أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رضا لاغة - المشهد الخامس ، رواية ريح من داعش















المزيد.....



المشهد الخامس ، رواية ريح من داعش


رضا لاغة

الحوار المتمدن-العدد: 5780 - 2018 / 2 / 7 - 17:20
المحور: الادب والفن
    


عشت زهاء سنة عاشقا لعزلتي . كان الطبيب يقول لمصعب في كل مرة يزورني فيها بأنني أواجه ضغطا ما . و إذا تحدّثت بلغة نفسية تحليلية، فإن منطق الصراع الذي يعتمل في باطني يولّد سخرية من دنيا الواقع ؛ مما يشوش الرسالة التي أبثها للآخر. لقد انصرم منطق التواصل عندي و دفن تحت تفكك بنية الخطاب الذي لم يبق منه سوى التباسات غامضة تنهش المتلقّي.
ثارت مناقشات مترنّحة بين بعض ممن عرفني أو حتى من سمع بقصتي حول جنوني . ثمة من قال إنه يضرب عميقا في السلالة . أجل إن جدي كما يروى، عاش حياة مناقضة تماما لحياة الغالبية العظمى من شعب الجزائر العظيم . كان صوته صاعقا و ساخرا و مهينا لشعار الاستقلال البراق . كان يصيح :>. أجل كل شيء يلوّث و ينظّف أما العقول فلا. لقد شوّهنا بافتخار مغشوش رمزية الشهيد فجعلنا من ثقافة المستعمر مثالا للمحاكاة. لقد استقبلت بأذن صمّاء كل محاولات كسر عزلتي إلى أن سمعت بخبر والدي وهو على فراش الموت. تصرفت كابن كادح و غير مرتّب ، يتمايل من الإنهاك و المحنة فقلت: >. سمعت البعض من أقربائي يتهامسون بأنني لست في تمام صحتي . قال لي: << أنت نقيّ النفس يا ولدي و لا يمكن أن تنهدم ذاتك . يا أيها المنكوب عد مفاخرا، فما أظنّ أن النعاس يدنيك من الجنون>>.عانقته فسمعت زفيرا متقطعا يملأ ضلوعه وقلت له: <<اطمئن يا أبي مهما كانت الظروف و الأحوال ،سأظلّ ابنك الذي تفتخر به. قد يكون ذلك قريبا أو بعيدا لا فرق ، و لكنه سيكون>>.تأمّلني في غمضة عين أحسب أنه يهنّئني ثم أسلم روحه التي فاضت . و يا لها من روح مفرطة في الابتسام.









كل شيء هادئ هنا في ميناء وهران . أقف على هذه الأحجار التي لا تطؤها الأقدام العارية. من وقت لآخر أرى بعض هواة الصيد يعبرون بالقرب مني ، لا يتكلّمون ، لا يتطفّلون ، و لكنهم يتغامزون. هل حقا دخل الجنون إلى جلدي ؟ إن حالتي تدهورت إلى الحضيض و المشهد كله يوحي بأنني تقوقعت. إنني أضجّ بالغيرية في داخلي . يا لها من ذات فسيحة يبرز من خلالها الآخر جليّا و لكنه ميّت. هو لا يتلاحم مع أنيتي. يبدو لي كورطة ، كمخلوق مشاكس. و هكذا نفذ صبر أبو رباب . لقد تكلم بصراحة مطلقة عن مصير علاقتنا . لقد أصبح واعيا و ميّالا لفسخ الخطوبة، حتى أنه بدأ يشعر بالاشمئزاز من ناحيتي. أنا لا ألومه فالجنون لا ينتج حبّا ؛ بل يتسبب في انهيار تأتي بعده كارثة. قضيت زهاء سنة في منفاي و حريق الجنون يستعر بوفرة في كياني . لقد أدركت أن أسوأ اتهام يمكن أن يوجّه لشخص ما، هو أن تحرمه من رشده و تنظر إلى ذاته كحيز يفوح بالدعارة. إنك لذلك تفقده مبررات وجوده . من المؤكد أن الجنون يظل إمكانية لدى كل فرد. إنه بمثابة الوجود بالقوة بلغة أرسطو . إنه غير مرئي ، يكاد يكون محصورا في الهشاشة التكوينية لذات ممزقة بين الما قبل و الما بعد . ذات قابلة للعصيان و التمرد على آلامها نحو مستقبل تتنوع مفاصله، لتزهق توافقية العقل الذي يهوي، ضحيّة هذا الانقسام. هل نجحت في كسر شوكة الجنون ؟ أظنني انتصرت . و لكن ما سر هذا المديح المتملق ؟ اسمع لا ضير في المبالغة فأنا لا أحب سرقة فرحتك و لكن ما غرّك لو أفشيت بسر جنونك لرباب . هل كانت ستتزوج بذلك الرجل الساذج ؟
أنت الآن بناء غريب الأطوار بخلاياك العصبية المتفجرة و حوافزك الجهادية التي ترتّل في أعماقك . يمكنك أن تتخيل الذات الجديدة التي ستقفز من جنباتك. إن تعبي ليس عارضا ، إنه يعبّر عن عقيدة حاقدة خلف بنية جسدي ، نواة الأنا التي تبرز بأكثر من وجه. تجاربي مع الآخر ، مخبر الأنا ، أضحت لا تتطابق مع قانون الثبات . إنها تبدو ممتلئة بشمولية التناقض . أفتش عنك أيتها الذات المجروحة فلا أجدك. إذا أردت أن تعرف من أنا ، جرّب الإحساس المضمر بالحقد ؛ فحقل تجاربي يتكوّن من فراغ سحيق . لن أسمح للوهم الذي خدعني أن يلعب دور الإدراك الحقيقي . من الآن فصاعدا لا توجد فجوة أحشرك فيها أيها الآخر، لا يوجد سوى عمق متّحد بي. سأجبرك أن تقبل بي هكذا، لأنني لا أطرح نفسي عليك ، فاحذر أن نكون سويا ، لأن إحساسي بارد و تفاصيل القرابة لم تعد تظهر إلا في أفق الجهاد. ألا فاعلم أنني صرت شخصية مبهمة ، أقتل عند أول انبلاج صبح من خبّأ ذاتي القديمة خلف معطف التعليمات . لقد تحولت إلى كائن منتقم يبدو ميالا أكثر فأكثر إلى القوة .أنا اليوم أحتفل بعبادة السلطة المتحققة فيّ تحققا كاملا في رحم تفاعلات جوقة الجهاد. أنا أضطلع بمهام التخطيط و التنفيذ و حين أتواجه مع الضحية أتذوق هذا اللغز المتفجر للقتل. أهاجر ، أستنزف طاقة الخصم ، أجازف بروح متأصلة لسلبه غريزة السعادة ،بصرامة فيها تبذير شديد للقوة . أجرّ خصمي بعيدا عن الحياة ؛ تلك وسيلتي للبقاء.
