبت المواطنية في روما أهمية كبيرة، وعندما أصبح حق المواطنة الذي كان مقصوراً في البداية على شعب روما فقط، شاملاً يضم كل سكان شبه الجزيرة، أسفر عن زيادة في مشاكل الجمهورية، وبعد تجاوز تهديد قرطاجة خلال أعوام 264 ـ 146 ق.م، بدأت مرحلة السيطرة على العالم الهليني تدريجياً، ومع الدخول في القرن الأخير قبل الميلاد كانت الحملات التي قام بها القيصر سزار على وشك الانتهاء، من فتح غاليا "فرنسا" وجنوب ألمانيا وجنوب الجزيرة البريطانية وأسبانيا وشرق بحر الأبيض المتوسط مع الأناضول. وسقطت مصر وتحولت إلى ولاية تابعة وأصبحت بمثابة قلاع الحضارة الأساسية، والعديد من الأراضي العذراء تحت السيطرة الرومانية، وتم الوصول إلى العصر الذهبي للشاعر فيرجيليوس. وحان الوقت لبدء مرحلة الامبراطورية بدلاً عن الجمهورية، وبدء زمن الأباطرة والقادرين، فكانت مرحلة المواطنين من الدرجة الأولى .
إن حكم التاريخ قاطع حول ازدهار الحضارة العبودية في روما وانتشارها وتشكيلها أكبر قوة في تلك المرحلة، ولكنه مازال بعيداً عن شرح العوامل التي أثرت في هذه الفترة باتباع المعايير الموضوعية. ونفس المواقف الميثولوجية المتعصبة والمتطرفة أثناء ولادة الحضارة الإغريقية سارية المفعول بالنسبة للحضارة الرومانية. فما زال طراز "المركزية الذاتية" الذي كان وما زالت الحضارات تتبعه يواصل ادعاءاته هنا أيضاً. وأما الذي يقع على عاتق التاريخ العلمي هو أن يضع المقاييس في مكانها ويقوم بالتفسير الصحيح. وليس صدفة أن يرى الشاعر الكبير فيرجيليوس في ملحمته "Aines "، وتأسيس روما في مقاومة طروادة ويعود بها إلى عودة " Aines" الذي جاء بعدها إلى إيطاليا. وبذلك يعود بروما إلى جذور الثقافة التي أولدتها. وتأثرت روما بشدة بالثقافة الإغريقية لدرجة أنها تشكل امتدادا لها، لهي حقيقة لا يمكن إنكارها. وفي هذه الحالة فأن تأثرها بالأناضول والفينيقيين والمصريين يكون من الدرجة الثانية. إن الحديث هنا عن إغتذاء غير مباشر عن طريق الحضارة الإغريقية، وحتى إذا كان الوضع كذلك، أنه إذا ألقينا نظرة على الأثر الذي تركه السومريون على الأتروسكيين نجد أن تشكل الحضارة الغربية اكبر حلقة من الانتشار الذي انطلق من منبع الشرق الأوسط لهو أمر صحيح بقدر ذلك. وكما تشكل الامبراطورية الصينية التي تتكئ على المحيط الهندي الحلقة الكبرى في الشرق كذلك تشكل الامبراطورية الرومانية التي تتكئ على المحيط الأطلسي الحلقة الأخيرة في الغرب. وبذلك نجد أن الحضارة الرومانية هي ثالث وآخر اكبر حلقة من الانتشار الذي انطلق من الهلال الذهبي "الخصيب" الذي انجب الحضارة. ولغة تطور وانتشارا الحضارات هي هكذا غالباً.
من المفيد جداً أثناء تحليل الحضارة الرومانية إجراء مقارنة بينها وبين الحضارة السومرية. فعندما كان السومريون أصل البنية الاجتماعية العبودية، فإن روما هي بمثابة القوة المتممة وأصبحت مناسبة لها، بينما كان السومريون يعدون كافة البنى الفوقية والتحتية لأنظمتهم بفكر ميثولوجي يعتمد على تمثيل النظام السماوي على الأرض وبثقافة المعابد المقدسة للكهنة، تسلحت روما بالثقافة الإغريقية وجسدت جمهورية علمانية وعقلانية، ووضعت الإمبراطور الإله مكان الملك الإله، وكما يعد الإمبراطور سارغون الموديل الأول لجميع الأباطرة، فإنه يعد مصدر الإلهام لأباطرة روما والطابع الأساسي لهم. وبينما كانت الميثولوجيا السومرية أصيلة فأن الميثولوجيا الرومانية نسخة من الدرجة الثالثة عن السومرية. وتحولت ملحمة كلكامش إلى ملحمة Aines، ومن الممكن العثور على نقاط تشابه كثيرة للمقارنة، والروابط التي بينها قطعية ومتشابهة، وأما الفروقات والاختلافات فهي ليست في الجوهر، بل عائد لشكل مهد الزمان والمكان السبيل أمامه بشكل طبيعي، وإذا أردنا إجراء تشبيهٍ فظٍ فإن القيم الحضارية التي تدحرجت من سفوح طوروس وزاغروس ككرة ثلجية والتي تدعي الإلهة عشتار "اينانا " بأنها هي "ماءاتها وقوانينها" لتصل إلى سهول ميزوبوتاميا ثم إلى وادي النيل لتكبر وتتعاظم وتتجه إلى الأناضول وعموم الشرق الأوسط ثم إلى شبه الجزيرة الإغريقية لتتعاظم أكثر لتصل إلى شبه الجزيرة الإيطالية لتصل إلى روما عبر جبال الألب الشمالية متعقبة الأثر الذي تعرفه وتعود إلى سابقيها وتستقر في تلال روما بعد أن أصبحت كرة ثلجية هائلة، وبهذا المعنى نجد ان الحضارة تشبه كرة الثلج تكتسب قيماً جديدة في كل مكان تقع فيه وتكبر، وانهيار ثلجي لا يمكن الوقوف أمامه. طبعاً نحن لا نفكر بالتقليل من عظمة الحضارة الرومانية أو التشكيك في جوانبها العريقة، بل على العكس نريد معرفة قيمها أكثر من خلال معرفة الينابيع التي ارتوت منها وذلك بشكل موزون وصحيح. فليس من الممكن أن نقرر بشيء أو نجري تقييم له ما لم نعرفه بشكل صحيح.
