أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - ابراهيم الحيدري - نقد الحداثة وما بعد الحداثة- أدورنو ونهايته المأساوية















المزيد.....

نقد الحداثة وما بعد الحداثة- أدورنو ونهايته المأساوية


ابراهيم الحيدري

الحوار المتمدن-العدد: 5778 - 2018 / 2 / 5 - 10:19
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


ارتبط اسم تيودور أدورنو مع اسم ماكس هوركهايمر بتأسيس "معهد البحث الاجتماعي" في جامعة فرانكفورت، الذي عرف فيما بعد بـ "مدرسة فرانكفورت" في علم الاجتماع النقدي، وأصبح استاذا للفلسفة وعلم الجمال ثم مساعدا لهوركهايمر في ادارة المعهد، وعمل معه على تطوير واغناء النظرية النقدية. ويعتبر أدورنو، الى جانب ارنست بلوخ وماكس هوركهايمر، في مقدمة الفلاسفة الألمان الشموليين لما بعد الحرب العالمية الثانية.
عمل أدورنو على ترسيخ أسس ومبادئ النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت وتقديم نظرية نقدية للمجتمع لا تكون علما امبيريقيا فحسب، بل علما اجتماعيا نقديا يحقق ما دعت اليه الطبقة الوسطى في أوربا في حق الحرية والصراع الاجتماعي والقضاء على الظلم، وان لا تبقى هذه المبادئ على المستوى النظري، وإنما عليها ان تنزل الى مستوى الممارسة العملية، مثلما عليها ان لا تهادن أية سلطة، ما دام هدفها سيطرة الانسان على حياته الذاتية مثلما هي على الطبيعة، بهدف رفع الوعي الاجتماعي الشامل الذي يستطيع تحمل مسؤولية التغيير في المجتمع.
ولد أدورنو في فرانكفورت(1903-1969) ودرس الفلسفة والموسيقى وعلم الاجتماع في جامعتها. وبسبب تردده المبكر على الاوساط الفنية والموسيقية في فينا واهتمامه على نحو خاص بتقنيات الموسيقى "الدوديكافونية" ذات نظام أثني عشر صوتا، التي طورها شونبرغ منذ عام 1922، عٌرف أدورنو كناقد ومنظر للموسيقى الحديثة، بالإضافة الى كونه فيلسوفا وعالم اجتماع وناقدا اجتماعيا طبع تاريخ الفكر الفلسفي والاجتماعي النقدي في المانيا وتعداه الى أوربا وامريكا.
تعود الأصول الفكرية لأدورنو الى أسس النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت في الفلسفة وعلم الاجتماع من جهة، والى حسه الفني الرفيع ورؤيته الجمالية للأشياء من جهة ثانية، التي جعلت منه فيلسوفا شموليا تعدت نظريته النقدية للحداثة علم الجمال والجدل السلبي والثقافة الجماهيرية الى تساؤلاته النقدية حول العقل والعقلانية والسياسة التوتاليتارية والصراعات الاجتماعية والثقافية التي افرزتها الحداثة.
تأثر أدورنو بالجدل الهيغلي كثيرا، وبالرغم انه اعتبر فيلسوفا يسارياً، إلا انه لم يؤمن بإمكانية تطبيق الاشتراكية على أرض الواقع. فمهمة الفيلسوف عنده تكثفت في النقد، ليس نقد المجتمع ومؤسساته فحسب، بل المدارس والاتجاهات الفلسفية واشكال الأدب والفن والموسيقى وغيرها من الفنون.