يقف حسان بكامل لباسه الأرجواني في قفص حديدي . كانت هناك ضمادات على يديه و قد شابت عينيه ومضة من الغثيان. كان المكان مربكا ، جهنميا ، يسحق الضحية فتراها مبللة ،تحدّق بحيرة لشرفها المغدور. يتفرّس السجان في ضحيته، كاشفا عن أسنان صفراء ، بصورة مباغتة يتملص منها أسلوب مراوغ لا يحفّز الرهينة على العويل.كان يحمل هراوة ذات مقبض فضي و يقف خلفه رجل ضخم ممشوق القوام ، يعلو رأسه مقدار من الشعر الأسود الفاحم و بانت على وجهه الطويل ذي العينين الكستنائيتين آثار دقيقة لإصابة تقشعر لها الأبدان. غمر حسان الارتباك بسبب نظراته النافذة. جال ذات اليـــــمين و ذات الشمال ثم حدّق في جسده المنتصب و الملتوي .قال: <<لا زلت قويا ،رغم هذه الندوب التي تكسو جسمك>>. خيّر حسان ، الذي كانت عيناه منتفختان من قلة النـــــــــوم و فروة رأسه نافرة ؛ فاسترسل الرجل الضخم قائلا بلا اكتراث: <<أنا أعرف أنك لست سعيدا بقدومي، فأنت لا تحبني>> . لم يستطع حسان أن يرفع بصره. قال بصوت لا يكاد يسمع و نبضات قلبه تخرّ تسبيحا: <<الحمد لله الذي شاء فقدّر ففعل>>.
الرجل الضخم: <<حسنا أنت لا تتجاسر على مخاطبتي و لكنها عادتي التي تطبّعت بها. اسمع يؤلمني كثيرا أنني كنت قاسيا معك طوال هذه المدة التي قضيتها معنا . و لكن هل تعرف : إنني أفتخر بهذا العمل. أنا أفعل واجبي. و لكن دعنا من هذا ، جئت اليوم لأزفّ لك خبر السعد. هل تدري أنك ستسفّر هذا المساء إلى ألمانيا . ستغادر سجن غواتنامو ، هذا العالم العجيب. لقد سعدت بإخلاصك أيها العنيد. و لدي تجاهك أكثر النوايا جدّية>>. في اليوم التالي جلس حسان طائعا محتضنا زوجته صوفيا كما لو كان يحلم . همست له ضاغطة على وجهه، خديها الساخنتين: <<هيا قبلني ، قبلني >>. قال وهو يتعلق بها مرتجفا بكل كيانه:<< أتدري يا عزيزتي : لقد سلبني السجن ثوب المحبة و الإحساس فورثت شرور هذا العالم . و لكن بلمحة واحدة ها هو قلبي يتراقص بابتهاج . لقد بقيت ذكراك تفوح من وراء قضبان الزنزانة و بدا لي أنني أعيش قريبا منك>>. همهمت له: <<ما زلت تحبني إذن ؟>> قال متنهدا: <<بلهاء ، ممزق أنا في حبك>>. استسلم ،مانحة إياه قبلة من ثغرها الريان فسقط شعرها كثيفا على وجهه فرقد و قد ضمها إليه بقوة كما لو أنه أراد أن يعبّر لها عن الامتنان.
حين ولج المسجد ، غمرته مشاعر الفرح لرؤية الحاج سمير الذي هرع إليه و حضنه بهمّة و حب . كان وجهه مضيئا و شديد الارتياح .أخذ يمطره بأسئلة رقيقة مخاطبا إياه: << كيف حالك يا بني ؟ متى و كيف جئت إلى هنا ؟ هل أنت بخير و عافية؟>>. أومأ حسان برأسه و قد نفض دموعه بسرعة و حاول أن يضفي على صوته هدوءا فقال: <<رضينا بحكم الله يا شيخ . إنه ابتلاء و لكننا لسنا فولاذ ، إننا بشر قد تهزم إرادتنا >>. قال الشيخ بتصميم: <<ما حدث لك كان يمكن أن يحدث لغيرك و لكنها مشيئة الله ، إنه قدرك الذي يتبعك أينما حللت . ماذا يمكن أن نفعل لكي نعلن استسلامنا له سوى أن نصطبر>>.
حسان:<< يتشارك معي هذا القدر العجيب ، عدد لا يحصى من الإخـــــــــــوة المغبونين و المقهورين>>.