لا شك بأن الحضارة الرومانية أصّلت قيماً حضارية هامة وأعطتها هيكليتها العامة وطابعها الخاص، وإذا حاولنا تتبع هذه الخطوط فإننا نجد:
1 ـ لا توجد أصالة على مستوى كبير في البنية الميثولوجية. حيث نرى أن جوبيتر حل محل مردوخ الإله البابلي وزيوس كبير آلهة الإغريق وفي الوقت الذي أخذ ليبرتي مكان ديونيسوس تحولت أفروديت إلى فينوس. وقد تم حمل آلهة الأناضول كيبالا مع كامل معبدها إلى روما. وتتوالى السلسلة وهي تفقد أهميتها، إن الموضوع الذي يجب الإشارة إليه هنا هو أن ميثولوجيا الخلق السومرية الرئيسية بعد عمليات التأصيل والدمج في الزمان والمكان، مع وصولها إلى روما انطفأت أصالتها وعراقتها وفقدت مصداقيتها، وأصبحت الأشكال الجديدة التي اتخذتها عبارة عن قيم رمزية منفصلة يتم احترامها.
وبمعنى آخر بات دين روما عبارة عن خليط ديني أو دين مصطنع، كما في الولايات المتحدة الأمريكية اليوم، حيث تراكم الدين الأساسي في السياسة، واكتسبت السياسة قدسية مثل الدين تماماً. فالمؤسسة التي اكتسبت السمو والمجد ليست هي بدين بالمعنى الكلاسيكي بل هي السياسة، إذ لم تشعر أيديولوجية روما بحاجة للستار الديني، فقد وجدت التعبير عن نفسها بالقيم السياسية بشكل أفضل، وتم وضع خطوة أساسية في اتجاه التحول من الدولة المقدسة إلى الدولة العلمانية وكسب الأرضية اللازمة لذلك .
3ـ إن الأهم من كل ذلك هو إسهامات تطور المؤسسات السياسية في روما في الحضارة. فبالقدر الذي كانت فيه لأثينا مكانة عريقة في الديمقراطية الطبقية كذلك كان إسهام روما في ترسيخ نظام الجمهورية كشكل نظام اكتسب قيمة القانون الفعال. وفي الأساس فأن كل ديمقراطية ليست بنظام جمهوري ولا كل جمهورية بنظام ديمقراطي، ولا يمكن أن يتم المساواة بينهما. لقد تم إثبات على أمثلة أول مجلس أو بمعنى آخر أهم مؤسسة للديمقراطية الطبقية عند السومريين، ولكن الإسهام الحضاري للرومانيين في هذا المجال يتمثل في كون النظام الروماني عبارة عن نظام حكم يمتلك مؤسسات وقوانين متطورة "ذات مضمون طبقي"، وهو نظام أكثر ديمومة عرف بالانتخابات واعتمد على مضمون طبقي محدود، إنه الشكل الأكثر تطوراً للهيمنة الطبقية. ويمكن أن نقيم ديمقراطية أثنيا بأنها ديمقراطية تقليدية متطورة نوعا ما، واستمرت لفترة قصيرة، وإن الطابع العلماني للجمهورية الرومانية أيضاً تشكل إحدى الخصائص الهامة، فكما لم يشعر الحكام بالحاجة للتستر خلف قناع ديني، كذلك تركوا بينهم وبين كل الأديان مسافة واضحة ونجحوا في تكوين نظام حكم متدين يتمثل في أنهم كانوا يتوافقون مع الدين وحتى أنهم كانوا يمثلونه ما لم يتضارب مع مصالحهم، ويمكن الحديث عن الدين السومري أو المصري أو الأثيني، ولكن من الصعوبة الحديث عن دين روماني.
في هذه النقطة كانت روما أشبه بالولايات المتحدة الأمريكية أو الاتحاد الأوربي في يومنا هذا، حيث وصلت إلى التعددية الموجودة في المناطق الحضارية المتطورة. ولكن كلا المثالين مذهلين جداً من زاوية المفهوم الديني والمرحلة السياسية الرومانية. فقد كاد دين ميترا " mitra " ذو الأصول"الهندية الآرية" والذي اسهم في تطور الطبقة العسكرية وصل إلى مستوى الدين الرسمي قبل المسيحية ولهذا السبب سمح لمعابد ميترا أن تمتد إلى داخل أوروبا. أما المسيحية فقد استهدف ونكل بها وذلك لانه تضعف البنية العسكرية. ولكن تم تبنيها كدين رسمي في مرحلة الانهيار لأنهم رأوا أنها ستلعب دوراً توحيدياً، ومن المعلوم أنه دائماً يتم أخذ المنفعة الموجودة في علاقات الدولة مع الدين كأساس تاركين الجوهر المبدئي.