بدأ أدورنو مشروعه الفلسفي مع هوركهايمر من منطلق نقدي وبدأ بتحليل الأسباب التي أدت الى اخفاق الثورات البرجوازية في أوربا، غير انه تحّول بعد ذلك الى دراسة نظرية المعرفة وعلم الجمال ليكافح الايديولوجية النازية واشكالها التطبيقية التي غذتها وطورتها لمد هيمنتها الشمولية على المجتمع، واخذ يوجه هجومه ضد الفلسفة التقليدية المفرغة من وظيفتها ودورها الثوريين. فالفلسفة، كما يراها أدورنو، تحولت الى إيديولوجيا فوقية هي امتداد لأنظمة مثالية تجسدت في افكار مدرسة ماربورغ الفلسفية والوجودية والفلسفة الوضعية، تلك الاتجاهات الفلسفية التي كانت موضع نقد أدورنو، التي جعلت الانسان محاصرا بتناقضات الذات والهوية، ودفعته لدراسة وضعية الفرد المتأزمة وإشكالية وعيه في محاولة لإخراج الفلسفة من فوقيتها وطرح نموذج من التحليل المادي، الذي هو انعكاس سلبي لمواجهة الفلسفة الوجودية الالمانية الممنهجة التي وقفت على رأسها وجودية هايدغر الانطولوجية وكذلك وجودية ياسبرز.
هاجر أدورنو الى انكلترا بعد صعود هتلر الى الحكم ودرس الفلسفة في كلية ميرتون في جامعة أكسفورد وكان يخطط لكتابة أطروحة دكتوراه حول الفيلسوف ادموند هوسرل. وخلال تلك الفترة كتب بحثا حول علم اجتماع المعرفة عند كارل منهايم ومقالا حول الموسيقى الطليعية لمجلة الموسيقى في فينا وكذلك حول موسيقى الجاز لمجلة البحث الاجتماعي لمدرسة فرانكفورت. وفي عام 1938 هاجر الى أمريكا للعمل مع هوركهايمر في فرع معهد البحث الاجتماعي في جامعة كولومبيا. ثم عاد الى فرانكفورت بعد انتهاء الحرب عام 1949 حيث أصبح مديرا لمعهد البحث الاجتماعي في فرانكفورت حتى وفاته في 6/ 8 /1969.
بعد عودته الى المانيا استعاد أدورنو نشاطه العلمي وأخذ يشارك في اعادة البناء الفكري لألمانيا الفيدرالية، واخذ يكتب في قضايا مختلفة ترتبط بالنظرية النقدية وتعكس اتجاها خاصا ومتميزا نحو فلسفة للفن، فقد فهم علم الجمال على انه أكثر من مجرد نظرية في الفن، وانه مثلما عند هيغل، نوع خاص من العلاقة بين الذات والموضوع. وقد أصبح أدورنو الضمير المفكر لألمانيا في الخمسينات والستينات الى جانب هوركهايمر وماركوزه، واخذ يجسد في شخصيته المثقف الملتزم الذي يعمل على هدم عصره وقضاياه ليبني مكانا جديدا وقضايا جديدة.
كان المنفى بالنسبة لأدورنو عامل تلقيح واغناء لأفكاره النظرية، بعد ان عايش في اميركا مفارقات المجتمع الرأسمالي في قمة تطبيقاته العملية وخلق عنده ردود فعل جديدة قادته الى تحليل نقدي لطبيعة المجتمع وطبيعة الفن ومكانته في مجتمع وصل الى مرحلة استهلاكية متقدمة، كما ربط بين الانتاج الفني بجميع اشكاله ومظاهره ومحتوياته وبين وسائل الاعلام والدعاية والاعلان وكذلك الدور الاقتصادي المهيمن الذي لعبته في المجتمع.
أطروحات أدورنو النقدية
يمكن ايجاز أطروحات أدورنو النقدية في ثلاث جدليات مركبة ومتداخلة بعضها مع البعض الآخر: جدلية العقل، والجدل السلبي والنظرية الجمالية، وتشكل مفهوما مركباً لنقد الحداثة وما بعد الحداثة. وفي كل ذلك ينطلق أدورنو في نقده الجدلي من الداخل، فهو ينقد الفلسفة التقليدية وينقد الانسان المحاصر بتناقضات الذات والهوية، وخاصة بعد انهيار منظومات الفكر الفلسفي المثالي، الذي أنتج بدوره تناقضاً يقوم على اختراق الفرد المحاصر بتصور معين لهويته وشموليته التي تذوب في مؤسسات الدولة والسلطة والمنظومات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التابعة لها.