الحاج سمير:<< أجل يا ولدي ، لقد دقّوا علينا طبول الحرب. الويل كل الويل لهم من الله . و لكن المؤمن الحق لا يضلّ طريقه أبدا>>.
حسان :<<إن ما نفاخر به أمام أكلة لحوم البشر، هي صلة الولاء التي عقدناها مع المشيئة الإلهية>>.
الحاج سمير: <<صدقت يا ولدي>>.
خرج حسان من المسجد بعد أن قام بفريضة الصلاة و ركب كعادته سيارته صحبة زوجته و ابنته. بدا أن كل شيء قد عاد إلى مجراه السابق فلا شيء يبدد الراحة و السكينة التي تعلو جبينه، فكّر في أن لديه فائض من الوقت ليرتاد مكتب المحامي ؛ الذي ما أن تلقّى قرار الإفراج عنه حتى قدّم طلبا لجبر الحق. فلا يوجد دليل مقنع يبرر هذا الاعتقال الذي دام سنوات. إن الإدارة الأمريكية ،بخط يد سفير خارجيتها ؛ كتبت إلى وزارة الخارجية الألمانية ،ملخّصة حالة حسان ،بأنها وضعته تحت تصرفها لتتمكّن من الاستفادة من المعلومات التي يمتلكها. وقد أشادت المخابرات الأمريكية بذكاء الرجل و توازنه و تأثيره الحاسم على بقية السجناء.كان يبدو محتفظا برباطة جأش غير عادية . و التحريات لم تثبت تورّطه في مشاغل المخططات الإرهابية . و خلال وقت قصير انتقلت حمّى الدعاية في الصحف الألمانية التي كشفت النقاب عن مأساته ،فقد زجّ به في ســـجن غواتنامو زورا و بهتانا .و مما أحدث بلبلة و قرقعة المقابلة التلفزية التي أجراها معه الصحفي برنارد هانس الجدير بالاحترام جدا. كانت الرسالة الإعلامية محبوكة بعبارات شديدة هزّت الرأي العام بدافع الشعور الإنساني القوي بعدالة قضيته و الإحساس بالذنب. منذ ذلك الحين تبدّى لحسان محبة أكبر مما أبداها له المدير العام المباشر لمركز عمله سابقا فنال تعويضا استحقّه بجدارة ، فاشترى منزلا و فتح شركة خاصة تعنى بصناعة قطع غيار الطائرات. كان يقول لزوجته صوفيا ، بينما كانت جالسة في أحد أركان المطبخ و هي مبتهجة بما تصنعه من بيتزا شهية :<< سيكون من الأفضل لنا أن نغيّر نمــــط حياتنا التي ستصبح أكثر عطاء >>. كانت تلك عادتهما مساء السبت. يجتمعان في المنزل و يتبادلان الحديث دون انقطاع. و تدوم الحال على هذا المنوال إلى آخر الليل عندما يقرر حسان أن يخلد للنوم بعد هزيمته المتعاقبة في الشطرنج . كانت ابنته تكاد تموت ضحكا و هي ترى أبوها يخسر المرة تلو الأخرى . و الحقيقة أن حسان كان يشعر برغبة لا تقاوم ليستنفذ جلّ وقته مع عائلته مستمتعا . كانت ابنته قد ورثت جمال أمها ببشرتها الصافية و عينيها الساحرتين الهادئتين. كان يعكف صباح الأحد على تعليمهما اللغة العربية . خلال سنة تقريبا من الدروس المنتظمة توصلتا إلى إتقانها . لم يفهم عمّها و لا جدها و جدتها كيف أن هذه الأيقونة الصغيرة تتكلم بالعربية . كان حسان منهمكا باستقبال أصدقائه الذين يرغبون في رؤيته بعد طول غياب. لقد اختار أن يصل إلى الجزائر دون ضجة . كان سعيدا لأنه يدرك أن والديه سيسران أيّما سرور حين يريانه. كان يمسك ابنته ذات التسعة سنين من يدها وهو ينظر إلى البحر و فور دخول الباخرة إلى الميناء رفع يديه و قال: <<هناك شيء أريد أن أبوح لك به أيتها الجزائر: ستبقي أيقونة قلبي>>. هرع الركاب جميعا إلى قاعة الانتظار ريثما تفرغ الباخرة حمولتها . فاض البيت حيوية حين ظهرت بييم سوداء رباعية الدفع متجلية في حديقة المنزل . كانت أم حسان كعادتها بجوار النافذة تراقب كل من يلج حديقة المنزل . كأنما كانت تعرف أن ريحه ستأتي يوما ما طالت السنين أم قصرت . نهضت و قد أصابها ذهول و هي تلمح ابنها ينزل من متن سيارته.انفتح قلبها على هذيان من الشوق و هي تحضن فلذة كبدها. قال أبوه مداعبا: << أتركي الولد يا امرأة كدت تقطعين أنفاسه>>.
و مثلما يحدث دائما استسلمت أمه لإلحاح والده بعد أن تنهّدت و قالت بوقار و قوة عاطفة:<< الآن فقط أحسست بعودة الأمل>>.قبّل يد أمه قائلا: << لقد كنت دوما في الفؤاد و ما كنت أظن أنني سأخرج من شفير غواتنامو لأراك مجددا>>.