3ـ إن أهم إسهام مؤسساتي لروما في التطور الحضاري كان في المجال الحقوقي "القانوني". وكان قانون الأعراف الأكثر تداولاً حتى تلك المرحلة، وكذلك كان قانون المؤسسات والأشخاص الذين في الحكم والذين يعتبرون أنفسهم يمثلون الإرادة الإلهية أو أنهم يمثلونها بشكل فعّال في المجال القانوني، ولم يكن يوجد شيء يدعى "علم القانون" ولم تكن المؤسسات تضع قانوناً، وبمجيء الجمهورية الرومانية أخذت على عاتقها جعل الإدارة الطبقية اكثر فعالية وذلك بالإعلان عن نظام قوانين مكتوبة بشكل رسمي وتطبيقها، فلقد اقتدى الصراع الذي استمر قروناً بين طبقة النبلاء وطبقة الفقراء، إلى الفوضى الاجتماعية المتطورة والمعقدة وإلى ضرورة إيجاد نظام حقوقي، وربما كان هذا قدر روما. ففي البداية اضطرت مدينة روما لهذا التنظيم وبعد ذلك كان لا بد من تعميم هذا النظام على سائر الإمبراطورية، أي أصبح لا بد من العبور بمرحلة تكون فيها القواعد الحقوقية سارية بشكل رسمي، وإن سلام روما "باكس رومانا" التاريخي الشهير يعني بالمعنى الضيق هيمنة النظام الرسمي الذي يعتمد على حقوق وقوانين روما.
يعد القانون الروماني أحد أهم المصادر الأساسية للقانون الحديث. ولا زالت مبادئه سارية بنسبة كبيرة في أيامنا هذه. وسبب ذلك هو أنه قام بمهام اجتماعية هامة جداً. كانت القيمة الحضارية للمجتمعات التي طورت القانون سامية وأكثر ديمومة. فالمجتمع عندما يتطور يصبح في حالة لا يمكن إدارته بالقوانين الدينية والأعراف فقط فلا يكفي نظام الأوامر من قبل الإدارة السياسية من أجل تأسيس النظام وحمايته، الوصول إلى نتيجة جوهرية. ففي حين تكون السياسة بحاجة لصياغة القوانين والأشراف اليومي عليها، فإن الحقوق هي عبارة عن مؤسسة باردة وطويلة الأمد، وتشمل كافة المواطنين والمؤسسات، إنها مؤسسة اكتسبت الديمومة وعليها تم تحقيق الوفاق الأساسي، ويمكن أن نعبر عنها بأنها سياسة أساسية تراكمية ذات قوة تنفيذية، وبهذا المعنى تكون القيمة الحقوقية للجمهورية الرومانية عالية وحضارية.
4 ـ لا ريب في أن روما كانت أكبر قوة من الناحية العسكرية في تلك الفترة، ونكون واقعيين اكثر فيما إذا عبرنا عن أصالتها كقوة وصلت إلى مرحلة حكم ذاتي محدد، بالإضافة لكونها تجاوزت ما حققه البابليون والآشوريون والفرس والمصريون، بمقابل الطبقة السياسية نرى أن الجناح العسكري الذاتي الذي بدأ بشكل خاص مع القيصر سزار بدأ بمحاولة تشكيل ثقل على السياسة. لا شك أنه في مرحلة الكونفدرالية جمع الذين على رأس السلطة المادية والقوة العسكرية "عموماً الرئيس ،الملك أو الإمبراطور" في شخصهم الصفات السياسية والعسكرية والحقوقية وحتى الدينية. إن تاريخ الحضارة بأحد معانيه هو تاريخ تطور هذه المؤسسات وفرزها وحصولها على استقلاليتها الذاتية. إن أكثر عملية فصل "فرز" تمت في الجمهورية الرومانية "وفيما بعد في الامبراطورية" هي تمايز مراكز الثقل العسكرية والسياسية، وأما الفرز الأساسي في سومر ومصر فقد كان بين الكهنة والملوك، وكلا الشكلين من الفرز حدثا نتيجة لصراع استغرق وقتاً طويلاً وأخذا شكلهما النهائي حسب قوة وأهمية كل مركز. وكل دولة تأسست اتخذت من هذا الفرز أو الوحدة أساساً لها، وبذلك رسخت النظام العملي، أي لم تقم بإبداعه أو خلقه. فالإبداع أو الخلق يعني اختراع الجوهر لأجل تلبية متطلبات مرحلة تاريخية وحاجة اجتماعية، وهذا ما نسميه بعملية الخلق حيث يكمن خلفها صراع طبقي وروحي وذهني متعدد الجوانب.
إن اعتماد روما المركزية وتأسيس فيالق محلية أساساً لها في تنظيم الجيش أكثر من اعتمادها على التكنيك والتقنية العسكرية، يحظى بأهمية كبيرة. كانت العسكرية مهنة دائمة وأصيلة، ولا زال تأثير هذه الميزة مستمر حتى يومنا هذا. إن اكتساب المؤسسة العسكرية تفوقاً في مواجهة القوة الاجتماعية والسياسية مرتبط بشكل وثيق بالبنية الذهنية والروحية لدى روما وتقاليدها في التمأسس. بمعنى أنه كلما أراد عسكري أو جنرال أن يكون بارزاً وحاول أن يضع ثقله على السياسة، كان قريباً من تقاليد روما.
إن أول مثال لهذا الطراز هو سارغون الأكادي وآخر مثال ساطع على ذلك هو "نابليون بونابرت"، ولكن في أيامنا هذه تواصل هذه التقاليد تأثيرها على السياسة كميل قوي وخاصة أنها تستطيع أن تتبنى أدوار وظيفية في مراحل الأزمات، ويطلق بشكل عام على هذا الشكل من الميول السياسية "القيصرية أو البونابارتية ".