وفي نقده للفلسفة التقليدية ينقد بدوره الوضع الاجتماعي المتأزم للفرد الذي يتجاوز حدود اشكاليات الوعي المتحكمة به وبأفراد المجتمع. وبهذا ينزل أدورنو الفلسفة من عليائها الى الواقع الاجتماعي، ليربط بين النظرية والممارسة العملية ربطا جدليا. فهو يقول: "من يريد اختيار الفلسفة كعمل مهني دؤوب، عليه ان يستغني ومنذ البداية عن الأوهام التي عملت بها الفلسفة القديمة، وان يدرك الواقع من خلال الفكر". بهذه المنهجية السوسيولوجية التحليلية يطرح أدورنو جدله السلبي ليواجه به الفلسفة الالمانية التقليدية، من الميتافيزيقيا الهايدغرية الى الوجودية الانطولوجية. ومن يتأمل اعمال أدورنو طيلة العقود الأربعة الأخيرة من عمره يلاحظ بوضوح تشديده على نقد هايدغر وبخاصة في الستينات من القرن الماضي حيث انتقد "لغو الوجودية" ومشروع هايدغر الفلسفي في العشرينات من القرن الماضي الذي توجه بكتاب "الكينونة والزمن" الذي صدر عام 1927. وكان هدف أدورنو فيه هو فضح الخطاب الفلسفي الألماني لما بعد الحرب العالمية الثانية الذي يذكر المرء بتعابير وشعارات ولغة نازية. كما سعى من جهة أخرى الى الكشف عن وجود علاقة بين فلسفة هايدغر والإيديولوجية النازية.
الجدل السلبي
في كتابه الهام “الجدل السلبي" Negative Dialektik الذي صدر عام 1966 والذي يعتبر من أهم اعمال أدورنو الفلسفية، مجموعة من المقالات الفلسفية الرصينة التي تعكس اهتماماته المعرفية المتنوعة التي صاغها في حبكة فنية رصينة ونسجها بخيوط غير مرئية، تتداخل بعضها مع البعض الآخر في وحدة محكمة. وتأتي صرامة أدورنو من قوة اسلوبه وعدم انتظام افكاره وصعوبة مسكها، وعدم تنازله لأي نظام سياسي او اجتماعي.
والواقع ان "الجدل السلبي" هو عمل فلسفي رفيع المستوى عالج فيه موضوع الفرد واستلابه في المجتمع الصناعي محاولا الانحياز لإنقاذ الذات، في عالم متسلط، منطلقا من ان نقد " السلبي" هو في ذات الوقت، نقد إيديولوجي يرفض بقوة العالم الحالي وتسلطه، مؤكدا على التحطيم الذاتي الذي قام به العقل لمحتوياته منذ كانت، وكذلك على الطريقة التي أدت بهذه الأداة الهامة، أي العقل، الى ان تكون مستلبة وعاجزة عن الفهم والادراك والنقد الموضوعي لواقعها، بالرغم من التطور المادي وارتفاع مستوى رفاهية الفرد وحريته الشكلية وسعيه المتواصل نحو تحقيق ذاته عن طريق عقلنة ما يحيط به. وبهذا تحول العقل الى "أداة" موضوعية استغلتها الطبقة الوسطى المسيطرة وسيّرتها حسب مصالحها.
كما يحلّل أدورنو الفكر الفلسفي التنويري وأثره في اخفاق العقل ومن ثم نقده، فيبدأ بكانت، الذي طور أول مفهوم فلسفي للنقد، حيث كان العقل قبل كانت في حالة استلاب امام المطلق، وفي حالة قمع من قبل اللاهوت وسلطته المهيمنة. أما هيغل فكان أول من طبق الطابع الشكلي الذي قدمه كانت لتحليل التجربة الانسانية، من اجل اكتشاف حركة العقل وآليته الداخلية التي تجسدت في الجدل في جوهره السلبي لطبيعة الاشياء.