لقد طاب للجميع أن يجلسوا وهم من حوله يسمعون أجراس صوته بذهول و دهشة و هو يروي لهم ما حدث له في الغربة و كيف تعرّف على زوجته صوفيا التي وقفت معه في محنته. نظر إلى ابنته و ضمّها اليه قائلا: <<يا لتيمه هذه . إنها كانت تعدّ نفسها كل يوم لكي تزور الجزائر و تتعرف على جدّتها>>. كانت تيمه ستنفجر من الزهو وهي مستلقية في أحضانها . تفحّص حسان بنظرة مشفقة أبيه الذي هطلت من عينيه دموع غزيرة . لقد صمم أن يقيم "زردة " بهذه المناسبة و يذبح خمسين شاة ،تعبيرا عن امتنانه للرب. لقد اندفعت النسوة إلى المنزل وهن يحملن الأواني ليوصلنها إلى بيوت الجيران. كانت صوفيا تنظر باهتمام إلى جموع الرجال و هم يتناولون الكسكسي بشراهة و ضحكاتهم تنبعث من كل أرجاء المنزل. لقد انقضت تقريبا ساعتان و الناس يتوافدون . انتشل حسان نفسه من الحشود التي تضجّ من حوله مصوّبا عينيه إلى مصعب الذي ظل مترددا قبل أن يدخل المنزل. صاح حسان : << مرحبا أيها الأخ المخلص ، ما يمنعك من الدخول ؟ هيّا تفضل يا رجل >>. يقترب منه مصعب لمعانقته قائلا: <<هل ظننت أن الزمن مضي و لن تراني مجددا؟>>
حسان: <<لا تراوغ ، أنا من يسأل .الآن فقط تذكرت زيارتي>> .
مصعب: <<نعم و لكنك أنت من غبت طويلا>>.
حسان: <<أجل ، لقد شق عليّ الغياب كثيرا يا أخي>>.
مصعب: <<الحمد لله على سلامتك ، لقد تأثرنا كلنا بدراماتيكية الظروف التي جابهتها . هل تدري؟ إن حازم في محنته لا يفتأ يسأل عنك. لقد أحس بالإغماء في ظهيرة يوم كئيب تزوجت فيه رباب فلم يذكر سواك. لقد سجنتما في نفس اليوم تقريبا و لم يكن قد بقي سوى أيام معدودات على زفافه>>.
حسان: <<لقد أثّرت قصته في الناس أعمق تأثير. و لكن قل لي هو بلا شك في مأمن من الجنون؟>>
مصعب: <<أجل و لكنه انزوى بعيدا عن بهرج الحياة حتى كاد ينسى ما يحتويه العالم>>.
حسان: << يا الله ، كأنما كتب عليه أن يغالب وقع الصدمة تلو الصدمة>>
مصعب:<< كنا ننتظر عودته من هامبورغ لاصطحابه إلى المنزل ، و ما كاد ينزل من القطار حتى أحاط به خمسة أعوان من البوليس مسلحين ببنادق تحت إمرة ضابط. أرادت رباب أن تقترب منه بكل ذريعة . نظر إليها بحنان قائلا: <<عليكما أن توكلا محاميا فذا ، فالخطب خطير>>.
مضينا بجزع شديد و قد رأيت بأم عيني كيف تلاشت حيوية رباب المرحة التي كانت تصدع زهوا . لقد أطلقت صرخة مشدوهة و هي تقفز متعلقة بعنقي . لقد أمضينا شهرا بحاله نطوف بين المحكمة و مكتب المحامي دون جدوى .قال لي في أول زيارة : <<ابذل جهدا خارقا لكي لا أنهي حياتي في هذا السجن المقرف الذي لا يطاق. هل تدري من ذلك الألم شعرت أنني أولد من رماد العنف>> .
حسان بلهجة أخوية جامحة: <<لنمض لرؤيته>>.
مصعب: <<حسنا في هذه الحال لا تبتسم في وجهه و لا تجعله يلمح في عينيك عويل النادبات، لا تثقله بالأسئلة و إن وجدت مصابيح غرفته مضاءة في وضح النهار فلا تستغرب >>.
دخل حسان إلى طابق علوي فسيح أين يقيم حازم الذي بدا كما لو كان في حداد رسمي. قال و صوته المتهاوي قد تلاشت منه إرادة التلذذ بالكلام :<< أنت من يستحق كنية الزعيم>>.
كان في وجهه ما يدل على أن طبيعته المحررة ملأى بفرحة التدمير المرعبة التي تغلي بحمم من اللهب. قال حازم: << النبتة القوية لا تموت و أنا فكري طليق لا يأبه للضحايا>>.
حسان: <<لأجل ذلك نحن نفخر بك يا أخي>>.
حازم: << يا لها من كنية غريبة . قلت الزعيم أم أنني مخطئ>>.
حسان: <<بلى>>
حازم: << طموح عنيد يمتص طاقة الآخر ، يورّطك مع ضحية ما ، يجعلك ككلب صيد ضامر تفوح منه هموم حرب كريهة>>.
حسان: << لا أحد يورّط أحد ، فالرحمة العذراء قد ضاعت في مستنقع تهاوت عليه متاريس الحقد>>.
حازم و قد أصدر صيحة مباغتة: << توقّف عن إطلاق النار فقد أذيع خبر اعتقالي . انظر حولك ما عساهم يقولون عني: جرذ ، إرهابي ، تكفيري... سأكون و لننظر أي ندم سيحصدون>>
صمت حسان قليلا ثم استطرد قائلا: <<لا أدري ،و لكن ما أعرفه أنني جئتك من ألمانيا لأقول لك يا صاحبي أنك قدوتي حتى الممات>>.
ظل حازم على حاله برهة ثم التفت و صوّب نظره إلى حسان قائلا: <<من المؤسف أن تكون معجبا بمن غدت ميوله عسكرية بعد أن كان متورطا بالفكر>>.