5ـ كذلك لروما دور هام في تحديد مواقع الطبقات الاجتماعية وخاصة في شمول الحقوق لكل طبقة وسريان القوانين عليها، وتوضيح العلائق الموجودة بين المواطنة والطبقية، وحتى في ترتيب الحقوق والمهام بشكل مفصل. لقد أكتسب مصطلح الطبقية موقعه الرسمي بشكل قاطع حتى أنه تم في المرحلة الأخيرة من الامبراطورية إخضاع كل مهنة وطبقة لأنظمة حقوقية مفصلة، ورغم أن الحديث عن حقوق المواطنة ممكن جداً، لكن من الصعوبة الحديث عن اعتراف روما بحقوق الإنسان الأساسية أو تبني هذه الحقوق بشكل رسمي. هيمنت اللغة اللاتينية وأصبحت الإغريقية هي اللغة الثانية، ولا نرصد أي أصالة جديدة فيما يخص التعليم والصحة. وفي ميدان الفكر الفلسفي، رغم أنها حققت تقدماً في مجال الفكر السياسي وفن الخطابة، إلا أنها بقيت مرتبطة أساساً بالفلسفة اليونانية في هذا المجال، حيث حقق كل من الميلين الرواقية " Stoa" وأبوقريطسية اللذين تمأسسا، تطوراً واصبح لهما تأثيراً كبيراً، ولكن بالمقارنة مع تأسيس المدارس والإبداع لدى فلاسفة اليونان، نرى أن روما بعيدة جداً عن الإبداع، والأصح هو أن الإغريق قد لعبوا دورهم ولم يبق لروما إلا أن تلعب دور التلميذ، فقد حافظت الثقافة الهلينية على أهميتها ولعبت دور المصدر الذي يغذي النظام. لقد احتاجت الامبراطورية طوال تاريخها للوفاق والتوازن المتبادل بين التفوق العسكري والسياسي لروما والتفوق الفكري والثقافي للهلينية وتم تطبيق هذا الوفاق وهذا التوازن، ولهذا السبب يكون اطلاق اسم النظام الإغريقي الروماني أكثر واقعية وقرباً للحقيقة.
لقد لعبت المؤسسات والأفكار وأشكال العلاقة القائمة بين القوتين الحضارتين دوراً مشتركاً وطورتا النظام وتقاسمتا الموقع حسب قوة كل منهما، ومن حين لآخر حاولتا تصفية بعضهما البعض، وهذين النظامين الأساسيين يتخذان شكلهما اعتماداً على تقاسم الأدوار بينهما، ويعتبران تغذية بعضهما البعض اساساً.
6ـ أكسبت المجال الاقتصادي عمقاً واتساعاً، وأكسبت قسماً من أوروبا اقتصادا يعتمد على الأسلوب العبودي، وجعلتها متحضرة، وانتشر استخدام الحديد في الزراعة على نطاق واسع، وكانت الزراعة تعتبر مجالاً للأنشطة الاقتصادية السليمة باعتبارها المهنة الأساسية للطبقة الأرستقراطية. حيث ساد نظام المزارع "Letifundie" وتطورت قنوات الري وأحزمتها. أما التجارة والحرف فقد كانت تأتي في المرتبة الثانية وكان ينظر إليها باعتبارها مهن تفتقد للأصالة ولم تكن تتمتع بقيمة عالية، وكان هناك نظام طرق متطور جداً، ونعرف ذلك من المقولة التي تؤكد " كل الطرق تؤدي إلى روما" فلقد لعبت شبكة المواصلات المتطورة ـ رغم ارتباطها بالأمور العسكرية ـ دوراً بارزاً في تطوير التجارة. واستمر البحر الأبيض محافظاً على أهميته على الصعيد التجاري كبحيرة تابعة لروما، فصناعة السفن المتطورة أصبحت حرفة متطورة، ورغم ذلك نرى أن مساهمة حضارة روما من الجانب الاقتصادي في الحضارة تبقى محدودة بالمقارنة مع سومر ومصر، فهي لم تحقق تقدماً كبيراً يتعدى قيامها بالتماسسات لما تحقق سابقاً وتنظيمها على صعيد التمأسس، وهي تلعب دور الوسيط في الاقتصاد وإيصال طبقة العبيد الزراعية "latifundia" إلى شمولية كبيرة، حيث وصل جهد العبيد إلى الذروة. أما في المدن فقد تشكلت طبقة اجتماعية تشبه الطبقة العاملة والتي يقال عنها البروليتاريا لأول مرة. وفي الحقيقة فإن كل من أثينا وروما تشكلان نموذجين من التمدن المعاصر اللذين تكونا على أساس النظام الرأسمالي، حيث لهما أسواق ومتاجر ومسارح وحلبات وأكاديميات ومعابد وقصور المجالس وتقدمتا في هذا المجال وفق ترتيبات سومر ومصر. وتمتاز هذه المدن التي اعتمدت على فن معماري رائع حتى إذا نظرنا إلى الأطلال المتبقية منها إلى يومنا هذا بتأثير ساحر. فمثلما تعد سومر أول من أسست دولة المدينة، فإن المدينة نفسها هي عبارة عن نظام استقرار مؤسساتي خاص لدى أثينا وروما. أما في النماذج الأولى للمصريين والسومريين، فإننا نجد المعابد وقصور الملوك ومن حولها المقرات والإدارات ومراكز العبادة حسب تقسيم العمل لتقوم بأدوارها وتضم الحرفيين والعبيد بمقدار ما تحتاجها هذه المراكز، فالمراكز التي يتجاوز عدد سكانها العشر آلاف ضئيل جداً، وهذا الوضع مرتبط بعدم تطور الطبقة الوسطى وعدم استقلاليتها، بينما المدينة في الأساس يجب أن تتطور كمركز سكاني للحرفيين والتجار.