وإذا اتجه النقد عند كانت للبرهنة على محدودية العقل، توجه النقد عند أدورنو الى الانسان بالذات متأثرا بهيغل في صياغته للجدلية بوصفها تعبيراً عن السلب، الذي يتحقق بالعملية الجدلية.
يرى أدورنو ان التطور العقلاني الذي انبثق من دور العقل نفسه، يحكمه قانون السيطرة وفق المعادلة التالية: الطبيعة / الانسان، والانسان / الطبيعة. ان هذه السيطرة خلقت وعيا جديدا أطلق عليه أدورنو "الوعي التكنولوجي" الذي جعل من العقل مجرد "آلة" انحرفت عن مسارها الموضوعي وتوجهت الى خدمة مصالحها الخاصة. كما وجه أدورنو نقده في " الجدل السلبي" الى العقل كموضوع ورفعه الى قوة ديناميكية تقوم على قدرة تأويلية أخرى للعقل أطلق عليها "التفكير الثاني" الذي يعبر عن حركة جديدة تعمل ضد العقل، وبفعل عقلاني آخر يفرزه العقل نفسه. وبهذا يتحول العقل نفسه الى رقيب على ديمومة جدلية لاسترداد طاقاته التي سلبها الواقع من دون السقوط في ميدان هيمنة الوعي السائد.
ويعتبر كتاب" الجدل السلبي " أهم ما انجزه هذا الفيلسوف طيلة حياته كلها، حيث يعلن فيه ثورته العارمة على العقل الغربي بدون هوادة، الذي خان مبادئه التنويرية أو انحرف عنها مما أنتج الفاشية والنازية وتخلى بذلك عن الرؤية المتفائلة للتاريخ وراح يصب جام غضبه على العقل الأداتي -النفعي للحضارة الغربية باعتباره عقلا شموليا واستئصاليا.
سوسيولوجيا الجمال
في نقده للحداثة وما بعد الحداثة في مجالات الفن والأدب والثقافة خرج عن سياق تفكيره في الجدل السلبي، حيث عالج في "جدل التنوير"، الذي صدر عام 1947 بالاشتراك مع هوركهايمر، مرحلة المجتمع الصناعي المتقدم الذي تميز بتقدم علمي وتقني أكثر صرامة، مركزاً في نظريته "سوسيولوجيا الجمال" على مفهوم جديد أطلق عليه "الثقافة المصنعة"، محاولا تقديم تحليل نقدي لطبيعة المجتمع والفن والثقافة في مجتمع وصل الى مرحلة متقدمة من الاستهلاك، وربط فيه بين الانتاج الفني بجميع اشكاله ومظاهره ومحتوياته وبين وسائل الدعاية والاعلان والدور الاقتصادي المهيمن الذي تلعبه أجهزة الاستهلاك الجماهيرية.
يرى أدورنو بان الفن يتضمن خصائص معرفية، فهو مطبوع بأفكار التحرر التي تظهر بوضوح في الاعمال الفنية الراقية، وما يقرر ذلك هو الوسيلة التي تربط بين الشكل والمضمون، الذي يربط دوما بخصوصية اجتماعية تطبع العمل الفني الراقي وكذلك مضمونه، اللذان يحتاجان الى وسيط، وهو الحماية النظرية، التي تدعم وظيفته النقدية.