في أول خطواته الأمنية قام مصعب بتحصين قائد واجهة التنظيم من لقاء القيادات الفرعية حتى لا يخترق بالتأثير و التوجيه.و لأول مرة خضع أفراد خلــــية الاخــــــــــتراق و التجسس لمهمتهم الميدانية و محاولة التسرب إلى المناصب الحساسة في المؤسسات الأمنية . كانت المؤسسة العســـكرية و الديوانة هدفان يستحقان التأمل. من المفيد التذكير هنا أن الرشاوى الســـخية تدغدغ الفؤاد و تجعل المقاومة رخوة. و في غضون أشهر استحكم التنظيم خصوصا في القبّة المعروفة باكتضاضها السكاني و تلاحمها المعماري .فقد كان مصعب يتنقل بين المقامرين و أناس لا ملكية و لا عمل لهم و يجالسهم حتى يخيّل لمن لا يعرفه أنه من العابثين. و لأنه يعرف جيدا بؤس غالبيتهم فإنه لا يتوانى عن تلبية حاجاتهم المادية و تحريرهم من أغلال البطالة بتوظيفهم في سلسلة من المــــــطاعم و السوبرماركت و الفنادق التي يملكها للتغطية على أصول الأموال التي تضخّ من كل أرجاء العالم لتمويل التنظيم عبر استخدام حسابات بنكية وهمية و إعادة استثمارها عن طريق هذه المشاريع التجارية.كان يقول لهم: <<ليس لي من هدف سوى أن أستمتع بإسعادكم>>.و قد كانت تلميحاته تتخطّى العمل الاجتماعي. كان يتفحصهم ويقول لهم: <<نعم يا سادتي إن حكامنا ليسوا سوى خنازير وضيعة انغمست في شهوة الاستحواذ على السلطة و تركت الشعب ينام على الرصيف>>. كانوا يبدون حماسا شديدا وهو يتجوّل معهم في شارع حي الربوة البيضاء و لابروفال الذين يعدّان من أكثر الشوارع شعبية و امتلاء بالحركة.كانت هذه النبتة الرقيقة تنتج كل يوم إيماءة تنزلق بصاحبها إلى أتون إيديولوجيا مفترسة تنهار بعدها كل مقاومة .
لقد كشفت تحرّيات نيابة أمن الدولة مفاجآت مثيرة بعد سلسلة الأعمال الإرهابية التي ضربت الجزائر . فقد ثبت لديها بما لا يدع مجالا للشك أنه تم اختراق شبكات الاتصال الهاتفية على مكالمات مسئولين كبار في الدولة. كانت كل الشكوك تدور حول صاحب اللحية البرنزية، وهو مستثمر أمريكي قطن حديثا بحي زرهوني مختار الذي يقع بالقرب من الطريق السريع المؤدي للمطار الدولي. فقد كشفت تفاصيل مثيرة للقلق حول بواعث إقامته . وقد رصدت له مقابلة غير مسبوقة مع مصعب. لقد تصاعدت حدّة الأحداث ووصلت ذروتها عند محاولة اغتيال وزير الدفاع . بعد وقت قصير من اعتقاله تمكن مصعب و أغلب قيادات التنظيم من الفرار إلى تركيا حيث تم استقبالهم بحفاوة منذ لحظة وصولهم للالتحاق بتنظيم داعش الذي لم يظهر بعد دعايته المتقنة الذي قرر فيها الإعلان عن ولادة الدولة الإسلامية المزعومة. لقد انطوى التنظيم على أفكار فادحة إلى حد استثنائي ، إذ اعتمد على واجهة تنمــــوية جذابـــــة و عموميات سيكولوجية تتغنّى بأناشيد تخترق المجتمع في مجمله.
عندما قبض على ويليامز، الذي غيّر اسمه فيما بعد بمحمد، لم يكن خائر النفس إطلاقا؛ ربما كان مذهولا من هذا الاقتحام الصاعق لمنزله و لكنه كان رجلا صخريا إذ لم يتردد في أن يسأل بجرأة ملطّفة:<< أهناك شيء بدر مني حتى تعرّضوا أحشائي الذهنية للانغماس في مثل هذا الهياج و الفزع الهائل؟>>
يبقى من المستغرب لماذا سفّر بعد أسبوع إلى أمريكا ، ربما كان في هذا الأمر ضغوطا فقد كان الدبلوماسيون الأمريكان يتقاطرون على الجزائر و أصبح صوت البي بي سي مسموعا لوجود شاب ناضج متنوّر من المجتمع الأمريكي اختطف من المخابرات الجزائرية و ليس له من تهمة سوى أنه اعتنق الإسلام حديثا. في ذلك الظرف صارت الواقعة جوقة للمزايدات حول النظام الجزائري الذي يحكم الشعب بيد من حديد. كان الاحتقان طائشا و لعوبا حتى أنه أثار حفيظة النخب الوطنية المتبصرة بألوان السموم الدافئة التي تتغنى بالربيع العربي كمقدمة لترسيخ فوضوية الغوغاء الذين يفجّرون أنهار سقوط الدولة الوطنية. لقد كان لشعب الجزائر رؤية مختلفة ، لقد كان مبدعا بحق لأنه تفطّن لمعالم شمس دمار هذه الثورات التي أنيرت من بين جنباته فشذّ مبتعدا بوعي يقوده إلى السلم و الأمن .