تأسست المدينة في أعوام 3000 ـ 2000 ق .م، وانتشرت في 2000 ـ 1000 ق.م، ونموذج المدينة "الإغريقية الرومانية " تظهر في هذه المرحلة، وبعدها تكبر وتتمأسس وتكسب أهمية بعد الألفية الأولى قبل الميلاد، وتحقق التفوق على النظام القروي السكاني المعتمد على الزراعة في المرحلة الإغريقية الرومانية. فحتى أعوام الألفين قبل الميلاد كان العالم يحيا في بحر من القرى والتجمعات ضمن نظام متمدن تكوّن من بعض الجزر. أما مرحلة تفوق المدن فتبدأ اعتبارا من 500 ق.م لتكسب الهيمنة الساحقة في يومنا هذا، وإن كان الاسم الآخر للحضارة هي المدنية بالعربية: نظام المدينة، فإن المدينة والمدنية تعدان من منطلق المشاكل الأساسية التي مهدتا السبيل أمامها، المصدر الأساسي لحياة النظام الذي شكل أكبر تهديد للحضارة، وفي الوقت نفسه مصدراً أساسياً للمجتمع، وإن أصبحت المدينة اسما ورمزاً للحضارة، ألا انها أصبحت في الوقت ذاته مصدراً لتآكل أساس الحضارة، فأكثر من ان تكون تمركزاً سكانياً كبيراً هي قضية اجتماعية تتطلب إجراء تحليل عميق لها، والاحتمال الأكبر أنها تحولت إلى منبع قوي للأمراض ليس على صعيد تلوث البيئة وحسب، بل لكل الأشكال التي تتناقض مع مجرى الحياة الطبيعية التي تأتي ترابطاً مع التمدن. ففي التقييمات التي أجريت بشكل عام تم اتخاذ المدينة مقياساً للتقدم، وسيتم تناول ذلك بشكل أوسع في الفصل المتعلق بها، ولكنني أستطيع أن أوضح بهذه المناسبة بأن التمدن هي قضية يجب تحليلها مع الحضارة.
7ـ مساهمة حضارة روما في مجال الفنون والعلم بقيت محدودة في عدة مجالات، وخاصة انها شهدت اكبر تطوراً في فن العمارة بعد مصر. ومن الممكن هنا أن نتحدث عن فن الهندسة وفن العمارة. ولن نغالي ان قلنا أن هذا الفن وصل إلى مرحلة عظيمة، بعد أن أعتمد على الطراز المصري والإغريقي، وهي مدينة في ذلك لطبقة العبيد، فبدون الجهد الذي بذله العبيد لما تم إنجاز الأهرامات المصرية ولا الإنجازات "الإغريقية الرومانية " التي تمثل قيماً معماريةً راقية. إذ مارست أقسى الممارسات اللا إنسانية من قبل فئة على شريحة من بني الإنسان، حيث ظهرت هذه الممارسة في تحقيق هذه الإنجازات المعمارية الشامخة على الأغلب.
إن المسارح والحلبة والمعبد والآغورة وقصور الإداريين الهامين والأبنية الأخرى التي تأخذ مكانها في مركز معمارية المدينة، تشكل دلائل حية على التاريخ المعاش، وإننا مدينون للفن المعماري في تلك الفترة، هذا الفن الذي يأخذ أحاسيسنا تحت تأثيره وكأن تلك الأوابد موجودات حية لا يمكن الوصول إليها، ومن الصعوبة بمكان أن يكون لأي شيء نفس التأثير الذي تتركه هذه الأوابد المعمارية المتبقية من المرحلة العبودية، وأمام هذه الحقيقة الساحرة أعتقد بأنه بقدر ما قام العبيد بإنجاز هذه الأعمال بشكل جماعي وبلا حدود، فإنه تم استخدام عمله بلا أدنى رحمة، إن الذي يخلق هذا الإحساس بالفخامة والقشعريرة هو هذا الكد والأسلوب الذي تم في استخدام هذا الجهد، ومن الممكن رؤية هذه الفخامة في الجسور والقناطر والمقابر والقلاع والأسوار ايضاً، لقد كانت الحضارة الرومانية فعلاً في ذروة ازدهارها وهي تبدع عمارتها العريقة التي وصلت إلى التركيب القوي المعتمد على دراسة كل هذه النماذج المعمارية التي أنجزت في مرحلة العبودية، إن كل ما يمكن أن يعطى للعبيد الحقوق "طبعاً لا يوجد حق للعبيد، ولكننا نستخدم تعبيره" قامت روما بواجبها حول هذه الحقوق، وفي العمارة كما في كل المؤسسات فإن هذه النقطة ذات تعبير واضح لذلك.
أما في فن النحت فقد كانوا أشبه ما يكونون امتدادا للإغريق، ومن الصعوبة أن نتحدث عن أصالة متميزة، وأما في الموسيقى فقد كان لهم خصوصيتهم على صعيد الأناشيد العسكرية وأغاني النصر، ومن الممكن أن نتحدث عن موديل زي خاص بروما، فقد كانت أصالة روما تتبختر حتى من خلال ارتداء الزي، ولكن من الواضح أنهم أخذوا عن الشرقيين كل شيء في هذا المجال. إن أثر الهلينية واضح في الفنون الأدبية، فقد تأثر الشاعر "فيرجيليوس" بملحمة الإلياذة لهوميروس، وكتب ملحمة Aieneas التي تروي تأسيس روما لذكر أغسطس الكبير، ومع ذلك فهي من الكلاسيكيات الأدبية القيمة، كما تطور فن المسرح، واكتسبت الخطابة أهمية عظيمة وتمأسست، وأنا على قناعة بأن أسلوب التعبير المسيطر والمذهل للغة الإيطالية في أيامنا هذه مرتبط بقوة الخطابة في تلك الفترة، طبعاً توجد وراء هذه الخطابة إرادة قوة مسيطرة على العالم، وعندما يصل أقوى المهيمنين إلى أقوى وأبلغ لغة فسيكون نصيب العبيد لغة "إيزوب"IZOP الملعونة وغير المفهومة، عندما أفكر بالعلاقة القوية بين القوة والحرية من جهة والسيطرة اللغوية والحديث الجميل من جهة أخرى، فإن أول ما يخطر ببالي هو الأحاديث الخطابية للطبقة المهيمنة في روما، ويأتي العرب والأسبان والإيرانيون في الدرجة الثانية من حيث تطويرهم للغة، ويجب أن ندرك أن فيرجيليوس سواء من حيث الطابع أو من حيث اللغة هو تعبير لهذه الفخامة والأصالة، رغم أن حضارة روما لم تشهد أي اكتشاف في المجال العلمي، الا انها أعطت اهمية لتطبيق أعظمي لما هو معلوم.