فالفن له وظيفة نقدية، لأنه يخلق عالما جماليا جديدا معادلا لانغلاق الواقع ومواجهته، وفي ذات الوقت لتغييره. ففي المجتمع الصناعي المتقدم تصبح الحياة اليومية أداة سلب للوعي وقمعه، ولذلك فالعمل الفني يخلق "فضاء" لإعادة انتاج الوعي الاجتماعي وتثويره ومنحه طاقة رفض جديدة يتجاوز بها ما يفرضه المجتمع الاستهلاكي من سلع مغرية، وبذلك يستعيد العقل قابليته على الحلم والتحليق في فضاءات غير محدودة، وهو فضاء التخيّل الذي يقود الى إدراك الهوية المستلبة للواقع، وتشكيل موقف فكري سالب جديد. وبهذا فان العمل الفني يشكل في الحقيقة الوسيلة الأخيرة الممكنة لحماية الوعي ومقاومة الاستلاب واعادة اكتشاف قوة المقاومة الفنية، كما تظهر في الفنون وفي الموسيقى على وجه الخصوص، التي تمنح للفنون الحس المعاصر والحديث برفضها الواقع من اجل اعادة انتاجه وتغييره، وخلق " الفن الأصيل" الذي يحمل امكانية هدم ما هو قائم، والذي يمثل جميع انواع الخلق الفني وليس التشكيلي وحده ، الذي يتشبه بكل ما هو راهن وساخن ومغترب ويتطلب الجدة والتفرد والدينامية والتنافر، لان الطابع المميز للتجربة الفنية هو المغايرة لما يجري في الواقع.
تطورت النظرية الجمالية لأدورنو من خلال نقده لطبيعة الحياة الاجتماعية اليومية في المجتمع الصناعي المتقدم وثقافته المصنعة، مركزا على المجتمع الاستهلاكي الذي يمارس قدرة على تحويل الثقافة الحقيقية الى ثقافة جماهيرية استهلاكية، بسبب التسلط والقمع، الذي لم يعد يمارس عن طريق المؤسسات العسكرية والأمنية، وانما عن طريق السيطرة على وسائل الدعاية والاعلام وتسخير الثقافة والفنون لمصلحته والالتفاف حولها وتزييفها. وقد أصدر أدورنو أحد اهم كتبه الموسوم "النظرية الجمالية " عام 1971الذي شرح فيه مفهوم الفن وليس تاريخ الفن، وناقش فيه العلاقة بين الفن والمجتمع ومفاهيم الجمال والجميل والقبيح، والفن والتكنولوجيا، والجمال والطبيعة وكذلك الفن والميتافيزيقيا والعلاقة بين الذات والموضوع وغيرها. وإذا أعتبر أدورنو العمل الفني إنعكاسا ماديا للواقع الاجتماعي السائد، فانه لا يعبر عن طبقة ما، لانه تعبير عن الكون الانساني. وإذا كانت ملكة الفن هي التخيّل، فعلى المرء ان لا يطالب بالتعبير عن طبقة معينة، وإلا تخلى الفن عن التخيّل الذي هو في ماهيته غير واقعي، في حين ان الطبقة هي مبدأ فعال في الواقع. وبحسب أدورنو، فان ملكة التخيّل في الفن تربط بين الحساسية وعالم العقل، وعندما يتخلى الفن عن التخيّل فانه يتخلى ايضاً عن الجمالي، الذي يفصح عن الاستقلال الذاتي للفن عن نفسه ويسقط في الأخير في أسر الواقع، الذي يسعى الفن الى فهمه وتجاوزه، وبالعكس فان التخلي عن الجمالي يعني التنازل عن المسؤولية في خلق الواقع الآخر من داخل الواقع القائم. وان التخيّل عند أدورنو هو عملية عقلية لها قواعدها وقيمها ووظيفتها الادراكية، التي تقود الى عالم الفن الذي يخفى وراءه الصورة الجمالية والانسجام الحسي والعقلي الذي يكتبه الواقع المعيش. ومن هنا تظهر مسؤولية الفنان في محاربة التشيؤ والتسلط والقمع.
نهاية أدورنو المأساوية
رأى أدورنو ان في القرن العشرين زمنا يهدم فيه العقل نفسه ليضيع في وعي تكنوقراطي وثقافة مصنعة وذلك بسبب الجدل السلبي لعصر التنوير، الذي عجز عن تجاوز محنته والخروج عن الطريق المسدود. وقد وجد في الفن والادب والموسيقى قوة ابداع قادرة على ان تقول "لا" في وجه المجتمع الاستهلاكي. فالفن هو البديل والوسيلة الوحيدة للنضال ضد الرأسمالية، التي لم يفكر يوما بإمكانية القضاء عليها عن طريق الثورة، وان المعرفة التي يصل اليها الانسان عن طريق الفن، هي أعظم معرفة، أما المعرفة عن طريق العلم فهي معرفة قاصرة، لأنها تعكس الحقيقة فقط. كما ان تحرر الفرد من سيطرة الرأسمالية يتم من خلال الاحتجاج وليس عن طريق التحرر الجنسي، كما حدث في الستينات، وانما من خلال "الفن الأصيل" الذي يحمل امكانية هدم ما هو قائم ويعدُ دوما بالسعادة.