حين تأكّد خبر انكشاف التنظيم ، أكد حازم أن الملحمة الفعلية بدأت مقاصدها و على كل الإخوة أن ينالوا نصيبا من روحها المباركة. يؤكد أحد طلاب التنظيم المنتمين حديثا أنه كان ينتظر مهمة للانجاز و بمجرد إفتاء الأمير لوجهة الجهاد حتى شرع في السير في طريق يمهد للدولة الإسلامية.كانت هناك مجموعات متفرّقة في العديد من دول العالم ، استخدمت كلّها ارساليات قصيرة و مشفّرة على مواقع التواصل الاجتماعي تحثّ على إحياء رفات الماضي الميت من التلف.فما كادت أجراس هذه الجملة توشّح الفضاء الافتراضي حتى غصّت المطارات بجموع من الفتيات و الشبان في كل أرجاء الدول العـــــــربية و الأوروبية و الآسيوية وأنفاسهم منساقة إلى سوريا. في ذلك الظرف كان الوضع الداخلي معقد في الجزائر ،ربما كان ينظر إلى التداعيات المؤجلة للربيع العربي بوصفها نقطة تمفصل خطيرة و ملغّمة للجغرافيا السياسية للمنطقة العربية ككل . هذه الاحتمالية فرضت إعادة رسم الأرضية الاستخباراتية لتشمل تفصيلات تنسيق مع تونس و ليبيا.و رغم ذلك عجز جهاز مكافحة الإرهاب عن اعتقال مصعب الذي غادر منزله عند السادسة و النصف مساء. لقد أدرك أنه ليس له من خيار خصوصا بعد تلقيه مكالمة قصيرة مجهولة المصدر. كان المتحدث وفق ما كشفت التحريات لاحقا عسكريا متقاعدا ، وهو صديق حميم لوالده ، يدعى طلال.لقد أبلغه عن تقارير معلوماتية مفصّلة تعتبر أن مكوثهم في الجزائر محفوف بمخاطر جمّة.و على مسافة أربعة أميال من منزله انطلقت سيارتان من نوع الرنجروفر سائرتين جنبا إلى جنب. قال مصعب للخبير العسكري الذي كان يقود إحدى السيارتين بنفسه: <<شكرا على المساعدة>>.لم يكن لحازم و يزيد و حسان أي فكرة حول ما يجري . لكنهم الآن يشعرون بالارتياح . كانوا يرتدون أزياء خليجية فيما تشقّ السيارتان شوارع الجزائر العاصمة.
كان الخبير العسكري محقّا في توقّعاته.و هو بارع في مهنته .كانت الخطة أن يتم تأمين خروجهم إلى تونس. و فيما اقتربت السيارتان من بوابة العبور التونسية رأى الشيخ طلال العقيد صالح السبعي الذي أتيح له غير مرة أن يرافقه إلى تونس العاصمة.كان هذا الرجل متبجّحا و جبانا. يا لهؤلاء الناس الضعفاء الذين تفيض نفوسهم بالطمع. جاء مستكشفا و لما عرفه هرول إليه قائلا:<<أنا الأوفر حظا في هذه الليلة الظريفة التي اختارني فيها القدر لأسهر على خدمتكم يا شيخ>>. لم يكن ليخفى على الشيخ طلال سرّ هذه الاندفاعة التي أجزيت له المديح . تنهد وقال: <<مشتاق برشه إلى التبغ التونسي>>. ضحك السبعي و قال: <<لم أتخيل نفسي يوما في هذه المنزلة التي ألبّي فيها رغبة بمثل هذه السهولة>>.
قال الشيخ طلال بإشارة متهكّمة: <<أنت رجل صالح يا صالح ورغباتنا ملتهبة، و قد تأتي علينا لحظات نودّ أن نزهو و نغامر و نستبشر، و ها هي نفسي المتعبة تضطرم ظمأ إلى أن ترتاح في مرفأ تونس الحبيبة>>.
صاح السبعي بعبارات شعبية وهو في حالة انتشاء:<<غالي و الطلب رخيص ، أراهن على أنك ستتبحبح في تونس ولك عليّ عهد أن أرتب لك جوّا عالميا من الغد.سيّب روحك بركه>>.
ضحك الشيخ طلال و قال: <<يسرّني ما سمعته منك يا صالح. أعترف لك بأنك كنت واضحا في ضيافتك . وهذا ما سأفعله أنا أيضا فأنت تدين لي بالكثير>>. اتّسعت عينا صالح وهو يحدق في خمسة ورقات بمائة دولار . نظر الشيخ طلال إلى صالح فيما لا تزال عيناه شاخصتان على الأوراق النقدية. أعاد انتباهه وهو يستمع إلى الشيخ طلال: <<أنا مثلك كنت أقبل الهدايا خصوصا عندما تكون من صديق حميم>>. أمسك صالح بالأوراق النقدية و قد امتلأ وجهه سرورا. قال مودّعا وهو يناوله بطاقة صغيرة دوّن فيها رقم هاتفه : <<هذا رقمي متى احتجتني يا شيخ رنّة واحدة نكون بحذاك>>. قال الشيخ طلال ضاحكا: <<كل ما أطلبه منك يا صالح ألا أتأخّر أنا و الشباب في طريقنا إلى العاصمة>>.انحنى إلى النافذة قائلا: <<هذه مهمة سهلة جدا>>. كشف حازم عن ابتسامة ساطعة و قد سحرته غابة البلفدير و طرقاتها الملتوية و المشابك الخشبية للمحمية الصحية التي تشعرك بأهمية الأرض التي تحمل معها تفاصيل التاريخ . كان مزهوّا وهو يتذوّق هذا الهواء النقي الصباحي ، لطالما كان يشتاق لزيارة تونس التي يجيش صدره بمشاعر الحب نحوها. كان يرقب طرقات بلاس باستير و كأنما صممت على البهجة و الفرح. إنه لا يستطيع أن يتخيّل مشهدا أكثر روعة من رؤية هذا البلد الطيّب الذي يستحقّ بحق متعة المشاهدة.كان مفتونا بهـــويته غير المـــــمزقة و المتأصلة في باطن الأرض. كان يسير برفقة مصعب و حسان و يزيد في أروقة البلاد العربي التي لا تنتهي أبدا و قد تخلّصوا من كل شاغل و ظفروا بهذه الأوقات المريحة. و مع أن مصعب كان صامتا أكثر الوقت إلا أنه بدا ممتلئا بالحيوية . لشدّ ما أعجبه مذاق الكسكسي بمطعم محاذ لجامع الزيتونة . في هذه الساعات الجميلة بدت له كما لو أن عقارب الساعة عادت إلى الحياة القديمة التي تحدث في النفس إحساسات هادئة. لقد مضى الآن يومان على وجودهم بتونس. كان عليهم الانتظار في صالة الاستقبال بمطار تونس قرطاج الذي تخلله بعض الازدحام، ساعتين قبل إقلاع الطائرة إلى اسطنبول.كانت نظرات الشيخ طلال الفاحصة لا تفارقهم قبل أن يغلق الباب الكبير المخصص حصريا للمسافرين. و رغم الخلاف المتأجج الذي أخذ يتّسع تدريجيا بين تونس و تركيا خصوصا عند أحزاب المعارضة التونسية فقد كنّا محطّ أنظار السلط التركية . نادونا من أحد الأروقة العالية للمـــــطار بالاسم و بهذه الكلمات استقبلنا رجل في المخابرات التركية: <<يا شباب لبّ القضية أننا نريد أن نطيح بالطاغية بشار.نريد أن نعلّق وسام الحرية للشعب السوري التي محقت كرامته>>.