إن النتيجة الأساسية التي يمكن استخلاصها من هذه التقييمات التي أخذت طابع التعريف هي: كان موقع روما الكلاسيكي في تاريخ حضارة العبيد في الذروة التي تسبق الانهيار. لقد كانت روما تدرس كافة القيم الجوهرية الموجودة ضمن نظام العبيد حسب أهمية كل منها، وتجمعها وتحولها إلى مؤسسات دولة بشكل أعظمي، وكانت تدرك تماماً إنه في الوقت الذي كانت المجتمعات النيوليثية مشحونة بالصعوبات الجمة، فإلى جانبها كانت تتبرعم القيم الحضارية التي تستند الى تغذية ميراث عبودي يمتد الى ثلاثة آلاف عام على الأقل، وهذا يعني أن هذا "العصر الذهبي" كان حلماً بالنسبة للتجمعات الأثنية اللاتينية، فقد كانت ثقافة وقوة العديد من الحضارات الكبيرة والصغيرة من سومر إلى مصر ومن البارثيين إلى الإغريق تتوجه نحو تركيبة باسم "الحضارة الرومانية"، وكانت تقف وجهاً لوجه أمام تمأسس وتأصيل على أعلى المستويات، ويعد هذا في الوقت ذاته من حسن طالع روما.
تتولد فرص تاريخية كهذه في التاريخ، فإن تم استغلالها بشكل جيد فأنها ستؤدي إلى تطورات من شأنها أن تدون في التاريخ، ففرصة السومريين تتمثل في ثورة القرية التي تطورت عند منابع دجلة والفرات، وأما إسهامهم الذاتي فقد تمثل في خلق ثورة المدن ونظام الحضارة، ونفس الفرصة تتوفر للمصريين في وادي النيل وتوفر الفرصة للصينيين في وادي النهر الأصفر وللحضارة الهندية في وادي البنجاب والهندوس ليمثل كل ذلك حلقات كبيرة في سلسلة الفرص، فيا ليت الفرصة تتوفر للتحدث عنها، لنفكر فقط بهؤلاء، فبأي جهد ساحر للأبطال المجهولين وأي جهود عظيمة بذلها الإنسان تقف وراء هذه الإنجازات التي أتت على شكل فرص..؟ ليتنا استطعنا فهم ذلك..! كيف أسست تلك الميثولوجيات الفخمة وكيف تأسست تلك الجنان على الأرض اعتماداً على هذه الجهود..؟ لو أعطيت تلك الجهود حقها..! ولو تشرح الآلام التي خلقت مصطلح جهنم كما خلقت دنيا الأحلام الكبيرة، لربما تحققت العدالة بعض الشيء ولو على صعيد النطق بالحقيقة.
يعد الإغريق أول قوم غربي أدركوا فرصة الحضارة من أربعة فروع مبكراً، فجسدوا بشهية كبيرة كل الذي كان يأتيهم من الشرق ومثلوه، وبتطويره على أعلى المستويات أصبحوا قوة للحضارة ليحققوا ميلادهم، ومن الممكن تتبع ذلك بشوق عظيم من خلال حوار الأرباب الذي تطور بجانب زيوس كبير الآلهة، إن ما يريدون إيضاحه في هذه الميثولوجيا هي قصة وصول النبلاء الذين انشقوا عن المجموعات الأثنية الإغريقية إلى طبقة مهيمنة وتجسيدهم للقيم الحضارية ذات المصدر الشرق الأوسطي، تم سرد هذه القصة شعراً وأصبحت ملحمة، وبات اسم الإلياذة والأوديسة، وسميت علم الآلهة بـ تيولوجيا، وتحركت القوى العقلية لديهم معتمدة على هذا الأساس لتصل إلى الفلسفة.
لقد لعب الإغريق دور المهد العريق بالنسبة للحضارة الأوروبية بشكل جيد، وربوا طفلهم بطريقة صحيحة، ومن أينما نظرنا إلى الموضوع سنجد أن التزاوج مع الشرق كان خصبا ومثمراً والطفل الذي ولد من هذا التزاوج أخذ شكل "اسكندر" الذي لم يأت زواجه من "سمير أميس" في بابل عبثاً، إن هذا الزواج كان رمزياً وحقيقياً يماثل تزاوج الحضارتين حيث أسفر عن مولود سمي "الهلينية"، وهذا يمثل أول تمازج بين الغرب والشرق، ويقال بأن اسكندر قد قام بتزويج عشرين ألف من جنوده مع النساء المحليات في ميزوبوتاميا، وهكذا تتمازج الثقافات وتولد تركيبتها، ونعرف جيداً أنه عندما قام إله السومريين الماكر أي الممثل الرمزي لطبقة النبلاء" أنكي" بنفس الزواج المثيولوجي مع ربة الجبل "نينهورساغ" فكان المولود هو الحضارة السومرية، ونعرف أيضاً أن ملكة الجبل إنانة عندما قالت أعد إلي "ماءاتي المقدسة" كانت المرأة مبدعة الثورة الزراعية في العصر النيوليثي تطالب بحقها وقيمها الخلاقة وأدوات الحضارة التي سلبت منها، وكما نستطيع أن نكتب التاريخ بشكل صحيح إذا ما قمنا بالتحليل الصحيح للغة الميثولوجية، فإذا شعرنا بشكل جيد بجوهره الشاعري الساحر فأننا سنتعلم آلامه وسروره فيه، وعندما ينبت التاريخ على هذا النحو بعد فرض التعتيم عليه لآلاف السنين فإننا سنرى بجانبنا شجرة لها جذور سليمة ومستمرة في عطاءها المثمر.