ان آراء أدورنو الموجهة الى حركات الطلاب والشباب "الثورية" تذكرني بحادثة هامة كان لها تأثير على نهاية أدورنو المأساوية. ففي نهاية الستينات من القرن الماضي عندما كنت طالبا في جامعة فرانكفورت بألمانيا الغربية لدراسة علم الاجتماع حدثت واقعة هامة عايشتها عن كثب. فبالرغم من ان أدورنو كان يقدم للجيل الجديد من الطلاب والشباب نصائحه كيلا تقع المانيا مرة أخرى في براثن النازية او الفاشية او الأيديولوجية التوتاليتيرية، بعد ان أصبح مع هربرت ماركوزه ويورغن هابرماس "الضمير المفكر لألمانيا"، الذين اخذوا يفككون أيديولوجيا الحداثة الرأسمالية التي أدت الى الخراب وأصبحت آراءهم "الثورية" ذات التوجه الماركسي القاعدة الأيديولوجية للحركات الاحتجاجية من طلابية وعمالية ويسار متطرف وشعارات لازمة لمحاربة الرأسمالية الصناعية المتقدمة.
فخلال إلقاء أدورنو محاضرته حول "علم الجمال" في القاعة الكبرى بجامعة فرانكفورت في 22نيسان 1969، قامت طالبات يلبسن جاكيتات جلدية ، وكانت كل واحدة منهن تحمل في يدها وردة حمراء، وتقدمن من منصة أدورنو وخلعن جاكيتاتهن وتعرّين ثم قدمت كل واحدة منهن الوردة الحمراء الى أدورنو بطريقة مسرحية ساخرة، احتجاجا على آراءه النظرية البحتة التي لم تنزل الى واقع الممارسة العملية في الواقع الاجتماعي، فهو لم يكن مثقفا راديكاليا يشارك الطلاب والشباب في تظاهراتهم في شوارع فرانكفورت، وانما كان يحاول تهدئتهم بآرائه "الثورية" واتهموه بانه مفكر "رجعي محافظ" ومتواطئ مع البرجوازية. ولم يكن امام أدورنو سوى ان ينزل من المنصة بامتعاض ويخرج من القاعة مصدوماً. وقد توفى أدورنو بعد بضعة أشهر يائسا وحزينا بالسكتة القلبية وهو في الخامسة والستين من عمره.



#ابراهيم_الحيدري_ (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- قدمت نصائح وإرشادات للمسافرين.. -فلاي دبي-: إلغاء وتأخير بعض ...
- -شرطة الموضة-.. من يضع القواعد بشأن ما يُسمح بإرتدائه على مت ...
- رئيسي لبوتين: إيران لا تسعى للتصعيد في الشرق الأوسط
- إسرائيل.. إصابات جراء سقوط مسيّرتين أطلقتا من لبنان (فيديو + ...
- إسرائيل تغلق الطريق رقم 10 على الحدود المصرية
- 4 أسباب تستدعي تحذير الرجال من تناول الفياغرا دون الحاجة إلي ...
- لواء روسي: الحرب الإلكترونية الروسية تعتمد الذكاء الاصطناعي ...
- -سنتكوم-: تفجير مطار كابل عام 2021 استحال تفاديه
- الأمن الروسي يعتقل مشبوها خطط بتوجيه من كييف لأعمال تخريبية ...
- أوكرانيا تتسبب بنقص أنظمة الدفاع الجوي في الغرب


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - ابراهيم الحيدري - نقد الحداثة وما بعد الحداثة- أدورنو ونهايته المأساوية