في أقل من شهر من وصولنا إلى سوريا بدأت الأحداث تشتعل في المنطقة و ظهرت صور مصعب في الإعلام الرسمي السوري. إن البعد الخطير في هذه القضية كما أثيرت في وسائل الإعلام وفقا للروايات التي أجريت مع شخصيات هامة في النظام السوري؛ أن التنظيم وهو يشقّ طريق ولادته، يبدو عاجزا عن صنع شروط الوفاء بمتطلباته الأمنية.
كانت أفكار حازم متّجهة نحو هوّة أخرى فقد كان يعرف أن الظرفية الأمنية الجديدة تملي عليه أن يحلل الأوضاع تحليلا شموليا. قال لمصعب بلهجة المطّلع على بواطن الأمور:
<<لنعترف بأننا قوبلنا بترحيب لبق و كيّس من الفصائل الجهادية غير أن وجودنا الحالي يتأرجح بين كفّتين: فصائل تعصف بشتى الانفعالات و نظام يبذر أعوانه في كل مكان>>.
مصعب: <<هل من تعليمات موجّهة؟>>
حازم:<<سنهيّأ أنفسنا لعمل خاص. سنفتح معسكرات تدريب للمقاتلين حول آخر الفنون في استخدام الأسلحة و التخطيط و التكنولوجيا العسكرية>>.
قال مصعب: <<نعم ولكن ...>>
نظر إليه حازم وقال بهدوء: <<ظننت أنك متلهف لهذه المهمة>>.
مصعب: <<هؤلاء لا يخرجون فجأة و حداثة قواتنا في شؤون القتال يتطلب مران و قطع شوط طويل في الدربة الميدانية .و من المؤكد أنني أنا نفسي غير مؤهل للقيام بهذا الدور>>.
حازم: <<سوف نجد أوغاد محترفين>>.
مصعب: <<من تقصد؟>>
حازم ضاحكا: <<و هل نسيت أصدقاء الشعب>>.
مصعب: <<أظنك تشير إلى الأتراك؟>>
حازم: <<قد يكون من المفيد لكي نتربّع على القمة أن نبني أحلافا. و كمعظم حلقات التاريخ لا تزال هناك حقيقة قائمة ولدت من لفيف الحروب: الثوري الكامل يمتلئ بمرارة الفشل.
ألا فاعلم إذن أننا مجاهدون و لسنا ثوارا>>.
مصعب: <<يصعب جدا فهم ما تخطط له>>.
حازم: <<كل ما نريده هو الرّقّة>>.
مصعب: <<أتظن أننا قادرين على فعل ذلك>>.
حازم: <<الآن لا و لكن البراعة تكمن في القدرة على التنفيذ و المتحمّسون و المتعصّبون من الجيش العراقي كثر و مرارة الفراغ تملؤهم و المخلص الصادق لعقيدة القتال يظلّ حتى النهاية مقاتلا>>.
مصعب: <<بدأت أفهم أهدافك.دعني أوجزها لك>>.
حازم: <<هيا أرجوك>>.
مصعب: <<تريد أن تبايع جبهة النصرة ، ليتدرّب رجالنا من غير رقيب بينهم . و ما دمت قد أشرت إلى الرقّة كموقع استراتيجي فعّال و الجيش العراقي كمصدر للخبرة ؛ فمن الواضح أنك تعد لطمة ما بمبايعة تنظيم الدولة الإسلامية بالعراق التي أوغلت في أعماق الجيش العراقي المنحل>>.
ابتسم حازم و هو يقول: <<لقد أينعت ثمار فكرك الخصيب.و على أية حال قد يكون مفاجئا لك أن تسافر على الفور إلى الموصل>>.