عندما أنتهزت روما هذه الفرصة عاشت خصوبة شجرة الحضارة وأصبحت تنتظر ثمارها. وراحت روما بكل غضب تجني الثمار من خلال ضرب الشجرة حتى تصدعت شجرتنا من جزعها وانهارت ولم تورق بعد ذلك.
بقدر النجاح الكبير لحضارة روما، يجب ألا نندهش كثيراً أمام الحقيقة الأساسية ـ إذا استطعنا ان نحلل النظام مثلما نريد ان نجعله مفهوماً بهذه المقاييس الفظة ـ التي تقبع خلف هذا الانهيار بشكل غير منتظر، وكما في الطبيعة فإن كل موجود في المجتمع سيستخدم كل طاقاته حسب قانون الديالكتيك كي يجعل حياته ممكنة، وحسب هذه القاعدة التي وضعت بصيغة وحدة الأضداد تستمر الجوانب المتناقضة بالصراع حتى تتولد نتيجة بواسطة تركيب عالي المستوى. إن ما عالجته روما هو سريانها على كل مجتمع هام متخلف قياساً بالنظام وتغييره، لقد تميزت علاقات الهيمنة التي أقامها نظام العبيد مع الجوانب الاجتماعية المتخلفة بتصفية هذه الجوانب في النظام ومواصلة حياتها تحت قوالب جديدة عن طريق تمأسسها حسب قوالب فكرية وروحية جديدة، ويمكن أن نشبه روما بهذا المعنى بطاحونة ضخمة، وضعت كل المجتمعات الإنسانية التي استطاعت الوصول إليها وحولتها بتمريرها من هذه الطاحونة إلى أشباه لها، وهذا ما يشبه ظاهرة العولمة التي تقودها الولايات المتحدة الأمريكية في يومنا هذا.
من المعلوم لا شيء يفنى في الطبيعة، فإن كل شيء ما يحدث هو تحول وتبدل، والنظرة الميتافيزيقية هي أما أن ترى هذا المسار مستحيلاً أو تفهمه على أنه شكل من أشكال الفناء، وهذه البنية المنطقية خطيرة إلى أبعد حد، فأثناء تقييم الحضارات يجب أن نأخذ قانون التحول والتبدل هذا بعين الاعتبار دائماً. إن عملية تبدل وتحول روما لا تسير على بنى العصر النيوليثي لأوروبا التي تم إدخالها إلى النظام لأول مرة فحسب، بل تواصل تأثيرها على البنى القديمة التي تم احتواءها في الحضارة من قبل والتي لم تستنفذ طاقاتها، وهنا تكمن عظمتها وشموليتها. لقد استطاع السومريون والمصريون والحثيون والإغريق وكثير من الحضارات الأدنى، أن يحققوا ميلادهم وتطورهم في ساحاتهم، واستطاعوا أن ينتشروا عبر موجات محدودة، ولهذا بقيت مساهماتهم ضيقة ولم تحقق ميلاداً عميقاً وبقوا محدودين بعصور تطورهم. والوقت كان مبكراً للانهيار، حيث كان سيتم وضع العديد من التطورات الجديدة في السنين القادمة.
لا شك بأن كل الحضارات ابتداءً من المدن الأولى وحتى التجمعات الأكثر كوزموبوليتية تمتاز بجانب كوني على صعيد الطموح، ولكن إنجازاتها التي تحققت بقيت محدودة، وربما يعتقد سارغون نفسه إلهاً للكون، ولكن الخطوات التي أقدم عليها بقيت محدودة، في حين أن البابليين والآشوريين خطو خطوات كبيرة، إلا أنهم لم يستطيعوا التحكم في جغرافية الشرق الأوسط بالكامل، ولم يستطيعوا أبداً أن يتجاوزوا عراقة السومريين من ناحية المضمون. وكثير من الدويلات الأخرى لم تستطع تجاوز أداء دور إمارة تقع في أقصى النظام. تعد تجربة الاسكندر في التركيب الشرقي ـ الغربي تجربةً أكثر عالمية، وكانت مساهماتها عميقة وأكثر ديمومة. وأما نظام حضارة روما، ففي الوقت الذي كانت يزهر فيه بواسطة تجسيده لكل هذه الخطوات الحضارية التي سبقته، استولى على الأراضي الأوروبية العذراء ونجح في تشكيل النموذج الأقرب للإمبراطورية الكونية في عصره. فكما يتم اليوم التحدث عن الآثار الثقافية الحياتية للولايات المتحدة الأمريكية، فإن إمبراطورية روما عاشت هذا الوضع وجسدته على مدى قرون طويلة، وكل القوى المهيمنة في النظام العبودي تعتبر العيش وفق نموذج روما من ضرورات الأصالة والحضارة، وعدا الصين والهند اللتين بقيتا على شكل جزيرتين منغلقتين على نفسيهما ولا زالتا كذلك، فإن باكس رومانا ( أي نظام سلام روما ) أصبح نظاماً عالمياً. لقد استطاعت الحضارة الرومانية خلال عمرها الذي استمر 1000عام أن تتحول إلى مؤسسات كأحسن ما يستطيع أن يقوم به أي نظام سياسي أو اجتماعي وذلك في إطار منطقها وضمن نطاق القيم التي كانت قائمة عليها، واستطاعت أن تنجز فتوحات كأحسن ما تستطيع أن تنجزه، وعاشت كأحسن ما تستطيع أن تعيش، إنها حقيقة تاريخية لا مثيل لها بعد.