لاحظ مصعب التغيرات العميقة التي طرأت على المجتمع العراقي في ظل تراجع نفوذ الدولة . لقد أصبح الإنسان العراقي عرضة لأشكال مختلفة من القهر الظاهر و التي تبدو أخطر من تلك التي عرفها في الماضي.لقد تحول إلى كائن مبهور الأنفاس من كثرة الانفجارات التي أحكمت قبضتها عليه.إن درجة الفزع التي أشاعوها في البلاد جعلته يقف على شفا الفناء.استراح مصعب لساعتين فيما كان يتهيأ للقاء العقيد حجي بكر . كانت الساعة تشير إلى الثامنة ليلا .لقد بدأت حركة المارة تتناقص بمدينة هيت الواقعة على الضفة الغربية من نهر الفرات.كانت تتمتع بسحر خاص نتيجة لطبيعتها الجميلة و أراضيها الزراعية الخصبة. لقد سقطت في أيادي تنظيم الدولة من الداخل بسبب مؤازرة شيوخ القبائل و مجلس المدينة و عدد كبير من أبنائها الذين شكلوا حواضن للتنظيم. عند زاوية الزقاق بحي الجمعية، استدار مصعب نحو مبنى من المباني الحكومية التي سيطر عليها تنظيم الدولة.قال الدليل مشيرا إلى البناية بصوت قوي وواضح: تفضل هذا هو المكان.
نهض العقيد حجي بكر مستحثا خطاه و ضمّ إليه مصعب قائلا :<< يا هلا بالشهم ، نحن فخورون بك أيها المجاهد>>.
قال مصعب مبتهجا بصوت يشبه الصرخة:<< ربما أنا من يراوده هذا الشعور لكونكم تحمّلتم عناء مقابلتي>>.
العقيد حجي: <<جذبني صيتك جذبا لا سبيل إلى مقاومته أيها المجاهد>>.
مصعب:<<قلّما نرى نظيرا لتواضعك و لشد ما كنت متحرّقا لرؤيتك>>.
بدأ مصعب الذي تحدث بحماسة يفسر مبرر زيارته ؛ و حجي بكر ينصت له بتركيز شديد.
كان شخصا هادئا متقد الذكاء و ذو لحية بيضاء و قامة طويلة وفي العقد الخامس.
لقد صفّق بحرارة و شدد على أن الفكرة مهمة للغاية و أنها ستنعش آمال الإمام ؛ غير أنه
استطرد قائلا:<< أصدقك القول لقد فكرت في ذلك من قبل غير أن هناك معضلتان تؤرقاني.أعلم أنه في ظل الفوضى العارمة التي ضربت ســــــــوريا من الســـــهل دخولها و السيطرة عليها و لكن ماذا عن جبهة النصرة إذا لجأت للاشتباك معنا؟>>
مصعب:<<أرى أنها يمكن أن تكون حليفا ثمينا ولو مرحليا لابتلاع الشام>>.
العقيد حجي: <<لا بأس ، دعني أتقبل هذا التكتيك لنرى إلى أين سيقودنا و لكن كيف سندير المعركة؟>>
ضحك مصعب قائلا: <<إنه ليصعب عليّ أن أشرح على مسامعكم ما يخالجني و أنتم أهل باع في التخطيط >>.
العقيد حجي بصوت حازم و قاطع: <<أنت تعرف كيف تراوغ ، هيا تكلم>>.
مصعب: <<لنعتمد على الميل العربي الدائم لنظرية المؤامرة>>.
العقيد حجي ضاحكا: <<يا له من اقتراح مسلّ>>.
كانت الخطة تقضي بسفر عدد غزير من القاتلين بشكل فردي للرصد و التجسس و جمع أسرار المنطقة و العائلات الغنية و ذات النفوذ و توجهاتها ؛ تمهيدا لوصول القوات النظامية التي ستخوض المعركة الفاصلة. و فيما أوضح حازم وهو يحاول إقناع قادة جبهة النصرة بأنه بوسعهم أن يشاركوا في دواليب القرارات ؛ باتت الرقة الآن مطوّقة .و بناء على هذا التوحد الذي أعلن عنه أبو بكر البغدادي بتاريخ 09 أفريل 2013 تسلمت داعش مبنى المحافظة لتنسحب جبهة النصر إلى مدينة " الطبقة".



#رضا_لاغة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المشهد الرابع، رواية ريح من داعش
- المشهد الثالث ، رواية ريح من داعش
- المشهد الثاني من رواية ريح من داعش
- المشهد الأول - رواية ريح من داعش-
- في مئوية عبد الناصر، هل الناصرية ماض نبكي على أطلاله أم مشرو ...
- ديمقراطية في عصر الكوسموبوليتيكا
- العولمة و انشطار مفهوم السيادة
- مكانة عصمت سيف الدولة في بلورة فهم تقدمي للفكر القومي
- حين تكون قوميا تقدميا
- استقالة محسن مرزوق : صناعة التحولات و كسر النموذج المقفل لحز ...
- رمال القحط
- معقولية خطاب غير خلاّق
- رسالة مفتوحة إلى فخامة رئيس الجمهورية التونسية
- القمع الفتّاك للفكر
- صرخة في مشهد
- ناخب فطن يبوح بأسرار عميقة
- صراعات مكشوفة
- عقاب مكرور
- تقادمية حالة حرب
- في مكان ما خارج حزب ما


المزيد.....




- تابع HD. مسلسل الطائر الرفراف الحلقه 67 مترجمة للعربية وجمي ...
- -حالة توتر وجو مشحون- يخيم على مهرجان الفيلم العربي في برلين ...
- -خاتم سُليمى-: رواية حب واقعية تحكمها الأحلام والأمكنة
- موعد امتحانات البكالوريا 2024 الجزائر القسمين العلمي والأدبي ...
- التمثيل الضوئي للنبات يلهم باحثين لتصنيع بطارية ورقية
- 1.8 مليار دولار، قيمة صادرات الخدمات الفنية والهندسية الايرا ...
- ثبتها أطفالك هطير من الفرحه… تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...
- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رضا لاغة - المشهد الخامس ، رواية ريح من داعش