هذه الحقيقة بقيت اسمها كـ روما، وأن الأباطرة الذين انحدروا من التجمعات الأثنية في مراحلها الأخيرة والمكاسب الكبيرة التي حققتها المناطق وتجارب التشتت في مرحلة كان يعتقد بأنها مرحلة الوحدة وكلها كانت مؤشرات على انتقال الصراع الداخلي إلى أعلى مستوى. إن وضع قوة إقناع فن الحياة التي في مستوى متقدم كانت وراء فخامتها وعظمتها وعمرها المديد، فهي لم تكن شوفينية بل كوزموبوليتية، وإن كل قوة كانت ترغب بالعيش في الطبقة العليا النبيلة وبوعي ان هذا العيش يكون مثالياً في نظام روما فقط، وتزيد من اهتمامها به وهكذا تقدم المساهمة لقوتها وعمرها. بينما كان دور الإرغام والعنف بعيداً عن أن يكون بارزاً بعكس ما يعتقد. بينما الآشوريون والفرس طبقوا مبدأ الإكراه بشكل منتظم، ولكنهم لم يستطيعوا إظهار نفس الديمومة والتأثير ولم يتجاوزوا المحلية كثيراً، والسلالات الحاكمة شكلت العمود الفقري لتمأسس أنظمتهم وهذا ما سبب الضيق لهم منذ البداية، بينما مؤسسات روما لم تتأسس حسب السلالة أو الدين أو الاختلافات الأثنية منذ البداية بل حسب قوة المساهمة في النظام، وهذا يمثل مؤسسات تتغذى على الواقعية والجهود الخلاقة والخبرات والقوة، فإذا منحت الأشخاص والمؤسسات حقوقهم الكاملة فإن النظام سيتعزز ويطول عمره، وإذا فقدت هذه المزايا فإن أرضيته التي تشبه الموزاييك بطبيعتها ستؤدي إلى تعطيل التوازن القائم بين مؤسساته وتتسبب في التمزق والتشتت.
وبالنتيجة نرى أن الأسرار الكامنة في حضارة روما وعظمتها وطول عمرها هي عصرية مؤسساتها وانفتاحها على كل أشكال التطور وامتلاكها الفلسفة تمنح أوسع أشكال الحكم الذاتي لكل الكيانات الاجتماعية السابقة لها بنسبة التكامل معها، وإيصالها لهذه الذهنية والتمأسس الى تعبير قانوني قطعي واتخاذها دوراً في النظام وسموها، وربط كل ذلك بقوة انتصار الحرب والجهود. وعندما ننظر إلى أسباب تآكل وانهيار النظام الروماني، فإن تعريف دور الامبراطورية البارثية في الطرف الآخر للنظام وتقييمها بشمولية سيكون افضل عبرة للتعليم.



#عبدالله_اوجلان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الاول ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الاول ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الاول ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الاول ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الاول ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الاول ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الاول ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الاول ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الاول ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الاول ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الاول ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الاول ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الاول ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الاول ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الاول ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية
- الدفاع عن شعب الفصل السابع هوية تود التعريف بذاتها بشكل صحيح ...
- الدفاع عن شعب الفصل السابع هوية تود التعريف بذاتها بشكل صحيح ...
- الدفاع عن شعب الفصل السابع هوية تود التعريف بذاتها بشكل صحيح ...
- الدفاع عن شعب الفصل السابع هوية تود التعريف بذاتها بشكل صحيح ...


المزيد.....




- منسقة الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية تؤكد مسئولية المجتمع ال ...
- ارتفاع حصيلة عدد المعتقلين الفلسطينيين في الضفة الغربية منذ ...
- العفو الدولية: المقابر الجماعية بغزة تستدعي ضمان الحفاظ على ...
- إسرائيل تشن حربا على وكالة الأونروا
- العفو الدولية: الكشف عن مقابر جماعية في غزة يؤكد الحاجة لمحق ...
- -سين وجيم الجنسانية-.. كتاب يثير ضجة في تونس بسبب أسئلة عن ا ...
- المقررة الأممية لحقوق الإنسان تدعو إلى فرض عقوبات على إسرائي ...
- العفو الدولية: استمرار العنصرية الممنهجة والتمييز الديني بفر ...
- عائلات الأسرى المحتجزين لدى حماس تحتشد أمام مقر القيادة العس ...
- استئجار طائرات وتدريب مرافقين.. بريطانيا تستعد لطرد المهاجري ...


المزيد.....

- سعید بارودو. حیاتي الحزبیة / ابو داستان
- العنصرية في النظرية والممارسة أو حملات مذابح الأنفال في كردس ... / كاظم حبيب
- *الحياة الحزبية السرية في كوردستان – سوريا * *1898- 2008 * / حواس محمود
- افيستا _ الكتاب المقدس للزرداشتيين_ / د. خليل عبدالرحمن
- عفرين نجمة في سماء كردستان - الجزء الأول / بير رستم
- كردستان مستعمرة أم مستعبدة دولية؟ / بير رستم
- الكرد وخارطة الصراعات الإقليمية / بير رستم
- الأحزاب الكردية والصراعات القبلية / بير رستم
- المسألة الكردية ومشروع الأمة الديمقراطية / بير رستم
- الكرد في المعادلات السياسية / بير رستم


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - القضية الكردية - عبدالله اوجلان - من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الاول التطور الحضاري والمجتمع العبودي ح - الذروة في الحضارة العبودية 2 - مرحلة روما في الحضارة العبودية 1- 15